القضايا الكبرى في الإسلام
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
11 - قضية المؤامرة على المهاجرين
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
خرج النبي ﷺ إلى غزوة بني المصطلق سنة ست من الهجرة، فلقيهم على ماء لهم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، وحاربهم حتى هزمهم وقتل من قتل منهم، وبينما هو على ذلك الماء وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له جهجاه ابن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه، وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف ابن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه يا معشر المهاجرين. فسمع ذاك النبي ﷺ فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار.
فقال دعوها فإنها منتنة وقد وقف الخصام بين الرجلين عند هذا الحد، ولكن عبد الله بن أبي بن سلول أراد أن يتذرع بذلك إلى إحداث فتنة بين الجيش، وتأليب الأنصار على المهاجرين بعد أن ألف الإسلام بينهم، وجعل منهم أمة واحدة لا اثر فيها لعصبية من عصبيات القبائل العربية، فجمع عبد الله رهطاً من قومه، وكان فيهم غلام حدث يقال له زيد بن أرقم، فقال لهم: أو قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك.
أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
ثم اقبل على من حضره من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، احتللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديهم لتحولوا إلى داركم فذهب زيد بن أرقم إلى النبي ﷺ فاخبره بهذه المؤامرة، فقال له: لعلك أخطأ سمعك، لعلك شبه عليك.
فأصر على شهادته ولم يرجع عنها، وما أظن إلا أن النبي ﷺ كان يعرض له بالرجوع عن شهادته، حتى لا يمضي في تحقيق هذه القضية الشائكة، لما كان لعبد الله من المنزلة بين قومه، وقد كان الإغضاء عنه وعن غيره من المنافقين مما يقضي به حسن السياسة في أول الإسلام، لأنه كان ضعيفا لا يحتمل الفتن، فكان من حسن السياسة أن يسالم أولئك المنافقين الذين يسالمونه في الظاهر، وأن يتحمل مثل ذلك منهم، إرضاء لمن حسن إسلامه من قومهم، واحتقاراً لأمر أولئك المنافقين، لأنهم كانوا يقولون ما لا يفعلون، وقد قال عمر لنبي ﷺ حين سمع ذلك من زيد بن أرقم: دعني يا رسول الله اضرب عنق هذا المنافق.
فقال له النبي ﷺ: دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ثم أرسل إلى عبد الله وأصحابه ليسألهم عن تلك المؤامرة التي اخبره بها زيد بن أرقم، لأنه لم يجد بعد إصراره على شهادته إلا أن يمضي في تحقيق ما نسبه إليهم، حتى تأخذ قضيته حظها من التحقيق، ولا يهمل أمرها، فيطمعهم ذلك في المضي في مؤامرتهم فلما حضروا إلى النبي ﷺ أخذهم ضعف النفاق، فأنكروا ما نسبه إليهم زيد ابن ارقم، وحلفوا ما قالوا شيئا مما نسبه إليهم زيد بن أرقم، فصدقهم النبي ﷺ وهو يعلم حقيقة أمرهم، وكذب زيد بن أرقم وهو يعلم صدقه وإخلاصه ولكن المصلحة العامة قضت بأن يكتفي منهم بذلك، فأهملت قضيتهم خوفاً من أحداث الفرقة بين المسلمين.
وما كان للنبي أن يؤثر أمرا من الأمور على أمر الوحدة بينهم، وقد كان عبد الله في قومه شريفاً عظيماً، فلما حلف بالله ما قال شيئاً مما نسبه إليه زيد بن أرقم، قال من كان بالمجلس من الأنصار: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام قد اوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل.
فاظهروا بذلك حدباً على عبد الله، وعطفاً عليه ودفعاً عنه، وإهمال هذه القضية بهذا الشكل هو ما يسمى حفظ القضية في القضاء الحديث. ثم بادر النبي ﷺ فأذن بالرحيل في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فلما ارتحل لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة مبكرة ما كنت تروح في مثلها، فقال له النبي ﷺ: أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أبي.
قال: وما قال؟ قال: زعم أنه أن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل.
قال فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها أن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز.
ثم قال: يا رسول الله ارفق به، فوالله قد جاءنا الله بك وأن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً وإن في هذا لدليلاً على أن النبي ﷺ قد اهمل هذه القضية وهو يعلم صحة تلك المؤامرة، ولكن زيد بن أرقم أصابه من ذلك هم لم يصب مثله قط، فجلس في بيته لا يظهر لاحد، ومكث مختفيا عن الناس حتى أنزل الله في شأنه - إذا جاءك المنافقون - الآيات إلى قوله (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون، يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) فأرسل النبي ﷺ إلى زيد بن أرقم فقراها عليه، ثم قال له: أن الله قد صدقك.
ولكن النبي ﷺ لم يشأ بعد هذا أن يثير تلك القضية، وآثر أن يمضي في إهمالها.
وقد قالوا أن في مثل هذه القصة من الفوائد ترك مؤاخذة كبراء القوم بالهفوات لئلا ينفر اتباعهم، والاقتصار على معاتبتهم وقبول أعذارهم وتصديق إيمانهم وأن كانت القرائن ترشد إلى خلاف ذلك الإنسان لما في ذلك من التأنيس والتأليف وأني أرى أن ما حصل من أولئك المنافقين لا عقاب عليه في الدنيا، لأنهم تآمروا على شيء وبلغ عنهم قبل أن يشرعوا فيه، ولا مؤاخذة على مثل هذا في كثير من الشرائع القديمة والحديثة، وإنما تؤاخذ الشرائع بعد المضي في الفعل، واقتراف الجرم، رافة بالناس ورحمة بهم، وجمعا بين الشدة واللين، والعقاب والعفو، لأن أمر الناس لا يصلح الشدة الخالصة كما لا يصلح باللين الخالص، وفي أخذهم بالعزم على الجرم قبل اقترافه قسوة يأباها العقل، وقد عفا الله عن الهم بالسيئة، وجعل لمن هم بها ولم يفعلها حسنة. عبد المتعال الصعيدي