أرشيف المقالات

بين (أنات حائرة) وبين (قيس ولبنى)

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
من دموع الشاعر الجليل عزيز أباظة بك للأستاذ دريني خشبة ترى، هل كانت هذه الزوجة الكريمة الملهمة تدري أنها تقترح على زوجها إنشاء رثائها هذا المؤلم الحزين الخالد، وهي لا تزال على قيد الحياة، حينما اقترحت عليه نظم (قيس ولبنى؟) ويا ترى، هل فطن هذا الزوج الكريم، وقد شرع ينظم (قيس ولبنى) أنه إنما شرع ينظم رثاء أعز الناس عليه، وهي بعد لا تزال تنبض بحياة حافلة سعيدة؟ يا للمأساة التي أنتجت لنا كل هذا الأدب، وكل هذا الشعر! فوجئت بهدية الأستاذ الكريم على غير سابق معرفة، ففرحت بها، لأنها ملأت يدي بأملي المنشود الذي كنت أرسلهما من أجله في الأدب العربي فلا تفوزان منه إلا بالوشل الذي لا يشفى غلة، ولا يبل ظمأ.

فلما قرأتها، عرفت فيها ريح ذلك الفؤاد المحزون الذي نفس عن أشجانه (بأناته الحائرة) أو هذه الباقة العبقة من زهرات الألم والأسى، التي نظمها الشاعر تحية لروح أعز الناس وذكرى! وجدت في المسرحية ريح هذا الفؤاد المحزون، وكنت قد تصفحت (أنات حائرة)، فلشد ما راعني أن صدق حدسي! لقد وقعت فيها على زفرة من ذاك الأنين الموجع الذي وصف به الشاعر في إحدى مراثيه تلك الليلة الخالدة في حياة كل زوج، الليلة الأولى التي تربط بين قلبين، وتحقق حلمين، وتستفتح في تاريخ كل عش هادئ طوبى من السعادة والمحبة والتوفيق.
لقد أجرى الشاعر على لسان قيس، في ليلته السعيدة الأولى، حينما لم الله شمله بلبنى، نغماً من تلك الموسيقا الباكية التي ترددت في أطرافها أناته الحائرة، والتي ذرف بها دموعه وروحه، وجدا على شريكه حياته وحرقة والتياعا.
اسمع إلى الشاعر الجليل يرثى إلفه في ليلة ذكرى عرسه: يا ليلة جمعتنا بعد طول نوى ...
ذكراك هاجت لنا الأشجان ألوانا ذكرت ما كان من عرس جلوت به ...
عليَّ أكرم خلق الله إنسانا بيضاء هيفاء تحكي الصبح مؤتلقا ...
والروض متسقاً والبان ريّ بتنا تضئ ظلام الليل نشوتنا ...
وتستثير شجون الليل نجوانا قالت وقلت، فلم تفرغ مقالتنا ...
إلى الصباح ولم تفرغ شكاوانا واسمع إلى قيس يكمل هذا اللحن: وحولنا الليل يطوى في غلائله ...
وتحت أعطافه نشوى ونشوانا فتتم لبنى اللحن قائلة: نكاد من بهجة اللقيا ونشوتها ...
نرى الربى أيكةً والرمل بستانا ونحسب الكون عش اثنين يجمعنا ...
والماء صهباء، والأنسام ألحانا ونحسب العمر فيضاً من صبا وهوى ...
والغيب ملآن بالإشراق ريانا فيشدو قيس: لم نعتنق والهوى يفرى جوانحنا ...
وكم تعانق روحانا وقلبانا نغضي حياء، ونغضي عفة وتقي ...
إن الحياء سياج الحب مذ كانا ثم انثنينا وما زال الغليل لظى ...
والوجد محتدماً والشوق ظمآنا وتختم اللحن لبنى وهي قائلة: ففي سبيل الهوى ما ذاب من مُهَج ...
وانهلِّ من مقل زلفى وقربانا خضنا اللياليَ نشكوها وننكرها ...
حتى التقينا، فقد لذت لنا الآنا حتى التقينا فقد لذت لنا الآنا! لله ما أوجع تلك الذكرى! اسمع إذن إلى بقية اللحن يرسل فيه الشاعر الجليل روحه دموعه: يا ليلة شبْت الذكرى بعودتها ...
في دورة العام ماذا هجت لي الآنا؟ قد كنت فيما مضى أنساً نطيب به ...
نفساً، فأمسيت أوصاباً وأشجانا أضنيت أسوان ما ترقى مدامعه ...
وهجت فوق حشايا السهد حيرانا يبيت يودع سمع الليل عاطفة ...
ضاق النهار بها ستراً وكتمانا ويرسل الشجو في سر الدجى حُرقاً ...
لو الدجى قُدَّ صخر إذن لانا! إلى آخر هذه الأنات الحائرة بين الديوان الوفي الخالد، وبين المسرحية الوفية الخالدة لقد كنت أقف عند كل شعر يقوله قيس، فأحس فيه قلباً يحترق وروحاً تتململ من الوجد، في ديباجة قوية، ونفس مرسلة، لا تتفق كثيراً لمن ينظمون شعراً لا تصله بقلوبهم صلة وليس لأرواحهم بموضوعه شأن، فلما وقعت على هذا الشعر الذي يقبسه الشاعر من مراثيه، ليجريه على لسان قيس ولبنى، عرفت سبب هذه الحرارة التي تشيع في كلمات قيس ولبنى خاصة فلما قرأت في خطابه إلى أنه إنما شرع ينظم مسرحيته باقتراح من هذه الزوجة الوفية، عرفت أن المقادير قد شاءت أن تكون المسرحية كلها أخلد المراثي في ديوان الأنات الحائرة ولكن.
ما دام الأمر كذلك، فلماذا آثر الشاعر الجليل أن تنتهي منظومته هذه النهاية السعيدة، ولماذا لم ينته بها إلى المأساة، والمأساة أوجع في القلب، وأنكأ للنفس! ولاسيما أن كثرة الرواة على أن قيساً ولبنى لم يجتمعا بعد افتراقهما؟ وأحسب الإجابة على هذا سهلة هينة.

فالشاعر المحزون رجل مؤمن عامر القلب بالإيمان.

وهو قد نظم المسرحية لتكون رثاه ووفاء.

وهو قد اتخذ قيساً ولبنى رمزين خالدين له ولألفه.

وهو قد كره لهذا السبب أن ينتهي حبهما إلى هذا الفراق الكريه الذي قال به معظم رواة أبي الفرج، والذي لا لقاء بعده.

حتى في عليين.

وهو لهذا السبب آثر أن يجمع بينهما في هذه الحياة الدنيا.

وأظنه.

بل أؤكد أنه رمز بذلك إلى لقاء الدار الآخرة وبعد.

فنحن نريد أن نتجه بأمانينا إلى هذا الإيمان الذي يعمر قلب عزيز أباظه بك.

الرجل الذي وفى لشريكته في الحياة ما لم يف أحد لأحد.

الرجل الذي كان يملك هذه الذخيرة من الشعر والشعور وقوة التعبير، ثم لا يطمع في شهرة أدبية، ولا يحاول منافسة أحد من جبابرة الأدب، حتى كان الذي قضى الله، فسعت إليه الشهرة التي تحفى أقدام غيره وهو أزهد الناس فيها، لأنه إنما كان يبكي لنفسه، ولم يطلب قط أن يسعده أحد، أو أن يعده بالإسعاد على ما ألم به.
إنما هو حسن حظ الأدب المصري الحديث الذي أظفره الله بأدمع ذاك القلب الكبير وأناته، منظومة في سموط من الألم.
أراد الله أن يرسلها الشاعر تفريجاً لهمه، وتنفيساً عن قلبه.

وإلا فأين كان كل ذلك الأدب وقد بلغ الشاعر الخامسة والأربعين؟ فنحن إذن نتجه إلى قلب الشاعر العامر بالإيمان.
بأمانينا، بأماني الأدب المصري الحديث.

بهذه الآمال التي رددناها، ولن نمل من ترديدها، حتى يعمر شعرنا المصري الحديث بهذه الثروة الزاخرة التي شهدنا بعض أقباسها في مجنون ليلى، وكليوبطره، وقمبيز، وكثير عزة، وأغنية الرياح الأربع.

وأخيراً.

في قيس ولبنى.

وفيما لا أذكر الآن من روائع شعرائنا المجددين نتجه إلى قلب الشاعر العامر بالإيمان إذن.
راجين أن يسير بالشعر المصري الحديث في تلك الناحية الموضوعية التي سار بها في مسرحيته الخالدة، والتي سار بها في روائعه (في بطحاء مكة) و (على قبر خديجة أم المؤمنين) و (أحد) و (ذكريات) وليؤد كل منا الدين الذي في عنقه للوطن واللغة والأدب.
وينبغي ألا تحول آلامنا بيننا وبين واجبنا دريني خشبة

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