int(1170) array(0) { }

أرشيف المقالات

طلب العلم

مدة قراءة المادة : 51 دقائق .
القراطيس..
فرائض وواجبات فرط فيها كثير من المسلمين والمسلمات (4)
الفريضة الأولى: طلب العلم


لا يُعرف - مثل الإسلام - دينٌ جاء بنبذ الجهل ومعاداته والتنفير منه، والدعوة إلى العلم وموالاته والترغيب فيه، وقد وصَل الإسلام في ذلك إلى حدِّ أن أوجب على أبنائه جميعًا السعي في سبيل طلب العلم الذي أتاهم عن الله ورسوله.
 
وهم في ذلك أمام منظار الشرع العظيم فريقان: أما المُتخصِّصون في العلم الشرعي منهم فلا يسعهم إلا التبحُّر فيه، والعلم بتفاصيله وتفاريعه، والاجتهاد في تحصيل دقيق شوارده، وتقييد عزيز مسائله.
 
وهؤلاء حقٌّ على الأمة أن تعمَل على إيجادهم، وفرْضٌ عليها إعانتُهم، ويلزمها تهيئة كافة السبل التي تيسِّر لهم مهمتهم تلك.
 
وعليهم هم أن يَبذلوا مِن الوسع والطاقة ما يقدِّرهم الله تعالى على بذله؛ بحيث يطلع الله منهم على جد واجتهاد يرضاه ويرضى به عنهم، وهذا النوع مِن الطلَب فرضُ كفايةٍ، تَقوم به عن الأمة فرقةٌ منها، نيابةً عنها ووكالة، بشرط أن يَكْفوها هذا الجانب، فلا تَحتاج فيه بعدهم إلى أحد.
 
والفريق الآخر هم غير المتخصِّصين في العلم الشرعي، وهم عموم المسلمين؛ فهؤلاء أوجب الإسلام عليهم طلب العلم؛ بمعنى أن يلمُّوا بجملة مِن علومه، تكفيهم في تأسيس عقيدتهم، وتأدية عبادتهم، وتزكية نفوسهم، وتجميل أخلاقهم وسلوكهم على الوجه الذي يُرضِي الله ويَرضى به عنهم، ويعبر العلماء عن هذه الجملة من العلم بعبارة: ما لا يسع المسلمَ جهلُه، أو ما يجب على المسلم علمُه، وهذا النوع مِن الطلب فرضُ عينٍ على كل مسلم ومُسلمة، لا يُغني فيه قيام فرد مِن أفراد الأمة عن غيره، ولا يسد فيه أحد منهم مسدَّ سواه؛ فلأجل أن يصح للمسلم ويسلم له عمله، لا بدَّ أن يكون مبنيًّا على علم.
 
قال الحسن: "رأيتُ أقوامًا مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولون: "مَن عمل بغير علم، كان ما يفسده أكثر مما يُصلحه، والعامل بغير علم كالسائر على غير طريق، فاطلُبوا العِلم طلبًا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبًا لا يضر بالعلم، وكان الرجل يطلب العلم فيهم حتى لا يلبث أن يُرى ذلك في تخشُّعه وزُهدِه، ولسانه وبصره"[1].
 
ولذلك كان العمل على علم يَجبُر قليل العمل، ولا يوزن به كثير عمل على غير علم؛ قال الخطيب البغدادي: "لا تأنس بالعمل ما دمت مُستوحِشًا من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصرًا في العمل، ولكن اجمع بينهما، وإن قلَّ نصيبُك منهما"[2].
 
وقد ظهر جليًّا في القرون الأخيرة من حياة المسلمين غياب هذا المعنى بالكامل عن حسِّ جماهير المسلمين فضلاً عن التفريط فيه، ومِن ثَمَّ إقامته على الوجه الشرعي.
 
وذاك التفريط ذو شقَّين - على نحو ما سبق -:
أما الشق الأول: فهو تفريطهم في إعداد العلماء المشتغلين بالعلم والاجتهاد والنبوغ فيه، سواء في جانبيه المادي أو الشرعي؛ إذ الإسلام لا يعرف هذا الفرق الذي عهده الناس من تقسيم العلم إلى علوم دين وعلوم دنيا على النحو الذي يُعرف في حياة المسلمين اليوم، كما تسرب إليهم من "الخسارة الغربية"، بل كلاهما في دين الله فرض وواجب، أعني ما لا بد للمُسلم منه.
 
وهذا - بما لا يُماري فيه أحد - فرض مضيَّع؛ فأين في المسلمين اليوم العمل على إعداد الجيل الوريث الذي سيَحمل الأمانة عن الجيل القائم، ويحلُّ في دور العلماء القائمين اليوم؟!
وهل تعمل الأمة على إيجادهم؟!
وأين جهودهم في هذا السبيل؟!
 
وأين في المسلمين الإعداد لجانب العلم التِّقني، سواء في ذلك جيل الرواد أو الوارثين؟ هذا فيما يتعلَّق بالشقِّ الأول.
 
أما الشق الثاني فهو تفريطهم في تعلُّم ما يجب عليهم العمل به، مما جاءهم عن الله ورسوله، من العلم الذي يصلح به أمر دينهم ودنياهم.
 
