بمناسبة انتهاء العام الدراسي
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
عهد التلمذة
للأستاذ راشد رستم
أول العهود وأميزها
وأمتن الروابط وأدومها
تدور الدنيا وتدور، وتذهب الأيام ولا تعود، وتتفرق الجماعات ولا تدوم، وهذا الحرم المدرسي المعنوي قائم لا يحول ولا يزول
واسع الرحبات، فسيح الجنبات، يستقبل الأجيال بعد الأجيال، في رضا ومهابة وسلام
هؤلاء الذين نراهم فيه اليوم رأي العين، هم أولئك الذين كنا نراهم فيه، أيام كنا فيه بالأمس، رأي الغيب - وهكذا حلقة إثر حلقة وجيلاً بعد جيل
هاهم أولاء يلعبون كما كنا نلعب، ويدرسون كما كنا ندرس - أبناء لآباء ثم آباء لأبناء، والكل عند المحراب سواء
ساحة دائمة البقاء، تتلاقى فيها ما لا يتلاقى إلا فيها من حلاوة الدهر، وبراءة السن، وبداوة العمر
ساحة تتجلى فيها حياة الفكر والروح، وتلعب فيها حكمة الشعوب لعبتها الكبرى في صقل العقول وتكييف الميول
هنالك تشهد الإنسانية أبناءها الصغار بين أيدي أبنائها الكبار، فترجو أن ترى في هؤلاء الصغار أسمى معانيها الكبار
في البيت تتجلى مسؤولية الفرد، وهنا تتجلى مسؤولية الجماعات
إن مراكز الجماعات من نواد وجمعيات وثكنات وما يخرج عنها للسلام وللعراك، من حروب ورحلات واجتماعيات، هي لا شك في حياة الشعوب والأمم روابط وعهود وذكريات، يختلط فيها الدم بالدم، واللحم باللحم، والفكر بالفكر. ولكن يشهد الله أن عهد المدرسة هو عهد الجميع، وهو فوق جميع العهود، بل هو قبل جميع العهود، هو عهد الصداقة والأخوة والصفاء هو الحقل الذي توضع فيه البذرة الأولى لشجرة الأخوة الأولى، تنمو وتنمو، فتنمو الفروع والأغصان والأوراق والظلال.
إن نظام المدرسة اليومي، رغم تكراره اليومي، لا يدعوا إلى السأم ولا إلى الملل - ذلك أنه نماء متدفق وتجديد مستمر، مرحلة بعد مرحلة وعاماً بعد عام، بل يوماً بعد يوم هذا التكرار اليومي لهذا العهد المدرسي لا يحيله جموداً، بل هو يزيد في معناه ثبوتاً ورسوخاً وخلوداً، ويرتفع به إلى طبقات ليس فيها غير صفاء النفس، ودوام الربط، وسعادة الذكر.
بل إن هذا التكرار المتنوع المستمر يصهر النفوس الناشئة صهراً هيناً ليناً شديداً قوياً يجعلها صالحة للعمل صالحة للبقاء وهو العهد الذي يشعر فيه الإنسان مهما كان صغيراً، أنه قوة، وأنه ينمو، وأنه سيصير قوة أخرى حركة دائمة، وتنافس محبوب، وآمال متتابعة، وحياة لها كل المستقبل ولا تنسى أبداً هي الوحدة الموسيقية التي تضبط خطى الجيل، والتي تربط بين أفراده وهم يسيرون في الحياة لخدمة الأوطان.
هنالك تتجلى عظمة هذه الموسيقى إذا ارتفعت بالنفوس إلى مراتب التضحية وخدمة المجموع نعم ما أحلاه عهداً، وما أحبه إلى النفوس عوْداً، فكلما تقدم المرء في السن كلما عرف قدره، وعاد به الحنين إلى تلك السنين إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ...
عهود الصبا فحنوا لذالكا يود المرء أن يرجع إلى هذا العهد الذي أقام له بينه وبين إخوانه زمالة هي زمالة الدهر، والتي هي أسمى من قرابة اللحم والدم، ورب صداقة خير ألف مرة من قرابة، وإذا لم يكن القريب صديقاً فهو والغريب سّواء بل أشد غرابة وهل أشق على التلميذ من فراق الإخوان، وهل أحب إليه من العودة بعد الإجازات لرؤية الإخوان! قد تمر الفترات يكره فيها البعض مدرسته، يرجو هدمها ويتمنى حرقها!! ولكنه لا يدري أنه يحبها.
ويحب العودة إليها، يلعب كما كان يلعب، ويعيش كما كان يعيش، لا يحمل العبء الذي يحمل، لا هرباً منه، إذ ليس منه مفر، وإنما حباً وحنيناً إلى تلك التي كان يظن أنه لا يهواها، وما هو إلا العاشق الولهان، غيور.
يثور ويثور.
ثم يثوب ويثوب، يعيده حبه وغرامه إلى حبيبه ومحبوبه أليست هي ألطف العهود وأقساها، وأنها في الحالين ما أحلاها.
بل إن شدتها التي كان المرء - وهو صغير - يخشاها، ما هي إلا تلك الراحة التي - وهو كبير - دومْا يتمناها؟ وإن راحتها التي كان يظنها خيالاً، ما هي إلا الحقيقة التي يود لو أنه استطاع فاستبقاها؟! لَعبٌ مع تلقين، وجهد في تهوين، وشدة في لين، وشك إلى يقين، وحياة في تكوين، ونمو في تمكين - ذكرى وحنين، وعهد لن يمين من عنده لي عهد لا يضيَّعه ...
كما له عهد صدق لا أضيَّعه راشد رستم