أرشيف المقالات

صديقي الكاظمي

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
للأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي رئيس المجمع العلمي بدمشق قرأت في الرسالة (عدد96) نعي شاعر العرب الأكبر الشيخ عبد المحسن الكاظمي رحمه الله.
فألمت لفقده، وتذكرت سابق عهده، وقديم وده وقد ذكر ناعيه من خبره: (إنه لاذ بكنف الإمام محمد عبده الذي ظاهر نعمه عليه.
وإنه نكد عيشه بعد الإمام، فرضى بالكفاف من الرزق)
فرأيت خدمة للتاريخ، وتوفية لحق الصديق، وتنويراً لسيرة حياته - أن أضيف إلى الجملة المذكورة ماله من اتصال بها، أو هو كالشرح يعلق عليها عرفت الشيخ عبد المحسن في إدارة (المؤيد) لأول عهدي بالتحرير فيه.
وهناك توثقت بيني وبينه عرى المودة، وأخذت أعرف من دخيلة أمره ما لا يعرفه سواي.
وكان ذلك بعد وفاة أستاذنا الأمام بسنة ونيف ومما أخبرني به أن الإمام رحمه الله كان يتعهده في آخر كل شهر بعشرة جنيهات: يودعها غلافاً ثم تسلم إليه في داره من دون أن يشعر بما في الغلاف أحد.
وبعد وفاة الإمام لم يجد مندوحةً عن السعي لدى الخديو في أن يكون له مرتب شهري من الأوقاف.
فتوسط في هذا الأمر الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد.
فكان الشيخ يراجع الخديو في تقرير الراتب، والخديو يأبى - كلما روجع بشأنه - إلا الرضخ له من مال الأوقاف بنحو خمسين جنيهاً؛ وكنت أذهب مع الشيخ عبد المحسن إلى الديوان فيقبضها.
وقد تكررت هذه المعاملة المرة بعد المرة.
والشيخ عبد المحسن في كل مرة يظهر التأفف من تناوله المعونة على هذه الصورة التي ما كان يراها تتفق مع كرامته وإباء نفسه.
وكان يلح على الشيخ علي: تارةً بنفسه، وطوراً بواسطتي - أن يكلم الخديو في تعيين راتب شهري مقطوع: (عشرة جنيهات فقط) يربحه بها من عناء التوسط ومكابدة المعاملات الديوانية وان انتساب الشيخ الكاظمي إلى الإمام المفتي إن كان من شأنه أن يحدث فتوراً نحوه في نفس الخديو، فما كان قط ليحدث مثل هذا الفتور في نفس الشيخ على يوسف.
فكنا ننزه الشيخ علياً عن وصمة الفتور، لكننا كنا واقفين وقفة الإيجاس من حالة الخديو عباس ثم ضاق الشيخ عبد المحسن بالأمر ذرعا، فكلفني أن اخذ من الشيخ علي وعدا بإنجاز المسألة مع الخديو: أما سلبا يريح النفس أو إيجاباً يزيح العلة فتركت الشيخ عبد المحسن في غرفة التحرير، ودخلت على الشيخ علي، وبلغته الرسالة، وكان يصحح مقالةً للطبع.
فترك القلم من يده، وتنفس الصعداء ثم قال: ماذا أصنع يا أستاذ؟ أنهيت القضية أمس مع الخديو، ووعد وعداً أكيداً بإصدار أمره بتعيين الراتب، وقد شكرت له وخرجت من عنده.
لكنني لم أكد أبرح الباب حتى دخل عليه بعض الناس (ولم يسه لي) فقال للخديو: رأيت فلاناً خارجاً من عندك، فماذا يبغي؟ قال: قررنا راتباً للشيخ عبد المحسن الكاظمي.
قال: أنسيت أنه الشاعر المفتى، وقد قال فيه من الشعر كذا وعرض فيك بكذا وكذا؟ قال الشيخ علي: فما كان من الخديو إلا الشح برفده والنكول عن وعده فلما وعيت هذا رجعت إلى الشيخ الكاظمي، فأخبرته الخبر، فتأثر جد التأثر، وقال لي: أتعرف من هو بعض الناس؟ قلت: لا.
قال: هو أحمد شوقي وكنت إلى ذلك الحين لم أعرف سعادة أحمد شوقي بك رحمه الله، ولا اجتمعت به، وإنما لقيته بعد ذلك في إدارة المؤيد وقد طلب من الشيخ علي أن يراني فتلاقينا وتعارفنا ثم قال لي الشيخ عبد المحسن: وما الحيلة الآن يا أستاذ؟ قلت: تحسين العلاقة مع أحمد شوقي بك، ففارقته على نية اللقاء في وقت نذهب فيه إلى (كرمة ابن هانئ)، وكانت الكرمة بنيت، حديثاً فذهبنا إليها وأرسل الشيخ عبد المحسن بطاقته إلى البك، فأجيب بأنه خرج، أما الشيخ عبد المحسن فقد أقسم أنه لم يخرج، وإنما أراد ألا يقابله ومن ذلك الحين يئس من الخديو والراتب.
وفوض أمره إلى الله.
ثم لما اشتد به المرض، ولازم داره في (درب الكحكيين) جعلت أتردد إليه فيها، وكنا نقضي ساعات في الحديث ورواية الشعر ومطارحة الأدب وأخبار الأدباء، وخاصة أدباء العراق من الشيعة، وقد لخصت بعض أحاديثه عنهم في أملية العدد الصادر في 1 يوليو سنة 1907 من (آمالي الأدب) التي كنت أنشرها في (المؤيد) من وقت إلى آخر وكان الشيخ عبد المحسن يخص بإعجابه من بين شعراء العراق (إبراهيم الطباطبائي النجفي) الذي جمع بين جودة الشعر وحسن الإنشاد ورخامة الصوت، وهو الذي يقول في صغيريه حسن ومحمد من قصيدة: أما وضوء الأبيضين لأنتما ...
قمراً سعودي في الليالي السود ما أنتما إلا كقرطي غادةٍ ...
يتذبذان على خدود الخود وتأخرت عن زيارة (الكاظمي) أياماً فكتب إلى بهذه الأبيات: يا من تخّيرتُه دون الرفاق أخاً ...
ألقى به عادياتِ الدهر والأزما ُعد مدنفاً كاد يُملي جسمه سَقم ...
لعل قربك منه ُيبعد السقما إذا ألمتْ به غماءُ جائحة ...
فنور وجهك عنه يكشف الغما كم منة لك طول الدهر في عنقي ...
مازلت أذكرها أو أسكن الرجما وقوله (الأزما) بكسر الهمزة وفتح الزاي جمع أزمة بمعنى الشدة والضيق، وهو جمع نادر.
ومنه قولهم في جمع (بدرة) (بدر) ولم آسف على شيء أسفي على خبرين كان حدثني بهما فلم أستقص تدوينها في مذكراتي عنه (الأول) ما وصفه لي من نشأته الشعرية تحت إشراف أخيه الأكبر، وكانت دار أخيه (في بغداد أو الكاظمية) مثابة لشعراء الشيعة وأدبائهم.
فكان الكاظمي الحدث يطارحهم الأدب ويسابقهم إلى قرض الشعر، وكان أحياناً يجيد إجادة يعجب بها القوم ويهتز لها أخوه طرباً وسروراً.
وأنشدني قطعاً من شعره قالها لمناسبات عرضت في تلك الاجتماعات فاتني تدوينها مع المناسبات التي قيلت فيها (الثاني) ما وصفه لي من إلحاح الفاقة عليه في بعض الأيام حتى أنه سأل تاجر الدجاج الذي كان يبتاع من دجاجه أن يصف له طريقته في تفريخها وتغذيتها والقيام عليها ليعتاش هو من وراء ذلك.
فوصفها الرجل له.
وحاول أن يجربها، ففعل.
وأصبح عنده ألوف من الفراريج.
وكان يعتني بها ويطعمها الأرز، لكنه لم ينجح في تجربته، وكانت الخسارة عليه عظيمة.
قال: وما كان يخطر لي قط أن الكتاكيت سريعة العطب، رقيقة المزاج إلى هذا الحد.
وأنها إذا لم يتدبر صاحبها أمرها بانتباه وفرط حيطة، ومراعاة الأصول في تغذيتها وتدفئتها لا يبقى من الألف منها سوى بضعة عشر كتكوتاً وكان في سرده لهذه الحادثة استقصاء دقيق، ودرس اقتصادي عميق، وفكاهة تسري عن النفس البائسة كآبتها، وتعيد إلى الأسارير العابسة بشاشتها ولما زرته في السنة الماضية مع صديقي الأستاذ (الهراوي) في داره بمصر الجديدة ظننت أنه يمكنني محادثته بشأن كتاكيته، فلم أصادف من صحته ونشاطه ما يساعد على الكلام في هذا الموضوع، وإنما اقتصر حديثنا على وصف المسرة بتلاقينا بعد نحو ثلاثين سنة من تنائينا والكاظمي ينظم الشعر على طريقة شعراء عرب الجزيرة من حيث متانة الأسلوب وجزالة الألفاظ، وربما امتاز عن كثيرين منهم يخلو شعره من المعاظلة والتعقيد والأغراب وكما أنه تفوق على شعراء زمانه بهذه الطريقة الفحلة نراه امتاز عنهم أيضاً في أنه يرتجل الشعر ارتجالاً غاية في السلاسة لا جمجمة فيه ولا تلكؤ.
وإذا إرتجله وقع شعره المرتجل في قالب طريقته الشعرية المطبوعة، أي إنه مهما طال نفسه في الارتجال جاء شعره المرتجل موسوماً بطابعه الشخصي، متقاوداً مستوى المتون، لا تشاخس فيه ولا تفاوت؛ لا يخذل آخره أوله، ولا ينوء عجزه بكلكله، وهذا موضع الغرابة في ارتجاله.
وربما لا يجاريه في هذه المزية إلا القليل من الشعراء الأقدمين بله المتأخرين من شعراء هذه الأيام ومن ظريف أخبار بداهته ما اتفق لي معه: ذلك أنه زارني يوماً في إدارة المؤيد، فابتدره زميلي الصحافي المشهور سليم سركيس رحمه الله بالعتب الشديد عليه لإغفاله تهنئته بزيه البلدي الجديد وكان من خبر هذا الزي أن (سليماً) تضايق من اللبوس الإفرنجي المحزق ولا سيما ياقة القميص المكوي، وربطة الرقبة (الكرافات) وشطاطها أو بكلتها التي كانت تمنعه الحركة وإدارة رأسه يمنة ويسرة وهو يحرر ويترجم والفصل فصل الصيف والحر حر القاهرة.
فما كان منه إلا أن أعلن هجر ذلك الزي والزراية عليه، واصطنع لنفسه الزي البلدي: قفطاناً مشدود الوسط بالزنار، ويحيط أعلى القفطان بعنقه من دون الياقة ولا عرى ولا أزرار؛ وقد سدل فوق القفطان جبةً بلديةً مخصرة الوسط، فضفاضة الأذيال، سهلة الطي، سريعة اللي.
وأعلن خبره هذا في الصحف المحلية مشفوعاً يرسمه العربي الأصيل، وزيه البلدي الجميل؛ وأخذ إخوانه المحررون - وهم كثر - يصفون خبره في صحفهم، والشعراء منهم يهنئونه بقصائدهم وكان صديقنا (سليم) تعجبه طريقة الصحافي الأمريكي الكبير (برزباين) الذي يتخذ في موضوعات كتابته من الحبة قبة، فكيف لا يتخذ هو موضوعاً يلذ المصريين من القفطان والجبة؟ وكم مرة سمعته يقول: إنني أنا الكاتب الصحافي، وقد تلقيت فن الصحافة من سفري إلى أمريكا ومعاشرة صحفييها.
أما زميلاي: (المنفلوطي) و (المغربي) فليسا صحافيين بالمعنى المقصود من كلمة الصحافة: المغربي كاتب عالم، والمنفلوطي كاتب شاعر فلما دخل علينا السيد الكاظمي وأسمعه سليم عتبه عليه قال له: ألِقُ دواتك واقربُ ...
وخذ أداتك واكتبُ ثم جعل يرتجل شعراً في مدح سليم، ووصف زيه الجديد.
يمليه عليه وهو يكتب.
حتى إذا طال نفس القول اعترضته أنا قائلاً: أرى أنه سيكون لهذه القصيدة نبأ عظيم بين أدباء القاهرة، فلم لا يكون لي فيها ذكر وأنا ثالثكما وشاهد حادثتكما؟ فتحول الكاظمي عن (سليم) وأقبل علي، وخاطبني ببضعة أبيات من شعره المرتجل على وزنه وقافيته.
ثم عاد إلى إتمام الكلام في سليم حتى أكمل قصيدة بلغت الثلاثين بيتاً فيما أذكر، وقد نشرها صديقي سليم في مجلته - سنتها الثانية أو الثالثة - وحكى القصة كما وقعت، لكنه ذهب إلى أنني، إنما اقترحت على السيد الكاظمي أن يذكرني في القصيدة امتحاناً له، واستيثاقاً من أمر ارتجاله.
رحم الله (الكاظمي) وعوضنا الدهر منه ولا أراه فاعلاً دمشق المغربي رئيس المجمع العلمي العربي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