فأين جماهير المسلمين اليوم من العلم بالإسلام على النحو الذي جاء به القرآن والسنَّة؟ ما مصدر ثقافتهم؟ وما منبع معارفهم؟ وما قيمة ما يَعتقدون أمام ما ينبغي على وجه الحق أن يعتقدوا؟ وما شَبَهُ عباداتهم بالعبادة التي شرع الله وبَيَّنَ رسولُه؟ وما ميزان أخلاقهم إلى أخلاق الإسلام التي أراد وطلب؟
 
وهل يهتم منهم أحد يقدم على عمل من الأعمال من بيع وشراء ونكاح وطلاق ورهن وسباق ووكالة وحوالة....
إلخ أن يتعلم - قبل أن يقدم على ما يعمل - أحكام الإسلام فيه؟ أم هو يسير في ذلك على ما مضى عليه العرف وجرت به الأوضاع دونما نظر إلى ما جاء به الإسلام؟! ذلك في جانب المعاملات.
 
بل قبل ذلك:
هل اعتنى المصلي قبل أن يُصلي أن يتعلم الصلاة التي شرع الله، على الصفة التي صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أم قد اكتفى أن يفعل - حين أراد - كما يفعَل المُصلُّون؟
 
وحين وجب عليه الصيام، وحين وجبَت عليه الزكاة، وحين وجب عليه الحج؟ إلى آخر العبادات التي يؤدِّي المسلمون شكلها وظاهرها، وتَنبو عنهم حقيقتُها وجوهرُها.
 
ورحم الله الإمام البغوي الذي يقول: "كلُّ عبادة أوجبها الشرع على كل واحد، يجب عليه معرفة عِلمها، مثل: علم الزكاة إن كان له مال، وعلم الحج إن وجب عليه"[3]، وهذا في جانب العبادات.
 
بل قبل ذلك حين نَشأنا: هل عُلِّمنا العقيدة الصحيحة النقية الصافية؟ ورُبِّينا التربية السليمة الزاكية؟ أو حكمتْنا العادات - سليمةً أو خاطئة - فحكَّمناها، ونشأنا عليها فنشَّأتنا، وتربينا على التقاليد - شرعية أو جاهلية - فربَّتْنا؟
 
الحقيقة:
إن الجواب تغص به الحلوق، ولكن ما منه بدٌّ، قبل أن يسدَّها فتختنِق الروح وتخرج، وهو صراحة: لا، بل ألفُ ألفِ لا.
 
إنه لجواب مرٌّ نعَم، ولكن أمرُّ منه وآلَم أن نتغافَلَ عن رصد الداء وأسبابه، وتَشخيص الدواء ووضعه، ولا شكَّ أنَّ ذلك يَحتاج إلى دراسات لعلاج ذلك الوضع المتردِّي، ولكنا لن نعدم أن نشير هنا إلى بعض من ذلك، مما استفدناه من كتب أهل العلم، وما بلوناه في دنيا الناس؛ فإلى مبدأ الحديث:
- ما هو العلم؟
لما كان الفهم عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم مشروطًا فيه أن يكون على مرادِ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا على حسب الأهواء، كان لِزامًا أن يُنظر في كل أمر في مدلولِ اللفظِ الذي تلفَّظَ به الشرع، حتى يكون فهمُ اللفظِ على مراده، ومن ثم يكون العمل متقبَّلًا، وهنا يجب تحديد المعنى المقصود من لفظة العلم في الإسلام قبل البداية في البحث عن ماهية العلم الواجب، وهذا ما نتناوله في هذه النقطة:
والمراد بالعِلم الشرعي: "علمُ ما أنزل الله على رسوله مِن البينات والهدى"[4]، وأقسامُه ثلاثة:
1 - عِلمٌ بالله وأسمائه وصفاته وما يَتبع ذلك.
 
2 - علم بما أخبر الله به مما كان مِن الأمور الماضية، وما يكون مِن الأمور المستقبلة، وما هو كائن مِن الأمور الحاضرة.
 
3 - علمٌ بما أمَرَ الله به؛ مِن العلوم المتعلِّقة بالقلوب والجوارح؛ من الإيمان بالله؛ من معارف القلوب وأحوالها، وأقوال الجوارح وأعمالها، وهذا يَندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة، ويندرج فيه ما وجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة؛ فإن ذلك جزء مِن جزءٍ من علم الدين"[5].
 
ثانيًا: فضل العلم والعلماء في دين رب الأرض والسماء:
مدَح الإسلام العلم، وعظَّم مِن شأنه، ورفع أقدار العلماء، وأعلى رُتبتهم إلى ما لا تتطاول إلى مرتبته الرقاب؛ فللعلم في الإسلام درجة فوق درجة الإيمان، كما أن الإيمان درجة فوق درجة الإسلام، بذا أخبر قوله تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11].
 
بل إنَّ درجة العلم ترفَع كل خسيسة، وتَنفي كل توهُّم لنقصٍ؛ فعن أبي الطفيل عامر بن واثلة: أن نافع بن عبدالحارث لقيَ عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على مكَّة، فقال له عمر: مَن استخلفتَ على أهل الوادي؟ قال: استخلفتُ عليهم ابن أبزى.
 
قال: وما ابن أبزى؟ فقال: رجل مِن موالينا.
فقال عمر: استخلفتَ عليهم مولًى؟
فقال: يا أمير المؤمنين، إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاضٍ.
فقال عمر رضي الله عنه: أمَا إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: ((إنَّ الله يرفع بهذا الكتاب قومًا، ويضع به آخرين))[6].
 
وبلغ مِن اعتبار الإسلام العلم ورَفعِه قدره أنْ أمَرَ بالبَدْء به قبل القول والعمل، وجعله شرطًا له؛ كما قال الله سبحانه: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ [محمد: 19].
 
