أرشيف المقالات

حياتي

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 (حياتي) هي حياة صديقي الدكتور احمد امين بك، ألفتها الوراثة والبيئة والظروف والمواهب والأخلاق والجهود في مدى أربع وستين سنة، فجاءت فصلا متميزاً من كتاب الحياة العام.
وقليل من الناس من يتهيأ بفطرته وعبقريته ليكون مادة من مواد هذا الكتاب.
أما الاكثرون فأكثرهم ينكرهم المؤلف الأعظم إنكاره للمعدوم، واقلهم يذكرهم إما لحقا في حاشية وإما عرضا على هامش. هذا الفصل الطويل الحفيل لخصه أحمد أمين بقلمه فجاء قصه من قصص البطولة النفسية في ثلثمائة وخمسين صفحه من الحجم اللطيف، تقرأها وأنت ترجو ألا تشغل عنها، وتفرغ لها وأنت ترجو ألا تفرغ منها! قرأتها في جلستين اثنتين على كلال بصري ووهن أعصابي، فكنت كأنني أشهد بخيالي وذهني فلما ثقافيا عجيب المناظر مختلف الألوان جم الصور يمتع العقل والقلب جميعا. كان ما أجده من الشوق واللذة وأنا أقرأ (حياتي) لأحمد أمين، يشبه ما كنت أجده من الشوق واللذة وأنا أقرأ (الأيام) لطه حسين: شوق ولذة من نوع غريب الطعم والاثر لم أذقهما في حياتي الادبية قبل هاتين المرتين في هذين الكتابين.
وليس معنى ذلك أن (حياتي) و (الأيام) يشتركان في مذهب فني واحد، بل معناه انهما يشتركان في أجتذاب النفوس وامتلاك المشاعر بشيء اخر غير الفن.
قد يكون ذلك الشيء في الجمال النفسي الذي يتجلى في الصدق حين يجوز الكذب، وفي الصراحة حيث تنقذ الكتابة، وفي التفصيل حيث يسهل الاجمال. وقد يكون في الروح القوى الذي يهيمن على الكتابين، فيظهر هناك في عمق الشعور، كما يظهر هنا في عمق الفكر وقد يكون في التصوير الدقيق البارع لتربية روحية مسخها المادة، وبيئة شعبية نسخها المدنية، ولا يزال لهما في النفوس أثر وفي بالقلوب نوطة. وقد يكون في أولئك كله، إلا الصفات الجوهرية التي لابد منها للمكتوب الصحيح وللكاتب الحق عبر صادقا عن نفسك تتجاوب أنت والناس، وأنقل أمينا عن بيئتك تتعارف أنت والطبيعة. قال لي صديقي ذات يوم ونحن جالسان في المجمع.
سأبعث إليك بأول نسخة تخرجها المطبعة من كتابي، وسأمضي فيه على رأيك ولو كلفني ذلك تفريق ما جمع وتمزيق م طبع، فأني ضعيف الثقة بما أعمل.
فلما مضيت في الكتاب تبين لي أن ضعف الثقة في الصديق لم يأته من اشتباه الحق ولا من التباس الصواب، وإنما أتاه من اتساع المسافة في نفسه بين ما يريد وبين ما يستطيع، ومن شدة الاختلاف في رأيه بين ما يجب وبين ما يكون. ولقد كان صديقي في هذا الكتاب بالذات شديد التردد في كتابته، كثير التشكك في افادتة، فهو يقول في المقدمة: (لم أتهيب شيئا من تأليف كما تهيبت في أخراج هذا الكتاب؛ فإن كل ما أخرجته كان غيري المعروض وأنا العارض، أو غيري الموصوف وأنا الواصف.
أما في هذا الكتاب فأنا العارض والمعروض والواصف والموصوف.
والعين لا ترى نفسها ألا بمراّة.
والشيء إذا زاد قربه صعبت رؤيته.
والنفس لا ترى نفسها إلا من قول عدو أو صديق، أو بمحاولة التجريد وتوزيعها على شخصيتين: ناظرة ومنظورة، وحاكمة ومحكومة، وما اشق ذلك وأضناه!)
.

(وترددت أيضا في نشره: ما للناس و (حياتي)؟ لست بالسياسي العظيم، ولا ذي المنصب الخطير، الذي إذا نشر مذكراته، أو ترجم لحياته، أبان عن غوامض لم تعرف، ومخباّت لم تظهر، فجلى الحق وأكمل التاريخ؛ ولا أنا بالمغامر الذي استكشف مجهولا من حقائق العلم فحاول وصفة وأضاف ثروة إلى العلم، أو مجهولا من العواطف كالحب والبطولة أو نحوهما فجلاها وزاد بعمله في ثروة الادب وتاريخ الفن، ولا أنا بالزعيم المصلح المجاهد، ناضل وحارب، وانتصر وانهزم، وقاوم الكبراء والامراء، أو الشعوب والجماهير، فرضوا عنه أحيانا، وغضبوا علية أحيانا، وسعد وشقي، وعذب واكرم، فهو يروي أحداثه لتكون عبرة , وينشر مذكراته لتكون درسا.
لست بشيء من ذلك ولا قريب من ذلك، ففيم أنشر حياتي؟)
ومع ذلك استطاع أحمد أمين بوزانة عقلة ورزانة خلقه أن يقول لحق أصرح ما يقال، وأن يصدر الحكم أعدل ما يصدر: كما استطاع بقوة شعوره وقوة تصويره أن يحقق الفائدة للقارىء، فجعل من تاريخ حياتة تاريخ حياة لمصر في الربع الاخير من القرن الماضي، والنصف الأول من القرن الحاضر، فوصف عادات كادت تزول، وسجل حوادث كادت تنسى، وصور وجوها كادت تغيب؛ فالحال الاقتصادية بسخرتها وقسوتها وثقل ضرائبها وسوء جبايتها في قرية (سمخراط) بالبحيرة؛ كانت هي الحال في كل قرية من قرى الاقاليم.
والحال الاجتماعية بطبقاتها وعاداتها واعتقاداتها في (حارة العبادية) بالمنشية، كانت هي الحال في كل حارة من حارات القاهرة.
والحال الشخصية بتربيتها ونفسيتها وعقليتها في نفسه وأهلة وصحبه وجيرته، كانت هي الحال في كل فرد من أفراد الشعب.
وإن في تصويرة البيت والسقاء والمحدث والكتاب والازهر، وفي وصفه لأبويه وأخويه، وصديقيه عبد الحكيم محمد وعلي فوزي، وأستاذيه عاطف بركات ومس بور، لنماذج من البيان المطبوع الذي يشرق بنور العقل وينبض بروح العاطفة.
وإن من أجمل ما في الكتاب تلك البراعات الذهنية التي تبدهك بين الصفحة والصفحة في تحليل نفس، او تعليل حادث، أو تأثير شخص في شخص، أو موازنة حالة بحالة.
على أن مثل (حياتي) في انبثاقها من البيت والحارة والكتاب والازهر، وفي تفرقها بعد ذلك في نواحي العمل ووجوه الارض وأشتات الامر، كمثل الدوحة العظيمة، تكون عند الجذع قوية غليظة مكتنزة، تضطرب بالحياة وتزخر بالخصب وتستمد غذاءها من جذورها الضاربة في جوف الثرى؛ فإذا تفرعت على ساقها انتشرت الاغصان وتشعبت الافنان فتوزعت الحياة، وتقسم الري، وخفت الحركة، ولكن فيها مع ذلك الجمال والظلال والزهر والثمر؛ فالقسم الأول من (حياتي) كأصل الدوحة عميق وثيق مكتنز لاستمداده من أعماق النفس؛ والقسم الآخر كفروعها هش الافنان منبسط الجوانب لامتداده في آفاق الطبيعة. والكتاب بعد ذلك قد كشف عن سر من أسرار الصناعة في كاتبه.
ذلك سر القصة.
والنفس الفنانة عميقة كالكون.
سحيقة كالابد، فلا تنتهي أسرارها حتى ينتهي المجهول، ولا تنقضي عجائبها حتى تنقضي الحياة! أحمد حسن الريات

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير