من ظرفاء العصر العباسي:
مدة
قراءة المادة :
17 دقائق
.
أبو دلامة!. توفي سنة 161 هـ للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح - 1 - اسم هذا الظريف زَند بن الجون، و (أكثر الناس - كما قال صاحب الأغاني - بصحف اسمه فيقول: (زيد) بالياء، وذلك خطأ.
إنما هو زند بالنون).
وإنما سلكناه في عداد الظرفاء العباسيين - مع أنه أدرك شبابه آخر عهود بني أمية - لأنه لم يكن له في أيامهم نباهة، ولم يذع له في عصور خلفائهم صيت، فما نبغ واشتهر إلا في أيام بني العباس، إذ انقطع إلى أبي العباس السفاح وأبي جعفرالمنصوروالمهدي، فكانوا يقدمونه في المجامع، ويصلونه أحسن الصلات، ويستطيبون مجالسته، ويستعذبون نوادره. وإذا كانت المراجع التي بين أيدينا لم تلق ضوءاً كافياً على مولد هذا الظريف، ففي وسعنا أن نستنبط ذلك من خلال السطور، فهو لم ينسب إلى الكوفة إلا لمولده فيها أو نشأته بها على الأقل.
وهو - بلا ريب - لم يدرك آخر أيام بني أمية طفلاً لا يعي شيئاً لأننا سنرى في نوادره وطرائفه ما يشير إلى أنه بلغ سن الشيخوخة بعد أن عاش في ظلال الدولة العباسية وحدها تسعة وعشرين عاماً: إذ حضر خلافة السفاح التي دامت أربع سنوات وتسعة أشهر ثم خلافة المنصور التي دامت اثنتين وعشرين سنة هلالية إلا ستة أيام، ثم شهد من خلافة المهدي ما يقارب ثلاث سنوات توفي على أثرها إحدى وستين ومائة. ولكي نقبل أنه بلغ سن الشيخوخة يحسن بنا أن نفترض أن أبا دلامة ولد بين سنة مائة - ومائة وخمسة، فقضى طفولته وصباه وشبابه حتى بلغ الثلاثين - أو الخامس والعشرين - في أواخر العصر الأموي ثم أمضى ما تبقى من عمره في أيام السفاح والمنصور والمهدي.
ولم يوصف أبو دلامة بأكثر من أنه كان أسود، بيد أنه أضطر - هو نفسه - في مجلس حافل إلى وصف خلقه بشعر يجعلنا موقنين بأنه كان على جانب من الدمامة عظيم: دخل على المهدي يوماً وعنده إسماعيل بن محمد وعيسى بن موسى والعباس بن محمد ومحمد بن إبراهيم الإمام وجماعة من بني هاشم.
فقال له المهدي: أنا أعطي الله عهداً لئن لم تهج واحداً ممن في البيت لأقطعن لسانك - وفي رواية لأضربن عنقك - فنظر إليه القوم، فكلما نظر إلى واحد منهم غمزه بأن عليه رضاه.
قال أبو دلامة: فعلمت أني قد وقعت وأنها عزمة من عزماته لابد منها، فلم أر أحداً أحق بالهجاء مني، ولا أدعي إلى السلامة من هجاء نفسي، فقلت: ألا ابلغ إليك أبا دلامة - فليس من الكرام ولا كرامة إذا لبس العمامة كان قرداً - وخنزيراً إذا نزع العمامة جمعت دمامة وجمعت لؤماً - كذاك اللؤم تتبعه الدمامة فإن تك قد أصبت نعيم دنيا - فلا تفرح فقد دنت القيامة فضحك القوم ولم يبق منهم أحد إلا أجازه وما أحسبه رضى أن يسلك هذا المسلك في هجاء نفسه لمجرد التخلص من هذا الموقف الحرج الذي أوقعه فيه الخليفة المهدي، فقد كان في مكنته أن يحسن التخلص بما لا يؤذي نفسه أو يجرح كرامته، ولكن هذا النوع من الناس قلما يكترث بتلك المظاهر التي يقيم لها المجتمع أكبر الوزن، لأنه - لشدة صراحته - يصف حقائق نفسه مكشوفة مفضوحة.