قال العلامة ابن عاشور: "مِن اللطائف القرآنية أن أمر هنا بالعلم قبل الأمر بالعمل في قوله: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ [محمد: 19]، قال ابن عيينة لما سئل عن فضل العلم: ألم تسمع قوله حين بدأ به: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ [محمد: 19][7]، وترجم البخاري في كتاب العلم من "صحيحه": باب العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [محمد: 19]، فبدأ بالعلم، فدلَّ ذلك على أن مرتبة العلم مقدمة على مرتبة العمل، وأن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما؛ لأنه مصحح للنية المصححة للعمل"[8].
 
وهكذا حتى يَرتفع الأثر برتبة العلم فيَجعله صنو الشهادة، بل يَسبقها، فيجعل المداد الذي يسطر به العالم علمه وَزِين ما يبذل الشهيد من مهجة نفسه وخالص دمه، فهما يُوضعان يوم القيامة في كفَّتي ميزان، بل ويكون الراجح منهما مداد العلماء، فيرجح مداد العلماء بدماء الشهداء:
فعن الحسن رحمه الله قال: يُوزَن مداد العلماء بدم الشهداء، فيرجح مداد العلماء بدم الشهداء[9].
 
وكذا حين أخبر أنَّ الشهيد نفسه ليود أن يبعثه الله عالمًا؛ لما يرى من كرامة العلماء على الله يوم القيامة؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "عليكم بالعلم قبل أن يُرفع، ورفعه موت رواته، فوالذي نفسي بيده، ليَودَنَّ رجالٌ قُتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثَهم الله علماء؛ لما يرون من كرامتهم، فإنَّ أحدًا لم يولد عالمًا، وإنما العلم بالتعلُّم".
 
وكذلك عظم الإسلام من شأن طلب العلم، وجعل لصاحبه فضيلة عظيمة، ومرتبة شريفة منيفة؛ فمِن ذلك أنه جعله طريقًا توصل إلى الجنة، وجعل الاجتهاد فيه خير من الاجتهاد في العبادة؛ روى البيهقي في شعب الإيمان - وصحَّحه الألباني في مشكاة المصابيح - من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الله عزَّ وجلَّ أوحى إليَّ أنه مَن سلَك مسلكًا في طلب العلم، سهلت له طريق الجنة، ومَن سلبتُ كريمتَيه أَثَبْتُه عليهما الجنة، وفضْلٌ في علم خير مِن فضل في عبادة، وملاك الدين: الورع))[10].
 
قال بعض العلماء: "العلم صلاة السرِّ، وعبادة القلب".
وقال الشافعي: "طلب العلم أفضل مِن صلاة النافلة".
 
إن العلم قد حاز كل شرف، واشتمل على كل فضل، وكفاه أن يدعيه من ليس بأهله، وأن يتبرأ من الخلوِّ عن ضدِّه كلُّ مَن كان هذا الضد فيه؛ كما يقول إمام المتقين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
 
هذا باختصار شديد جدًّا بعض فضْل العلم والعلماء في دين رب الأرض والسماء، ووالله إنه لفيض من غيض، وقطرة من بحر لجي، أمواجه كالجبال الشم تناطح العلياء وتشامخ السماء، ترى فيه الأمواج تتوالى كالجبال جبلاً بعد جبل، تُنبئ كلها عن عظيم منزلة العلم وأهله في دين رب العالمين سبحانه.
 
ولمن شاء أن يتيقَّن مصداق ذلك، وتطلَّب المزيد، فعليه بتجلية ناظريه وإمتاع عينيه بمراجعة الكتب التي أفردها علماؤنا - من السلف والخلف - في فضل العلم وأهله، فضلاً عن الفُصول والأبواب التي بوَّبوها في بيان ذلك ضمن ما كتَبوا من كتب، وصنَّفوا مِن مصنَّفات.
 
العلم الممدوح في الإسلام:
والعلم المَمدوح في الإسلام هو: العلم الشرعي، الذي هو فقه كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلَّم، ثم يأخذ بنصيب مِن ذلك المدح كل معرفة أو فهم يؤدي إلى صلاح حال المرء في الدنيا والآخرة، ويكون وسيلة إلى خيرهما، فهنا إذًا نوعان:
النوع الأول: علم الوحي؛ وهو الشرع الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله، وهذا علم مُتلقًّى، وقد خُتم عليه يقينًا بخاتمٍ يوم توفي الرسول عليه الصلاة والسلام، فليس لأحد أن يزيد فيه أو ينقص.
 
والنوع الثاني: هو علم أمور الحياة النافع المفيد في الدنيا، والمقصود به مجموعة المعارف العلمية التي تؤخذ عن طريق الملاحظة والتجربة، وتؤدي إلى الرقي في العلوم التجريبية بهدف نفع الإنسان وتيسير مهمَّته التي خلقه الله تعالى من أجلها؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61]؛ ففي هذه الآية دليل على أن إعمار الأرض مطلوب لله تعالى شرعًا، لكن ذلك مشروط بكونه على منهاج الله الذي أنزله وارتَضاه.
 
وهذا القسم ينصرف إليه مدح الشرع الحكيم، ويدخل فيما رغب في طلبه وحثَّ على السعي في تحصيله، ومدح العالمين به، ما دام هذا العلم رائده منهج الله تعالى، وبغيته طاعته، ومنهجه صراطه المستقيم، ومِن ثَمَّ كان لهذا النوع من العلم حكمه في الشرع، الذي يصل إلى الفرضية العينية أحيانًا، والفرضية الكفائية غالبًا، وأصوله التي يقوم عليها قد أرساها وبذر بذورها الوحي المنزَّل فيما يُعرَف اليوم بالإعجاز العلمي في القرآن والسنَّة، بل وأشار إلى ما لم يعرفه الناس إلى اللحظة، والله تعالى أعلم بالصواب.
 
تنبيه: ومِن المهم هنا أن نعلم أن هذا التقسيم للعلم إلى علوم دين وعلوم دنيا، وعلوم شرع وعلوم فرع، لم يقصد الإسلام منه إلى الاستهانة بعلوم الدنيا وازدرائها، وإنما أراد الإسلام بهذا التقسيم أن ينبِّه إلى أن علوم الدنيا تبع لعلوم الدين فيما تأتي وتذر، وليس ذلك بحجر عليها، كلا، وإنما هو ميزان صحيح لطريقها، يَضبط سَيرها؛ حتى لا تضلَّ السبيل، وتحيد عن الغاية، فتغدو تضرُّ من حيث يراد بها النفع، وتفسد من حيث يُطلَب بها الإصلاح.
 
وليس أدلَّ على ذلك مِن أنَّ هذا العلم له حكم الفرضية - على الكفاية - كما سيأتي معنا؛ فالإسلام يوجب على المسلمين أن يعرفوا ما تلزم معرفته مِن أَمرِ الدنيا؛ إذ مِن قواعده أنَّ ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب، وأن للوسائل أحكام المقاصد.
 
وهكذا، إن قيل: ما هو العلم الفرض الذي عناه الإسلام بالثناء والمدح، وجعل حكم طلبه الوجوب؟
 
فالجواب: إنما هو العلم جميعه بقسميه كليهما، على ما بينَّا من شرط ذلك، وحديثنا هنا سوف يتناول الشق الأول منهما فحسب، ألا وهو العلم الشرعي، على أن نتناول الشق الآخر عند الحديث عن فرضية الارتقاء الحضاري على الأُمَّة.
 
ثالثًا: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وأدلة ذلك:
نقَل الغزالي في الإحياء قولة جميلة لفتح الموصلي رحمه الله، يقول فيها مخاطبًا أصحابه: "أليس المريض إذا مُنع الطعام والشراب والدواء يَموت؟ قالوا: بلى قال: كذلك القلب إذا مُنع عنه الحكمة والعلم ثلاثة أيام يموت"[11].
 
قال الغزالي: "ولقد صدق؛ فإن غذاء القلب العلم والحكمة، وبهما حياته، كما أنَّ غذاء الجسم الطعام، ومَن فقَد العلم فقلبُه مريض، وموته لازم، ولكنه لا يشعر به؛ إذ حبُّ الدنيا وشغله بها أبطل إحساسه؛ كما أنَّ غلبة الخوف قد تبطل ألم الجراح في الحال، وإن كان واقعًا، فإذا حط الموت عنه أعباء الدنيا أحس بهلاكه، وتحسَّر تحسُّرًا عظيمًا، ثم لا ينفعه، وذلك كإحساس الآمن من خوفه، والمفيق من سُكره، بما أصابه من الجراحات في حالة السُّكر أو الخوف، فنعوذ بالله من يوم كشف الغطاء؛ فإن الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا"[12].
 
وهذا والله تعبير عن حاجة العبد إلى العلم، جليل عظيم، وأعظم منه قد سبق إليه إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله تعالى؛ فقد كان يقول: "الناسُ إلى العلم أحوَجُ منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه".
 
ولهذا طلب الإسلام مِن كل مسلم ومسلمة السعي إلى تحصيل العلم، والجد في طلبه، وجعل ذلكم السعي فريضة لازمة، وواجبًا محتمًا؛ ففي الحديث الذي رواه ابن ماجه وغيره، وحسَّنه المزيُّ وابن القطان، وصحَّحه السيوطي والألباني من حديث أنس وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم))[13].
 
ورواه ابن عبدالبر في العلم عنه بلفظ: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم، وإنَّ طالب العلم يستغفر له كل شيء، حتى الحيتانُ في البحر))[14].
 
معنى الفرض:
والفرض في الشرع هو: ما طلب الشارع فعله على وجه اللزوم، بحيث يُذمُّ تاركه، ومع الذم العقاب، ويُمدَحُ فاعله، ومع المدح الثواب.
 
وينقسم إلى:
1 - فرض عيني، وهو: ما ينظر فيه الشارع إلى ذات الفاعل؛ كالصلاة والزكاة والصوم؛ لأن كل شخصٍ تلزمه بعينه طاعةُ اللهِ عزَّ وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
 
2 - فرض على الكفاية، وهو: ما يَنظر فيه الشارع إلى نفس الفعل، بقطع النظر عن فاعله؛ كدفن الميت، وإنقاذ الغريق، ونحو ذلك.
 
إنَّ طلب العلم فرض لازم، وحتم واجب، فيَنبغي على كل مسلم ومسلمة طلب العلم؛ إذ قد نصَّ القرآن الكريم على ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122].
 
فهذه الآية قاضية على كل مسلم بوجوب تعلُّم العِلم الواجب من الكتاب والسنَّة، النافر والقاعد في ذلك سواءٌ.
 
قال القرطبي: هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم؛ لأنَّ المعنى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة والنبي صلى الله عليه وسلم مقيم لا ينفر فيَتركوه وحده"، ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ ﴾ [التوبة: 122] بعدما علموا أن النفير لا يسعهم جميعهم ﴿ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ﴾ [التوبة: 122]، وتبقى بقيتها مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليتحمَّلوا عنه الدين ويتفقهوا، فإذا رجع النافِرون إليهم أخبروهم بما سَمعوه وعلموه، وفي هذا إيجاب التفقُّه في الكتاب والسنَّة[15].
 
ومِن ثَمَّ يَنبغي على كل مسلم ومسلمة السعي في تعلم ما يتأسَّس عليه دينه في الدنيا، ويُفلح بسببه في الآخرة، عليه الجد في تحصيله.
 
رابعًا: ما هو العلم الفرض؟
إن استقرَّ ما مضى لديك، فما هو العلم المقصود بالفرضية والوجوب، والذي جعل الإسلام السعي في طلبه فرضًا على كل مسلم ومسلمة؟
 
تبيَّن لك فيما سلف معنى العلم وأقسامه، وبيان فضله والثناء على أهله، ثم ظهر لك حكمه وفرضية طلبه ووجوب تحصيله، وأقمنا لك الدليل على ذلك، فما هو - أخي الكريم - العلم الواجب على المسلم طلبُه، والمفروض عليه تحصيله وفهمه؟
 
"أجمع العلماءُ على أن من العلم ما هو فرض متعيِّن على كل امرئٍ في خاصة نفسه، ومنه ما هو فرض على الكفاية، إذا قام به قائم سقط فرضه عن أهل ذلك الموضع، والذي يلزم الجميع فرضه من ذلك: ما لا يسع الإنسانَ جهلُه من جملة الفرائضِ المفترضة عليه، نحو: الشهادة باللسان، والإقرار بالقلب بأن الله وحده لا شريك له، ولا شبه له ولا مثل، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، خالق كل شيءٍ، وإليه مرجع كل شيء، المحيي المميت، الحي الذي لا يموت، والذي عليه جماعة أهلِ السنَّة أنه لم يزل بصفاته وأسمائه، ليس لأوليته ابتداء، ولا لآخريَّتِه انقضاء، وهو على العرشِ استوى، والشهادة بأنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وخاتم أنبيائه: حقٌّ، وأنَّ البعث بعد الموتِ للمجازاة بالأعمالِ، والخلود في الآخرة لأهلِ السعادة بالإيمانِ والطاعة في الجنة، ولأهلِ الشقاوةِ بالكفرِ والجحودِ في السعير: حق، وأنَّ القرآنَ كلام الله، وما فيه حق من عند الله؛ يجب الإيمان بجميعه، واستعمال مُحْكَمِهِ، وأنَّ الصلواتِ الخمس فرض، ويلزمه من علمها علم ما لا تتمُّ إلا به؛ من طهارتها وسائرِ أحكامها، وأنَّ صومَ رمضان فرض، ويلزمه علم ما يفسد صومَه، وما لا يتم إلا به، وإن كان ذا مالٍ وقدرةٍ على الحجِّ، لزمه فرضًا أن يعرف ما تجب فيه الزكاةُ، ومتى تَجِبُ، وفي كم تجبُ، ويلزمه أن يعلم بأنَّ الحجَّ عليه فرض مرة واحدة في دهره إن استطاع إليه سبيلاً، إلى أشياءَ يلزمه معرفة جملها ولا يُعذر بجهلها، نحو: تحريم الزنا والربا، وتحريم الخمرِ والخنزيرِ وأكلِ الميتةِ والأنجاسِ كلِّها، والغَصْبِ والرِّشوةِ على الحكمِ، والشهادة بالزور، وأكل أموالِ الناسِ بالباطل، وبغير طِيبٍ من أنفسِهم، إلا إذا كان شيئًا لا يُتَشَاحُّ فيه ولا يُرْغبُ في مثله، وتحريم الظلم كله، وتحريم نكاح الأمهات والأخوات ومَن ذُكر معهنَّ، وتحريم قتلِ النفسِ المؤمنة بغير حق، وما كان مثلَ هذا كلِّه مما قد نطق الكتابُ به، وأجمعت الأمةُ عليه.
 
ثم سائر العلمِ وطلبه والتفقه فيه وتعليم الناسِ إياه، وفتواهم به في مصالحِ دينهم ودنياهم، فرضٌ على الكفاية، يلزم الجميع فرضه، فإذا قام به قائم سقط فرضه عن الباقين، لا خلاف بين العلماءِ في ذلك"[16].
 
فلا يحقُّ لأيِّ فرد أن يَتهاون في طلب العلم الشرعي والحرص عليه، وخاصَّةً في مثل هذه الأيام التي بَعُدَ الناس فيها عن العلماء ومَجالسهم، وانشغلوا بملذات الحياة وشهواتها، كما أن مناهج ومقررات التربية والتعليم ليست كافيةً ومُؤدية للدور المطلوب منها في ظلِّ مُستَجدات الحياة.
 
"وليس أدلَّ على ذلك من أن كثيرًا من مسائل الصلاة التي يؤدِّيها كل مسلم خمس مرات على الأقل كلَّ يوم تغيب عن أذهان خرِّيجي المدارس والجامعات، فضلاً عن غير المتعلمين، وتجد بعض أصحاب الشهادات العليا لا يعرف كيف يغتسل من الجنابة، ولا يدري أن من اعتنق غير الإسلام دينًا فهو مِن الخالدين المُخلَّدين في نار جهنم، وقُلْ مثل ذلك عن الجهل بحقوق الجيران والأقارب، وأمور البيع والشراء التي تهم كل مكلَّف.
 
