الأغصان التي هزت قلبي
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
الأغصان التي هزَّتْ قلبيالكون كتاب مفتوح تنطق سطوره بقدرة خالقه، ووحدانية بارئه، وتشهد بأنه لا يستحق العبادة سواه، ولا يتصرف في تدبير هذه الحياة غيره.
فمن تأمل فيه هداه إلى ربه سبحانه وتعالى، وقاده إليه لكي يعبده من غير شريك.
قال الشاعر:
فيا عجباً كيف يُعصى الإلهُ
أم كيف يجحده الجاحدُ
وفي كل شيء له آيةٌ
تدل على أنه واحدُ[1]
وقال الآخر:
تأمَّلْ في نبات الأرض وانظرْ
إلى آثار ما صنع المليكُ
عيونٌ من لجين شاخصات
بأحداق هي الذهب السبيكُ
على قُضُب الزبرجد شاهداتٌ
بأن الله ليس له شريكُ[2]
وسئل أعرابي عن دليل وجود الرب سبحانه فقال: البعرة تدل على البعير، وآثار الأقدام على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أما تدل على العليم القدير؟[3].
ولقد عُني القرآن الكريم بهذا الدليل المنشور، وذكره في آيات عديدة؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 164].
فمن تدبر في هذا الكون البديع، وأجال فيه نظرة الاعتبار والتفكير العميق دله على الحق، فكيف إذا أضاف الإنسان إلى ذلك ما عنده من العلوم والمعارف الدنيوية التي تقوِّي هذا البرهان المشهود؟.
جورج ويسلي الأمريكي، رجل عاش في كنف أسرة مسيحية كاثوليكية، ولد يتيمًا وعاش في بداية حياته بملجأ للأيتام في ولاية ميتشيغن الأمريكية.
ترعرع في هذا الملجأ حتى بلوغه الخامسة من عمره، ثم تبنته أسرة ويسلي التي حرمت الإنجاب بعد وفاة ابنهم الوحيد الذي لقي مصرعه بحادث قطار في نيويورك سنة: 1934، ولقد اختارته هذه العائلة لأنه شبيه الملامح به.
ربت هذه الأسرة المسيحية الطفل جورج على تعاليم الدين المسيحي وتعاليم اليسوع.
ولقد سخر جورج كل وقته لخدمة دينه المسيحي، فكان له دور تبشيري في الجامعة التي كان يدرس بها بتخصص علم النبات فكان يوزع المنشورات والكتب والأشرطة التي تدعو إلى الدخول في الدين المسيحي.
ثم اتجه بعد ذلك للعمل في شركة الرجل الذي تبناه، وكانت هذه الشركة تملك فروعًا كثيرة في إنحاء عدة في الولايات المتحدة الأمريكية.
توفي والداه بالتبني عند بلوغ جورج سن 28 عامًا، وقد توفيا نتيجة الإعصار الرهيب الذي ضرب ولاية ميتشيغن ونجا منه جورج.
وقد حزن حزنًا شديداً لوفاة والديه بالتبني، حتى إنه قرر الانتحار عدة مرات ومع ذلك لم يقدر الله له الموت قبل المنحة التي تنتظره، ولكن لم يزل الحزن يلف بيت جورج لفقدان من تبناه، فكان يفزع ليلاً فزعًا عندما يتذكرهما.
وفي ليلة من الليالي لم ينمها خرج إلى حديقة المنزل لكي يخفف من آلامه، فبينما هو جالس في الحديقة تنبه إلى شيء غريب عرفه من خلال دراسته في الجامعة، لقد لاحظ أن أوراق الشجر قوية ونشيطة بعكس ما تعلمه بأن أوراق الشجر ليلاً تذبل ولا تكون قوية.
والأدهى من ذلك أنه رأى هذه الأوراق تهتز وتتلاطم مع بعض كأنها أمواج بحر لها هدير، وتعجب من هذا المنظر الذي يراه لأول مرة. ومع مرور الوقت نسي جورج هذه الحادثة.
وفي يوم من الأيام زار ولايةَ ميتشغين رجالٌ من المسلمين يدعون للإسلام في الطرقات؛ لأن هذه الولاية أغلب ساكنيها من العرب والمسلمين، فرغب جورج بالاستماع لهم، ليس إيمانًا بهم، ولكن تطفلاً؛ لأنه سمع الكلام الكثير عن الإسلام والمسلمين، كان الشيخ المتحدث يتكلم الإنجليزية بطلاقة، وعند قراءة آية من القرآن الكريم يتلوها بالعربية ومن ثم يترجمها للإنجليزية.
تكلم الشيخ عن الاستغفار وفضائله والتسبيح والذكر، وذكر بأن كل ما في الكون والوجود يسبح بحمد ربه وتلا هذه الآية: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾ [الإسراء: 44].
وترجمها الشيخ للإنجليزية وفسرها بأن أي شيء موجود علي سطح الأرض فإنه يسبح لرب العزة، تذكر جورج حادثة أوراق الشجر عندما كان في الحديقة ليلاً، وتذكر تلاطم الأوراق مع بعضها وطلب من الشيخ قراءتها مرة أخرى، ففعل ذلك الشيخ لما رآه من تؤثر واضح على وجه جورج.
بعد انتهاء الخطبة تقدم جورج للشيخ وقص له ما صادفته من تلاطم الأوراق في تلك الليلة، ورد عليه الشيخ بأن هذا موجود بالقرآن قبل حوالي: 1400 سنة.
من حينها بدأ جورج يقرأ كتبًا عن الإسلام؛ ككتب الشيخ أحمد ديدات وقارن بين الإسلام والمسيحية كدين وتعامل، ووجد أن الإسلام يفوق المسيحية بمراحل عدة.
قرر جورج الدخول في الإسلام، فتوجه إلى أقرب مركز إسلامي في ولاية ميتشغن ونطق الشهادتين، فكان هذا اليوم يومًا جديداً للمسيحي السابق المسلم حاليًا.
وقد اختار جورج اسمًا له بعد إسلامه، ولم يجد في نظره أفضل من عبد الباري؛ لبره بمن رباه وتبناه.
ثم كرس حياته بعد ذلك لخدمة الإسلام، ولقد كان يكثر بعد ذلك من أداء الحج والعمرة، ثم تبرع بنصف ماله الذي ورثه للجمعيات الخيرية الإسلامية واستفاد فقراء المسلمين من ذلك.
ثم توفي عبدالباري عن عمر 63 عامًا سنة: 1994م.
فسبحان الله الهادي من يشاء متى يشاء! وما أعظم هذا الكتاب المبين الذي يهدي الله به من يشاء إلى سبل السلام، فقد أخبر تعالى في هذه الآية "أنه لعظمته وكماله تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن..كما أخبر أنه ما من شيء من المخلوقات إلا ويسبح بحمده بلسان قَالِهِ وحَالِه معاً فيقول: سبحان الله وبحمده، وقوله: ﴿ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ لاختلاف الألسنة واللغات"[4]."والمتدبر في هذه الآية الكريمة يراها تبعث في النفوس الخشية والرهبة من الخالق عز وجل؛ لأنها تصرح تصريحًا بليغًا بأن كل جماد وكل حيوان وكل طير وكل حشرة، بل كل كائن في هذا الوجود يسبح بحمده تعالى.
وهذا التصريح يحمل كل إنسان عاقل على طاعة الله، وإخلاص العبادة له، ومداومة ذكره حتى لا يكون - وهو الذي كرَّمه ربه وفضله - أقلَّ من غيره طاعة لله تعالى"[5].
دروس من قصة الهداية:
1- المكارهُ قد تسوق إلى المحابّ؛ فحزنُ جورج وأرقه أخرجه إلى الحديقة، فكانت هي مفتاح الهداية.
2- بيان أثر الدعوة إلى الله تعالى خارج المساجد ودُورِ التعليم؛ فالخروج بالدعوة إلى الناس حيث هم له أثر كبير.
3- بيان أهمية الكتابات والمصنفات الحسنة الواصفة لحسن الإسلام، والمبينة لمميزاته وصلاحه لكل زمان ومكان، والدافعة عنه شبهات المشبهين وطعون الطاعنين، بلغات شتى.
4- بيان أثر المراكز الإسلامية التي تستقبل المسلمين الجدد، وتنشر الإسلام وتشرح حقيقته للناس.
على الدعاة الاعتناء بلفت أنظار الناس إلى التفكر في آيات الله في الكون، وتعزيز ذلك ببعض صور الإعجاز العلمي التي تؤيد ما ذكره القرآن عن آيات الله في الكون.
[1] تفسير ابن كثير (1/ 34).
[2] تفسير ابن كثير (1/ 78).
[3] تفسير الرازي : مفاتيح الغيب (2/ 91).
[4] أيسر التفاسير للجزائري (3/ 197).
[5] الوسيط لسيد طنطاوي (ص: 2635).