أهمية الأخلاق في حياة الداعية
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
أهمية الأخلاق في حياة الداعيةالخلق الحسن من أجمل ما يتحلى به الداعية، وهو أقصر طريق لقلوب الناس، وقد وصف الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم فقال ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾[1]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( وأما الخلق العظيم الذي وصف الله به محمدا صلى الله عليه وسلم، فهو الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقا...
وحقيقته المبادرة إلى امتثال ما يحبه الله تعالى، بطيب نفس وانشراح صدر)[2].
وموضوع حسن الخلق واسع جداً، تعددت فيه الأقوال: قال عبدالله بن المبارك[3] رحمه الله في وصفه: (هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى)[4].
وقال ابن تيمية رحمه الله: جماع الخلق الحسن مع الناس، أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام، وتعطي من حرمك التعليم والمنفعة والمال، وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض[5].
وقال ابن القيم رحمه الله: (حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر والعفة والشجاعة والعدل)[6].
وقد جُمع حسن الخلق في قوله تعالى ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾[7].[8].
وما سبق ذكره هو أخلاق حسنة متفرعة ولعل التعريف الجامع له: أنه (ملكة بالنفس يقتدر بها على صدور الأفعال الجميلة بسهولة)[9]، وتظهر آثار الخلق الحسن على سلوك الداعية وتصرفاته، فإن السلوك هو المظهر الخارجي للخلق، فإذا كان السلوك حسنا، دل على خلق حسن، وإذا كان السلوك سيئا دل على خلق قبيح[10].
والخلق الحسن من العوامل المهمة في جذب الناس إلى الداعية وتأثرهم به وقبولهم لدعوته -إضافة إلى أجره في الآخرة-، فالناس مفطورون على محبة الفضائل والانجذاب إليها، والنفور من القبائح والابتعاد عنها، والدعية إلى الله أحوج ما يكون إلى التخلق والاتصاف بالأمور المحببة إلى قلوب الناس، فضلا عن أنها من واجبات المسلم.
قال أبو حاتم البستي رحمه الله[11]: (الواجب على العاقل أن يتحبب إلى الناس بلزوم حسن الخلق، لأن الخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد، وإن الخلق السيء ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل)[12].
والناس إذا لاحظوا من الداعية سوءا في أخلاقه تبرموا منه، ونفروا من دعوته، خوفا من تضررهم بأخلاقه السيئة، وقد يميلون إلى تفضيل أهل الفسق والضلال ومجالستهم، إذا آنسوا منهم حسنا في الخلق ورفقا في المعاملة، وفي ذلك يقول الفضيل بن عياض[13] رحمه الله: (إذا خالطت فخالط حسن الخلق، فإنه لا يدعو إلا إلى خير، وصاحبه منه في راحة، ولا تخالط سيء الخلق فإنه لا يدعو إلا إلى شر، وصاحبه منه في عناء، ولأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني قارئ سيء الخلق، إن الفاسق إذا كان حسن الخلق عاش بعقله وخف على الناس وأحبوه، وإن العابد إذا كان سيء الخلق ثقل على الناس ومقتوه)[14].
وحسن الخلق يبذل حتى مع الأعداء، فإنه يقلب البغض حبا، ويبدل العداوة بالولاية الحميمة، وقد قال تعالى ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [15]، والداعية إذا حسنت أخلاقه كثُر مُصافوه، وقل مُعادوه، فتسهَّلت عليه الأمور الصعاب، ولانت له القلوب الغضاب[16].
وقد كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته بصفة عامة مدرسة تربوية خلقية سلوكية، حتى الأنماط السلوكية التي لا تظهر فيها أول الأمر أسس المفاهيم الأخلاقية، كانت في حياته صلى الله عليه وسلم موصولة بأسس هذه المفاهيم، وكان لها صفة الظواهر الناتجة عن أخلاق راسخة في النفس[17]، فما من موقف أو قول إلا ويحمل بين ثناياه صفة أخلاقية تحلى بها صلى الله عليه وسلم[18]، ولا توجد كذلك صفة أخلاقية حميدة، إلى وكان له الكمال البشري فيها، وهو أكمل الناس خلقا ودينا.
والمتأمل في فتح مكة، يستلهم الأخلاق الحميدة العديدة، ومن شواهد ذلك:
• مقابلته لمسلمة الفتح بطلاقة الوجه وطيب الكلام، فأوحى لهم بالبشر والخير ودخلوا في الإسلام طائعين، كملاقاته لعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية رضي الله عنهما.
• وترى منه صلى الله عليه وسلم الحلم في تصرفه مع حاطب رضي الله عنه، وفي تجاوزه عمن حاول الغدر به من مسلمة الفتح من أهل مكة.
• وترى الوفاء بالعهد في نصرته ابتداء لبني خزاعة بعد الغدر بهم، ثم وفاءه لعثمان بن أبي طلحة وتسليمه مفاتيح الكعبة.
• ويظهر خلق العفو والصفح عن أهل مكة، والمن عليهم بإطلاقهم.
• ويظهر جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم في إعطائه العطايا العظيمة تأليفا لقلوب مسلمة الفتح وغيرهم وترغيبا لهم في الإسلام.
• كما يعظم تواضعه حين تتأمل هيأته في دخوله مكة خاشعا لله، ثم ترى عفته وقناعته حين تعلم أنه نزل في خيمة أقيمت له ولم يأخذ دورا كانت يوما من الأيام ملكا له، وكذلك نصحه لحكيم بن حزام رضي الله عنه بالتعفف والتقلل من الدنيا.
• وترى الشجاعة والتضحية في توجهه إلى مكة دون تردد، ومشاركته بنفسه الكريمة في قيادة الجيش، ولبسه عدة المحارب.
• وترى عدله وإنصافه حتى لو كان ذلك من نفسه أو أقرب الأقربين إليه...إلى آخر الأخلاق الكريمة التي عرفتها منه قريش معرفة تامة، فوقعت محبته في قلوبهم، ودخلوا في دين الإسلام أفواجا.
ومن الصفات المهمة للداعية، الثبات على الأخلاق الإسلامية في كل حال، فلا يحيد عنها أو يميل إلى غيرها، لأنها حق، والثبات على الحق دين، إضافة إلى أن تنازل الداعية عن أي خلق من الأخلاق الكريمة، تحت ضغط الظروف أو تبعا للحالة النفسية له، خسارة لذاته، حين يفقد تقديره واحترامه بين الناس، وخسارة للدعوة التي يمثلها وينصب من نفسه وخلقه نموذجا لها، وخسارة له في الآخرة حين يضع نفسه في الموضع المخالف لأمر الله[19].
قال الإمام الماوردي رحمه الله عن الأسباب التي تؤثر في أخلاق الإنسان: وربما تغير حسن الخلق والوطاء إلى الشراسة والبذاء، لأسباب عارضة وأمور طارئة، تجعل اللين خشونة، والوطأة غلظة، والطلاقة عبوسة، ومن أسباب ذلك: الولاية أو العزل منها، ومنها تغير الحال الذي يحدث البطر كالغنى، أو عكسه كالفقر، فإنه مما يتغير به الخلق، ومنها الهموم والأمراض، أو التقدم في السن[20]، فهذه كلها أمور تسبب تغيرا في الأخلاق، وهي أمور عرضت للقدوة المثلى صلى الله عليه وسلم، فثبت على ما كان عليه من حسن الخلق، فلم يبطر بما فتح الله عليه أو يتكبر بل زاده تواضعا ورحمة وكرما.
ومما يزيد من أهمية الخلق الحسن عند الداعية، أنه قد لا يتمكن من الإحسان إلى الناس بنفسه أو بماله، لكثرة في الناس أو قلة في المال،-فهذا غير داخل في مقدور البشر- فإذا كان ذا خلق حسن ولين جانب، وطلاقة وجه، ونحو ذلك فإن ذلك مما يجلب التحاب بين الناس[21]، ولن يعدم حينئذ الوسيلة التي ينفذ بها إلى قلوب المدعوين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (( إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق))[22].
[1] سورة القلم آية 4.
[2] الفتاوى: ابن تيمية 10/ 658.
[3] هو عبدالله بن المبارك بن واضح الحنظلي- بالولاء- التميمي المروزي، الحافظ شيخ الإسلام، ولد سنة 118هـ في خراسان، وطلب العلم وعمره 20 سنة، صاحب التصانيف والرحلات، أفنى عمره في الأسفار حاجا ومجاهدا وتاجرا، كان جامعا للعلم، توفي رحمه الله سنة 181هـ ، منصرفه من غزو الروم.
بتصرف، حلية الأولياء 8/ 162، وسير أعلام النبلاء 8/ 378، و الأعلام 4/ 115.
[4] رواه عنه الترمذي في سننه كتاب البر والصلة باب ما جاء في حسن الخلق 4/ 363 ح 2005.
[5] بتصرف، الفتاوى: ابن تيمية 10/ 658.
[6] مدارج السالكين 2/ 308.
[7] سورة الأعراف جزء من آية 199.
[8]انظر الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في العقائد والفنون المتنوعة الفاخرة: الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي ص 74، مكتبة المعارف الرياض، ط:3، 1400هـ 1980م.
[9] دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين: محمد بن علان الصديقي الشافعي الأشعري المكي 3/ 76، دار الفكر بيروت ط: بدون 1394هـ 1974م.
[10] بتصرف، مقدمة في علم الأخلاق ص 34.
[11] هو محمد بن حِبَّان بن أحمد التميمي البُستي، يقال له ابن حِبان، وهو صاحب الصحيح، حافظ علامة مؤرخ، ولد سنة بضع وسبعين ومائتين، وتنقل في الأقطار، كان من أوعية العلم في اللغة والفقه والحديث والوعظ، من المكثرين في التصنيف، تولى قضاء سمرقند مدة، توفي سنة 354هـ رحمه الله.
بتصرف، تذكرة الحفاظ 3/ 920، وسير أعلام النبلاء 16/ 92.
[12] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء: أبو حاتم البستي ص 64، شرح وتحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد وآخرون، دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط: بدون، 1397هـ 1977م.
[13] هو الفضيل بن عياض بن مسعود التميمي اليربوعي، أبو علي، شيخ الحرم المكي، من أكابر العلماء والعباد الصلحاء، ولد في سمرقند سنة 105هـ، وكان ثقة في الحديث أخذ عنه خلق كثير منهم الإمام الشافعي، سكن مكة وتوفي بها رحمه الله سنة 187هـ.
بتصرف، حلية الأولياء 8/ 84، و الأعلام 5/ 153.
[14] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ص 64.
[15] سورة فصلت آية 34.
[16] بتصرف، أدب الدنيا والدين ص 237.
وللاستفادة انظر الدعوة إلى الإسلام: الشيخ محمد أبو زهرة من ص 77- 81.
[17] بتصرف، الأخلاق الإسلامية وأسسها 1/ 436.
[18] كما سبق وذكر في مبحث الأخلاق ارتباطها وشمولها لأمور الحياة.
[19] بتصرف، فقه الدعوة إلى الله 2/ 898
[20] بتصرف، أدب الدنيا والدين ص 238- 240.
[21] بتصرف، سبل السلام شرح بلوغ المرام 4/ 415.
[22] بلوغ المرام من أدلة الأحكام: الحافظ ابن حجر العسقلاني ص 281 ح 1326، وقال أخرجه أبو يعلى وصححه الحاكم، تحقيق وتعليق: رضوان محمد رضوان، الناشر دار الكتاب العربي بيروت، ط: بدون 1373هـ.