لذا؛ فينبغي على الفرد المسلم أن يتجنب هذه المزلة الدحضة التي وقع فيها كثير من الناس، فيحرص على طلب العلم الشرعي، والاستزادة منه، أيًّا كان تخصُّصه، وأيًّا كان مجاله، وخاصةً في الأمور التي يحتاجها الفرد، سواء في مهنته أو في منزله، وبذا يرتبط قلب المسلم بدينه، ولا ينسى انتماءه وولاءه لهذا الدين"[17].
 
ملخَّص الواجبات الأصلية:
وملخص الواجبات المتحتِّمات المعرفة على كل مسلم ومسلمة في سهولة ويسر ثلاثة أمور: "التوحيد، والفقه، وأعمال القلوب".
 
التوحيدُ أولاً:
التوحيد أو ما نُسمِّيه بعلم العقيدة، وهو فقه الإيمان، فتُصحِّح إيمانك الذي ستلقى ربك به؛ لتعد لأسئلة المصير جوابًا حين تُسأل: مَن ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فتصحِّح إيمانك؛ إذ لا يُقبَل منك عمل إلا بعد سلامة هذا الإيمان وصحته.
 
قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، وقال جلَّ وعلا: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [النساء: 124].
 
التوحيد مِن فقه الإيمان، سماه السلف التوحيد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: ((إنك تَقدَمُ على قوم مِن أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحِّدوا الله تعالى))[18]؛ فالتوحيد أول واجب في العِلم والعمل والدعوة.
 
ويُعينك على فهم عقيدة التوحيد كتب ميسرة، بأيِّها أخذت أصبت، مثل: "عقيدة المؤمن"؛ للجزائري، "الإيمان"؛ لمحمد نعيم ياسين، وما يكون في مستواها بدلالة الثقات من أهل العلم.
 
ثانيًا: الفقه:
وعلم الفقه به تُصحِّح عملك، فيكون على المتابعة لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله أمَرَ بأَوامِرَ عامة مجمَلة، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُفسِّر هذه الأوامر، ويُفصِّلها ويُبيِّنها ويوضِّحها، فيقول صلى الله عليه وسلم: ((صلُّوا كما رأيتموني أصلي))[19]، ويشدد في الاتباع حتى يقول لمن صلى بخلاف صلاته: ((ارجع فصلِّ؛ فإنَّك لم تُصلِّ))[20]، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((لتأخذوا مَناسِكَكم))[21].
 
فالعبادة لا تصح بحال إلا كما فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7].
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "العبادة اسم جامعٌ لكلِّ ما يحبه الله ويرضاه؛ من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة"[22]؛ فالطهارة، والصلاة، والجنائز، والزكاة بأنواعها، والصيام، والاعتكاف، والحج والعمرة، والأيمان والنُّذور، والأطعمة والأشربة، والصيد والذبائح، والأضاحي والعقيقة، والبيوع، والإجارات والوكالات والحدود والمعاوضات المالية والمناكحات والمخاصمات والأمانات والتركات، كل هذه من أنواع التشريع التي لا بد من العلم بها عند مُزاوَلَتِها، أو الحاجة إليها: فرض عين، والعلم بها أيضًا من فروض الكفايات على عموم الأمة.
 
لا بد من العلم بها؛ لتقع على الوجه الذي يرضي الله بما فعله رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلا بد من الفقه وتعلمه؛ لتصحيح العبادة وضبط حياة الناس بالتشريع الإلهي، والذي لا علم عنده في هذا الجانب، إمَّا أن يبتدع أو يخطئ، فحذارِ!
 
ويأخذ بيدك إلى تَحصيل ما يجب عليك من أمور التفقه من أقرب طريق كتب ثلاثة، بأيها أخذت أصبتَ: "الوجيز في فقه السنة والكتاب العزيز"، "تمام المنة في فقه الكتاب وصحيح السنة"، و"الملخَّص الفقهي".
 
ثالثًا: أعمال القلوب:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "أعمال القلوب - التي قد تُسمى "المقامات والأحوال" - وهي من أصول الإيمان وقواعد الدين؛ مثل: محبة الله ورسوله، والتوكل على الله، وإخلاص الدين له، والشكر له والصبر على حُكمِه، والخوف منه، والرجاء له، وما يتبع ذلك.
 
فأقول: هذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق - المأمورين في الأصل - باتفاق أئمة الدين"؛ اهـ[23].
 
فهذه الأعمال القلبية من الإخلاص واليقين والتوكُّل والرضا والإنابة واجبة على جميع المكلفين، وطالما وجبت فعلاً وجبت علمًا؛ فعلمها أيضًا فرض عين على كل من احتاج إليها، والكل في حاجة إليها، وفرض الكفاية لإيجاد العلماء بها في الأمة الذين يقومون بفروض الكفاية في العلوم المختلفة.
 
فعليك أن تبذل قصارى جهدك في تعلم هذه العلوم الثلاثة بعد تعلمك لفرائض الأعيان، ومن هنا بني المنهج السلفي على أصول ثلاثة: التوحيد، والاتباع، والتزكية"[24].
 
هذا تفصيل القول في العلم الواجب على المسلم والمسلمة تَحصيله، وأنت راءٍ أنه مُهدَر مضيَّع بين عامة أهل هذا الزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله الملك العلام!
 
ما يترتَّب على العلم الواجب وعدمه:
ولا يغيبنَّ عنك أن الأثر المترتِّب على ضياعه خطير، والجرم في التفريط فيه كبير، يؤدِّي إلى التخبُّط، ويُردُّ به العمل، وقال العلامة ابن جبرين: "الواجب - أي من العلم - هو ما كان مكلفًا به كل إنسان؛ فإن كل فرد من الأمة مطالب بالعمل، مطالب بالعبادات أن يتعبَّد بها، ولا شك أن التعبد على جهل لا يُقبل؛ فلأجل ذلك فرض عليك أن تتعلم ما أنت مأمور بالعمل به، حتى لا تتخبط في الأعمال؛ فإن التخبط في العمل، والعمل على جهل، وسيلة وذريعة إلى رد العمل وعدم قبوله وعدم إجزائه".
 
ويُعينك في هذا المجال إدمان كتب ابن القيم، لا سيما كتابه الفذ مدارج السالكين، لكن لا تبتدئ به، وابتدئ بتهذيبه؛ "تهذيب مدارج السالكين" للعزي، وهُوَ هوَ الأستاذُ محمد أحمد الراشد، فإذا هضمته، فاعبره إلى المدارج، تجد فيه بُغيتَكَ وأمَلَكَ.
 
ويتجدَّد الوجوب بكل علم طرأ على المسلم فيما يحتاج إليه في حياته؛ فمثلاً "مِن فروض الأعيان في عَصرِنا على الذكور والإناث سواءً:
• تعلم أحكام النظر؛ لكثرة الاختلاط، وشيوع الفاحشة.
 
• ويجب أيضًا تعلم أحكام الاختلاط والحجاب والاستئذان ومعرفة المحارم.
 
• كذلك وجب الإلمام بمعرفة الربا وأنواعه وأحكامه.
 
• وكذلك أنواع البيوع والإجارات والوكالات؛ لأن المسلم في هذا العصر يتعامَل بكافة أنواع التعاملات يوميًّا؛ لكثرة البشر، وتنوُّع التعامل، وحاجة الناس لبعضهم البعض.
 
• وكذلك يجب من أمور الاعتقادات أشياء كثيرة تَخفى على الناس؛ مثل: حرمة التبرك بالقبور، وحرمة التوسل بالموتى، بل وأشياء من صميم العقيدة؛ مثل: تحكيم شرع الله، والولاء والبراء، وأحكام أهل الذمة، وغير ذلك مما يلزم شرعًا".
 
• والتاجر واجبٌ عليه تعلُّم أحكام البيع والشراء.
 
• وكذلك مؤذِّن أُسند إليه القيام على رعاية الأذان والإقامة، وجب عليه تعلُّم أحكامها.
 
• وكذا مَن فُرض عليه إمامة المصلين في الصلاة.
 
وهكذا كل ما يعرض من الأمور في حياة المسلم، سواء من المطلوبات أو المُجتَنَبات، فيتعلم طرق الإقبال، والعمل بالأولى، ويتعرَّف على سبُلِ تجنُّب الأخرى.
 
السبيل إلى تَحصيل العلم:
فإن قيل: قد علمنا فرضيَّة العلم الذي طلبُه علينا فرض، ونود أن نسعى لتحصيله، وأن نجدَّ في طلبه ونواله؛ فأنَّى إليه الطريق وكيف السبيل؟!
 
والجواب ما تحمله إليك - أخي الكريم - سطور هذا العنصر الأخير:
من المعلوم أن الإنسان إذا أراد مكانًا فلا بد أن يعرف الطريق الموصل إليه، وإذا كانت الطرق إليه متعددة، فالعقل أن يبحث عن أقربها إلى هدفه، وأيسرها إلى بغيته.
 
أخي الكريم، السبيل إلى تحصيل العلم يتلخَّص في الأخذ بجملة مِن الأمور، أُلخِّصها لك في نقاط:
أولاً: أن يلجأ المسلم الصادق والمسلمة المخلصة إلى الله، وهو الذي علَّم داود وفهَّم سليمان بالدعاء والتضرُّع أن يُعلِّمه وأن يُفهِّمه، ولن يعرف قدر هذا الدعاء وفضل هذه الاستعانة إلا من وجَدَ بَردها وذاق فضلها، وبالله إن فضلها لعظيم! ولقد كان النبي نفسه يلجأ إلى الله تعالى مستعينًا به سبحانه أن يعلمه وأن ينفعه بما علمه فيقول: ((اللهمَّ انفعني بما علمتني، وعلِّمني ما يَنفعني، وزدني علمًا))[25].
 
ثانيًا: بذل أقصى ما يمكن من جهد ووقت ومال لطلب العلم، والصبر على ذلك، والحرص على أخذ العلم من أهله المتحقِّقين به، وقديمًا قالوا: لقد كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى بطون الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال، ولما سُئل أحدهم: ما السبب الذي ينال به العلم؟ فقال: بالحرص عليه يتَّبع، وبالحب له يستمع، وبالفراغ له يجتمع.
 