ولو ظننا أبا دلامة مغروراً يحسب أنه في الجمال بدر مشرق وهو مشوه كالقرد، قذر كالخنزير، فهل يمنع غروره الناس من وصفه بأنه جمع الدمامة كلها ما دامت أعينهم لم تكن تقع منه إلا على رأس كرأس الدب في ضخامته، وعيون كعيون الحرباء من الضيق، وأنف عارض في احديداب، وشفتين منتفختين من الغلظ، وعلى جسم مكتنز على قصر، وذراعين مرتخيتين من الشحم، وساقين مقوستين في تموج.
وليس الناس عمياً فيحتجب عنهم هذا الجمال الساحر في تقاطيع هذا المخلوق العجيب! ولك أبا دلامة كان من الدهاء بحيث لم يفسح للآخرين مجالاً لوصف خلقه والشماتة به والضحك منه فأظهر الناس على حقيقة نفسه ليقطع عليهم سبيل السخرية اللاذعة التي تجد في دمامة المخلوق باعثاً على مواصلة التهكم والازدراء.
وهذا الأسلوب الذي نهجه أبو دلامة في إظهار الناس على مدى بشاعته وفر عليه كثيراً من مفارقات غلاظ القلوب، ومن سخافات صلاب الافئدة، إذا ما كانوا ليجدوا في هجائه وصفاً لدمامته أعنف من وصفه.
والإنسان إذا سمع ما حكم به على نفسه رضى بحكمه، وإن سمع ما حكم عليه سواه لم يرضه منه إلا ما يتفق مع عزته، ولا يتنافى وكرامته.
والذي يعنينا ما سبق أن هذا الظريف قد جمع إلى سواد لونه دمامة شكله، ولكن الله عوضه من هذا النقص لساناً حلو الحديث، رائع البيان قوي البرهان.
ونعرف أنه كان مولى لبني أسد، فقد كان أبوه (جون) عبداً لفضافض الأسدي الذي أعتقه.
فمن نسب أبا دلامة إلى بني أسد فإنما يقصد أنه كان أسدياً بالولاء.
ولذلك تتسامح مع الذين وقعوا في هذه النسبة خطأ أو عفواً كأبي حيان التوحيدي في كتابة (الإمتاع والمؤانسة) وإن الباحث لتأخذه الحيرة إذا ما استعرض حياة هذا الظريف إذ يتساءل كيف أمضى شبابه - حتى أواخر العصر الأموي - مغموراً لا يحس به أحد، ولا يعرف له شعر، ولا يطير له ذكر، ثم وثب إلى الشهرة فجأة في أيام السفاح والمنصور والمهدي، فأصبح ينادمهم ويداعبهم ولا يكاد ينقطع عن مجالستهم! فأين كان قبل اتصاله بأبي العباس السفاح؟ وأين ومتى وكيف تلقى العلم؟ كل هذا مما أغفلته المراجع كأنها لا ترى فائدة في الإشارة إليه.
ونحن نحاول أن نرجح - على الأقل - أصوب الأجوبة على الأسئلة المتقدمة: فأبو دلامة كان في بلدة (الكوفة) قبل اتصاله بالخلفاء العباسيين، ولم يكن من السهل على مثله أن يتصل بمن كان قبلهم في قصر الخلافة بدمشق لبعد الشقة من ناحية، ولانشغاله بتحصيل شيء من العلم وكسب قليل من القوت من ناحية أخرى، ولأنه أيقن بأن بضاعته المنادمة والمداعبة، وأن مثل هذه البضاعة مزجاة في أواخر أيام بني أمية التي كانت بركاناً يثور، وزلزلة لا يقر لها قرار.
أما الأشخاص الذين طلب عليهم شيئاً من العلم فلم يكونوا من نباهة الذكر بحيث يفردهم الرواة من قبلنا أو نفردهم من بعدهم بالتخصيص، بل لنا أن نحكم بأن أبا دلامة لا رواية له، لأن معلوماته ليست نصوصاً تنقل، وإنما كانت فكراً نابعة من ذكائه الوقاد، وبديهته الحاضرة التي كانت تأذن لمن يسمعه إن يظن أنه على جانب من العلم عظيم! والحق أن أبا دلامة كان من هؤلاء الظرفاء الذين عرفوا بخفة الروح، ورشاقة النكتة، ولطف الدعابة، لا عن علم محفوظ، ولا عن سند مقبول، ولا عن استنباط للأصول.
غير أنك إذا تلوت أشعاره طالعتك فيها قوة السبك ورصانة في التعبير، فتغزو قلبك الحيرة وتميل إلى الظن بغزارة علمه، فنوفر عليك حيرتك ونؤكد لك أنه بلغ هذا كله بمواهب فطرية لا باجتهاد عملي، فقد كان مطبوعاً على الشعر في سليقته، يرسله متى شاء دون توقف ولا انقطاع.
وأظنك راغباً في معرفة سبب اشتهار هذا الظريف بأبي دلامة إذ تجد في هذه الكنية شيئاً من الطرافة، والأمر أهون من هذا فطرافة كنيته دعت إليها الصدفة المحضة التي وهبته ولداً متعباً سماه (دلامة) لأنه (كنى باسم جبل بأعلى مكة يقال له أبو دلامة كانت قريش تئد فيه البنات في الجاهلية) كما روى الأصبهاني في أغانيه ذاهلاً عن تصريحه - في مواضع من ترجمة هذا الظريف - يذكر اسم ابنه (دلامة) وضروب عبثه مع أبيه! ومن النوادر التي صرح فيها أبو الفرج بذكر دلامة بن هذا الظريف - قصة نذكرها على سبيل المثال، ونقرأ فيها - في الوقت نفسه - شيئاً من نفسية أبي دلامة وابنه الخبيث: حجت الخيزران، فلما خرجت صاح بها أبو دلامة.
قالت: سلوه ما أمره؟ فقالوا له: ما أمرك؟ فقال: أدنوني من حملها.
قالت: أدنوه فأدنى.
فقال: أيتها السيدة إني شيخ كبير وأجرك في عظيم.
قالت: فمه؟ قال تهبين لي جارية من جواريك تؤنسني وترفق بي وتريحني من عجوز عندي قد أكللت رفدي، وأطالت كدي، وقد عاف جلدي جلدها، وتمنيت بعدها، وتشوقت فقدها.
فضحكت الخيزران وقالت: سوف آمر لك بما سألت.
فلما رجعت تلقاها وذكرها، وخرج معها إلى بغداد فأقام حتى غرض.
ثم دخل على أم عبيدة حاضنة موسى وهارون، فدفع إليها رقعة قد كتبها إلى الخيزران فيها: أبلغي سيدتي بالله يا أم عبيدة أنها أرشدها الله وإن كانت رشيدة وعدتني قبل إن تخرج للحج وليده فتأنيت وأرسلت بعشرين قصيدة كلما أخلفت لها أخرى جديدة ليس في بيتي لتمهيد فراشي من قعيدة غير عجفاء عجوز ساقها مثل القديدة وجهها أقبح من حوت طري في عصيدة ما حياة مع أنثى مثل عرسي بسعيدة فلما قرأت عليها الأبيات استعادتها منه لقوله (حوت طري في عصيدة) وجعلت تضحك.
ودعت بجارية من جواريها فائقة فقالت لها: خذي كلما لك في قصري، ففعلت.
ثم دعت ببعض الخدم وقالت له: سلمها إلى أبي دلامة.
فأنطلق الخادم بها، فلم يصادفه في منزله.
فقال لامرأته: إذا رجع فادفعيها إليه وقولي له تقول لك السيدة، أحسن صحبة هذه الجارية فقد آثرتك بها.
فقالت له نعم.
فلما خرج دخل ابنها دلامة فوجد أمه تبكي، فسألها عن خبرها فأخبرته وقالت: إن أردت تبرني يوماً الدهر فاليوم فقال: قولي ما شئت فأني أفعله، قالت تدخل علي فتعلمها أنك مالكها وتطؤها فتحرم عليه، وإلا ذهبت بعد وجفاني وجفاك.
ففعل ودخل إلى الجارية فوطئها ووافقها ذا منه، وخرج.
ثم دخل أبو دلامة فقال لامرأته: أين الجارية قالت في ذلك البيت.
فدخل إليها شيخ محطم ذاهب، فمد يده إليها وذهب ليقبلها.
فقالت له: مالك ويلك! تنح عني وإلا لطمتك لطمة دققت منها أنفك.
فقال لها: أبهذا أوصتك السيدة فقالت: إنها قد بعثت بي إلى فتى من حاله وهيئته كيت وكيت وقد كان عندي آنفاً، ونال مني حاجته.
فعلم أنه قد دهى من أم دلامة وابنها.
فخرج إليه أبو دلامة فلطمه ولببه وحلف ألا يفارقه إلا عند المهدي.
فمضى به ملياً حتى وقف على باب المهدي فعرف خبره وأنه جاء بابنه على تلك الحالة فأمر بإدخاله.
فلما دخل قال له: مالك ويلك؟ قال: عمل بي هذا ابن الخبيثة ما لم يعمل ولد بأبيه، ولا ترضيني إلا أن تقتله.
فقال له ويلك ما فعل؟ فأخبره الخبر.
فضحك حتى استلقى ثم جلس.
فقال أبو دلامة: أعجبك فعله فتضحك منه؟ فقال: على بالسيف والنطع.
فقال له دلامة: قد سمعت حجته يا أمير المؤمنين فاسمع حجتي.
قال هات قال: هذا الشيخ أصفق الناس وجهاً، (يلامس) أمي منذ أربعين ما غضبت، (ولامست) جاريته مرة واحدة فغضب وصنع بي ما ترى! فضحك المهدي أكثر من ضحكة، ثم قال: دعها له يا أبا دلامة وأنا أعطيك خيراً منها.
قال: على أن تخبأها لي بين السماء والأرض، وإلا (لامسها) كما لامس هذه فتقدم إلى دلامة ألا يعاود بمثل فعله، وحلف أنه إن عاود قتله، ووهب له جارية أخرى كما وعده إنها قصة طريفة كما رأيت، وفيها تصريح بذكر دلامة (ابن شاعرنا الظريف) وتصريح بذكر أم دلامة زوجته الخبيثة فنفهم منها أولاً إنما اشتهر هذا الظريف بأبي دلامة كما يشتهر الآباء عادة بابنهم البكر، لا لشيء آخر، وتفهم منها - وهو الأهم - شيئاً من نفسية هذا الظريف وابنه وزوجته.
فأما أبو دلامة فجريء يتدلل على أهل الخليفة، فيصيح بالخيزران ويطلب ما يريد في غير ما خجل، ويستبطئ الوعد فيؤكد غرضه بشعر يفيض بالدعابة حتى يجاب طلبه، فترسل إليه تلك الجارية الحسناء التي طالما حلم بالوصول إلى مثيلاتها بعد أن مل امرأته التي أقعدها كبر السن عن تمهيد فراشه والقيام على خدمته.
وأما دلامة فهو أصدق مثل للولد الخبيث الذي لا يرعى حرمة أبيه ولا يقيم له وزناً، وإنما يسترسل في إيذائه وتعذيبه، فيوافق أمه الماكرة على أن ينال حاجته من جارية أبيه كأنه لا يجد خيراً من هذا ليبر أمه.
ثم نراه أمام الخليفة المهدي يدافع عن نفسه مضحكاً، فهو لم يقض تلك الحاجة مع الجارية الحسناء إلا بعد أن قضى أبوه مع أمه أربعين سنة، ويصف مع ذلك أباه بأنه أصفق الناس وجهاً.
فما أهون - بعد هذا - جميع الأوصاف التي يلصقها ابن بأبيه! وأما أم دلامة فيالها من عجوز شمطاء، سليطة اللسان، خبيثة النفس، عرفت الأسلوب الذي تستطيع به إلزام زوجها بما تشاء، فاستعملت ولدها في إيذاء أبيه.
وهكذا ترى أن بيت أبي دلامة جمع أنواع الدعابة وأسباب الطرافة؛ في الأب والأم والولد، وكأنما خلق الله كل واحد من هؤلاء الثلاثة لكي ينسجم مع الآخرين، ولقد كان الانسجام من توثق العرى بحيث أنه جعل ما يبدو من أي واحد منهم مفهوماً للآخرين لا يستغربه أحد منهما وإن أضحك الناس زمناً طويلاً.
ولكي يتضح لك هذا الانسجام العجيب بين هؤلاء الثلاثة فتعرف مقدار ما انطوت عليه أنفسهم من خبث، تأنى على ذكر قصة جديدة فيها بعض ما تريد. جاء دلامة يوماً إلى أبيه وهو في محفل من جيرانه وعشيرته جلس فجلس بين يديه، ثم أقبل على الجماعة فقال لهم: إن شيخي - كما ترون - قد كبرت سنة، ورق جلده، ودق عظمه وبنا إلى حياته حاجة شديدة، فلا أزال أشير عليه بالشيء يمسك رمقه ويبقى قوته، فيخالفني فيه.
وأنا أسألكم أن تسألوه قضاء حاجة لي أذكرها بحضرتكم فيها صلاح لجسمه، وبقاء لحياته، فأسعفوني بمسألته.
فقالوا: نفعل حباً وكرامة.
ثم أقبلوا على أبو دلامة بألسنتهم وتناولوه بالعتاب حتى رضى وهو ساكت، فقال: قولوا للخبيث فليقل ما يريد، فستعلمون أنه لم يأت إلا ببلية.
فقالوا له: قل.
فقال: إن أبي إنما يقتله كثرة إتيان النساء فتعاونني عليه حتى أخصيه، فلن يقطعه عن ذلك غير الخصاء، فيكون أصح لجسمه، وأطول لعمره.
فعجبوا من ذلك وعلموا أنه إنما أراد أن يعبث بأبيه ويخجله حتى يشيع ذلك عنه فيرتفع له بذلك ذكره، فضحكوا منه.
ثم قالوا لأبي دلامة: فأجب.
قال: قد سمعتم أنتم وعرفتكم أنه لن يأتي بخير.
قالوا فما عندك في هذا؟ قال قد جعلت أمه حكماً بيني وبينه فقوموا بنا إليها.
فقاموا بأجمعهم فدخلوا إليها، وقص أبو دلامة القصة عليها وقال لها: حكمتك.
فأقبلت على الجماعة فقالت: إن ابني - أصلحه الله - قد نصح أباه وبره ولم يأل جهداً، وما أنا إلى بقاء أبيه يأحوج مني إلى بقائه، وهذا أمر لم تقع به تجربة منا، ولا جرت به عادة لنا، وما أشك في معرفته بذلك، فليبدأ بنفسه فليخصها، فإذا عوفي ورأينا ذلك قد أثر عليه أثراً محموداً استعمله أبوه.
فنعر أبوه وجعل يضحك به، وخجل ابنه وانصرف القوم يضحكون ويعجبون من خبثهم جميعاً واتفاقهم في المذهب.
وللقوم الذين شهدوا هذه المحاورة التي تضحك الثكلى أن يعجبوا ما شاءوا، ولهم أن يروا فيها دليلاً على خبث الثلاثة واتفاقهم في مذهب العبث والمجون، فقد رأينا فيها ولدا يخجل أباه، وأماً تخجل ابنها، وأباً يوزع خبثه على الاثنين، فيسمع كلام ابنه غير غبي ولا متغاب، ثم يحتكم إلى زوجته احتكام العالم بما ستقوله، لأن عبث ابنه ينالها.
ومن هنا نرى أن أم دلامة - وإن كانت تحب أن تخجل زوجها في بعض الفرص - لم تكن لتخذله دائماً، فهي تحبه على ما فيه من عبث ومنقصة، وهو يثق بها في تمام ما يعجز عن إتمامه بنفسه، لأنه عرفها وعرفته، واستطاع كل منهما أن يستكمل بالآخر مواضع نقصه، ونقط الضعف فيه!. صبحي إبراهيم الصالح