أرشيف المقالات

لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها

مدة قراءة المادة : 20 دقائق .
لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها
﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾


لقد كان الناس قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في جاهلية جهلاء وفي ضلالة عمياء، غارقين في غضب الله وسخطه، كما جاء في الحديث: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب)، وكانوا لهذا في أتعس عيش وأشقى حياة، يأكل قويهم ضعيفهم، ويستغل غنيهم فقيرهم، ويجري كل وراء شهوته البهيمية وهوى نفسه الشيطانية بكل ما يملك من قوة، ويسعى إلى الوصول لتلك الغاية مهما وَطِئ في سبيلها من خلق وشرف وكرامة، ومهما أضاع من عزة وجلب على نفسه وقومه من ذلة وانحلال.
وقد نشأ فيهم شعراء متفلسفون وخطباء مفوهون، طالما صاغ هؤلاء وأولئك من قلائد ودبجوا من خطب، وزوقوا من قول، يحاولون به إرجاع الناس عن غيهم وإنقاذهم من جاهليتهم، وشقاء عيشهم، فعاشوا بينهم طويلاً، وقالوا لهم كثيرًا، ثم ماتوا ولم يصنعوا شيئًا، ولا حولوا مجرى الناس إلى سبيل الاستقامة، ولا قدروا أن يكبحوا من جماحهم ويوقفوهم عند حد العقل والحكمة والسداد في الأمر والرشاد.
 
وما زال شأن الناس كذلك وأعظم من ذلك، تتوالى عليهم الأيام بأحداثها، وتمر عليهم السنون بعِبَرِها، وتأتي عليهم الأجيال بشعرائها وخطبائها وأدعياء الإصلاح فيها، وهم لا يزدادون إلا إيغالاً في الشر وإبعادًا في الفساد؛ ولا يزداد عيشهم إلا تكدرًا ولا حياتهم إلا تعاسة، حتى أراد الله العلم الحكيم رحمتهم وقدر هدايتهم، فأرسل إليهم خاتم رسله وسيد أنبيائه محمدًا صلى الله عليه وسلم: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الجمعة: 2-4]، وأنزل عليه القرآن ﴿ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1]، ﴿ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57]، ﴿ بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ابراهيم: 52]، ﴿ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]، ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ [الاسراء: 9-10]، ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23]، ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21]، ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [صّ: 29].
 
فآمن به واهتدى بهداه واستضاء بنوره - قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ومعاونة رسوله ومؤازرة حبيبه ونصرته، كانوا أبر الناس قلوبًا، وأزكاهم نفوسًا، وأحرصهم على الخير، وأعرفهم بالله، وأسرعهم إلى محابه ورضوانه؛ ذلك أنهم عرفوا رسول الله هاديًا ورشيدًا إلى الفلاحة والسعادة في الدنيا والآخرة، فاتعبوا النور الذي أنزل معه، واعتصموا بحبله المتين، وعرفوا القرآن شفاءً لِما في صدورهم ومجتمعهم من أمراض خَبيثة، طالَما هدَّت من قواهم، ومزقت من شملهم، ونكثت من حبالهم، وأضحكت عليهم الأمم، وجعلتهم أمثولة وسخرية للساخرين، وأن هذا الشفاء إنما هو من عند الحكيم الخبير الرؤوف الرحيم، تداركتهم رحمته بهذا الدواء؛ ليبعث فيهم روح الحياة من جديد، ولينشئ منهم أمة هي خير أمة أخرجت للناس؛ يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، فتلوه حق تلاوته، وتدبَّروه حق تدبُّره، وأقاموا أحكامه، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، ووقفوا عند حدوده، وحكموه في كل شؤونهم الظاهرة والباطنة، والفردية والاجتماعية، ولم يجعلوا لغيره سلطانًا على قلوبهم ولا سيطرة على نفوسهم، فالقول ما قاله، والحكم النافذ في الدماء والأموال والفروج ما حكم به، ثم لا يجدون في أنفسهم حَرَجًا مما قضى ويسلمون له تسليمًا، مؤمنين أقوى الإيمان وأصدقه أن القرآن تبيان لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، فأنجز الله لهم وعده: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]، ﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47]، ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾ [النساء: 141]، ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8]، ﴿ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139].
 
أنجز الله لهم وعده من ذلك النصر والتأييد، وبسطة الملك وانتشار السلطان في حال قلتهم وضَعفهم، وفقرهم وبداوتهم، وبُعدهم عن أساليب الحكم والسياسة، وكثرة عدوهم وقوته، ووفرة أمواله وكثرة ما عمر في الدولة والملك والسياسة.
 
فصحت بالقرآن عقائدهم التي كانت فاسدة بتقليد الآباء والأجداد، وصحت بالقرآن أخلاقهم التي كانت مختلفة معتلة بما ورثوا من العادات والتقاليد، وصحت بالقرآن نُظُمهم وشؤونهم الاجتماعية التي كانت واهية متقطعة الأواصر والروابط، بما انطوت عليه قلوبهم من أمراض الحقد والحشد والضغائن والبغضاء، وصح لهم كل شيء، فكانوا خير أمة أُخرجت للناس، جعلها الله المثل الأعلى والقدوة الحسنة في العقيدة والعمل الصالح، والخلق الكريم والحكم العادل، والدولة المحوطة بسياج الرحمة والشفقة بالخلق.
وتلهفت الأمم التي أنقض ظهرها ما حملها حكامها من الفرس والروم من شنيع المظالم وانتهاك الحرمات، والتعالي بالبغي والفساد والتطاول بالظلم والبطر – تلهفت تلك الأمم وسعت إلى دخولها تحت راية العدل الإسلامي والرحمة القرآنية، وحين خفقت عليهم راية الإسلام، عرفوا معنى الحياة، وذاقوا طعم الرحمة، وأحسوا حقيقة الإنسانية، فدخلوا في دين الله أفواجًا حين رأوا تلك المثل العليا من أولئك المسلمين، تقيم فيهم ميزان القسط وتحكم فيهم بما أنزل الله من الحق والرحمة للإنسانية كلها، وسعدت بهم العباد والبلاد.
 
ثم خلف من بعد هؤلاء خلوف رمتهم شياطين الفتن بسهامها، ففتحوا لها قلوبهم وصدورهم، وما زال حبل القرآن يتراخى من أيديهم شيئًا فشيئًا، حتى أصبح الناس وليس بيدهم منه إلى خيال لا حقيقة له، وأنكاث لا قوة لها ولا غناء فيها، حتى اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا، وغرَّتهم الحياة الدنيا، وعاد الشيطان بأكثر العقائد إلى مثل ما كان عليه الذين اتخذوا اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، اتخذوهم شفعاءَ وهم لا يملكون شيئًا ولا يعقلون، وعاد بهم الشيطان إلى أعياد الجاهلية الأولى بتقاليدها وعاداتها.
وعاد بهم في حفلات رقصهم وطبلهم وزمرهم التي يدعون أنها حلقات ذكر إلى ما كان عليه من قال الله فيهم: ﴿ وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ﴾ [لأنفال: 35]، وسول لهم أن يتخذوا شعارًا لإحياء مولد الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم عرائس الحلوى وأشباه ذلك من المهازل والمساخر التي هي لسب الرسول أقرب من إحياء ذكراه الكريمة، وتمادى بهم حتى جاؤوا من أوروبا بقوانين أحلت الربا والزنا وشرب الخمر، وكل ذلك لأنهم أعرضوا عن نصوص الوحي المنزل واقتباس الهدى من مشكاته، واستعاضوا عنه بما زخرف لهم شياطين الإنس والجن؛ من آراء وأهواء، وتقاليد ونُظم زعموها مدنيات وقوانين ولدت ونشأت، وكبرت وهرمت في غير الأوساط الإسلامية، وعلى غير الروح القرآنية، وتجاري بالناس كلها؛ حتى توغلت في الصميم من العقائد والأعمال والأخلاق، والقلوب والأرواح، وعاد الناس بها إلى شر مما كانوا عليه في جاهليتهم الأولى؛ فساد في العقائد، وفساد في الأخلاق، واضطراب في النظم، واعتلال في كل الشؤون.
 
