أيتها القنوات وحاملي الأقلام، رفقا بالشباب
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
أيتها القنوات وحاملي الأقلام، رفقاً بالشبابالحمد لله بارئ النَّسَم، وخالق الخلق من عدم، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
اللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأحبابه، وكل من استنَّ بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين، وبعد:
فإن من الفتن التي عمَّت وطمَّت، وكثرت بها البلوى بين الأصاغر والأكابر - على حدٍّ سواء -: ظاهرةَ التجريح والتفسيق، والرمي بالنقائص، وكَيْل السِّباب والشتائم لكل مخالِف، حتى أضحت بعضُ القنوات المرئيات، والمنتديات المنتشرات، مرتعًا خَصبًا لكل سابٍّ وشاتم، وهمَّازٍ ولمَّاز وناقمٍ، فلا تكادُ تسمع بضع كُلَيْمات في أمر الدين - إن ذكرت - حتى تُشنَّفَ أسماعُك بآيات التجريح والقدح، وعبارات التضليل والثَّلْب.
ثم إن المبتدئ في أمر الدين، السائرَ على درب الملتزمين، لَيدخُل في حرب نفسية، ومعركة قاسية، لا تكادُ تنفرِجُ ظلمتُها إلا أقبَلَتْ عليها ظلمةٌ أشدُّ وأَحْلَكُ؛ وذلك عندما يُلقِي سمعه وبصره ليَسمعَ آيات الذكر الحكيم، وكلام سيد المرسلين، والمُحْكم من أقوال الصحابة الطيِّبين، والفرائد من قلائد عقيان التابعين، تطهيرًا لقلبه وتعلُّمًا لأمر دينه ...
بدلاً من ذلك يسمعُ التفسيق والتنقيص في أقبح صوره، والسخرية والاستهزاء في أفظع تجلِّياتها، نعم يسمع ذلك من قوم يَظنُّ بهم الخير، ويرجو أن تكون النجاةُ - بعد الله - على أيديهم، لكن واحسرتاه على ذلك المسكين! إذ ترى أولئك تنفثُ ألسنتُهم سُمًّا زعافًا يقضي على جسد الأمة، ويأتي على البقية الباقية منها، وتشغلُ هذا الشخص عن قال الله وقال الرسول، إلى قال فلان، وقال علاَّن ...
فكيف يسير على الجادَّةِ مَن هذا حاله؟ وكيف يبصرُ النورَ المستنير إلا إذا منَّ الله عليه بنقاء البصيرة، وطُهْر السريرة، والبحث عن خير الخيرين، والبعد عن شرِّ الثقلَيْن؟ خصوصًا في زمن طُعن فيه خصر الأمة، وتكالَب عليها الأعداء من كل فجٍّ وصوب - كما جاء في الخبر، عن سيد البشر، في صحيح الأثر[1]، فرُحْماكَ يا ألله، وغوثًا ونجدة لعبادك الضعفاء - وكلنا ذاك العبد - واعصمنا بفضلك اللهم من الزلل والخَطَل، يا خير راحم، وأقرب مجيب.
والذي لا يخفى على كلِّ ذي بصيرة أن هذه الحال التي ذكرناها آنفًا في شأن الملتزمين المبتدئين، أصبحتْ شأن جمهرة كثيرة من الشباب الذين تتجافَى جنوبهم عن المضاجع، لا يعرفون ما يأتون وما يَدَعون، ولا ما يُقدِّمون أو يؤخرون، بل حالُهم كما جاء في المثل العربي السائر:
تكاثرت الظباء على خراش ♦♦♦ فما يدري خراش ما يصيد[2]
فمن أجرَمَ بحقِّ هؤلاء الشباب؟ ومن شغلهم عن الهموم الحقيقية للأمَّة؟ ومن جعلهم متخلِّفين عن رَكْب مَن قال:
خليليَّ لا والله ما أنا منكما ♦♦♦ إذا عَلَمٌ من آلِ ليلى بدا ليا
وقول الآخر:
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غِضابُ
وليتَ الذي بيني وبينك عامرٌ
وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صحَّ منك الودُّ فالكل هيِّن
وكلُّ الذي فوق التراب ترابُ
نعم من جعلهم متخلِّفين عن تلك الهمة العالية النقية الطاهرة؟ إنهم حَمَلةُ الأقلام المسمومة، إنهم أصحابُ الألسنة الطويلة التي لا تَتْرُكُ قريبًا أو بعيدًا إلا لذَعتْه، إنهم شُذَّاذُ الآفاق، مَن لا يرعون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، ولا تنفعهم تذكرة.
ولذلك؛ نسألُ الله تعالى أن ينجينا من كيد هؤلاء، وأنصَحُ نفسي وإخواني من الشباب بالانشغال بالعمل الصالح، والعلم النافع، وأن يَعرِفَ كلٌّ منا قدرَه، ولا يتطاول على الآخرين - وإن أخطؤوا - خصوصًا وإن كانوا من العلماء؛ لأن كلنا ذوو خطأ، كيف لا وقد أبى الحقُّ سبحانه إلا أن يكون الكمال له وحده؟
وأي الناس تُرضَى سجاياه كلُّها ♦♦♦ كفى المرءَ نبلاً أن تُعدَّ معايبُهْ
كما أوصي إخواني كذلك بالتواضع؛ حتى ننال بركةَ حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((...
وما تواضع أحد لله إلا رفعه))[3]، كما يجب أن نُنزِلَ الناسَ منازلَهم، ونحترم العلماء ونقدِّرهم، ونذكرهم بالخير؛ لأنهم ورثة الأنبياء.
هذا، وأسأل الله تعالى أن يرحمني وإياكم، ويرزقنا جميل الصفات، وجليل الأفعال.
[1] أقصِدُ حديثَ النبي صلى الله عليه وسلم: ((يُوشِكُ أن تَداعى عليكم الأمم من كل أُفُق كما تداعى الأَكَلة على قصعتها))، قال: قلنا: يا رسول الله، أَمِن قلَّة بنا يومئذٍ؟ قال: ((أنتم يومئذٍ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، يَنتَزِعُ المهابة من قلوب عدوِّكم، ويجعل في قلوبكم الوَهن))، قال: قلنا: وما الوَهنُ؟ قال: ((حبُّ الحياة، وكراهية الموت))؛ رواه الإمام أحمد في المسند.
[2] هذا المثل السائر يقال فيمن اختلط عليه الأمر، وكثُر التباسُه، فلا يدري ما يأتي منه أو يَدَع.
[3] رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع.