حفلات ختم القرآن
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
حفلات ختم القرآن[1]لا شكَّ في عِظَم هذا الأمر وعِظَم هذا الإنجاز وهو: حفظ القرآن، والنصوص تضافرت على تعظيمه وتعظيم صاحبه:
• عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حسدَ إلا في اثنتين: رجل علَّمه الله القرآنَ؛ فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جارٌ له، فقال: ليتني أوتيتُ مثلَما أوتي فلانٌ، فعَمِلْت مثلما يعملُ، ورجل آتاه اللهُ مالًا فهو يهلكُه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان، فعملتُ مثلما يعمل))؛ رواه البخاري والنسائي.
• قال عمر رضي الله عنه: أَمَا إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: ((إن الله يرفعُ بهذا الكتاب أقوامًا، ويَضَع به آخرين))؛ رواه مسلم.
• قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُقال لقارئ القرآن: اقرأ ورتِّل وارتَقِ كما كنت ترتِّل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها))؛ رواه أبو داود، والترمذي، وصححه الألباني.
• عن عائشة رضي الله عنها قالتْ: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الماهرُ بالقرآن مع السَّفرة الكرام البرَرَة، والذي يقرأ القرآن ويتتَعتع فيه وهو عليه شاقٌّ له أجران))؛ رواه مسلم.
• عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثَلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأُتْرُجَّة؛ ريحها طيب، وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التَّمرة؛ لا ريحَ وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة؛ ريحها طيب، وطعمها مرٌّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة؛ ليس لها ريحٌ، وطعمها مُرٌّ))؛ رواه مسلم.
• ثم إن السلف رضي الله عنهم كان لهم هذا المبدأ؛ وهو الاحتفاء بختم القرآن، أو التحفيز عليه وعلى العلم به.
• ورد في "شعب الإيمان" وغيره: أن عمر رضي الله عنه تعلَّم البقرة في اثنتي عشرة سنةً، فلما ختَمَها نحر جزورًا.
• وابن القيم في "جلاء الأفهام" ذكَر أن مِن محلِّ الدعاء أن يكون عقب ختم القرآن، كما نصَّ عليه أحمد، وقال: "كان أنسٌ إذا ختم القرآن جمع أهله وولده".
• وقال الحسن رضي الله عنه: (كان الغلام إذا حذق قبل اليوم، نحروا جزورًا، وصنعوا طعامًا للناس)؛ رواه ابن أبي الدنيا.
• وعن النضر بن شُمَيْل قال: سمعتُ إبراهيم بن أدهم يقول: قال لي أبي: يا بنيَّ، اطلب الحديث؛ فكلما سمعتَ حديثًا وحفِظْتَه، فلك درهم؛ فطلبتُ الحديث.
• وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعًا عند أبي داود: ((إنَّ مِن إجلال الله إكرامَ ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجاني عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط))؛ حسَّنه النووي، وقال ابن مفلح: إسناده جيد.
فأصلُ الاحتفاء له وجهٌ مِن فِعل السلف - كما مرَّ - وإن كان الخلاف في أصل مشروعيَّته، إلا أن المصلحةَ المُرسَلة تقوم على تعظيم هذا الأمر وإبدائه وعدم إيقافه؛ لما فيه مِن المصالح المتعدية؛ كتعظيم الحق، ونشر الهدى، وتشجيع الجيل.
وإن تضمنتْ سباقات في الحفظ والإتقان فلا بأس، على أن تكون في أُطُر الشريعة، ولا يُغالَى فيها؛ فتخرُج عن مقاصدها، ودليل ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عند أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا سَبْقَ إلا في نَصْلٍ، أو خُفٍّ، أو حافر))؛ صححه الألباني.
قال ابن القيم رحمه الله: (المسابقةُ على حفظ القرآن والحديث والفقه وغيره مِن العلوم النافعة، والإصابة في المسائل، هل تجوز بعِوض؟ منعه أصحاب مالك وأحمد والشافعي، وجوَّزه أصحاب أبي حنيفة، وشيخُنا، وحكاه ابن عبد البر عن الشافعي، وهو أَوْلَى مِن الشِّباك والصراع والسباحة، فمَن جوَّز المسابقةَ عليها بعوض، فالمسابقةُ على العلم أولى بالجوازِ، وهي صورة مراهنةِ الصدِّيق لكفار قريش على صحة ما أخبرَهم به وثبوته، وقد تقدَّم أنه لم يَقُمْ دليل شرعي على نسخه، وأن الصدِّيق أخذ رهنهم بعد تحريم القمار، وأن الدين قيامُه بالحجة والجهاد، فإذا جازت المراهنة على آلات الجهاد، فهي في العلم أولى بالجواز، وهذا القولُ هو الراجح)[2].
لكنَّ ثمَّة تساؤلًا عن حفلات تحفيظ القرآن بشكلها المعاصر، كيف أصبحت؟ وإلى أين تسير؟
بدايةً البدعةُ في المفهوم الشرعي: كما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مَن أَحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ))، "فهو": أي: فعلٌ حدَث متأخِّرًا عن عهد النبيِّ وأصحابِه رضي الله عنهم، وتركه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وتركه أصحابُه والسلف الصالح، مع وجود المُقتضى وانتفاءِ المانع، ونحن إذا أسقطنا هذا الضابطَ على واقع الحفلات نجد التباينَ في ذلك، لكنَّ لها وجهًا في الحفاوة بختم القرآن، والتحفيز على التعلُّم كما ذكر معنا.
ولكنَّ مدارَ حديثنا حول الواقع، فهناك فعلًا إشكالات؛ كيف كانت احتفالات ختم القرآن أو حِلَق القرآن، وما هو الوضع الحالي؟ ثم إلى أين هي تتَّجه؟ وهذا تساؤل مهم جدًّا.
الحقيقةُ أنها قد خرجت عن حدِّ المغالاة، وقُصِد في بعضها المباهاة، ولا أقصد المعنى القلبي، وإنما في الظاهر والعام، فلِمَ ذلك؟ هل الهدف أصبح جمعَ المال، وحصول الدَّعم؟ هل الهدف تعريفُ الناس بالحِلَق؟ أو هل الهدف تكريمُ الحافظ وتحفيزه وهو الأصل؟ حتى اعتُقِد في بعضها السُّنيَّة والمشروعية إلى غير ذلك، والبدعة كما قال الشاطبي: "طريقةٌ في الدين مُخترَعة، تضاهي الشرعيَّة".
ثم إن في شريعتنا: أن الغاياتِ لا تُبرِّر الوسائل؛ فالوسائلُ الخاطئة مهما وصلَتْ إلى الغايات هي لا تُبرِّرها نهائيًّا؛ فهناك أسسٌ عظيمة جدًّا نؤسِّسها في طالب الحلق القرآنية، ونخالفها أحيانًا؛ مِن هذه الأسس - وهي أصلها وأولها -: زرعُ الإيمان، والتأكيد على الربَّانية العظيمة؛ فكم مِن حاملٍ للقرآن قارئ له والقرآن يلعنُه!
فماذا سيُخرج لنا حفل بهيجٌ وقد حضره كبار القوم وأثرياؤه، والإعلام مِن هنا وهنا، وتتسابق الرِّقاب للوصول إلى أنوار (الفلاشات)؛ بحثًا عن الصدارة والتميُّز عن الأقران، ماذا سيُخرج لنا؟!
إن تكلمنا عن المتربي أو عن المُربِّي، فالحقيقة أننا نُصادم النصوص بمثل هذه الأفعال في بعضها، أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضيَ بينهم، وكل أمة جاثية، فأول مَن يدعو به رجلٌ جمع القرآن، ورجل قُتِل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول اللهُ للقارئ: ألم أعلِّمْك ما أنزلتُ على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملتَ فيما علِمْتَ؟ قال: كنت أقومُ به آناءَ الليل، وآناء النهار، فيقول الله له: كذَبْتَ، وتقول له الملائكة: كذَبْتَ، ويقول الله: بل أرَدْتَ أن يقال: إن فلانًا قارئ، فقد قيل ذلك...))؛ الحديث.
هذا المعنى يُوافِقُ تمامًا بعض ما يُفعَل، ألم يَقُل النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما ذئبان جائعان أرسلَا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال، والشرف لدينِه))؛ رواه الترمذي وأحمد، فأيُّ مُسوِّغ لنا يجعلنا نرفع شأن الطالب أو الحافظ دنيويًّا (دون احترازات) بعمل أخرويٍّ، وربما كان سليمًا منها حتى سلبناه نيَّته لاستحساناتنا؟!
وقد قال إبراهيم النخَعي رحمه الله: "لأن أشتريَ الدنيا بمزمار خيرٌ لي أن أشتريَها بالدِّين"، فماذا تصنع مثلُ هذه البهرجة وهذا الهيجان الإعلامي؟ أيُّ مُخرَجات ستخرج؟ سيخرج أناسٌ مؤشِّراتهم في عطائهم هو الحضور الإعلامي، مؤشراتهم هو الرضا العام، مؤشراتُهم هو التهافتُ إلى ذلك الاسم، هذه هي المُخرَجات التي سنصنعها من خلال البهرجة الزائدة، وصناعة الأحلام والأماني عند الشاب عبرَ هذه الاحتفالات - إلا مَن رحم الله.
ولذلك خطرُ الجماهير وخطرُ وصول الشاب إلى مثل هذه الأمور - لا سيما في مثل هذا العصر الذي طغَت عليه مؤثراتُ الإعلام - لَهو خطرٌ عظيم.
إن بعضَ السلف تورَّعوا عن بلاطِ الأمراء سابقًا، وتورَّعوا عن الحضور أمام الناس، وتورَّعوا عن ذلك كلِّه؛ لأنهم يعلمون بمضارِّ الشُّهرة وأثرها السلبيِّ على النفس وعلى التربية، بل أثرها حتى على مستقبل العبد وربَّانيته، وعلى تجرُّده لله جل وعلا، وفي الحديث عن معقل بن يسار مرفوعًا: ((يا أبا بكر، لَلشِّركُ فيكم أخفى من دبيب النمل...، والذي نفسي بيدِه لَلشِّركُ فيكم أخفى من دبيبِ النمل، ألا أدلُّك على شيء إذا فعلتَه ذهب عنك قليلُه وكثيره؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلمُ، وأستغفرك لما لا أعلم))؛ صحيح الأدب المفرد، وصححه الألباني.
وهذه مِن الإشكالات العظمى التي قد تخفى على صاحبها، فكيف على غيره؟! والله المستعان!
ثم إنَّ مِن خطرها على التربية - والمحاضنِ بشكل عام - أن يتقادَم الإتقانُ، وتتمايز البهرجة، وتضعف حتى مصداقيَّةُ المخرجات، فيكون المُؤشِّر عندنا هو الخروجَ بأكبرِ عدد من الحُفَّاظ، وليس هناك إتقان؛ لأنَّ الهدف هو الحضور للحصولِ على أعلى ميزات الحضور الإعلامي، وعلى أفضل الأسماء، وعلى أعلى دعم ماليٍّ؛ فتصبح العبرة بالحضور والدعم، وتكون هي مؤشرَ النجاح وهو خطأ!
قد يكون هناك حَلقة تخرِّجُ ربَّانيِّين، وربما يكون حفظهم يسيرًا؛ لكن هذا هو المخرج الحقيقيُّ للحلق، وهناك حلقة تهتمُّ بالإخراج الكمِّي، وليس هناك ربَّانية، بل ربما أنه ختم لكنه غيرُ متقنٍ، ثم يتحصل على تلك الأسماء والرموز، وبأنه حفظ وأتقن، وتقدم على الناس بغير وجه حقٍّ!
إشكالياتها أيضًا إيجادُ التنافس غير المحمود، فالله جل وعلا يقول: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26]، فالتنافُس في أمر الآخرة وليس في أمر الدنيا، وهذا التنافس غير المحمود سيُدخِل أمور الحسد والغيرة بين الأقران، وكذلك بين المحاضن.
إن وضوح الرؤية لدى العاملين عن غاية الحفل أو التكريم تضعُ النقاط على الحروف في جُلِّ ما ذكرنا، فمنابع الاجتماع تغذي مجاري الاجتهاد.
والحق يا كرام ألَّا إشكالَ بيننا في كون هذه الحلقات تَختتم أنشطتها ببعض البرامج؛ كالحفلات وغيرها، هذا أمر مناسبٌ إذا ما كانت الأهدافُ واضحة، والغايات نبيلة؛ إما في تكريم داعمٍ، أو تكريم الأسر المتميِّزة، أو تكريم الحافظ، أو تكريم الخاتم المتقن، أو تحفيز الشبيبة على مواصلة ذلك.
أيضًا الإكثارُ من عدد الحاضرين عبر نشر سُمْعة الحلقة، إلى غير ذلك مِن المصالح المرسلة المشهودة في ذلك، فلا إشكال في وجودها أو في فائدتها، إلا أن الإشكال في طَمْس وغياب (الغاية)، حتى لربما كان عند البعض (حتى لا يقال: لا نستطيع أن نضع حفلًا).
ولذلك نوصي بالتالي:
1- إعادة النظر في هذه الاحتفالات، وتقوى الله فيها.
2- تقنين الحضور على مَن يستحق.
3- تكريم مَن يستحقُّ فقط لا سيما المتميز؛ فليس كلُّ من أصبح خاتمًا كان حافظًا.
4- الاعتدال في الظهور والتوثيق والاختصار على ما يلزم إخراجُه في التقارير الهامة لحصول الدعم، أو التغطية الرسمية.
5- إنشاء بدائل للتكريم والاحتفال لمن كان حديثًا في السنِّ، وخُشي عليه الفتنة.
6- توحيد الجهود بين المجمَّعات القرآنية في حفل موحد.
7- التورُّع عن التحديات والمنافسات اللَّقبيَّة، لا سيما في موضع حفظ القرآن.
أخي المربِّي، لعلنا نتفق أننا بدأنا نعيش واقعًا مُغايرًا، هذا الواقع يُشكِّل خطورة على المستقبل؛ فقد يكون هناك تنافس على أمور ليست هي واللهِ محطَّ التكريم أو التحفيز أو غير ذلك، وهذا ما قد يعيشُه البعض، وربما أنه ابتدأ الحلقةَ من أول اليوم وهو يُفكِّر في الحفل، بل ربما أخَذَ هذا الحفل نصف ميزانية المجمَّع، بينما هو يبحث عن داعمٍ، فهذه إشكالات - وربما توجد غيرها لم نأتِ بها - لا تجعلنا نضع رؤوسنا في الأرض ننتظر حتى تصبح هناك كوارث، بل الصحيح أن نستدرك القادم بما هو حاضر، وأن ندرك أن تلك الخطوات تتَّجه إلى أمور أعظم منها؛ يقول سيد رحمه الله: (الانحراف الطفيف ينتهي بالانحراف الكامل).
[1] أصل المقال مشاركة صوتية في إحدى مجموعات (الواتساب) التربوية، قام بتفريغها أحد المحتسبين جزاه الله خيرًا.
[2] "الفروسية" (ص: 318).