ثم كان من أثر هذا ضرورة: الحرمان من وعد الله الذي أنجزه لسلفنا: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ﴾ [الحج: 40]، بل كانت النتيجة الحتمية التي جرت بها سنة الله الكونية: تنازعنا ففشلنا، وذهبت ريحنا، وأصبحنا غثاءً كغثاء السيل، وتداعت علينا الأمم تداعي الجياع على القصاع، كل أخذ لقمة وأخذ يعمل جهده على هضمها إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، حتى دعا ذلك الوهن منا أمة كإيطاليا التي كانت ولا تزال مضرب المثل في الخور والضعف والغرور الكاذب، إيطاليا التي انفجر طبلها الفارغ عن لا شيء، إيطاليا هذه فكرت أن تعيد على حساب المسلمين إمبراطورية الرومان القديمة، وفكرت على حساب الإسلام أن تلتهم الشرق الإسلامي، وغرها ما رأت من تخاذل المسلمين وتفكك عراهم، وسكونهم على التهام إيطاليا لطرابلس، وتنكيلها بالمسلمين وتشريدهم عن ديارهم، وانتهاك حرماتهم، وتخريب بيوتهم، وغرها سكوت المسلمين عما ضاع قبل ذلك من البلاد الإسلامية، وما زالت إيطاليا في غرورها تبيت الشر للمسلمين، حتى خذلها الله وفضحها، ورد كيدها في نحرها إلى الأبد إن شاء الله، وسيكون هذا جزاء كل باغ على الأمم الإسلامية، وكل مستهين بها، ومحاول انتهاك حرماتها، وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون.
 
ولقد حفَّز هذا على إطالة التفكير وإعمال الروية فيما أصاب المسلمين من أمراض أنهكت قواهم، وهدَّت أعصابهم، وأطاحت راية العزة من أيديهم، فقام كثير من المصلحين يكدحون الفكر، ويطلعون على الناس.
 
أنواع من العلاجات لما تصب بعد حقيقة المرض، ولم تلاق الداء حتى الآن، وليس للشرق الإسلامي دواء من علله وأمراضه التي كادت تقضي عليه، إلا الرجوع إلى الإسلام الأول الذي صلح عليه أول هذه الأمة، وأن ترجع إلى القرآن تتلوه حق تلاوته، وتفهمه حق فهمه، وتتدبره حق تدبره، ونعالج به كل أمراضنا وعللنا الفردية والاجتماعية، وأن نحل حلاله، ونحرم حرامه، ونقيم حدوده، وتحكم بما أنزل الله فيه من الهدى والرحمة، وأن تحيي في نفوسنا روح الجهاد التي أماتها فيها الجبن والذلة وحياة الصغار والتابعية، فإن الله تعالى يقول: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، وأن نمرن أنفسنا على هذا الجهاد بقول كلمة الحق لا نخشى فيها إلا الله؛ ونُمرنها على قبول كلمة الحق من أي قائل بلا حمية ولا عصبية ولا غضب للنفس، ولا رضًا عنها، فلقد قالت امرأة كلمة الحق لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهو على المنبر يوم الجمعة، ولم يمنعها أن تكون امرأة من عامة الناس أن تقولها، فإن كلمة الحق هي الكبيرة العظيمة، ولا يحقرها أن تخرج من فم صغير، بل إنها لحرية أن يعظم بها ذلك الفم عند عمر وأمثاله من المؤمنين، فإنه قال: "أخطأ عمر وأصابت امرأة".
 
فما أحوجنا إلى تأمل ذلك الموقف الإسلامي! وما أشد حاجتنا إلى الانتفاع به! وكم من الناس يقرأه وينشره، ويتحدث به في المجالس، ثم هو مع الأسف لا يرضى أن يحققه في نفسه، فياحسرتا على ما فرطنا في جنب الله!
 
وها مثل آخر يصور لنا مقدار عزة الإسلام وسلطانه النافذ على الصغير والكبير في سلفنا الذين به سادوا العباد والبلاد:
قال القطبي في تاريخ مكة:
لما حج المنصور كان يخرج من دار الندوة - وكانت خلف البناء الذي أُقيم لصلاة الإمام الحنفي، وكان ينزلها الخلفاء والملوك - إلى الطواف آخر الليل، فيطوف ويصلي ولا يعلم به أحد، فإذا طلع الفج رجع إلى دار الندوة، فيجيء المؤذنون ويسلمون عليه، ويؤذنون للفجر، ويقيمون الصلاة، فيخرج ويصلي بالناس، فخرج ذات ليلة في السحر وشرع يطوف، إذ سمع رجلاً عند الملتزم يقول: "اللهم إني أشكو إليك ظهور الفساد والبغي في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع"، فأسرع المنصور في مشيته حتى ملأ سامعيه من كلامه، ثم خرج من المطاف إلى ناحية المسجد، ثم أرسل إلى ذلك الرجل يطلبه، فصلى ركعتين وقبَّل الحجر، وأقبل مع الرسول وسلم على المنصور، فقال له المنصور: ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور الفساد والبغي في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم؟ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني وأقلقني وأشغل خاطري!
 
فقال: يا أمير المؤمنين، إن أمنتني على نفسي وأصغيت إليّ بأذن واعية، أنبأتك بالأمور من أصلها، وإلا احتجيت بقدرة الله تعالى فلا تصل إليّ، واقتصرت على نفسي، ففيها لي شغل شاغل عن غيري.
 
فقال المنصور: أنت آمن على نفسك فقل؛ فإني ألقي إليك السميع، وأنا شهيد بالقلب.
 
فقال: إن الذي داخله الطمع حتى حال بين الحق وأهله، ومنع من إصلاح ما ظهر من الفساد والبغي في الأرض هو أنت.
 
فقال المنصور: أيها الرجل، كيف يداخلني الطمع والصفراء والبيضاء بيدي والحلو والحامض في قبضتي، ومن يحول بيني وبين ما أريد من ذلك؟
 
فقال: هل داخل الطمع أحدًا من الناس ما داخلك يا أمير المؤمنين؟ إن الله عز وجل استرعاك أمور المسلمين وأنفسهم وأموالهم، فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابًا من الحجر والطين وأبوابًا من الخشب والحديد، وحجابًا معهم السلاح؟ واتخذت وراء فجرة وأعوانًا ظلمة، إذا نسيت لا يذكرونك وإذا أحسنت لا يعينونك، وقويتهم على ظلم الناس بالسلاح والأموال والرجال، وأمرت ألا يدخل عليك غيرهم من الناس، ولم تأمر بإيصال المظلوم إليك، ومنعت من إدخال الملهوف عليك، وحجبت الفقير والجائع والمحتاج عنك، وما أحد منهم إلا وله حق في هذا المال، فما زال هؤلاء النفر الذي استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك، وأمرتهم ألا يحجبوا عنك - يقولون في أنفسهم: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه؟ فاتفقوا على ألا يصل إليك من أخبار الناس شيء إلا ما أرادوه، ولا يخالف أمرهم عامل إلا أقصوه عنك وأبعدوه، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم، عظمهم الناس وهابوهم وأكرموهم وهادوهم، وكان أول من داراهم عمالك بالأموال والهدايا والرشا، فتقووا بها على ظلم رعيتك، وتبعهم من كان ذا قدرة وثروة من رعيتك ليظلموا من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالظلم والغشم، وزاد بغيهم وطمعهم، وكثر فسادهم وإفسادهم، وصار هؤلاء شركاءك في سلطانك وأنت غافل، فإن جاءك متظلم حيل بينه وبين الوصول إليك، وإن أراد رفع قصته إليك وصرح بين يديك ضرب ضربًا مبرحًا؛ ليكون نكالاً لغيره، وأنت تنظر بعينك ولا ترحم بقلبك، فإن سألتهم عنه قالوا: أساء الأدب فأدبناه، أو جهل مقامك فضربناه، فما بقاء الإسلام على ظهور المظالم والآثام؟ وإني سافرت إلى أرض الصين، فقدمتها وقد أصابت ملكهم آفة أذهبت سمعه، فجعل يبكي، فقال له وزراؤه: مالك تبكي، لا بكت عيناك؟ فقال: إني لا أبكي على فقد سمعي، ولكني أبكي على المظلوم يصرح ببابي يطلب رفع ظلامته، فلا أسمع صوته، وحيث ذهب سمعي، فإن بصري لم يذهب، فنادوا في الناس ألا يلبس ثوبًا أحمر إلا مظلوم لأُميزه بالنظر، فأُعينه، وكان يركب كل يوم ليرى المظلوم ويستدنيهم، ويرفع ظلمهم؛ انظر يا مسكين، هذا مشرك بالله غلبت رأفته بالمشركين على رأفتك بالمسلمين، أنت مؤمن بالله، وابن عم نبيه صلى الله عليه وسلم.
 
وإن الأموال لا تجمع إلا لواحد من ثلاثة أمور، فإن قلت: أجمعها لولدي فقد أراك الله عبرًا في الطفل يخرج من بطن أمه عريانًا، ماله على وجه الأرض مال، ولا مال إلا دونه يد شحيحة به تحويه وتصده عن كل أحد، فما يزال الله تعالى يلطف بذلك الطفل، حتى يسوق إليه ما قدره له من المال، فسيملكه ويحويه كما حواه غيره، ولست الذي يعطي، بل الله يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.
 
وإن قلت: أجمع ليشتد به سلطاني، فقد أراك الله عبرًا فيمن كان قبلك، ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة! وما أعدوا من الصلاح والكراع! وما ضرك ما كنت فيه أنت وولد أبيك من الضعف والقلة حين أراد الله بكم ما أراد!
 
وإن قلت: أجمع المال لطلب غاية هي أعلى مما أنت فيه، فوالله ما فوق ما أنت فيه منزلة تدرك إلا بالعمل الصالح، واعلم أنك لا تعاقب أحدًا من رعيتك إذا عصاك بأعظم من القتل، وإن الله يعاقب بالخلود في العذاب الأليم، والله ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19]، فكيف يكون وقوفك غدًا بين يدي الله وقد نزع ملك الدنيا من يدك ودعاك إلى الحساب؟ هل يغني عنك ما كنت فيه شيئًا؟
 
قال: فبكى المنصور بكاءً شديدًا حتى ارتفع صوته، ثم قال: كيف إحساني فيما خولت ولم أر من الناس إليّ خائنًا؟ قال: يا أمير المؤمنين، عليك بالأثمة الأعلام الراشدين، قال: من هم؟ قال: العلماء العاملون، قال: فإنهم فروا مني، قال:..
فروا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر لك من طريقتك، فإذا فتحت الأبواب وسهلت الحجاب، ونصرت المظلوم ومنعت الظالم، وظهرت بالعدل ونشرت الفضائل - فأنا ضامن لمن هرب منك أن يعود إليك.
 
وجاء حينئذ المؤذنون وسلموا عليه، وأذنوا للفجر وأقاموا، فقام المنصور للصلاة وصلى بالناس، وإذا بالرجل غاب من بين أيديهم.
 
أيها المسلمون:
إن أمم الأرض اليوم لا تبيت ولا تصبح إلا على تفكير في مصير أمرها بعد هذه الحروب الطاحنة التي لم تشهد الدنيا لها مثيلاً، والتي لا بد مُغيرة وجه الأرض ونُظمها الحالية، فهل فكرتم كذلك في مصيركم؟ أليس أولى بكم أن تكونوا أسبق من غيركم في هذا التفكير، وانتهاز الفرص السانحة؛ لتعودوا أمة تثبت وجودها على وجه الأرض، وتعيد شخصيتها التي كانت تملأ الدنيا، وتطأطئ لها كل الرؤوس؟
 
أعتقد أن القلوب تغلي بهذا التفكير، وأن الرؤوس تزخر بهذه الآمال التي لا يقف في سبيل تحققها إلا الجبن ووهن العزيمة، واستمراء حياة الذلة، والبقاء على هذا التخاذل والتقاطع، والتفرق الذي ضربنا به الله جزاء إعراضنا عن وحيه، وكل ذلك ميسور التقصي منه والبعد عنه إذا صحت العزائم وخلصت النوايا، وحسنت المقاصد: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 243-244].
 
مجلة الهدي النبوي
المجلد الخامس: العدد 4 - 5 ، أول ربيع الأول سنة 1360هـ

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن