الحج
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
للدكتور عبد الوهاب عزام
كان سلفنا إذا أرادوا الحج تأهبوا لسفر شاق، وغاية بعيدة وتزودوا لشهور عدة، ووطنوا أنفسهم على ما يلقون من المشقات والشدائد والأخطار. كان المصريون يذهبون بالبر من طريق سيناء فالعقبة لا يركبون البحر، أو يسيرون إلى القصير فيجتازون البحر إلى الحجاز.
ثم جاء عصر البواخر فتيسرت الغاية وقصرت المدة، ولكن بقي بعد هذا قطع المسافة بين مكة والمدينة على ظهور الإبل، وبقي سوء الأحوال الصحية في مجامع الحج، والتعرض للصوص وقطاع الطريق في كل مرحلة وكل حين.
بل كان المحمل المصري وهو في حراسة الجند والمدافع لا يجتاز المسافة بين مكة والمدينة إلا بعد إرضاء القبائل الضاربة على الطريق.
وكان هؤلاء يتحكمون ويشتدون في مطالبهم، فإذا لم تجب مطالبهم باغتوا الحجيج بالغارة.
بل قال المرحوم إبراهيم رفعت باشا الذي تولى إمارة المحمل سنين إنه زار غار حراء سنة 1318 ومعه مائة جندي وقال (ومما ينبغي لزائري هذا الجبل أن يحملوا معهم الماء الكافي وأن يكونوا جماعاً يحملون السلاح حتى يدفعوا عن أنفسهم شر اللصوص من العربان الذين يتربصون الفرص لسلب الحجاج أمتعتهم ونقودهم خصوصاً في مكان منقطع كهذا لا يقصده إلا بعض الحجاج.
وقد بلغني أن أعرابياً قتل حاجاً فلم يجد معه غير ريال واحد فقيل له: تقتله من أجل ريال؟ فقال وهو فرح: الريال أحسن منه) ذلكم الحج قبل سنين، وأما الحج في هذا العصر فقد تهيأت وسائله وتيسرت مسافاته وأمنت سبله.
تنقل الحجاج بواخر كبيرة.
وحسبك ببواخر شركة مصر التي أعدت لراحة الحجاج وتمكينهم من أداء فرائض الدين في يسر وطمأنينة.
في كل باخرة مصلى تقام فيه الصلوات الخمس ويؤذّن لكل وقت.
فإذا بلغ الحاج جدة وجد المطوفين في انتظاره يتكفل المطوف الذي يختاره براحته وإعداد السيارات له في كل طريق.
ويجدون في مكة العناية براحة الحجيج وصحته.
فالحكومة تتخذ الوسائل التي تمنع الزحام، وتراقب مساكن الحجاج وتلزم أصحابها أن يطهروها وينظفوها فإذا حان وقت الخروج إلى منى وعرفات، احتاطت الحكومة فمنعت التزاحم في الطريق وعنيت براحة الحجاج على قدر استطاعتها.
وإذا قضى الناس مناسكهم وأرادوا السفر إلى المدينة رُخِّص لهم في السفر على ترتيب قدومهم مكة الأسبق فالأسبق حتى لا يختل النظام، ويشتد الزحام، وحتى لا تضيق بهم المدينة.
وكذلك يلزم زائرو المدينة.
الخروج بعد ثمانية أيام ليفسحوا لغيرهم فلا يجتمع فيها إلا وفود ثمانية أيام طول الموسم والناس في إقامتهم بمكة، وسيرهم إلى منى وعرفات، وسفرهم إلى جدة والمدينة يرتحلون بالليل والنهار آمنين مطمئنين لا يخافون على نفس ولا مال.
ويظفرون بطمأنينة لا يظفرون بمثلها في البلاد الأخرى، ولا يغلو في الحق من يقول إن الأمن في بلاد الحجاز اليوم لا يظفر به إنسان في غيره من بلاد العالم.
فإذا خرج الرجل الفرد يملأ جيوبه الذهب يقطع الطريق بين مكة والمدينة نهاراً وليلاً ليس معه رفيق ولا حارس لم يخش على نفسه ولا ماله، وأحاط به الأمن في يقظته ونومه وليله ونهاره.
أمر لم نسمع به ولا نسمع به اليوم في قطر من أقطار العالم المتمدن أو المتوحش وقد حدثني أحد الحجاج ونحن بمكة أنه ذهب إلى المدينة في رفقة فوقعت منهم حقيبة في الطريق ولم يشعروا بها وتعطلت السيارة في الطريق يوماً أو يومين.
فلما بلغوا المدينة افتقدوا الحقيبة فأخبروا الشرطة فردتها إليهم بعد قليل.
وأُخبرت أن حاجاً آخر كان يطوف بالكعبة فسقطت منه ساعة فذهب إلى الشرطة فردوها إليه.
