أرشيف المقالات

مسابقة الأدب العربي

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
قادة الفكر (لطه حسين) للدكتور زكي مبارك تمهيد كتاب (قادة الفكر) هو في الأصل بحث وجيز كتبه الدكتور طه بك حسين ليكون هدية لقراء مجلة الهلال، يوم كان لمجلة الهلال هدايا سنوية.
والمؤلف يعتذر في ختام كتابه بأنه كتبه في ظروف منوعة الألوان، فلم يكن في جميع تلك الظروف مطمئن النفس فارغ البال.
ومعنى ذلك أنه يرى محصول الكتاب دون ما يريد، ولهذا اعتذر بعبارات حزينة تثير الإشفاق ونحن ننوب عن الدكتور طه في تقديم هذا البحث الوجيز، فنقول إنه تحفة أدبية وعقلية، وإنه يشهد بقدرته على تلخيص ما يقرأ من جيد التصانيف.
وكلمة (تلخيص) كلمة مدح في هذا المقام، لأن المؤلف لم يرد أن يواجه المعضلات الفلسفية مواجهة الباحث المعتزم أخذ الفلاسفة بنقد ما خلفوا من حقائق وأباطيل والدكتور طه نفسه يعترف بأنه ملخص: يعترف اعتراف العلماء، فلا يدعي أنه أجهد فكره في غير التلخيص، ولكن أي تلخيص؟ لقد قدم للقراء صوراً سريعة متلاحقة بأسلوب سريع لا يسمح للقراء بالوقوف لحظة من زمان هل أبخل على المؤلف بكلمة ثناء فأشهد أني قرأت كتابه في سهرة واحدة، وأني عشت معه لحظات أمتع من لحظات الحوار الطريف بين الندماء؟ مزية الدكتور طه أنه يكتب كما يتحدث، وأنه ينقل إلى قرائه ما استقر في نفسه بلا تكلف ولا افتعال لم يبتكر الدكتور طه كتابه هذا، إذا أردنا من الابتكار معناه المطلق، فلكتابه نظائر في الأدب الأوربي، وإنما ابتكره في الأدب العربي، فهو أول كتاب لخص آراء الباحثين في طوائف من قادة الفكر الذين سيطروا على العالم القديم والعالم الحديث وتكاد تكذب الدكتور طه حين يقول إنه يلخص، لأنه يفترع الأبحاث بقوة توهمك أنه المفترع الأول، وأن كتابه سيكون المصدر لمن يتحدثون عن هوميروس أو سقراط أو أفلاطون وهذا كلام أقوله لمنفعة قرائي، وأنا أحب لهم ما أحب لنفسي، ولو كان هذا الكتاب ضعيفاً لأخذت بخناق الدكتور طه بدون ترفق، لأني لا أجامل أحداً على حساب الفكر والبيان آفة الإخلاص في التلخيص التلخيص مطلوب، ولكنه لا يخلو من آفات، لأنه يصد المؤلف عن تعقب من ينقل عنهم نقل الواثق بأنهم على هدى في جميع الأقوال وقد وثق الدكتور طه بمن نقل عنهم فلم يجادلهم في رأي من الآراء وتوضيح هذه المؤاخذة أن الدكتور طه ساير الباحثين الأوربيين في القول بأن الثقافة اليونانية هي مصدر الثقافة الإنسانية، وأن الناس في الشرق والغرب، وفي جميع الأجيال مدينون لثقافة اليونان والحق أن للدكتور طه عذراً في هذه المسايرة، فقد قرأ كتباً ترى هذا الرأي، ولو أنه تريث لعرف أن هنالك كتباً أجدر من تلك الكتب بالتلخيص، وهي الكتب التي ترى أن المعارف اليونانية منقولة عن المعارف المصرية، وأن فلاسفة اليونان القدماء لم يكونوا إلا تلاميذ لفلاسفة مصر القدماء وأنا لا أسوق هذه المؤاخذة تعصباً لبلادي، فاليونانيون أنفسهم يعترفون بأنهم تلاميذ المصريين، وكانت زيارة مصر واجبة على كل يوناني يريد التفقه في درس أسرار الوجود أستاذية مصر الفرعونية لليونان الوثنية ليست أسطورة من الأساطير، وإنما هي حقيقة من الحقائق.
وإن أراد الدكتور طه أن يساجلني فأنا حاضر للسجال، ومعي العقل الذي ثقفه الدكتور طه يوم كان أستاذي بالجامعة المصرية هدية نفيسة كان من المألوف بيني وبين الدكتور طه أن نتقارض الهدايا العلمية والأدبية، قبل أن تدور الدسائس بيني وبين هذا الأستاذ الجليل، وأنا أريد اليوم أن أقدم إليه هدية أرجو أن يتقبلها مني قال في كتابه (مستقبل الثقافة): إن عقلية مصر عقلية يونانية، وإنه لابد من أن تعود مصر إلى احتضان فلسفة اليونان. وأقول إن الأفضل أن يعترف الدكتور طه بأن الفلسفة اليونانية منقولة عن الفلسفة المصرية، وإذن يكون تقبل مصر لفلسفة اليونان ترحيباً بآراء مصرية رجعت إلى أهلها بعد طول الشتات طفولة الإنسانية أفي الحق أن العقل الإنساني لم ينضج إلا في القرن الرابع قبل المسيح؟ هذا سؤال لم يخطر للدكتور طه في بال العقل الإنساني نضج ونضج قبل الوثنية اليونانية بأزمان وأزمان، وكان مصدر نضجه في مصر التي سبقت اليونان بأجيال وأجيال وأقول مرة ثانية إني لا أتعصب لبلادي، فليقل من يعرف أكثر مما أعرف إن مصر سبقت إلى إذاعة الفكر والعقل عند القدماء، على شرط أن يقدم البراهين أنا لا أوجب نظرياً أن تكون مصر أول أمة رفعت أعلام الحضارة الإنسانية، فمن المحتمل أن تكون سبقت بأمم سكت عنها التاريخ، ولكن التاريخ المكتوب يحدثنا أن مصر أول أمة رفعت أعلام الحضارة الإنسانية، فما الذي يمنع من أن يتلطف الدكتور طه فيقول كما تقول الوثائق بأن مصر سبقت اليونان إلى رفع قواعد المدنية في أقدم عهود التاريخ. أنا لا أبتكر وإنما ألخص ما قرأت، بدون أن أزعم أني أقدر من الدكتور طه على التلخيص، وإن كان من حقي أن أزعم أني قرأت أكثر مما قرأ في تاريخ تلك العهود اليونانيون تلاميذ المصريين، والبلاد المصرية في جميع الأزمنة أخصب من البلاد اليونانية، بدليل أن مصر كانت الملاذ لليونان في الفكر والمعاش، ولم يثبت يوماً أن مصر احتاجت إلى الاستظلال بظلال اليونان والتاريخ القديم يؤيده التاريخ الحديث لم تستطيع اليونان بعد ظهور الإسلام أن تكون أمة تسيطر على الشرق أو الغرب، وهي قد جهلت تاريخها القديم وجهلت مبادئ فلاسفتها القدماء، وجهلت أيضاً لغة سقراط، فمجدها رهين بتعصب أنصارها من الأوربيين أما مصر فقد وقفت وقفة أبية في رد الحروب الصليبية، وذلك موقف لن ينساه التاريخ معذرة يا أستاذي، فقد بدا لي أن أرد إليك بعض ما أسديت إلي من جميل بين الإيجاز والإطناب أطنب الدكتور طه حين تحدث عن قادة الفكر في العصر اليوناني، ثم أوجز إيجازاً مخلاً حين تحدث عن قادة الفكر في العصر الإسلامي، فهل يرى أن الصراع الفكري في عهود الوثنية كان أقوى من الصراع الفكري في العهد التي احتدم فيها النضال بين الإسلام والنصرانية؟ يرجع السبب في الإيجاز والإطناب إلى الكتب التي كانت بين يديه وهو يؤلف كتابه اللطيف، وأهما كتاب ليون روبان في تاريخ الفكر اليوناني ولو كانت الأقدار قضت بأن يظهر كتاب يؤرخ الفكر العربي لكان من المؤكد أن يصول الدكتور طه صولة القادر على شرح ما قام به العرب في رفع القواعد من الحضارة الإنسانية لقد قرر أن الإسكندر غرس الفكر اليوناني في الهند، مع أن الإسكندر لم يلم بالهند إلا إلمامة الطيف، فما عساه يقول لو تذكر أن الفكر العربي تغلغل في أرجاء الهند، وما زال يتغلغل بفضل المذاهب الإسلامية؟ أهم فصول الكتاب الفصل المكتوب عن هوميروس خفيف الوزن، ويقرب منه الفصل المكتوب عن سقراط، ثم تجلت قدرة المؤلف على البيان حين تحدث عن أفلاطون وأرسططاليس، وسيسأل الطلبة حتماً عن هذين العبقريين، لأنهما المنشئان الأصيلان للفلسفة اليونانية أما الفصل المكتوب عن الإسكندر فهو غرة الكتاب، ولعله من أجمل ما كتب الدكتور طه حسين.
وأهمية هذا الفصل ترجع إلى براعة المؤلف في تصوير قدرة الفلسفة حين تنتقل إلى الميادين العملية، وكذلك يقال في الفصل الخاص بجبروت يوليوس قيصر، وما استطاع أن يصنع في إيقاظ الرومان والفصل الخاص بالعصر الحديث موجز جداً، ولكنه جيد ففيه لمحات فكرية على جانب من الجمال أما بعد فكتاب (قادة الفكر) أوضح من أن يحتاج إلى توضيح، وأنا أوصي الطلبة بأن يقرءوه مرات لأن محصوله مبدد غاية التبديد، ولا يمكن إدراك مرامي المؤلف إلا بعد طول النظر فيما بعثر من المعاني هنا وهناك وأنا حاضر لشرح ما يستغلق على الطلبة الذين يختارون هذا الكتاب للامتحان الشفوي. زكي مبارك

شارك الخبر

المرئيات-١