أرشيف المقالات

من برجنا العاجي

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
إني من الذين يعتقدون أن في مصر اليوم نهضة ملحوظة في الأدب والفن، وأن الأدباء والقراء يزدادون يوماً بعد يوم.
على أن الذي يسترعي الالتفات ويدعو إلى القلق هو أن نتاج الذهن لم يبلغ بعد في قيمته المادية وأثره الاجتماعي المستوى المطلوب.
لماذا؟ لأن هنالك عنصراً آخر في هذا الشأن ما زال مفقوداً.
إن قوة الأدب والفن في أمة لا ترتكز فقط على طائفتي الأدباء والقراء.
هنالك طائفة ثالثة عليها يقع قسط كبير من عبء العمل ولها ينسب بعض الفضل في إذاعة نتاج الذهن وإيصاله إلى متناول كل يد، وإحداث الضجيج حوله، والإعلان عن خطره.
أولئك هم الوسطاء والتجار والناشرون.
ففي فرنسا مثلاً ما يكاد يظهر كتاب جديد في باريس اليوم حتى تجده في صباح الغد معروضاً في أصغر قرية من قرى الريف الفرنسي.
ووسائلهم في ذلك بسيطة أوجه إليها نظر تجار كتبنا الكسالى المتواكلين.
إنهم يعلمون أن الكتاب لا يطلب عادة إلا في المحطة عند السفر، إذ هو خير أنيس في وحدة القطار.
فتراهم قد جعلوا في كل محطة صغيرة أو كبيرة عربة يد صغيرة كتلك التي توضع عليها عندنا (البسطة) والفطائر والمأكولات.
يعرضون عليها كل مستحدث من الكتب، ويعهدون بها إلى صبي يمر بها على الرصيف أمام كل قطار مار.
هنا في مصر توجد فكرة عرض الكتب والمجلات في المحطات، ولكن الذي يؤسف له حقاً هو أن مصلحة السكة الحديدية المصرية قد منحت هذا الامتياز لرجل رومي لا يعرض غير الكتب والصحف الإفرنجية؛ لأن هذه المصلحة لا تنظر إلا إلى راحة المسافر الأجنبي والسائح الافرنجي؛ أما نشر ثقافتنا في أنحاء بلادنا على يدها فهو مشروع لم تفكر بعد فيه. لذلك سيظل الأدب والفكر وكل ما يتعلق بالتثقيف الذهني والروحي في بلدنا محصوراً في محيط محدود. توفيق الحكيم أبو تمام شيخ البيان للأستاذ عبد الرحمن شكري (تتمة ما نشر في العدد الماضي) والسائر من شعر أبي تمام لا يقل في الصفات التي تؤهله لأن يسير عن شعر المتنبي السائر.
وترى كثيراً من هذا الشعر السائر في جميع أبواب شعر أبي تمام من مدح أو رثاء أو وصف أو هجاء، وله أبيات كثيرة تدل على بصيرة وفهم وذكاء، وأسباب السيرورة هي التوفيق في الصناعة والإيجاز والبيان والوضوح وسهولة اللفظ وقوة السيل الشعري المنبعث من النفس وسلامة الفطرة والذوق.
ولأبي تمام أبيات صارت ملكا مشاعاً مثل قوله: وإذا أراد الله نشر فضيلة ...
طويت أتاح لها لسان حسود ومثل قوله: فلا تحسب هنداً لها الغدر وحدها ...
سجية نفس، كل غانية هند وقوله: ومن لم يُسَلِّم للنوائب أصبحت ...
خلائقه طرا عليه نوائبا وقوله: وطول مقام المرء في الحي مخلق ...
لديباجتيه فاغترب تتجدد وقوله: وقد يستر الإنسان باللفظُ خلقَه ...
فيظهر عنه الطرف ما كان يستر وفي رواية فعله (أي سبب فعله) بدل خلقه؛ وقوله أيضاً: يعيش المرء ما استحيا بخير=ويبقى العُود ما بقي اللحاء وقوله: وإني رأيت الوشم في خُلُق الفتى ...
هو الوشم لا ما كان في الشعر والجلد وقوله في تعزية الرثاء من قصيدة جليلة مشهورة: أتصبر للبلوى عزاء وحِسْبَةً ...
فتؤجر أم تسلو سلوَّ البهائم وقوله: لذلك قيل بعض المنع أدنى ...
إلى مجد، وبعض الجود عار وقوله: ليس الغبيُّ بسيد في قومه ...
لكنَّ سيد قومه المتغابي وقوله: وإذا امرؤٌ أسدى إليك صنيعة ...
