الأفغاني والوحدة الإسلامية
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
- 2 -
بين غسق القرن الغابر، وغلس القرن الحاضر، اشتد إمعان تركيا في الضغط على الشرق والاستبداد بأبناء العروبة حتى فيما يمس دينهم وينال اختصاصهم، ومن ناحية أخرى أخذ طمع الاستعمار الأوربي يفتح فاه على الشرق يريد التهامه ويطمع في ابتلاعه، وقد ابتدأ يتخطف أجزاءه، ويتحيف جوانبه. مرة بالحيلة، وأخرى بالوقيعة، وثالثة بالسطوة والقوة، وكان من هذه (الرزايا التي حلت بأهم مواقع الشرق أن جددت الروابط، وقاربت بين الأقطار المتباعدة بحدودها، المتصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها، فأيقظت أفكار العقلاء، وحولت أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم، فتقاربوا في النظر، وتواصلوا في طلب الحق، وعمدوا إلى معالجة علل الضعف، مؤملين أن يسترجعوا ما فقدوا من القوة، راجين أن تمهد لهم الحوادث سبيلا حسناً يسلكونه لوقاية الدين والشرف،.
.
وطفقوا يتحسسون أسباب النجاح من كل وجه، ويوحدون كلمة الحق في كل صقع، لا ينون في السعي، ولا يقصرون في الجهد)، وكان رأس هؤلاء المصلحين الداعين السيد جمال الدين الأفغاني رضوان الله عليه. هال الأفغاني أن يرى الشرق بين أنياب الاستعمار الأوربي تنوشه من كل جانب وتدميه في الصميم من قلبه ووجدانه، ومع هذا فهو يغط في سبات عميق، وأهله في فرقة كلها التخاذل والتنافر، والدولة التي تحمل لواء الخلافة ليست لها صلات صحيحة - كما يقول - بأمم الشرق وأقطار العربية، وقد كان الرجل يعجب أشد العجب إذ (يرى للمسلمين شدة في دينهم، وقوة في إيمانهم ويقينهم، يباهون بها من عداهم، حتى ليشفقون على أحدهم أن يمرق من دينه أشد مما يشفقون عليه من الموت والفناء) ومع هذا يراهم (في شقاق مقيم، وتنافر أليم، وغفلة عما ينتظرهم، ويلم ببعضهم). أقول هال السيد الأفغاني ما رأى وما كان يتوقع من مقدمات الحوادث، وأفزعه ذلك الشتات في الجامعة الإسلامية، وتحقق له أن الفرقة علة الشرق المتوطنة، وداؤه المتمكن، فنهض يصيح (بأرباب الغيرة من ملوك المسلمين وعلمائهم من أهل الحجة والحق ألا يت يوحد جمعهم، ويجمع شتيتهم، وأن يتعاونوا على صون الوحدة عن كل ما يثلمها، فيكونوا بهذا العمل الجليل قد أدوا فريضة، وطلبوا سعادة، والرمق باق، والآمال مقبلة)، ولقد كان ذلك المصلح العظيم يرى أن قيام هذه الوحدة للمسلمين (مما تقضي به الضرورة، وتحكم به العادة، حتى يقيموا بذلك سداً يحول عنهم تدفق السيول المتدفقة عليهم من جميع الجوانب، ومن ثم ظل طول حياته ينهض بهذه الدعوة وينادي بضرورتها في كل مناسبة سانحة، وفي كل مكان تنزل به قدمه، ثم أراد أن ينظم سبيل الدعوة، وأن يقوي من صوتها وأغراضها، فأنشأ جمعية (أم القرى) وهو في مكة لتدعو إلى الجامعة الإسلامية تحت لواء خليفة واحد يسيطر على العالم الإسلامي أجمع، ثم ألف جماعة (العروة الوثقى) وهو في باريس من مسلمي الهند ومصر وشمال أفريقيا وسوريا، وأصدر بالاشتراك مع الشيخ محمد عبده مجلة (العروة الوثقى) لساناً لحالها وتعبيراً عن أغراضها، وكان هدفها وحدة المسلمين وإيقاظهم من سباتهم، وتنبيهم إلى المخاطر التي كانت تهددهم، وإرشادهم إلى سبل مواجهتها والتغلب عليها. كانت دعوة جمال الدين تتلخص في أن الوحدة بين المسلمين ضرورة تقضي بها الطبيعة والعادة، ويؤيدها العقل والنقل، وتقرها شواهد التاريخ للجماعات البشرية، وعوامل الاجتماع والألفة بين الأمم والشعوب، وكان يضرب لذلك الأمثال والسوابق في تاريخ الوحدة الإسلامية في الصدر الأول.
والوحدة الجرمانية في العصر الحديث، أما المبررات والدعائم التي تقوم عليها هذه الوحدة، فقد أشار إليها إشارة عابرة في إحدى مقالاته إذ يقول: (إن من أدرنه إلى بيشاور دولاً إسلامية متصلة الأراضي متحدة العقيدة لا ينقص عددهم عن خمسين مليوناً، وهم ممتازون بين أجيال الناس بالشجاعة والبسالة، فلو اتفقوا فليس ذلك ببدع بينهم.
.)، ومعنى هذا أنه يرى أن الدعائم لتحقيق الوحدة ترجع، أولاً: إلى اتصال الأراضي وتجانس الوضع الجغرافي بين الأقطار الإسلامية، وثانياً: إلى اتحاد العقيدة التي تربط القلوب وتؤلف النفوس وتوحد بين الإحساس والاتجاه، وثالثاً: كثرة العدد، وهذا مما يجعل الوحدة قوة يحسب حسابها ويخشى بأسها، ورابعاً: ما يتجلى فيهم من صفات الشجاعة الموروثة ومآثر الرجولة الكامنة، وهذا ما يقوي الأمل في قدرة الوحدة على مواجهة الخطوب والتغلب على الصعاب التي تحيط بها، وحطم الأنياب المسنونة لا نتهاشها. ثم يشرح الأفغاني غاية ما يرجو في قيام الوحدة، ومدى ما يطمع فيه من الوضع الذي تتحقق به فيقول: (لا ألتمس بقولي هذا أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصاً واحداً، فإن هذا ربما كان عسيراً، ولكني أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن، ووجهة وحدتهم الدين، وكل ذي ملك على ملكه يسعى جهده لحفظ الآخر ما استطاع، ويعتقد أن حياته بحياته، وأن بقاءه ببقائه، على أن تكون أول صيحة تبعث على الوحدة وتوقظ من الرقدة، صادرة من أعلاهم مرتبة، وأقواهم شوكة.
.)، وهنا يبدو الرجل في الواقع حكيماً فطناً، وسياسياً عالماً ببواطن النفوس، فلم يركب الشطط في الطلب، ولم يسرف على نفسه وعلى الناس في الخيال، فيرجو وحدة يكون مالك الأمر فيها شخصاً واحداً، لأنه كان يعرف أن الأنانية المتسلطة على نفوس أهل السلطان لا تؤهلهم إلى إنكار ذاتهم ونسيان أنفسهم، ولا تسمح لهم بفناء أشخاصهم في شخص واحد من أجل مصلحة المسلمين ووحدتهم العامة، ولهذا وقف في رجائه عندما يسمح به الواقع، وتحود به الطبائع، ويكفي في تحقيق الغرض، ولعل الأفغاني لم يقتصد في وجه من وجوه الدعوة كما اقتصد في هذا الموضع الدقيق الذي كان يتعاظمه الناظرون في مسألة الوحدة، ويرونه عقدة المشكلة وعقبة الطريق، فتغلب عليها الرجل بالتغاضي عن مظاهر السلطان الشكلية، وإن كان أحكم الرباط المعنوي في القصد والغاية، والشعور والاتجاه، حتى يكون الجميع يداً واحداً، ووجهة متفقة، وقوة دفاعية لصد التيار الجارف، وهذا غاية ما تطلع إليه الآخذون بخطة الأفغاني من بعده، وهو الوضع الذي قام عليه (بروتوكول) الجامعة العربية وميثاقها في هذه الأيام. وتحدث الأفغاني عن الأداة التي تهيئ للوحدة، وتجمع حولها العواطف والميول، وتغرسها عقيدة في النفوس وفي القلوب، وحاول أن يجد هذه الأداة في الصحافة التي كانت قائمة في أيامه، ولكنه لم يكن على ثقة بها، يراها قليلة الغناء والفائدة، وضرب المثل بما كان من سوء تأثيرها ودعوتها إلى التفرق والانقسام وتبديد بقايا الالتئام، وجعلها النوافذ والخصاص في بنيان الأمة أبواباً ليدخل منها الأجنبي، وكان هذا رأيه في ناشئة المدارس المدينة في مصر وتركيا لأنهم أضعفوا الأمة بدلاً من أن تنال بهم القوة والمنعة، وكل بضاعتهم التفيهق بألفاظ الحرية والوطنية والمدنية، وهم لا يدركون مغزاها ومرماها، ولا يقدرون تكاليفها، وغاية ما لهم هو الإسراف في تقليد الأجانب والانسلاخ من قوميتهم، فكان أن تجاوز الرجل الأمل في هذين العاملين، وانتهى في اختيار الأداة إلى العلماء العاملين، وجعلهم مناط التكليف للقيام بهذه المهمة وطلب منهم أن يكون لهم اليد الطولى في هذا العمل الشريف، وقد وضع لهم في ذلك برنامجاً منظماً محكماً إذ يقول: (ومن الواجب من العلماء قياماً بحق الوراثة التي شرفوا بها على لسان الشارع، أن ينهضوا إلى إحياء الرابطة الدينية، ويتداركوا الاختلاف الذي وقع في الملك بتمكين الاتفاق الذي يدعو إليه الدين، ويجعلوا معاقد هذا الاتفاق في مساجدهم ومدارسهم حتى يكون كل مسجد وكل مدرسة مهبطاً لروح حياة الوحدة، ويصير كل واحد منها حلقة في سلسلة واحدة، إذا أهتز أحد أطرافها اضطرب لهزته الطرف الآخر، ويرتبط العلماء والخطباء والأئمة والوعاظ في جميع أنحاء الأرض بعضهم ببعض، ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة يرجعون إليها في شؤون وحدتهم، ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يرشدهم التنزيل وصحيح الأثر، ويجمعون أطراف الوشائج إلى معقل واحد يكون مركزه في الأقطار المقدسة وأشرفها في معهد بيت الله الحرام حتى يتمكنوا بذلك من شد أزر الدين وحفظه من قوارع العدوان، والقيام بحاجات الأمة إذا عرض حادث الخلل، وتطرق الأجانب للتداخل فيها بما يحط من شأنها، ويكون ذلك أدعى لنشر العلوم وتنوير الإفهام وصيانة الدين من البدع.
