أرشيف المقالات

معجزة تولد وتموت. . .!

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
للأستاذ عباس محمود العقاد تسامع الناس في العالم العربي بقصة (الإنسان الغزالي) الذي وجه الصيادون في بادية الشام منذ أسابيع. ولا نعيد القصة، ولكننا نسجل الأعاجيب التي انطوت عليها لو صحت روايتها الأولى: وهي أن ذلك الإنسان الغزالي - وهو طفل في الثانية عشرة - كان يسبق السيارات ويعدو مع الغزلان بسرعة ثمانين ألف متر في الساعة، ونزل بعضهم بهذه السرعة إلى خمسين ألفاً وهي ليست بالشيء القليل؛ لأنها خمسة أضعاف السرعة التي يستطيعها العداء الرياضي بعد المرانة العلمية والاجتهاد الطويل. والأعجوبة الأخرى أن هذا الطفل قد تبنته ظبية في البادية وتعهدته بالرضاع والحضانة حتى نما وكبر وأصبح يهيم معها في البادية كما يتبع الخشف أمه في أسراب الفلاة. وتمت الأعجوبة بوصف شفتي الطفل ووصف قدميه.
فإن بعضهم أبى إلا أن يجعلها (حيوانية) في كل شيء.
فالشفتان مشقوقتان لا تتكلمان ولكن تبغمان.

والقدمان ظلفان أو أشبه الأقدام بالأظلاف. وأسرع الناس إلى التصديق، وأسرع المعقبون إلى الإضافة والتعليق، وأوشكت أسطورة الأسبوع أو الأسبوعين أن تفوق في الغرابة أساطير المئات والألوف من السنين. ولا عجب فيما قيل من أن الطفل كان يأكل الحشائش والأعشاب ويستطيبها، وأنه ظل في المستشفى الذي نقل إليه معرضاً عن الطعام الذي يأكله الآدميون.
فإن الآدميين يأكلون ألواناً من العشب والخضر في الحاضرة ويكتفون بها عند الضرورة وقد يستطيبونها ويكتفون بها لغير الضرورة. ولكن العجب كل العجب في تلك السرعة المزعومة، وفي تبني الحيوان للطفل الإنساني بغير إرشاد وتدريب.
فقد يحدث هذا برياضة الحيوان عليه زمناً يطول أو يقصر، ولكنه لا يحدث في البادية من حيوان بين قطيع يظل وحده متكفلا بالرضاع بين سائر اخوته.
فأما إذا كان القطيع كله مشتركا في الرضاعة على التناوب فذلك أعجب ما يروى من ضروب الكفالة الحيوانية بالإجما وتساءل المعنيون بالرياضة عندنا عن السر في تلك السرعة وهم بين مصدق ومكذب، فقال بعضهم: لعلها غريزة الجماعة الحيوانية تسري بعدوى الملازمة من الحيوان إلى الإنسان! وقال غيره: لعل السر في الحشائش والأعشاب التي قصر عليها الغلام غذاءه.
فهي على ما يظهر أصلح لمرونة المفاصل والعضلات من اللحوم والأغذية المطبوخة التي يأكلها الرياضيون! والواقع أن اللحوم لا تعوق آكلها عن العدو لأن كلب الصيد من أسبق الأحياء عدواً وأصبرها على الجري الطويل، ولأن العرب كان فيهم عداءون لم يأكلوا شيئاً غير اللحوم والألبان، وإن أكلوا الحبوب والخضر ففي الندرة بين الحين والحين. ونعرف في أعلى السودان قبائل قد اشتهر أبناؤها بعبور الصحراء، أو - العتمور - كما اشتهروا بالجلد على الجري والركوب وهم يأكلون اللحوم ويعافون كل (ملاح) أو كل خضر مطبوخ معالج بالملح على الطريقة السودانية.
ومن كلام شاعرهم يفتخر: (ولا نشرب المدام نسكر ...
ولا بنا كل الملاح لا خضر)
وفيما بيننا أمثلة غير قليلة على السباقين من آكلي اللحوم أو الذين لا يصومون عنها على الأقل لغرض من هذه الأغراض. فليس في الظنون والأوهام - فضلا عن الحقائق والمعلومات - تفسير صالح لتلك الأعجوبة المزعومة أو تلك المعجزة التي شاء الله أن تصاب (بالسرعة) في الزوال، وهي سرعة لا تؤذن بالجدال فبينما الناس في هذا التساؤل إذا بمندوب المصور في بيروت يزور الصبي في مستشفى (ابن سينا) الذي نزل فيه بدمشق فلا يلاحظ عليه شيئاً من الشذوذ، وقد ابتسم الصبي له وأظهر له قدميه فلم تكن بهما خشونة مستغربة؛ بل كانت لها نعومة كنعومة أقدام الأطفال.
وعلم المندوب من الطبيب (أن الصبي مر بالدور العادي في طفولته، وأن أمه أرضعته حتى فطمته، وأن قصة رضاع الغزالة وهم وخرافة). وقد فسر مدير الصحة العامة بدمشق هذه الحادثة بأن الصبي قد تاه في الصحراء، وربما تعلق بسيارة وصلت به إلى الموضع الذي وجد فيه، أو ربما خرج في صحبة بعض البدو ثم ضل الطريق، ولا يستدل منه على حقيقة الأمر لأن المسكين مصاب ببكم قديم.
ولعله ينطق بعد العلاج. وهكذا ماتت الخرافة في سرعة جديرة بموضوعها لائقة بشأنها، فتلقى الناس موتها بالأسف والخيبة لأنه حرمهم أعجوبة طريفة، وهم لا يشبعون من الأعاجيب حتى في عصر الأعاجيب، وأخصها السرعة التي يصح فيها قول أبي العلاء: ولما لم يسابقهن شيء ...
من الحيوان سابقن الظلالا فهم يودون لو تنقلب الدنيا كلها أعاجيب على شريطة أن تحفظ فيها (معجباتها)، ولا تصبح كعجائب المتنبي التي كثرت حتى لا عجائب فيها.
وليتهم يجربون هذا الانقلاب أسبوعاً واحداً ليعلموا أن الوقائع والمألوفات لها (قيمة) حقيقية بالعرفان فلا يتبطروا عليها! والظريف حقاً في قصة هذا الصبي أننا رأينا له صورتين.
فإذا هو أشبه إنسان بملامح غزال؛ سواء في دقة الجوارح أو في تركيب الجمجمة أو النظرة المجفلة والوجه المسنون.
فلو ظهرت خرافته في عصر من العصور الوسطى لكانت هذه الصورة مصدقا لكل إشاعة من إشاعات الخرافة المختلفة، فيقول من شاء إن لبن الرضاع ينقل الشبه من الحيوان إلى الإنسان، ويقول من شاء أن مولود غزالة بخارقة من الخوارق، ويكون حظه من التصديق والإعجاب أتم وأعظم من حظ القائل بانتقال الملامح مع الرضاع، بل يحق له حينئذ أن يشهر سيف التكفير على من ينكر هذه الخارقة ويشك في إمكانها، لأنه يستكثر تلك الخوارق على قدرة الله. ومن خصائص هذه الحالة في عصرنا أن تقع في أيدي الأطباء الذين يعرفونها ويفسرونها وقد يوفقون لعلاجها، ولكنها لو تقدمت في الزمن لكان أكبر الظن أن تقع في أيدي المشعوذين الذين يستغلونها ويبالغون فيها ويجدون من إشاعات الناس التي يتطوعون بها ما يزيدها ويساعد على ترويجها.

فهذا الطفل إذن قديس مبارك قد أعده الله للولاية في البرية وحرمه النطق ليكتم أسرار الغيب ولا يبوح بها إلا بترجمان على حسب الوحي والتقدير، وهذا البغام هو اللغة التي يفسرها الحواريون المحيطون به ولا يقدر غيرهم على تفسيرها، وهذه الظبية - ويحضرونها يومئذ في صحبته! - هي أم القديس التي خصت من بين الحيوان بهذا الشرف العظيم، ويباع شعرها بل بعرها للبركة (كأنه حب فلفل.
)
أو يزيد. وينقضي عمر الطفل وتنطوي بعده الأيام، فإذا هو صاحب ضريح، وإذا بالحواريين يتوارثون الأسرار ويترجمون عنه من وراء الصفائح والأحجار، وربما بيعت ذرية الظبية بعدها - إن سمح لها مقامها القدسي بالزواج - فغالى الناس في أثمانها وتفاخروا باقتنائها في المدائن والأمصار. ومما لا ريب فيه أن ذلك الضريح الذي حيل بينه وبين الظهور لن يقل في قداسته ولا في استحقاقه للزيارة والتبرك وقضاء الحاجات عن ألف ضريح تمتلئ بها الآن مدائن مصر والشام والعراق وسائر بلاد الإسلام، بل لن يقل عن ألوف الأضرحة التي يتجر بها الدجالون على اختلاف الأديان. فالحمد لله! لقد نجا الشرق الإسلامي من معجزة بغير معجزة، وسلمت بلادنا العامرة بالقديسين من قديس جديد. عباس محمود العقاد

شارك الخبر

المرئيات-١