بين شيخ وشاب:
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
حوار سياسي
في مجلس من مجالس الرأي يندوا إليه صحابة من أحرار الفكر قد اطمأنوا في حياتهم الوديعة إلى قسمة القدر بعد أن اضطربوا في المكاسب، وتقلبوا في المناصب، وتمرسوا بالأمور، وبلغوا غاية المقدور لهم من مطالب العيش ومآرب النفس؛ فهم يمثلون الرأي الصريح، ويستعملون المنطق الخالص، ويرفعون أنفسهم فوق الأوضاع والأطماع والسياسة، فلا تقيدهم وظيفة، ولا تعبّدهم شهوة، ولا يقودهم حزب؛ في هذا المجلس تستعرض كل ليلة أخبار اليوم وأقوال القوم، فتوزن بالميزان القسط، وتنقد بالنظر الثاقب، فلا يورد خير أو قول إلا حاكمه رأي، ولا رأي إلا هاجمه اعتراض، ولا اعتراض إلا ساوره شبهة.
وأكثر السامرين في هذا المجلس من الكنتيين، فكثيراً ما تسمع كنت وكنت، وقليلاً ما تسمع سأكون وأكون؛ لذلك كان التشاؤم الذي تقتضيه ذكرى الماضي، غالباً فيه على التفاؤل الذي يستوحيه رجاء المستقبل! والشباب الذين يختلفون إليه يهولهم منه عرى الحقيقة وجفاء الواقع، فيستحبون عليهما توشية الأحلام وتزوير المنى، ليستديموا لأنفسهم بواعث النشاط وحوافز الأمل.
وفي إحدى الجلسات الأخيرة جرى بين شاب من هؤلاء وشيخ من أولئك هذا الحوار نسوقه إليك على سرده تصويراً لروح هذا المجلس:
الشاب: وما ذنبنا في هذا الضعف الذي نعانيه؟ أيستطيع قصير القامة أن يطول، ورخو العظام أن يصلب؟.
الشيخ: أما الضعف الناشئ عن قلة العدد وضيق الرقعة فلا حيلة لنا فيه؛ وأما الضعف الناشئ من سوء الخلق وقلة العلم فلا عذر لنا منه. والناس يقومون بالأرواح لا بالأجساد، ويقدّرون بالصفات لا بالأعداد.
فلو كان الشرقيون قد بلغوا ما بلغ الغربيون من المدنية والثقافة، لاستحيا هؤلاء أن يعاملوهم كما يعاملون الأرقاء، وأن يساوموهم كما يساومون الأشياء! الشاب: وهل يمنعنا هذا الضعف العارض من أن نطلب الحق ونغضب له ونفاوض فيه؟ الشيخ: وهل تطلب حقك من غاصبيه إلا بإحدى وسيلتين: وسيلة القوة وليس لك جيش، ووسيلة المنطق وليس عندك ساسة؟.
إن طلب الحق على هذه الحال استجداء؛ والمستجدى يسأل ولا يفاوض، ويقبل ولا يعارض! الشاب: إن الضعيف يستطيع أن يخدش إذا لم يستطع أن يبطش.
والخدش في وجه القوى عيب يهمه ألا يكون. على أن القوة ستحققها الجامعة العربية.
ومن حبات الرمل يكون الجبل، ومن قطرات المطر يكون النهر.
واستعباد العروبة المتحدة عسير؛ وازدراد الكتلة الضخمة أعسر.
ومتى تيسرت القوة للقادة، تيسرت الحجة للساسة. الشيخ: إن الجامعة العربية من وحي الخصم وتدبيره.
ولو كان (أيدن) يخشاها لما أوحاها.
والعبرة ليست بالعدد كما قلت لك؛ فإن في الهند وفي جزر الهند كمية، ولكن في إنجلترا وهولندا كيفية.
وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات والنور! على أن العرب تيقظوا متأخرين.
تيقظوا في عصر الذرة، ولو أنهم استيقظوا في عصر الفحم لوجدوا مسافة تخلفهم عن الغربيين فيه تبلغ قرناً أو تزيد. الشاب: وماذا يضير لو كانت الجامعة العربية من وحي الخصم وتدبيره ما دام يومها لغدنا وأمرها بيدنا وقوتها بنا وخيرها لنا؟ وهل يقدح في ملكيتك لبيتك أو يمنع من انتفاعك به أن يعاونك صديق على بنائه ليستند إلى جداره، أو يفئ إلى ظله وهو في الطريق إلى داره؟ على أن الإنجليز أكيس من أن يناصبوا العرب العداء، فإن البلاد العربية إذا عادتهم يكون موقعها من ملكوتهم موقع الغصة في الحلق والخثرة في الدم، هذه تقف القلب وتلك تكظم النفس.
وما كان أيسر الغصة وأهون الخثرة لولا أنهما اعترضتا طريق الحياة! ونشوب العظم في حلقك يؤذيك وقد يرديك، ولكنك لا تتخلص منه بالرصاص إلا إذا تخلصت من نفسك! ذلك إلى أن الخلاف بين الدول العظمى على استعمار الشرق يقبض عنان كل دولة عن الافتيات بالأمر والجنوح إلى القوة.
ولو صح أن روسيا وفرنسا تسيران وحيّاً في طريق الكشف عن القنبلة الذرية، لكان من أمل الأمم الضعيفة أن تجداها حتى يصبح التهديد بها عبثاً لا يجدي ولغواً لا يفيد! الشيخ: أوافقك على أن موقع البلاد العربية يملك على إنجلترا الحياة والموت، وأن الخلاف بين الدول المستعمرة يفوّت على كل منها الانفراد بالرأي والحكم، وأن شيوع الطاقة الذرية يُبطل الركون إلى القوة في تسويغ العدوان والظلم؛ ولكن مَنْ مِن الساسة الذين تراهم اليوم يتبوءون كراسي الحكم في دول العروبة يستطيع أن يستغل هذه الأسباب لفائدة مصر ومنفعة العرب؟ إن أكثرهم يحترفون السياسة من غير أداة ولا آلة.
وإن وثوب من يثب منهم إلى الحكم أو بقاءه فيه، إنما يعتمد على ذرائع غير طبيعية ليس منها على كل حال براعة الذهن ولا نبالة الغرض ولا إرادة الشعب.
وأمثال هذه (الكفايات) التي أقامتها المصادفات والحظوظ على إسناد من الدعاية والخداع والتملق والتفريق والمحاباة والتساهل لا يمكنها أن تزاول الإصلاح لأنها صنيعه الفساد، ولا أن تصاول القوة لأنها وليدة الضعف، فقصارى أمرها أن تصانع ولا تصنع، وتقول ولا تعمل، وتدور ولا تسير.
وما دام الرجل الذي يخلقه الله للإصلاح ويرسله بالهدى ويؤيده بالخلق، لا يزال وراء الغيب، فإن الأمل في وحدة العرب ونهضة الشرق يظل أوهن من حبال الهباء وأبعد من أشباح الوهم! وإني لأجيل النظر والفكر وأتقصاهما في الأفق الغائم البعيد فلا أتبين لظهور هذا الرجل المنتظر شرطاً ولا علامة. الشاب: أراك أسقطت الشباب من حسابك، كأنهم غير أحرياء بحمل الشعلة وهم ثمار جهد طويل بذلته الأمة في تنشئتهم وتثقيفهم؛ فهل كانت الشهادات المختلفة الدرجات والغايات، والألقاب الممنوحة من المعاهد والجامعات، دلائل على الجهالة وعناوين للأمية؟ الشيخ: إن الأبناء أشبه بآبائهم من الليلة بالليلة.
وإن الدار والمدرسة على حالهما الحاضرة لتعجزان عن تخريج طبقة من الشباب يخرج منها ذلك الرجل الموعود الذي تموت (أنا) في لسانه وتحيا في ضميره، ويتحد في ذهنه وجود ذاته بوجود شعبه؛ فهو يحس ألمه لأنه مجتمع شعوره، ويدرك نقصه لأنه محتلي عقله، ويملك قياده لأنه مظهر إرادته؛ ثم يرتفع بسمو نفسه ونزاهة هواه عن أوزار الناس وأقذار الأرض، فلا يطمع لأن غرضه أبعد من الدنيا، ولا يحقد لأن همه أرفع من العداوة، ولا يحابى لأن فضله أوسع من العصبية، ولا يقول قولاً أو يعمل عملاً إلا إذا وافق الدين الذي يعتقده، والمبدأ الذي يؤيده، والشعب الذي يقوده! الشاب: إنك يا سيدي تسرف في التشاؤم لأنك شيخ! الشيخ: وإنك يا بني تسرف في التفاؤل لأنك شاب.
ولعل الحق أن يكون بيني وبينك! أحمد حسن الزيات