.) هذه هي الأداة التي وقع عليها اختيار الأفغاني، وهذا هو البرنامج الذي وضعه لدعاة الوحدة وألسنتها، والظاهر أن الرجل في هذا الاختيار وهذا الإيثار قد تمثل أمامه ما كان لهذه الأداة من القوة والسلطة في الصدر الأول، وما كان للعلماء والأمة والوعاظ يومذاك من صلة محكمة بشئون الدين والدنيا، وأمور السياسة والملك، وأحوال الناس والعباد، ثم ما كان في نفوسهم وفي قلوبهم من إباء في الحق، وغيرة على الصدق، وعزة ترتفع بهم عن منازل الخضوع والخنوع، ولكن أين هم أولئك الوعاظ والخطباء والأئمة حتى يعلق بهم السيد الأفغاني كل الأمل في رأب الصدع، وجمع الشمل، وبناء المجد.
لقد وقع الرجل بحسن ظنه بعيداً عن الحقيقة، واهماً في الأمل، ولو أنه تكشف بواطن الأمور في هذه المسألة لتبين أنه اختار للأمر أداة بطل عملها، وتفككت أوصالها، وفقدت قوتها، حتى أصبحت في نفسها وفي وضعها جزءاً من العلة، وأصلاً من أصول الداء، وعجيب أن يكون هذا أمل الأفغاني في العلماء والوعاظ والأئمة، وهو الذي اصطلى نارهم، وحرق بسعيرهم، وقضى حياته يشكو المناهضة منهم، والمضايقة من جمودهم وجحودهم للدين والحق تملقاً لأهل السلطان والسياسة، وهكذا عاش تلميذه الأستاذ الإمام من بعده.
ولو أن العمر امتد بالأفغاني إلى تلك الأيام، ورأى ما كان من تطور الحوادث والأحداث، وعلم الزعماء والرجال الذين جاهدوا لمجد الشرق العربي، ومدافعة الاستعمار الأجنبي، وليس فيهم رأس من أولئك العلماء والأئمة والخطباء، إذن لتنكر لرأيه، ولبارك رجالاً أساء الظن بهم، فكان القادة منهم، والطلائع من بين صفوفهم. وأخيراً ينتهي الأفغاني في الرأي إلى أن يكون لهذه الوحدة الدينية قبلة، هي قبلة الدين، ووجهة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فاختار مكة المكرمة لأنها كما يقول: (مبعث الدين، ومناط اليقين، وفيها موسم الحجيج العام في كل عام، يجتمع إليه الشرقي والغربي، ويتآخى في مواقفها الطاهرة الجليل والحقير، والغني والفقير، فكانت أفضل مدينة تتوارد إليها الأقطار، ثم تنبث إلى سائر الجهات.
وما هي إلا كلمة تقال بينهم من ذي مكانة في نفوسهم حتى تهتز لها أرجاء الأرض، وتضطرب لها سواكن القلوب.
.)، ومن ثم كان السيد الأفغاني يطمع في أن يكون موسم الحج مؤتمراً عاماً يتلاقى فيه المسلمون بآمالهم، ويتعهدون فيه شؤونهم ومصالحهم، ويؤكدون به غاياتهم وروابطهم، وإنها لفكرة قويمة جليلة لو استطاع القائمون بأمر الإسلام والقوامون على المسلمين الانتفاع بها، لكانت للأمم الإسلامية قوة روحية لا تنفد، وعدة تعينهم على مواجهة الشدائد والصعاب، وذخراً يملأ نفوسهم بالسمو والطموح إلى آفاق المجد والارتباط المتين لاستقبال الغد. للكلام صلة محمد فهمي عبد اللطيف