افتتاح إفريقية
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
وكيف غزاها الاستعمار الأوربي
بقلم مؤرخ كبير
ليست المشكلة الإيطالية الحبشية التي تكدر اليوم سلام العالم سوى نفثة جديدة من نفثات الاستعمار الغربي، وطموح أمة أوربية قوية إلى غزوا أمة إفريقية ضعيفة تزخر أرضها بالثروات الطبيعية الدفينة التي ما فتئت تحفز الاستعمار إلى الغزو والتغلب، وإلى اجتياح الأمم الضعيفة الآمنة؛ فهي ليست بذلك مشكلة دولية بالمعنى المعروف، وإنما هي محاولة أوربية جديدة لاجتياح آخر أرض في إفريقية استطاعت أن تنجو حتى اليوم من عدوان الاستعمار
كانت القارة الإفريقية منذ قرن فقط، منطقة بكرا، لا يكاد الغرب يعرف شيئا إلا عن أممها الشمالية التي تحتل الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، والتي كانت تتمتع مدى الأحقاب بحضارات زاهرة؛ وكانت هذه الأمم المتمدنة الزاهرة - مصر وبلاد المغرب - تكاد تحجب ما وراءها من أمم القارة السمراء، وتكون دون اجتياحها سداً منيعاً يحميها من مطامع الاستعمار الغربي الذي استطاع منذ القرن السادس عشر أن يجتاح الأمريكيتين، وأن ينفذ إلى الشرق الأقصى، واستطاع منذ القرن الثامن عشر أن يستقر في الهند. ومنذ أواخر هذا القرن أيضا توالت بعوث الاستعمار إلى إفريقية، فنفذت إليها من الشرق والغرب والشمال، وأثارت اكتشافات الرحل مثل منجو بارك ودنهام وكلابرتون ورنيه كاييه وستانلي ولفنجستون وغيرهم في الأمم الأوربية مطامع وآمالا جديدة، وبعثت النهضة الصناعية إليها رغبة قوية في استعمار تلك المناطق الجديدة واستغلال ثرواتها الدفينة، واستعباد شعوبها المتأخرة وتسخيرها في سبيل الغايات الاستعمارية وكانت أمم إفريقية الشمالية، وهي مفتاح القارة، بالطبع محط المشروعات والمحاولات الأولى؛ وكانت أسبانيا أسبق الأمم الأوربية إلى التطلع إلى تلك الأمم المغربية التي تواجهها في الضفة الأخرى من البحر والتي خاضت معها من قبل كثيرا من المعارك، والتي استطاعت أيام قوتها وازدهارها - أيام المرابطين والموحدين - أن تغزوا أسبانيا وأن تحتل قسمها الجنوبي أعني أسبانيا المسلمة؛ ومنذ أيام الإمبراطور شارلكان وولده فيليب الثاني (القرن السادس عشر) بذلت أسبانيا - وهي يومئذ في إبان قوتها وعظمتها - عدة محاولات لافتتاح الجزائر وثغور المغرب، ولكنها لم تستطع أن تظفر في تلك الوهاد الوعرة بفتوح مستقرة؛ واستطاعت تلك الأمم المغربية أن تحافظ على استقلالها في ظل طائفة من الحكام المغامرين الذين يرجعون إلى أصل تركي حتى فاتحة القرن التاسع عشر.
وكانت أسبانيا قد انحدرت في ذلك الحين إلى عداد الدول الثانوية، وأخذت دولة أوربية أخرى هي فرنسا تتطلع إلى افتتاح تلك الأمم واستعمارها؛ وكانت حمى افتتاح إفريقية قد أخذت تسري إلى الدول الأوربية، على أثر الاكتشافات الجغرافية العديدة التي كشفت عن غنى تلك المجاهل بالثروات الطبيعية المدهشة؛ وخشيت فرنسا أن تسبقها أمة أوربية أخرى إلى غزو أمم المغرب التي تواجهها في الضفة الأخرى من البحر ولا تبعد عن ثغورها الجنوبية سوى يومين؛ ولم يكن يعوز الاستعمار أو تعجزه حجج التدخل والعدوان.
