أرشيف المقالات

حديث: كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2من أدب النبوة [1] حديث: كنت غلامًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم   عن عمر بن أبي سَلمَة رضي الله عنهما يقول: "كنتُ غلامًا في حجْر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصَّحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا غلام، سَمِّ الله، وَكُلْ بيمينك، وَكُلْ مما يَليك))؛ فما زالتْ تلك طِعْمتي بعدُ"؛ رواه الشيخان[2].   المفردات: الغلام: الصَّبيُّ من حين يُولَد إلى أن يشبَّ. وحَجْر الإنسان - بالفتح وقد يكسر: حِضْنه، وهو في حجره؛ أي: في كَنَفه وحمايته. والصحفة: إناءٌ كالقَصْعَة المبسوطة، يُشبع الخمسة ونحوهم، وقيل: يُشبع العشرة كالقصعة سواءً. وطيش اليد فيها: امتدادُها في نواحيها. والطِّعمة - بكسر الطاء: اسم لهيئةِ الأكل وصفته.   تربية الناشئ اليتيم: نذكرَ طرفًا من تأديبه صلى الله عليه وسلم لرَبِيبِه الناشئ اليتيم: عمر بن أبي سلمة، ذلك الذي حَظِيَ - ويا نِعْمَ ما حظي - بكفالة مَنْ آواه الله يتيمًا، ونشَّأه كريمًا، وآتاه خُلُقًا عظيمًا، وجَعَلَه بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا.   لا جَرَمَ أنه أسْعَدُ الأيتام حظًّا، وأطْيَبُهم عيشًا، وأوْفَاهُم نصيبًا، وتلك دعوة أبيه، تفتَّحت لها أبوابُ السماء، وصَبْرُ أمِّه، كافأه الله بخير الأزواج وأكرم الآباء، ولا عَجَبَ، فإنَّ لصلاح البيوتِ آثارَه الجليَّة في الأموات والأحياء.   وما ظنُّك ببيتٍ حاز شَرَفَ السَّبْق في العروبة والإسلام، وكان من البيوتات القلائل إذا عُدَّت بيوت الكرام.   أبو سلمة وأسرته: مات عميدُ البيت أبو سَلَمة رضي الله عنه لأَربعِ سنين خَلَوْن من الهجرة؛ متأثِّرًا بجراحةٍ أصابته في غزوة أحد، عن أربعة من الولد: سَلَمة، وعمر، ودُرَّة، وزينب.   وكان من السَّابقين الأوَّلين من المهاجرين، وَصَحِبَتْه زوجُه وابنة عمِّه[3] أمُّ سلمة في هجرته إلى الحبشة، ثم تبعته إلى المدينة، فكانت أَسْبَقَ النساء إلى الهجرتين، وكان آخر ما أوصاها به أن تبتغي الزَّوجَ الصَّالح من بعده.   وكان من دعائه لها: "اللهمَّ ارزق أمَّ سَلَمة من بعدي رجلًا خيرًا مني، لا يُحزنها ولا يُؤْذيها".   وممَّا حدَّثها به أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا عَجَبًا، سمعه يقول: ((ما من عبدٍ يُصاب بمصيبة، فيفزع إلى ما أمر الله به، فيقول: إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعُون، اللهُمَّ أْجُرْني[4] في مصيبتي، وعَوِّضني خيرًا منها، إلَّا أَجَره الله في مُصيبته، وأخْلَفَ له خيرًا منها))[5].   قالت رضي الله عنها: فلمَّا مات أبو سلمة، ذكرتُ الذي حدَّثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاسترجعتُ، وقلت: اللهمَّ عندك أحتَسِبُ مصيبتي هذه، ولم تطب نفسي أن أقولَ: اللهمَّ أخْلف لي خيرًا منها، وقلت: أيُّ المسلمين خيرٌ من أبي سلمة؟ ثم إني قلتها، قالت: فقد عاضني الله خيرًا من أبي سلمة، وأرجو أن يكون الله قد أَجَرني في مصيبتي.   زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمِّ سلمة: ولمَّا بلغ الكتابُ أَجَلَه، خطبها عمر فردَّته، ثمَّ خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه وبينها حجاب، فقالت: أي رسول الله، إني امرأة قد أدبرت مني سِنِّي، وإني أمُّ أيتام، وإني شديدةُ الغَيْرة، فأجابها صلوات الله وسلامه عليه: ((أمَّا ما ذكرت من سنِّك، فأنا أكبر منك سنًّا، وأما ما ذكرت من غَيْرتك، فسأَدْعو الله أن يُذهبَها، وأما ما ذكرت من أيتامك، فإنَّ الله يَكفيهم))، فقالت لابنها سلمة: زَوِّج رسولَ الله صلى الله عليه وسلم[6].   من حكم تعدُّد أزواج النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: لو أنَّ المجال يتَّسع لحِجَاج هؤلاء المارقين الذين يَلْغون في تَعَدُّد أزواج النبيِّ الكريم صَلَوات الله وسلامه عليه، جاهلينَ أو مُتجاهلينَ الحِكَم العالية والآداب السامية، لَحَاجَجْناهم حتى يَصْرَعَ الحقُّ الباطلَ، ويَكسَحَ النورُ الظلامَ … ولكن حَسْبنا أن نقولَ لهم إنْ لم يُصِمُّوا آذانهم: هذا أبو سلمة رضي الله عنه، ابن عمَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم[7]، وأخوه في الرَّضاع[8]، ومن السَّابقين الأوَّلين الذي أبلوا في الإسلام بلاءً حسنًا.   وهذه زوجُه أمُّ سَلَمة، البرَّة التقيَّة الحصيفة العاقلة، من السَّابقات الفُضْليات إسلامًا وهجرةً، وجهادًا ونُصرةً، بلغ من وفائها لزوجها أنها لا ترى أحدًا من المسلمين خيرًا منه، حتى ردَّت الصِّدِّيق والفاروق، خيرَ الناس على وَجْه الأرض بعد النبيِّين، وكادت تردُّ النبيَّ صلوات الله وسلامه عليه، لولا أن تداركَتْها عنايةُ الله، وكُتِبَت عنده من أمَّهات المؤمنين.   وهؤلاء أيتام أربعة طابوا أصولًا وفروعًا، ونشؤوا في بيتٍ عزَّ جانبُه حينًا من الدهر، ثمَّ عَلَتْه ذلَّة بفَقْد عُمْدَتِهِ، وترميل رَبَّته[9].   أليس من المكارم المحمودة أن يؤوي النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا البيت إليه، فيكون لأخيه خيرَ خَلَفٍ لخير سَلَف، ولأمِّ ولده من بعده زَوْجًا كريمًا، ولهؤلاء الصِّبية الذين ذاقوا مرارة اليتم أبًا؟!   تاللهِ إنْ لم يكن هذا دينًا لقد كان خُلقًا عظيمًا، ومَنْ أولى بهذا ممَّن بُعث ليتمِّمَ مكارم الأخلاق؟! ألا إنَّ هذا قليلٌ من كثير من الحِكَم التي يعرفها المنصفون - بل الجاحدون - فيما أحلَّ الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم من أزواج.   تربية النبي صلى الله عليه وسلم اليتيم وتنشئته على الفضائل: أراد النبيُّ صلوات الله عليه وسلم أن يضربَ المثلَ عملًا في تربية اليتيم، وتنشئته على الفضائل؛ كيلا يكون على الأولياء حَرَجٌ إذا نَصَحوا لله ورسوله، وأدَّبوا اليتيم لمصلحته وخيره، لا يبتغون قَهْرًا، ولا يُضْمرون شرًّا.   إرشاده إلى أهم آداب الطعام: أرشد عمر وهو يأكل معه، إلى خِلالٍ ثلاث، هنَّ آداب الطعام: الأولى: أن يُسَمِّيَ الله تعالى؛ طردًا للشيطان، وجَلْبًا للبركة، وعنوانًا على النعمة، وشكرًا لذي الجلال والإكرام.   الثانية: أن يأكل بيمينه؛ فإنَّ الأكل بها أَعْون في غالب الأمر وأمكن، واليمينُ مأخوذة من اليُمْن وهو البركة، فهي وما نُسِب إليها وما اشْتُقَّ منها محمودةٌ لغة وشرعًا، وأما الشمال فقد جاء في صحيح مسلم من حديث سَلَمة بن الأكوع رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يأكل بشماله، فقال: ((كُلْ بيمينك))، قال: لا أستطيع، قال: ((لا استطعت)) فما رفعها إلى فِيهِ بعدُ[10].   الثالثة: أن يأكل ممَّا يليه؛ لأنَّ في أكله مما يلي جليسه سوءَ عشرة، وتركَ مُروءة، لِتقذُّر النفس ممَّا تخوضُ فيه الأيدي، ولا سيما المائعات.   وفي أكل المرء ممَّا يليه بعثٌ على القناعة وحُسْن الأدب، ومُساعدةٌ على إجادة المَضْغ، ولهذا أكبرُ الأثر في الهضم والانتفاع بالطعام.   وقد رخَّص كثيرٌ من العلماء في التمر والفواكه ونحوِهِما أن يتناولَ المرء من الموضع الذي يشاء؛ لأنه لا قَذَر حينئذ ولا استقذار.   هذا، وللطعام والشراب خصالٌ أخرى - كالحمد والاعتدال - مَبْثوثةٌ في كتب السنة والآداب، مَيْسُورةٌ للراغبين في مكارم الأخلاق.   وفي الحديث منقبةٌ كريمةٌ لعمر رضي الله عنه؛ إذِ امْتَثَل أمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتأدَّب بأدبه، وسارَ على نهجه، وتلك نعمةٌ مَنَّ الله تعالى بها عليه قابلها بالشكر والثناء.


[1] مجلة الأزهر، العدد الثالث، المجلد السابع عشر، (1365 = 1946). [2]أخرجه البخاري (5376) في الأطعمة، ومسلم (2022) في كتاب الأشربة. [3] حذيفة أحد المُحلِّقين في سماء الجود، كان إذا سافر لا يرافقه أحد ومعه طعامُه، ومن ثمَّة لقَّبوه بزاد الراكب (طه). [4] الأجر: الثواب، وأجره الله من بابي ضرب ونصر، وآجره إيجارًا: مثله "مختار". [5] أخرجه مسلم (918)، وأبو داود (3119)، والترمذي (3511).
وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم" 3: 358: "وقولها في الحديث: "اللهمَّ أْجُرني..." وقوله: ((إلا أجره الله)): يقال بالمد وبغير المد، حكاه صاحب "الأفعال"، وقال الأصمعيُّ: وهو مقصورٌ لا يُمد، وهو الذي حكاه أكثر أهل اللغة، ومعنى ((أجَره الله))؛ أي: أثابه على عمله، ووفَّاه أجره عليه". [6] أخرجه النسائي (3254)، وقد رواه بقريب من هذا اللفظ إلا أنه جاء في آخره: قالت لابنها عمر: زوِّج رسول الله صلى الله عليه وسلم. [7] برَّة بنت عبدالمطلب كما في "الإصابة" و"الاستيعاب" (طه). [8] أرضعتهما ثُويبة مولاة أبي لهب كما في الصحيحين (طه). [9] اقرأ نسب هذا البيت في "الإصابة" (ج: 2 - 4) (طه). [10] أخرجه مسلم (2021).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن