اللورد روبرت بادن باول
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
الكشاف الأعظم العالمي
للأديب خميس زهران
توفي اللورد بادن باول الكشاف الأعظم في نيري بكينيا في
صباح 8 يناير وهو في الثالثة والثمانين من عمره. وكان قد مرض مرضاً خطيراً بنوبات قلبية في نوفمبر من السنة الماضية ثم تحسنت صحته ولكنها ظلت معتلة.
وقد احتفظ الفقيد بصحته ونشاطه حتى الثمانين ثم أخذت بعد ذلك في الانحطاط.
ومما يذكر عنه أنه له داراً فوق منحدرات جبل كينيا حيث عاش حتى توفي واشتهر الفقيد في حرب البوير في جنوب أفريقيا ودافع عن مافكنج؛ ولكنه نال شهرته العالمية عندما أسس حركة الكشافة عام 1908 فنجحت نجاحاً عظيماً وأصبح عدد الكشافين والمرشدات في العالم قبل وفاته نحو خمسة ملايين بادن باول اسم يعرفه كل من له إلمام بتاريخ الكشافة، ويمجده كل من درس مبادئها واعتنقها في أي قطر من أقطار المعمورة، فهو يتزعم تلك الحركة المضنية التي ابتكرها، وقد وقف نفسه على خدمة الشباب في العالمين.
وهو هو في نفسه وأخلاقه وعاداته ونزعاته لا يفرق بين جنس وجنس، ولا يوازي إلا بين النفس والنفس مجردة ولد الطفل الإنجليزي (روبرت) مؤسس مذهب الكشف من أبوين كريمين هما (بادن باول) والسيدة (هزيتا هراس) ورأى النور في هذه الحياة لأول عهده بها في 22 فبراير عام 1857 في شمال هايدبارك بلندن، وكان أبواه ممن اشتغلوا بالتربية ولم يكن يدور بخلدهما أن ذلك الابن السادس سوف يأتي بمذهب في التربية هو خلاصة أراء علمائها وأظهره عملياً في ثوب الكشافة، فحقق بذلك نظريات سقراط وأفلاطون، ثم أقوال ابن خلدون ولوث ومن بعدهم روسو وبستالوتزي وسبنسر فقد أجمع كل هؤلاء الفلاسفة الأخلاقيين وغيرهم أن أول الواجبات الإنسانية تأهيل النفوس إلى اكتساب الكمال الممكن بتأسيس الملكات الصالحة وتأصيل الفضيلة الذاتية بإصلاح الأنفس الناطقة حتى تستحق النظر في حال غيرها أو تمرين سواها؛ ووافقهم على هذا المبدأ الحقيقي حكماء السياسة والشرع عموماً لتسليم البرهان القاضي بعلو الغاية من التربية وإن اختلفوا في الكيفية على حسب المدارك والاقتضاءات الزمنية وقد دخل في العقد التاسع من عمره وقد منحته الطبيعة ما عندها من فتوة وقوة ولم تحرمه لذة الألقاب والغنى فتدرج فيهما إلى أن بلغ ذروة الأولى وأصبح في درجة لا بأس بها من الثانية وكان لا يزال قدوة الشباب ومرجع المربين: يلبس كالطفل وكالشاب وكالرجل وهو في الواقع كهل لا بل شيخ.
إنما تعاليم الكشف وحياة الكشف جعلت من شيخوخته الشباب الغض والعامل المجد الآخذ من المجتمع بأكبر نصيب.
فبادن باول في حركاته وسكنا ته كان يعد من الشباب الناهض وإن يكن شيخاً في مظهره وفي منظره، لأنه كان يلبس ما يتذوق الشباب ويتحرك كما يتحرك الشاب، ويجانس الفتية ويجالسهم دون غضاضة أو تنافر.
لعله في هذا كان يتحدى الطبيعة ويتحدى الذين إذا استقبلوا الخمسين ترحموا على الدنيا وعلى الحياة، وعاشوا أمواتاً يبحثون عن القبر ويستضيفون اليأس في كل أطوارهم وتاريخ طفولة رو برت مملوء بالحوادث والمفاجآت فقد مات أبوه (بادن باول) الأستاذ بجامعة أكسفورد وهو في الثالثة من عمره فكفلته أمه السيدة هزيتا ابنة الأميرال (السير سدني سميث) من أعلام البحرية مدة الحملة الفرنسية مع اخوته الستة وكذا أخته الوحيدة.
ولم تلحقه بمدرسة ما بل اكتفت بتعليمه المنزلي.
وكانت لدى بادن واخوته سفينة يمخرون بها عباب اليم فيجازفون بأنفسهم متغلبين على الأعاصير حتى قويت ملكاته وصار يستعمل المجداف بلباقة وذكاء وتعلم الاعتماد على النفس.
وبقى بادن يتلقى بعض العلوم الخفيفة والمعارف السهلة في منزله إلى أن بلغ الحادية عشرة من عمره فأدخل مدرسة روزهيل الابتدائية فمكث فيها سنتين كان خلالها العلم الفرد في الألعاب مما جعله محبوباً من أقرانه وأساتذته.
ولقد قال عنه الدكتور هايج بروني في سياق كلام له: (ما شككت قط في كلمة قالها.
ولقد برهن في جميع أدوار حياته أنه رجل شريف لا يعرف زوراً ولا بهتاناً ولا يخاتل ولا يشك في كلامه).
ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره التحق بمدرسة تشارتر هاوس تلك المدرسة التي تحدث (ثكري) عنها وأشاد بذكرها في رواياته القصصية.
وكان سيره التعليمي عاديا كشأن الطلبة المتوسطين أي أنه يبزهم في اللغتين اللاتينية واليونانية، وينافسهم في الأخلاق الفاضلة والصفات النبيلة.
أما في الألعاب بأنواعها فهو ابن بجدتها وفارس حلبتها؛ شهد بذلك ناظر مدرسته حيث كتب على لوحة الإعلانات قبيل انعقاد مباريات كرة القدم السنوية: (إن الطالب روبرت بادن باول حارس مرمى يقظ هاديء الخلق يعتمد عليه دائماً) وفي عام 1876 ترك الفتى روبرت مدرسة تشارترهاوس، وكان عمره إذ ذاك تسعة عشر عاماً، فأخذ يفكر فيما عساه يكون مستقبله، ولم يكن قد قرر اتجاه حياته بعد.
وفي بعض الأحيان تخضع مصاير الناس لمصادمات تافهة لا وزن لها، وقد يتغير حظ الإنسان ويتبدل مصيره، لا لشيء إلا أن القدر يريد أن يحقق ما كتب في صفحته.
ومن المحقق أن الامتحان العسكري الذي صادف انعقاده وقت خروج روبرت من المدرسة كان له الأثر مما كان يتوقع، فإن تفوقه ونجاحه بين سبعمائة طالب آخرين دخلوا معه هذا الامتحان بالرغم من عدم ميله إلى الجندية أرغمته على الالتحاق بالفرقة الثالثة عشرة من الهوزار بالهند، وهكذا هيأت له المصادفة الدخول في جيش بلاده ولما ذهب إلى الهند ضابطاً في الجيش أعجبته الطبيعة وهام بها، فأخذ يرمي بنفسه في أحضانها، ويطبخ طعامه بيده، ويهيئ فراشه من أغصان الشجر ويهتدي إلى الاتجاهات: بالرياح والنجوم والشمس والقمر؛ ويعيش مع الحيوانات والطيور، ويلاحظ نظم حياتها ويدرس أنواعها حتى نمت لديه قوة الملاحظة والاستنباط، واتسع نطاق ذاكرته ورهفت حواسه ودقت.
ولقد قيل إن أول عمل قام به هناك هو أنه جمع عددا كبيراً من أولاد الأوربيين الصغار ونظمهم واخترق بهم شوارع مدينة لكنو، لاعبين على بعض الآلات الموسيقية، وكان يعزف هو على آلة تدعى (أوكارينا) واللورد بادن باول ذو اطلاع وافر على شئون ممالك كثيرة، فقد انتقل من الهند إلى بلاد الزولو فجنوبي أفريقيا بعد أن قام بسفرات أخرى طويلة كان له فيها مغامرات جريئة وتجارب قيمة لا ننظر إلى بادن كما ننظر إلى شاب، فهو في طفولته وفي شبابه ككل منا، ولكن النظرة التي تهمنا هي من يوم أن هداه الله، أو قل من يوم أن بعث الكشف من رقدته في صدر (توماس ستون)؛ فقد وقع في سنة 1904 أن تنبه الأمريكيون إلى مسألة الكشافة وما يكون لها من وقع حيوي.
فذهب المستر توماس ستون الذي كان يحاول إدارة غابات كندا إلى تأليف نفر من أبناء الإنجليز هناك لاستغلال هذه الغابات فجعلهم فرقاً على رأس كل واحدة منها واحد يقوم عليهم يدربهم على النظام والعيش في العراء، يأخذهم إلى الغابة ليعلمهم تسلق الأشجار واقتفاء الأثر، والمراوغة، والاختفاء عن أعين الرقباء، والتعرض للشمس.
ويعلمهم كذلك السباحة وبعض الحرف النافعة، ويمنعهم شرب الخمر والتدخين فلما رأى ذلك السير روبرت بادن باول وكان إذ ذاك في أمريكا الشمالية أعجبته خطة الرجل وصادفت هوى في نفسه، ولكن ما لبث أم أسدل النسيان عليها ستاره وذلك اليوم هو حين صدرت له الأوامر بالذهاب إلى جنوب أفريقيا لتأدية خدمة عسكرية، وحين عهد إليه قوة من الوطنيين لم يكن لهم عهد بالحربية مائة شاب من سكان جنوب أفريقيا كانوا المزرعة التي غرس فيها (الماجور بادن باول) تعاليمه كتجربة.
ومائة لا أكثر استطاعوا أن يؤيدوا صدق مذهب الكشف، لكن بقيادة هذا الزعيم الكبير، وهم اليوم يعدون بالملايين في أنحاء المعمورة، لا يقف تيارهم جنس أو دين أو مذهب؛ بل كلهم يعتنقون مذهب الكشف راضين قانعين بفوائده سواء لأجسامهم ولعقولهم ولاستعدادهم للحياة كأفراد عاملين وكأعضاء في المجتمع نافعين.
واللورد بادن باول فضلاً عن شهرته ككشاف أعظم كان يعتبر بحق بطل واقعة مفكنج، فقد أظهر أثناء حصار مدينة مفكنج عام 1899 من النبوغ والعبقرية في الفنون العسكرية ما أطلق ألسنة مواطنيه بالمدح والثناء عليه وتلك ولا شك كانت حرباً هائلة لم يكن الإنجليز يتوقعون أن يكون للكشافين أثر فيها.
فلم يلبث أن دعي الجنرال بادن باول إلى جنوب أفريقيا عند قيام حرب البوير، فقام بأعمال جليلة رفعت من ذكره في بلاده ومما يذكر في هذا الشأن أن الجنرال الإنجليزي حصر بجيشه في مفكنج وهي مدينة صغيرة واقعة في سهول أفريقيا الجنوبية ولم يكن أحد يظن بأنها ستهاجم من العدو كما لا تتوقع أنت مهاجمة العدو لبلدتك أو قريتك إذ أن هذا بعيد الاحتمال قال بادن باول: (ولما وجدنا أننا سنهاجم في مكفنج أخبرنا حاميتنا عن النقط التي ينبغي الدفاع عنها.
وكان عدد رجالنا قريباً من 700 ما بين شرطي ومتطوع ومنظم.
ثم سلحنا من الأهليين 300 وكان بعضهم من رجال الحدود القدماء الذين هم أهل لهذه المهمة.
غير أن كثيراً منهم كانوا تجاراً وكهنة وغير ذلك ولم يشاهدوا سلاحاً من قبل ولم يجربوا تعلم الحركات العسكرية أو الرمي.
لذا لم يكن يرجى منهم خير في البدء.
اجتمع لدينا بعدئذ ألف رجل كلفوا بالدفاع عن المكان الذي يضم 600 امرأة (بيضاء) وولد، 7000 من الأهليين وكان محيطه نحو خمسة أميال.
أليس من المضحك أن تلقى عدواً يقصد قتلك وأنت لم تتعلم الرمي قط؟) لقد اضطرب الجيش لهذا الحصار الشديد ولم تعد هناك نفس لم يداخلها الخور إلا صاحب ذلك القلم العظيم الذي عرف الحرب من قبل وبلاها فقد كان على بينة من أمره؛ ومعنى هذا أن لا سبيل أمامه غير الإذعان لمشيئة الظروف فلا بد مما ليس منه بد اختلى بعد ذلك بزميله اللورد (ادوارد سيسل) لحديث قصير استشاره خلاله فيما يختص بالدفاع وأدلى باقتراحه ذاكراً خطة صديقه (توماس ستون) فوافقه عليها، وقد سره وأحيا الأمل في نفسه أنه قد وجد على الأقل رجلاً خبيراً بالعمل الذي ينتويه والذي عهد به إليه وخفف من غم الجنود وشجنهم، كما أعاد الثقة إلى نفوسهم هذا القوام العسكري المهيب وتلك اليد القابضة أبداً على السيف المتدلي بجانبه كأنه قد استحال قطعة متصلة ببدنه، وهاتان العينان الساكنتان أبداً لا تضطربان ولا تختلجان، وحديثه كلما تكلم عن المخاطر بلهجة المحتقر لها المستخف بها كل الاستخفاف (أرجو أن تحلوني مكاناً حامي الوطيس متأجج النيران) (نعم قد يحاولون الاقتحام ولكني أظن أن لا حاجة بي إلى أن انبه جندياً أن عشرين رجلاً من البواسل أولى العزم - وهو ما أعتقده فيكم جميعاً - قادرون بلا شك على الثبات في الدفاع عن مدينة كهذه إزاء عشرة أمثال أو أقل عشرين من أمثال العدد الذي يتقدم به البويريون لاقتحام مفكنج) (وما أنا إلا جندي مثلكم وما سيقع لكم هو واقع لي.
فهل رأيتم أثراً للضعف أو التخاذل عندي، أو لمستم مني ناحية شك في النصر؟) ولما ضربت مدينة مفكنج لأول مرة طير خبر ذلك وعلق عليه قائلاً: (كسر إناء طبخ ومات كلب) ولقد كتب إلى أحد القواد البويريين: (إنك لم تأخذ المدينة بالقعود عنها والتطلع إليها) وجعل بادن باول يظهر الاستخفاف من الحصار إلى درجة جعلت الحامية جميعاً مطمئني الصدور مرتاحي الخواطر، كما أن ثقته التامة بالنتيجة واستعجاله القتال تركهم في ذهول من أمره وإعجاب بشجاعته (البقية في العدد القادم) خميس زهران زعيم جوالة بإسكندرية