وأعرف أن طالباً من طلبة الجامعة سقطت منه ورقة بنك قيمتها جنيه في سوق مكة ولم يفتقدها إلا بعد أن رجع إلى المدرسة السعودية التي كنا ننزل بها.
فلما رجع إلى السوق وجدها حيث سقطت أمام الدكان الذي كان يشتري منه.
وقد تواترت الأقوال في أمثال هذه الحوادث حتى لم يبق مكان للشك فيها، وحتى اطمأن الناس فتركوا أمتعتهم الثقيلة في مساكنهم ليرجعوا إليها بعد قضاء مناسكهم ولم يجدوا حاجة إلى أخذها معهم.
فنحن تركنا بعض متاعنا في جدة أمام الفندق المصري فأرسل إلينا في أيام مختلفة لم نفقد منه شيئاً وقد تأخر متاع بعض الطلبة كثيراً فقلق؛ فقلت له: ستأتي حقائبك لا محالة فإن شيئاً لا يضيع في هذه البلاد.
وكان يسكن إلى قولي حيناً ثم يعتاده القلق حتى جاءت أمتعته كاملة.
وأخبرني مخبر عن رجل من الذين ذهبوا إلى الحجاز أنه كان في سيارة ضاقت بأمتعة الراكبين فأخذوا حقيبة عليها اسم صاحبها وتركوها في الطريق عمداً ليتحققوا ثم طلبوها حينما بلغوا غايتهم فردت إليهم والمسافة بين مكة والمدينة زهاء 500 كيلو كانت تقطع في أربعة عشر يوماً وقد قطعها ركب المحمل المصري سنة 1318 من الهجرة في 125 ساعة وخمسين دقيقة في أربعة عشر يوماً.
وتقطعها السيارات الكبيرة اليوم في أربعة عشرة ساعة، ولكن المسافرين يحتاجون إلى الراحة مرات على الطريق فيبيتون ليلة في بعض المراحل، والطريق كله غير معبّد، وفيه مسافة قصيرة رملية تسوخ فيها السيارات إن لم يحذر السائق وقد خرجنا من جدة إلى المدينة بعد المغرب فبلغنا رابغاً بعد سبع ساعات، وبتنا بها ثم استأنفنا السير ضحى آملين أن نبلغ المدينة في نهارنا ولكن ساخت بعض السيارات في الطريق فآثرنا أن نبيت في مكان اسمه أبيار بني حصان.
وخرجنا منها ضحى فبلغنا المدينة بعد العصر.
ولكنا في رجوعنا إلى جدة خرجنا من المدينة ضحى فبلغنا رابغاً وقت العشاء بعد أن استرحنا في الطريق ساعتين ونصفاً في ثلاثة مواضع.
وبتنا في رابغ وتركناها ضحى فبلغنا جدة ظهراً بعد سير خمس ساعات.
فكان سيرنا من المدينة إلى جدة ثلاث عشرة ساعة ونصفاً.
وإذا أصلح الطريق سهل أن تقطع المسافة كلها في عشر ساعات.
وأمكن الراكب المتعجل أن يقطعها في ثماني ساعات أو سبع.
وما أقرب هذا سفراً وأيسره - 2 - ولست أقول إن وسائل الحج بلغت من اليسر والنظام الغاية التي نرجوها؛ ولا أزعم أن الحرمين الشريفين والحجاز، في الحال التي يتمناها مفكرو المسلمين؛ فلا يزال المسلمون يرجون للحجاز نظاماً وعمراناً لا يذكر معه ما يسره الله في السنين الأخيرة من الإصلاح والتنظيم ولا يزال مفكرو المسلمين يطمعون في أن يروا في الحجاز آثار التعاون الإسلامي، وبذل المال في سبيل الله حتى تكون أحوال الحجاز مكافئة لمكانته عند المسلمين ومصورة عناية المسلمين به وتقديسهم إياه لا يزال المسلمين يتمنون أن يروا الحجاز آخذاً من ثروة المسلمين وعلومهم وفنونهم ما تأخذه الأماكن المقدسة الأخرى من الذين يقدسونها وما أسعد المسلم الغيور على دينه المعنيّ بإقامة شعائره يوم يذهب الى الحجاز فيرى الطرق ممهدة بين جدة ومكة فمنى فعرفات وبين جدة فالمدينة، ويرى في طريق المدينة فنادق يأوي إليها فيجد راحته وطعامه وشرابه كما يشتهي، ويجد مواضع للوضوء والصلاة تمكنه من إقامة الشعيرة على خير الوجوه ما أسعده يوم يجد في منى وعرفات مواضع للطهارة والصلاة ميسرة على وجه يليق بهذه البقاع المطهرة.
إن المسلمين يضربون اليوم خيامهم في منى وعرفات في أمن وسلام ونظام، ولكن هذه الخيام المتفرقة تقسمهم فلا يجتمعون إلا قليلاً.
فما أجمل أن يهيأ في منى وفي عرفات مكان واسع جامع يسع الناس جميعاً في صعيد واحد يرى بعضهم بعضاً فيشعر المسلم بالجماعة الإسلامية ممثلة والأخوة الإسلامية مصورة.
فإذا استمع هؤلاء جميعاً إلى خطيب أو واعظ أو داع يتكلم في مجهر فيسمعهم معاً ويعظهم معاً ويدعو فيؤمنون بصوت واحد ويرفعون أيديهم جملة واحدة كان في هذا من الجمال والروعة ما لا ينساه المسلم على مر الزمان وبقيت هذه الصورة في نفسه حيثما سار تذكره بالأخوة الإسلامية وهل أغلو إذا قلت إن من المسلمين من يرجو أن يكون في منى مدرج ينحت في الجبل يسع مئات الآلاف من الحجاج يجتمعون إذا شاءوا ويتفرقون في سكون وطمأنينة وسلام في وقت قليل وحركة يسيرة كما تفعل الأمم الأخرى في مجامعها التي تضم آلافاً كثيرة؟ ولماذا لا يكون للأمم الإسلامية بيت في مكة أو المدينة يجتمع فيه بعد موسم الحج مثلا ممثلو هذه الأمم ليتشاوروا فيما بينهم ويداولوا الآراء فيما يصلح المسلمين ويرفع أخلاقهم ويسعدهم بين الأمم؟.
لماذا لا يبذل المسلمون من أموالهم وأفكارهم لإنشاء المدارس والملاجئ والمستشفيات في الحجاز، وفي إنشاء المكاتب ونشر الكتب الإسلامية والمجلات تبحث الأمور الإسلامية المشتركة وتقصد الى التقريب بين التربية الإسلامية والثقافة الإسلامية في العالم الإسلامي جهد الطاقة.
إن الحجاز ينبغي أن يكون ملتقى الثقافات الإسلامية ثم يرجو كل مسلم أن يصلح المسعى بين الصفا والمروة ليفصل من السوق والطريق ويجعل على شاكلة تشعر الساعي أنه في عبادة ينبغي أن تفرغ لها نفسه، ويتم لها توجهه.
وما أحوج الحرمين في مكة والمدينة إلى أن تزحزح عنهما الأبنية المجاورة ويدور بهما مهبع واسع يظلله الشجر.
وهناك بعد هذا إصلاح مذبح منى وحفظ لحوم الأضاحي وجلودها لينتفع بها أو بأثمانها الفقراء طول العام.
ثم تعبئة ماء زمزم في أوان ترسل إلى الأقطار الإسلامية، وقد أثبت البحث أنه ماء نافع مريء فضلاً عما له في نفوس المسلمين من حرمة.
ثم إضاءة مكة والمدينة وسوق الماء إلى دورهما ومساجدهما، وأمور غير هذه كثيرة هذا كله جدير بعناية المسلمين وتعاونهم وبذلهم من أموالهم وأفكارهم وأعمالهم.
ولن يؤدوا واجبهم ويعربوا عن اهتمامهم بدينهم ويبرءوا من التقصير حتى يحققوا هذا كله بل أكثر منه وقد تحقق الشرط الأول لكل إصلاح وهو الأمن الشامل والطمأنينة العامة يسرهما الله للحكومة السعودية واستحقت بهما مثوبة الله وشكر المسلمين كافة.
فعلى المسلمين جميعاً أن يتقدموا فيتعاونوا جميعاً على خطة معينة خالصة لوجه الله يعالجون بها من أمور الحجاز ما يجعله صورة لحضارة المسلمين وتآلفهم وتعاونهم.
ومن أولى من المسلمين بالتعاون والتآخي ودينهم دين الأخوة العامة والتعاون على البر والتقوى.
والله يهيئ للمسلمين من أمرهم رشداً ويوفق للخير حكومات الإسلام عامة والحكومة المصرية خاصة وهي التي حملت النصيب الأوفر في أمور الحجاز منذ قرون كثيرة والتي يؤمل المسلمون فيها خيراً كثيراً في رعاية جلالة الملك الصالح (فاروق الأول) حفظه الله فبلغنا رابغا بعد ثلاث عشرة ساعة، وقد استرحنا على الطريق ثلاث ساعات وعشرين دقيقة في ثلاثة منازل.
فكان مسيرنا بين المدينة ورابغ زهاء عشر ساعات واستأنفنا السير ضحوة الغد فبلغنا جدة بعد خمس عشرة ساعة وكان توقفنا على الطريق ساعة في منزلين، فكان مسيرنا من طيبة إلى جدة أربع عشر ساعة.
والمسافة بينهما نحو خمسمائة كيلو تقطعها السيارات بالسير الوسط في عشر ساعات ويستطيع المتعجل أن يطويها في ثماني ساعات أو سبع.
فماذا يشكو المسافر من سفر يقدره بالساعات لا الأيام والشهور ثم لا يمسه فيه ظمأ ولا جوع ولا حر ولا قر ولا خوف؟ عبد الوهاب عزام