ففي سنة 1830، في عصر الملك شارل العاشر، جهزت فرنسا أسطولا ضخما، وحملة قوية إلى ثغر الجزائر؛ واستولى الفرنسيون على الثغر الحصين بعد قتال رائع، وانسحب الحاكم التركي (الداي) بأمواله وأسرته؛ واتخذ الفرنسيون من الجزائر قاعدة لغزو المغرب الأوسط كله؛ وكانت بتوسطها ومناعتها أصلح القواعد؛ ولكن فرنسا لقيت خصما صلباً عنيدا في عبد القادر زعيم الجزائر وبطلها الأشهر؛ وقد استطاع هذا الوطني الكبير والجندي الباسل أن ينظم الدفاع عن وطنه زهاء خمسة عشر عاما هزم خلالها عدة حملات فرنسية قوية، وكبد فرنسا خسائر فادحة في الرجال والمال؛ ولكن السياسة الاستعمارية لم ترتد أمام هذا النضال الوطني الرائع، ولم تحجم في سبيل غايتها أية تضحية؛ فما زالت فرنسا تبعث الحملات المختلفة، وتستولي تباعا على قواعد الجزائر، وتخوض مع عبد القادر معارك مضطرمة مستمرة، حتى أتمت فتح الجزائر؛ وأسر عبد القادر بعد خطوب وأحداث جمة (سنة 1847)، وارتد الزعيم الباسل بعد أعوام من الأسر بأسرته إلى دمشق ليقضي بقية أيامه فيها وهكذا كانت الجزائر أول قطر أفريقي سقط في يد الاستعمار الأوربي، وكان سقوطها فاتحة تلك الحركة الاستعمارية الهائلة التي تعرف (بافتتاح إفريقية) والتي اشتركت فيها معظم الدول الأوربية الكبرى، طورا متحدة وطورا منفردة، واستمرت طوال القرن التاسع عشر، وانتهت بتقسيم إفريقية، وسقوط أقطارها تباعا في يد الدول الاستعمارية الكبرى ولما استقرت فرنسا في الجزائر أخذت تتطلع إلى تونس ومراكش؛ وكانت تونس بما يسودها من الضعف والتفكك فريسة هينة، فما زال الفرنسيون بها حتى جردوا عليها حملة غازية في سنة 1881 ثم جردوا عليها أسطولا رسا في بيزرت، وزحفوا على تونس في مايو سنة 1885 وأرغموا (الباي) صاحب تونس على أن يعترف بالحماية الفرنسية على القطر التونسي.
أما مراكش فقد استطاعت لمنعتها ووعورتها أن تقف في وجه الاستعمار مدى حين، وعاونتها السياسة الألمانية على مقاومة فرنسا وإحباط محاولاتها حتى أوائل القرن الحالي وفي الوقت الذي سقطت فيه تونس في يد الفرنسيين كانت إنكلترا قد نظمت مشروعها لاحتلال مصر، وألفت فرصتها في اختلال الأحوال المالية، وفي قيام الثورة العرابية، فبعثت حملتها المعروفة إلى مصر في صيف سنة 1882، واحتلت عاصمتها في سبتمبر، في ظروف مازالت معروفة ماثلة في جميع الأذهان، ومازال الاحتلال الإنكليزي قائما في مصر، ومازالت المسألة المصرية تنتظر حلا شريفا عادلا يحقق أماني مصر في استرداد حرياتها واستقلالها ومنذ منتصف القرن التاسع عشر كانت البعثات الاستكشافية العديدة قد ألقت برحلاتها ومباحثها كثيرا من الضياء على إفريقية ومجاهلها ووهادها الغنية، وثرواتها الطبيعية، المتنوعة، ولم تمض أعوام أخرى حتى اكتشفت منابع أنهارها العظيمة مثل النيل والنيجر والكونغو، وحققت مجاريها وأحواضها، وأخذت روعة الثروات العظيمة التي اختصت بها القارة السمراء تحفز الاستعمار الأوربي وتذكي أطماعه، واشتدت المنافسة بين الدول الكبرى لاقتسام هذه الأقطار الغنية واحتلالها.
عندئذ اتفقت الدول على عقد مؤتمر ينظم اقتسام إفريقية، ويحدد مناطق النفوذ والنشاط لكل دولة، وكان بسمارك المستشار الألماني هو صاحب الفكرة، فعقد المؤتمر في برلين في أواخر سنة 1884، واتفق على أن تكفل الحرية التجارية المطلقة لجميع الدول في حوض الكونغو، وأن تكفل حرية الملاحة في نهري النيجر والكونغو، وألا يعتبر الاحتلال النظري قائما في منطقة من المناطق حتى يؤيد بالاحتلال الفعلي، واعترف المؤتمر أيضا بقيام دولة مستقلة في الكونغو وأنها ملك شخصي لملك البلجيك وهي التي أضحت في يومين مستعمرة عظيمة تملكها دولة أوربية صغيرة هي البلجيك على أن قرارات مؤتمر برلين لم يكن لها أثر فعلي ظاهر فيما تلا من تقسيم إفريقية.
وكانت فرنسا قد وضعت يدها على الجزائر وتونس والسنغال، ووضعت إنكلترا يدها على مصر، ومنطقة الرأس (الكاب) وبدأت ألمانيا احتلالها في نفس الوقت للكمرون وتوجولاند وشرق إفريقية؛ ولم يكن ثمة بد من أن تتفاهم هذه الدول الاستعمارية الكبرى فيما بينها بمعاهدات واتفاقات خاصة على تحديد المناطق التي تطمح كل إلى امتلاكها، وكانت كل دولة قد شادت بما احتلته أسس إمبراطوريتها الاستعمارية في إفريقية.
وكانت فرنسا أنشطها في بناء هذا الصرح الاستعماري، فلم تأت أواخر القرن التاسع عشر حتى كانت قد احتلت معظم إفريقية الغربية، واستولت على السنغال وأعلي النيجر، وساحل العاج، وداهومي، ونفذت في قلب إفريقية إلى السودان الأوسط حتى بحيرة تشاد، ووطدت أقدامها في الشمال في تونس والجزائر، وافتتحت جزيرة مدغشقر في سنة 1895 أما إنكلترا فإنها وطدت أقدامها في وادي النيل، في مصر والسودان، وفي شرق إفريقية البريطاني، واحتلت زنجبار، وأخذت في بناء إمبراطوريتها الاستعمارية العظيمة في أواسط إفريقية وجنوبها.
وكانت منذ أوائل القرن التاسع عشر قد احتلت منطق الرأس (الكاب) كما قدمنا، وكان البوير (وهم سلالة المستعمرين الهولنديين الأوائل) قد استقروا في منطقة (الأورانج) وفي (ناتال)، فاستولى الإنكليز على ناتال، وهاجر البوير منها، وأسسوا لهم مستعمرة جديدة هي (الترنسفال) واعترفت إنكلترا باستقلالها سنة 1852، ولكن إنكلترا ما فتئت تبسط سلطانه نحو الشمال تباعا، فاستولت على أرض الكفر وباسوتولاند؛ وفي أواخر القرن التاسع عشر أنشأ سسل رودس شركة استعمارية على مثال الشركة التي أسست من قبل في الهند، وعضدت الحكومة الإنكليزية مشروعه في فتح الأراضي الواقعة حول حوض الزمبيزي وأمدته بالمال والجند، وهكذا افتتحت روديسا، وأصبحت إنكلترا تسيطر على أواسط إفريقية الجنوبية من منابع الكونغو حتى الكاب، ولم يبق خارجا عن سلطانها سوى الترنسفال ومستعمرة الأورانج حيث استقر البوير.
وكانت إنكلترا تطمح دائماً إلى ضم هاتين المستعمرتين إليها لتوحد إمبراطوريتها في إفريقية الجنوبية، وكان البوير من جهة أخرى بزعامة رئيسهم الشهير (كروجر) يناوئون كثيرا من مشاريعها الاستعمارية، ويقاومون تدخلها بشدة؛ وأخيرا لم تر إنكلترا بدا من إعلان الحرب لتحقيق غايتها، فاضطرمت الحرب بينها وبين البوير (أكتوبر سنة 1899) وأبدى البوير بسالة عظيمة، واستطال دفاعهم زهاء ثلاثة أعوام؛ وأخيرا اضطروا إلى الاعتراف بسيادة إنكلترا ولكنهم احتفظوا باستقلالهم الداخلي، ونالوا من إنكلترا تعويضا ضخما عما أصابهم من التخريب والخسائر، وكبدت هذه الحرب الشهيرة إنكلترا خسائر فادحة في المال والرجال، ولكنها استطاعت أخيرا أن تحقق مشروعها في توحيد إمبراطوريتها في جنوب إفريقية وفي أواخر القرن التاسع عشر اشتدت المنافسة بين الدول الاستعمارية ولا سيما بين ألمانيا وإنكلترا من جهة، وبينها وبين فرنسا من جهة أخرى.
وانتهت إنكلترا وألمانيا أخيرا إلى التفاهم وعقدتا في سنة 1890 معاهدة لتخطيط الحدود بين أملاكهما في إفريقية.
وعقدت بين إنكلترا وفرنسا في سنة 1898 معاهدة لتحديد أملاكهما في حوض النيجر وغرب إفريقية، ثم عقدت بينهما معاهدة أخرى في سنة 1899 على أثر حادثة فاشودة المشهورة وفيها تنازلت فرنسا عن دعاويها في أعالي النيل؛ وأخيرا عقد (الاتفاق الوادي) بين الدولتين في سنة 1904، وفيه تعهدت فرنسا بأن تطلق يد إنكلترا في مصر وألا تناوئ سياستها فيها؛ وتعهدت إنكلترا من جانبها أن تطلق يد فرنسا في مراكش وألا تناوئ سياستها فيها وثارت بين ألمانيا وفرنسا من أجل مراكش خصومة مضطرمة كادت أن تنفجر غير مرة؛ وكانت فرنسا تحرص على أن تضم مراكش إلى إمبراطوريتها الإفريقية، وتحرص ألمانيا من جانبها على أن تضع في سبيل فرنسا كل عقبة ممكنة؛ وفي سنة 1905، زار الإمبراطور ولهلم الثاني ثغر طنجة وألقى خطابا رنانا حمل فيه على السياسة الفرنسية؛ واضطرت فرنسا أن تقبل بحث المسألة المراكشية في مؤتمر دولي؛ وعقد المؤتمر في الجزيرة (بأسبانيا) سنة 1906 من الدول الكبرى؛ وأصدر قرارا بإعلان استقلال السلطان، ووجوب المحافظة على وحدة الأراضي المراكشية، مع الاعتراف بحقوق إسبانيا وفرنسا ومصالحهما الخاصة في هذه المنطقة.
ولم تغنم ألمانيا شيئا.
وفي سنة 1911 جردت فرنسا حملة على فاس، وانتهزت ألمانيا هذه الفرصة فأرسلت سفينة حربية إلى أغادير، ووقعت بين الدولتين مشادة حادة كادت تنتهي باضطرام الحرب بينهما؛ ولكن الخلاف انتهى بعقد معاهدة اعترفت فيها ألمانيا بحقوق فرنسا في مراكش مقابل مزايا استعمارية كبيرة في أفريقية الوسطى.
وعلى أثر ذلك انتهزت فرنسا الفرصة وعملت على إرغام مراكش على قبول حمايتها بمعاهدة عقدت مع السلطان في سنة 1912 أما إيطاليا، وهي رابع الدول الاستعمارية الكبرى التي اشتركت في اقتسام أفريقية، فكان نصيبها طرابلس في الشمال، وإرترية وشطرا من بلاد السومال في الشرق.
وسنعرض في فصل قادم إلى تفصيل هذه الغزوات الاستعمارية، وسنعرض بوجه أخص إلى موقف الحبشة من هذه الحركة الأوربية الاستعمارية الشاملة وكيف نجت من عواقبها، واستطاعت أن تحتفظ باستقلالها إلى يومنا. للبحث بقية (.
)