من جاهه فكأنها من ماله وقوله وفيه روايتان في اللفظ: ومن الحزامة لو تكون حزامة ...
ألا تؤخر من به تتقدم وقوله: إنْ شئتَ أن يَسْوَدَّ ظنك كله ...
فَأجِلْهُ في هذا السواد الأعظم يعني جمهور الناس.
وقوله: فصرت أَذَلَّ من معنى دقيق ...
به فقر إلى فهم جليل وقوله: قد يُنْعِم الله بالبلوى وإن عظمت ...
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم وقوله: بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها ...
تنال إلا على جسر من التعب وقوله: إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ...
من كان يألفهم في المنزل الخشن وقوله: سكن الكيد فيهمُ إنَّ من أع ...
ظم إرْب ألا تُسَمَّى أريبا وقوله: فقد تألف العين الدجا وهو قيدها ...
ويُرْجَى شفاء السم والسم قاتل وقوله: أنكرتهم نفسي وما ذلك الإن ...
كار إلا من شدة العرفان وإساءات ذي الإساءة يُذْكِرْ ...
نَكَ يوماً إحسان ذي الإحسان وقوله: وقديماً ما اسْتُنْبِطَت طاعة الخا ...
لق إلاّ من طاعة المخلوق وهذا البيت الأخير فيه إلمام بمذهب الملاحدة الذين يقولون إن الاعتقاد بالخالق فكرة إنسانية ولها نشأة بشرية في قديم الزمن بسبب تأليه رب الأسرة ورئيس القبيلة في العصور التي قبل التاريخ.
على أن البيت يصح تأويله بما لا يخالف الدين.
وقد طعنوا في عقيدة أبي تمام بسبب تركه للصلاة والصوم وقوله في الشاعر والفروض الدينية كلاماً، كما جاء في كتاب مروج الذهب للمسعودي وفي غيره من الكتب.
وقد طعنوا أيضاً في نسبته إلى طي، وبعضهم صحح نسبته إلى طي وقال إنه نشأ في فرع مسيحي منها ثم تظاهر باعتناق الإسلام؛ وقد مدح الإسلام في مدحه للخلفاء والوجهاء ووصف المسيحيين بالشرك والكفر وعبادة الأصنام كما قال في مدحه المعتصم ووصف فتحه مدينة (عمورية) وإذا أردنا أن نحصي خلاصة الخلاصة من شعر أبي تمام لم نستطع أن نستغني عن المدح، وإن استطعنا الاستغناء عن المدح عند إحصاء خلاصة الخلاصة من شاعر كالشريف الرضي فإن شعر المدح في صنعة أبي تمام يحبب إلى القارئ قراءة المدح حتى ولو كان ممن لا يميل إليه.
انظر إلى قوله: نَسب كأن عليه من شمس الضحى ...
نوراً ومن فلق الصباح عموداً أو قوله: خدم العلى فخدمته وهي التي ...
لا تَخدم الأقوام ما لم تُخدَم أو قوله: ولو لم يكن في كفه غير نفسه ...
لجاد بها فليتق الله سائله أو قوله: فلو صورتَ نفسك لم تزدها ...
على ما فيك من كرم الطباع أو قوله: غَرَّبتهُ العلى على كثرة الأه ...
ل فأضحى في الأقربين جنيبا وله قصائد كثيرة فخمة حلوة في المدح مثل قصيدته في محمد ابن عبد الملك الزيات التي يقول في مطلعها: لهان علينا أن نقول وتفعلا ...
ونذكر بعض الفضل منك فنفضلا أو الأبيات التي يقول فيها: ليس الحجاب بِمُقْصٍ عنك لي أملا ...
إن السماء تُرَجَّي حين تحتجب وإجادته في المدح إجادة بطول حصرها، وهي ليست في مدح الأحياء فحسب بل هي أيضاً في مدح الموتى في الرثاء مثل قوله: هيهات أن يأتي الزمان بمثله ...
إن الزمان بمثله لبخيل أو قوله في رثاء بني حميد: وانفس تَسع الأرض الفضاء فلا ...
يرضون أو يجشموها فوق ما تَسعُ يود أعداؤهم لو أنهم قُتِلُوا ...
وأنهم صنعوا بعض الذي صنعوا عهدي بهم تستنير الأرض إنْ نزلوا ...
بها وتجتمع الدنيا إذا اجتمعوا أو قوله من رثاء ابني عبد الله بن طاهر: (نجمان شاء الله ألا يطلعا) إلى آخر القصيدة وهي من مأثور قوله وبها بيت يتمثل به كثيراً وهو قوله: وإذا رأيت من الهلال نموه ...
أيقنت أن سيكون بدراً كاملا وقوله أيضاً في مدح الرثاء: فالماء ليس عجيباً أَنَّ أعذبه ...
يفني ويمتد عمر الآجِنِ الآسِنِ وأكثر رثائه على هذا النمط: رثاء صنعة فخمة رائعة لا رثاء حرقة ولوعة، ولا رثاء وجدان؛ ومن أجلِّ رثاء الصنعة قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها: كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ...
فليس لعينٍ لم يَفِضْ ماؤها عذر ولا ينقص من قدرها أنها من رثاء الصنعة فإن الشعر كالفاكهة أنواع ولكل نوع طعم ولذة.
وله مع ذلك قصائد من شعر رثاء العاطفة والوجدان مثل رثائه لأخيه الذي أوله: إني أظن البلى لو كان يفهمه ...
صد البلى عن بقايا وجهه الحسنِ والقصيدة التي يقول فيها: (بأرّان لي خل مقيم وصاحب) ولكنه أحياناً تغيض العاطفة من رثائه كما قال في رثاء جارية له: يقولون لا يبكي الفتى لخريدة ...
إذا ما أراد اعتاض عَشراً مكانها وهل يستعيض المرء عن عُشرِ كفه ...
ولو صاغ من حُرِّ اللجين بنانها فالتعليل يدل على الذكاء، ولكن ليس هذا رثاء العاطفة؛ وكان ينبغي أن تكون حجته منزلة الجارية من نفسه لا أن يضعها بمنزلة عشر الكف.
ومثل هذا رثاؤه محمد بن حميد إذ يقول إنه رآه في الحلم فسأله: ألم تمت؟ قال: لا.

كيف يموت من كان كريماً مثلي كرمه خالد.
وكان ينبغي أن يجعل المرثي أرفع من أن يقول هذا القول الذي كان يستطيع الشاعر نفسه أن يقوله فيه بدل أن يضع المرثي موضع المفاخر بكرمه وإنه لو كان حياً لكان حرياً به أن يرى من الكرم ألا يفتخر بالكرم والبيت هو: ألم تمت يا شقيق الجود من زمن ...
فقال لي لم يمت من لم يمت كرُمْه ومن رثاء العاطفة قوله في رثاء ابنه وكان وحيداً بدليل قوله (بُنَيَّ يا أوحد البنينا) وهذه القصيدة هي التي مطلعها: (قد كان ما فخت أن يكونا) ولكنها ليست شيئاً إذا وضعت بجانب قصيدة ابن الرومي في رثاء ابنه وهي التي مطلعها: (بكاؤكما يشفي وإن كان لا يُجْدي).
وإذا قارنا بين غزل أبي تمام وبين أقواله في المودة والإخوان وجدنا شعره في الإخوانيات أكثر عاطفة ووجداناً وأعلى مرتبة في الشعر مثل قوله: من لي بإنسان إذا أغضبته ...
وجهلت كان الحلم رد جوابهِ وإذا طربت إلى المدام شربتُ مِنْ ...
أخلاقه وسكرت من آدابهِ وتراه يصغي للحديث بقلبه ...
وبسمعه ولعله أدرى بِه أو قوله: عصابة جاورت آدابهم أدبي ...
فهم وإن فُرِّقوا في الأرض جيراني أرواحنا من مكان واحد وغدت ...
أبداننا بشآم أو خراسان ورب نائي المغاني روحه أبداً ...
لصيق روحي ودان ليس بالداني أو قوله: جليد على ريب الخطوب وعتبها ...
وليس على عتب الإخلاء بالجلد أو قوله: وقلت أخٌ قالوا أخ من قرابة ...
فقلت لهم إن الشكول أقارب نسيِبيَ في عزمي ورأيي ومذهبي ...
وإن باعدتنا في الأصول المناسب أو قوله: خليليّ ما ارْتَعْتُ طرفي ببهجة ...
ولا انبسطتْ مني إلى لذةٍ يد ولا استحدثت نفسي خليلاً مُجَدَّداً ...
فيذهلني عنه الخليل المجدد أو قصيدته في علي بن الجهم التي يقول فيها إن ودهما (عذب تحَدّر من غمام واحد) أو قوله: وتكَشُّفُ الإخوان إن كشَّفْتَهُمْ ...
ينسيك طول تصرف الأيام أما غزله فكثير منه من قبيل التغزل بالغلمان وأكثره غزل حواس وليس به عاطفة عميقة أو وجدان.
وأكثره مقطوعات صغيرة في أغراض أكثرها بنت ساعتها ولعلها من عفو القريحة.
هكذا أكثر غزله ولو أن به ذكر الدموع التي تحولت إلى دماء (إفْنِ صبري واجعل الدمع دما)، وذكر آلام الحب وحرقاته ولكنه ذكر لا يدل على شعور عميق كما يدل غزل العذريين، ولا على وجدان كوجدان العباس بن الأحنف أو كوجدان الشريف الرضي.
وله في أول قصائد المدح بعض الغزل الرقيق، وهو مولع بذكر محاسن أعضاء الجسم كالعيون والخدود.

الخ. انظر قوله: صبَّ الشبابُ عليها وهو مُقتَبلٌ ...
ماءً من الحسن ما في صفوه كدر لولا العيون وتفاح الخدود إذاً ...
ما كان يحسد أعمى من له بَصرُ وكثير من غزله يشبه غزل أبي نواس، ولعل هذا هو سبب ورود قصائد في الغزل في ديوانه وفي ديوان أبي نواس مثل التي أولها (قال الوشاة بدا في الخد الخ) والتي أولها (أفنيت فيك معاني الشكوى) والتي أولها (وفاتن الألحاظ والخد).
ومما هو شبيه بالغزل في قصائد المديح مما يستحسن الأبيات التي يقول فيها: أدار البؤس حسَّنكِ التصابي ...
إليَّ فصرت جنات النعيم والتي يقول فيها: يا موسم اللذات غالتك النوى ...
بعدي فربعك للصبابة موسم والتي يقول فيها: أصبحت روضة الشباب هشيما ...
وغدت ريحه البليل سموما ولتي يقول فيها: ثم انقضت تلك السنون وأهلها ...
فكأنها وكأنهم أحلام وله في الغزل والوصف: باشر الماء وهو في رقة الصن ...
عة كالماء غير أنْ ليس يجري خدش الماء جلدَهُ الرطب حتى ...
خلته لابساً غلالة خمر أما قوله في المغنية الفارسية فمن عذب القول وهي قصيدة مطربة وهي التي يقول فيها: ولم أفهم معانيها ولكن ...
وَرَت كبدي فلم أجهل شجاها وفي باب الوصف من شعره أشياء بلغت منزلة عالية من الجودة تجعلنا نأسف لقلتها ونود منها المزيد.
ومن هذه القصائد وصفه لفتح عمورية، ووصف السحابة في أرجوزتها المشهورة، ووصف القلم في قصيدة يقول فيها: (لك القلم الأعلى الذي بشباته) وهو وصف مشهور أيضاً وهو من قصيدة مدح كوصف فتح عمورية.
ومن وصفه أيضاً أرجوزة (إن الربيع أثر الزمان)، ومنها أخذ البحتري قوله: (وجاء الربيع الطلق يختال ضاحكا).
وأحسن قصائده في وصف الطبيعة قصيدته التي يقول في أولها: (رقت حواشي الدهر فهي تَمرْ مِرُ) وفيها يقول البيت المشهور: تريا نهاراً مشمساً قد شَابَهُ ...
نَوْرُ الرُّبَى فكأنما هو مقمر والنَّوْر الذي يحدث هذا الأثر هو النور الذي له لون يغض من اصفرار أشعة الشمس كأن يكون لونه أبيض، ولا يحس القارئ مقدار صدق هذا الوصف إلا عند المشاهدة.
وله في وصف الخمر قصيدته التي مطلعها: (قَدْكَ اتَّئِبْ أربيتَ في الغلواء) وفيها يقول: صعبت وراض المزجَ سيئَ خلقها ...
فتعلمت من حسن خلق الماء وضعيفة فإذا أصابت فرصة ...
قتلت، كذلك قدرة الضعفاء وكأن بهجتها وبهجة كأسها ...
نارٌ ونورٌ قُيِّدَا بوعاء أو درة بيضاء بِكْرٌ أطبقت ...
حملاً على ياقوتة حمراء يخفى الزجاجة لونها فكأنها ...
في الكف قائمة بغير إناء ولها نسيم كالرياض تنفست ...
في أوجه الأرواح بالأنداء وقد أسقطت بعض الأبيات للاقتصار، والبيتان الأخيران ينسبان إلى البحتري أيضاً في قصيدة له، ولأبي تمام إجادة في الهجاء وله في قصائده سائرة مثل قوله: كم نعمة لله كانت عنده ...
فكأنها في غربة وإسار كُسِيَت سبائب لؤمة فتضاءلت ...
كتضاؤل الحسناء في الأطمار وقوله: مساٍو لو قُسِمْنَ على الغواني ...
لما جُهِّزْنَ إلاَّ بالطلاق فخلاصة الخلاصة من شعره لابد أن تشمل شيئاً من كل باب وهذا يدل على علو منزلته ومقدرته. عبد الرحمن شكري

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١