الأدب والفن في الأسبوع
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
قبر الكاظمي:
كان المغفور له الشاعر العربي الكبير السيد عبد المحسن الكاظمي قد أوصى قبل وفاته أن يدفن بأرض مصر وأن لا ينقل رفاته إلى العراق. وتنفيذا لهذه الوصية قامت الحكومة العراقية من جانبها بتشييد مدفن له في مقبرة الأمام الشافعي، وقد تم بناء هذا المدفن في الأسبوع الماضي على وضع يليق بمكانة الشاعر الكبير وإكرام الحكومة العراقية لذاكرة ونقل رفات الشاعر إليه في حفل حضره كثيرون من رجال الأدب وأبناء العروبة. ولعل من المعروف إن الكاظمي رحمه الله قد نشأ في العراق من أسره عريقة شريفة، ولكنه غادرها في صدر شبابه هرباً من العسف والطغيان وجاء إلى مصر فوجد من أريحية بنيها عامة ومن رعاية المغفور له الأستاذ الأمام الشيخ محمد عبده ما جعله يؤثر الإقامة بها ويتخذ من أهلها أهلا وسكنا.
وكانت له رحمة الله عليه صلة وثيقة بالمغفور له الزعيم الوطني الكبير سعد زغلول، ولما قامت الثورة المصرية وقف الكاظمي ينصرها بشعره، ويرسل القصائد العامرة في تمجيد سعد والإشادة بزعامته، وله في ذلك جملة قصائد مطولة سماها بالمعلقات.
كان الكاظمي مثال الشاعر العربي القديم في صفاء الفطرة وغزارة المادة وحضور البديهة، وكان يرتجل القصيدة تزيد على المائة بيت دفعة واحدة فتاتي خالية من الحشو والفضول.
وكان يترنم في الشعر بنغم يدوي حلو فيهز النفوس هزا، وقد أخذ حافظ إبراهيم عنه هذه الطريقة فكانت قوام الروعة في إلقائه المعروف، وعلى الرغم من بداوة الكاظمي في مضهره وفي طريقته فإن أسلوبه كان حلواً سائغا خالياً من المعاظلة والتعقيد.
حقاً إن الحكومة العراقية قد أكرمت ذكرى هذا الشاعر الكبير بتشييد هذا الضريح، وبما أغدقته من رعاية لابنته الوحيدة رباب وقد كانت (رباب) كل أمل للكاظمي في حياته، فلعل حكومتنا تقوم من جانبها بإكرام ذكرى شاعر منح مصر قلبه وخصها بشعره، فتجمع كل آثار الكاظمي وأشعاره وتطبعها في ديوان فإن الكاظمي يخلد بشعره أكثر مما يخلد بقبره. برناردشو والجاحظ: يشتغل الأستاذ أحمد حقي نائب مدير مكتب البعثات المصرية في لندن بتلخيص مؤلفات الكاتب الأيرلندي المعروف برناردشو وإخراجها في كتاب جامع، وقد أراد بهذه المناسبة أن يقابل الكاتب الكبير ليباحثه في بعض الآراء، فكتب إليه برناردشو يعتذر عن المقابلة ويقول له: إن المقابلات أمر خارج عن الموضوع، فإني رجل هرم، وليس في مقدوري استقبال الزائرين، ولا البحث معهم في مؤلفاتي، وما كتبته قد كتبته، وأود الآن أن يقراني الناس لا أن يروني.
وقد اذكرني هذا بحادثة مماثلة من كاتب العربية الكبير أبى عثمان الجاحظ، فقد روى عن أبس طاهر انه قال: صرت إلى الجاحظ ومعي جماعة وقد أسن واعتل في آخر عمره، وكان يجلس في منظرة له وعنده ابن خاقان جاره، فقرعنا الباب فلم يفتح لنا، واشرف من المنظرة فقال: إلا إني قد حوقلت وحملت رميح أبى سعد فما تصنعون؟ سلموا سلام الوداع، فسلمنا وانصرفنا فما أشبه صنيع برناردشو اليوم بصنيع الجاحظ بالأمس، والناس هم الناس في جميع الأزمان والأجيال.
نشاطنا الثقافي: يعنى معالي وزير المعارف عبد الرزاق السهوري باشا برسم الخطة لإصدار سجل ثقافي تتولى إخراجه كل عام إدارة مختصة في وزارة المعارف وتضمنه مظاهر النشاط الثقافي في مصر ليكون تاريخا لحياتنا الثقافية وما يجد فيها من تطورات واتجاهات، وما يبدو في مجاليها من جهد وإنتاج. وإنها لفكرة طيبة وخطوة موفقة، لأن إصدار مثل هذا السجل فضلاً عما له من الفائدة التاريخية سيكون حافزاً لشحذ العزائم، فسيقف الناس فيه على مدى النشاط الفكري، أي إنه سيكون بمثابة صحيفة حساب عن الجهد الثقافي في عام.
وحبذا لو أخذت جميع الهيئات والجماعات الثقافية والعلمية بهذه الفكرة، فتقصد كل منها إلى وضع سجل سنوي يؤرخ مظاهر إنتاجها ومناحي نشاطها حتى تبرر وجودها أمام الناس، على ان تتولى الوزارة تنسيق هذه السجلات الخاصة في سجلها العام. الروابط الثقافية بين الأقطار العربية: تبدي الجامعة العربية نشاطاً ملحوظاً مشكوراً في توثيق عرى الروابط الثقافية بين الأقطار العربية، وقد أشرنا إلى مظاهر هذا النشاط ومقاصده الطيبة في أعداد الرسالة السابقة، ويسرنا أن نشير اليوم إلى خطوة سديدة خطتها الجامعة في هذا السبيل، ذلك إنها قررت أخيرا أيفاد أساتذة محاضرين من مصر إلى عواصم الأقطار العربية الأخرى، واستقدام أساتذة محاضرين من تلك الأقطار إلى مصر والى غيرها من الدول العربية لإلقاء محاضرات عامة تقوية للروابط الثقافية بين أقطار العروبة. وأنها كما قلنا خطوة موفقة تدعو إلى الغبطة والاطمئنان على مستقبل العالم العربي ومستقبل الوحدة العربية، فإن الوحدة الثقافية في الواقع أساس الوحدة السياسية ولن تجتمع كلمة العرب في القصد إلى هدف سياسي واجتماعي موحد إلا إذا تقارب اتجاههم في التفكير وتوحدت وجهتهم في الإدراك العقلي والثقافي، غير إننا نعود إلى ما سبق أن حذرنا الأمانة العامة للجامعة العربية من الوقوع فيه، وهو الاقتصار في النهوض بهذه المهمات على الرجال الرسميين والأساتذة الموظفين، بل يجب أن تجعل ذلك ميدانا مفتوحا يجرى فيه رجال الفكر والثقافة المتحررين من ربقة الرسميات وتقاليد الوظائف لأن التفكير الرسمي أجدب ما يكون في خدمة تلك الاتجاهات والنهوض - كما يجب - بمثل هذه المهمات.
شاعر.
وطباخ: قرأت في إحدى الصحف العربية التي تصدر في المهجر الأمريكي نبأ طريفا تقول فيه: علمنا أن حضرة المواطن الفاضل الشيخ حسين أبو حمزة شاعر الجيل الفذ المشهور نزيل مدينة جكسنفيل قد افتتح مطعما جميلا في تلك المدينة، فنرجو الله أن يوفقه في تجارته وان يدعمه بلبلا غريدا في حقل الشعر.
وضحك صاحبي الذي كان يستمع لما قرا وقال: أظن أن شعر صاحبنا هذا تفوح منه روائح البهار والتوابل، وأعتقد إنه مما تشتهيه البطون.
ثم اندفع يعلق على هذا الكلام فقال: لقد كان المرحوم الأستاذ محمد السباعي يقول: لا تقل يانسيم الصبا وياريح الغرام، بل خير لك أن تقول: يا نسيم المطبخ ويا ريح الشواء، وكان يقول أيضا: لأجل أن تعيش لا تكن أديبا فحسب، بل كن ادبيا وصانع أحذية أو أديبا وبائع لعب أو أديبا وشيئا من ذلك.
وتصور أنت إن أديبا من أدبائنا الكبار افتتح مطعما أو احترف حرفة من هذا القبيل، أن الناس لا شك كانوا ينظرون إلى هذا على انه شيء غريب مضحك.
قلت: اجل.
إن هذا قد يبدو لنا أمرا غريبا عجيبا لأننا تعودنا أن ننظر إلى الأدب على انه حرفة متميزة، لا يصح أن تقرن بحرفة أخرى، أصبحنا ننظر إلى الأديب على انه إنسان يعيش في عزلة عن دنيا الناس، فلا يصح منه ولا يليق به أن يسلك سبيلا في الحياة من سبل الناس، وهذا إسراف لا مبرر له، وإجحاف لا أنصاف فيه. إن الأدب يا صاحبي ليس حرفة في ذاته، وان الأديب إذ يبتذل فنه في سبيل العيش يكون قد تدلى إلى اسفل، ونزل به إلى سوق التجارة، وإنما الأدب الهام وتضحية كما يقول تولستوي.
وقد كان الجاحظ وهو أديب العربية يشتغل في أول حياته يبيع الخبز والسمك على نهر سيحان، وكان أبو هلال العسكري يبيع البز في الأسواق، وكان الخبز أر زي يصنع خبز الأرز، والحسين الجزار يشتغل جزاراً، وهناك عشرات أمثالهم من الأدباء والشعراء كانوا يعيشون من البيع والشراء في عروض التجارة وينتجون في الأدب ويقولون الشعر، فليكن يا صاحبي فينا الشاعر الطباخ والأديب الخباز والفنان النجار، فإن هذا لن يضير الأدباء ولن يغض من قيمة أدبهم، وإنما الانحطاط الأدبي إن يجعل الأديب من أدبه مادة تجارة لكسب الرغيف. جائزة فؤاد للآداب عرف قراء الرسالة مما نشرناه في العدد السابق أن الأستاذ الكبير معالي أحمد لطفي السيد باشا رئيس لجنة الفحص لجائزة فؤاد الأول للآداب قد أعلن في حفلة توزيع الجوائز بالجامعة إن اللجنة لم تستطع إنجاز مهمتها لضيق الوقت ولهذا رأت تأجيل منح الجائزة إلى العام القادم، ولكن بعض الصحف علقت بكلام كثير في هذا الشان وزعمت أن الأدباء الذين تقدموا لنيل الجائزة لم يستحق أحد منهم الفوز بها. ولما كان صاحب (الرسالة) عضوا في لجنة الفحص، فقد سألناه كما سألنا غيره من الأعضاء عن الحقيقة فأكدوا لنا جميعا أن الحقيقة هي أن وقت اللجنة كان أضيق من أن يتسع للمفاضلة بين ما أرسلته إليها وزارة المعارف وقد بلغ حوالي مائة كتاب في أغراض مختلفة.
وقد رأت اللجنة إن الأفضل أن تمنح الجائزة وقدرها ألف جنيه لتتويج مجموع إنتاج كاتب من الكتاب لا مكافأة كتاب من الكتب فتكون جائزة فؤاد على غرار جائزة نوبل التي يكافأ بها كاتب أو عالم أو سياسي على مجموع عمله.
أما مكافأة الكتاب الواحد فتكفيها الجوائز التي يمنحها سنويا مجمع فؤاد للغة العربية وهي جوائز تتراوح قيمة كل منها بين المائة جنيه والمائتين واللجنة تسعى لدى وزارة المعارف لتحقيق ذلك. وهناك ناحية أخرى يجب أن تكون موضع الاعتبار، وهي فتح الباب للفوز بهذه الجائزة أما أبناء الأقطار العربية الأخرى، إذ لا يخفى أن هذا مما يرتفع بقيمة الجائزة ويتمشى مع الرغبة في توثيق الصلات الثقافية بين الأقطار العربية. (الجاحظ)