ورحم الله الشافعي حيث قال:






أخي، لن تَنال العلم إلا بستَّة
سأُنبيكَ عن تَفصيلِها بِبَيانِ


ذكاءٍ وحرصٍ واجتهادٍ وبُلغةٍ
وصُحبةِ أستاذٍ وطولِ زَمانِ[26]







 
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: "وإذا ثبَت أنه لا بدَّ من أخذ العلم عن أهله المتحقِّقين به، فلذلك طريقان:
الأول: المُشافَهة، وهي أنفع الطريقَين وأسلمهما؛ فقد جعل الله تعالى بين المعلِّم والمتعلِّم خاصيةً، يشهدها كل مَن زاول العلم والعلماء، فكم من مسألة يَقرؤها المتعلم في كتاب، ويَحفظها ويُردِّدها على قلبه فلا يفهمها، فإذا ألقاها عليه المعلِّم فهمَها بغتةً، وحصل له العِلم بها، وهذا الفَهم يحصل إما بأمرٍ عادي من قرائن الأحوال، وإيضاح موضوع إشكال لم يَخطر للمُتعلِّم ببالٍ، وقد يَحصُل بأمرٍ غير مُعتاد، ولكن بأمر يَهبُه اللهُ للمُتعلم عند مثوله بين يدَي المعلِّم ظاهر الفقر بادي الحاجة إلى ما يُلقى إليه؛ إذ يفتح للمُتعلِّم بين أيديهم - أي العُلماء - ما لا يفتح له دونهم.
 
الطريق الثاني لأخذ العلم:
مُطالَعة كتب المصنِّفين ومُدوِّني الدواوين، وهو أيضًا نافع في بابه بشرطَين - وما زال الكلام للشاطبي -:
الأول:
أن يَحصل له - أي لطالب العلم - من فهم مقاصدِ ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطِلاحات أهله ما يتمُّ به النظر في الكتب.
 
والشرط الثاني:
أن يتحرَّى كتبَ المتقدِّمين مِن أهل العلم المراد؛ فإنَّهم أقعَدُ به مِن غيرهم من المتأخِّرين؛ فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما بلَغه المتقدِّم، فتحقُّق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقُّق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم..
وهكذا إلى الآن، ومن طالع سيرهم وأقوالهم وحِكاياتهم، أبصر العجب في هذا المعنى، وأما الخبر ففي الحديث: ((خيرُ الناسِ قرني، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يلونهم))[27]، وفي هذا إشارة إلى أنَّ كلَّ قرن مع ما بعده كذلك"؛ اهـ[28].
 
وأودُّ أن أوضِّح أنه ليس معنى ذلك أن نُعرض عن كل ما هو حديث من الكتب والمصنَّفات إعراضًا تامًّا؛ فمنها ما هو مُفيد في بابه كثيرًا؛ لما تمتاز به من تحقيق وتدقيق وتبويب وسهولة في العرض، بل ومنها ما لا يمكن بحال أن يستغني عنه الباحث وطلاب العلم، فضلاً عن الدعاة والعلماء؛ ككتب الحديث المحقَّقة، والمعاجم، والفهارس، وفتاوى المجامع الفقهية المعاصِرة، وغيرها، ولا مانع مِن استشارة العلماء في هذا الجانب.
 
ثالثًا: من أهم الأسباب والطرُق الموصلة لتحصيل العلم الشرعي تركُ الذنوب والمعاصي بتقوى الله عزَّ وجل: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 282][29].
 
وأوضَحُ في الدَّلالة قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29]، ومِن الفُرقان العلم؛ فبِهِ يُفرق بين الحق والباطل، فمن اتقى الله كان له هذا الفرقان؛ ولهذا كان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول: "إني لأحسب أنَّ الرجل ينسى العلم قد عَلِمَه بالذنب يعمله"[30]، ولما جلس الشافعي بين يدي مالك رحمهما الله وأُعجب مالك بذكاء الشافعي وحفْظِه قال له: "يا شافعي، إني أرى الله قد جعل في قلبكَ نورًا، فلا تُطفِئه بظُلمة المعصية"[31]، ويُنسَبُ إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:






شكوتُ إلى وَكيعٍ سُوءَ حِفْظي
فأرشَدَني إلى تَركِ المَعاصي


وأخبَرَني بأنَّ العلم نورٌ
ونورُ اللهِ لا يُهدَى لعاصِي[32]






 
وإن زلَّ طالب العلم، فعليه أن يحدث توبةً؛ فالكمال لله وحده، والعصمة لأنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
 
رابعًا: عدم الكبر والحَياء:
فالحَياء يَمنع من السؤال والتفقُّه في الدين، وهذا مَذموم في هذه الحالة؛ لأنَّ الحياء خيرٌ كلُّه؛ ولهذا قالت عائشةُ رضي الله عنها: "نعم النساء نساء الأنصار؛ لم يمنعهنَّ الحياءُ أن يتفقَّهن في الدين"[33]،
 
وقال مجاهد: "لا يتعلَّم العِلمَ مُستحٍ ولا مُستكبِر"[34].
 
والكِبْر داء عضال ينخر في جسم الحركة، ويعرِّض مسيرها لكثير من الأخطار، فلو لم يتكبر كل فرد مِن أفرادها يَنقصه العلم وتُعوزه المعرفة أن يذهب إلى العلماء وأن يزاحم مجالسهم، لَمَا رأينا مثل هذه الخلافات الحادة التي لا يمكن بحالٍ أن نغضَّ الطرف عنها، أو نتجاهَلها، ورحم الله الغزاليَّ الإمامَ حيث يقول: "لو سكَت مَن لا يعلم، لسقط الخلاف".
 
خامسًا: وقطب الرَّحى بين هذه الأسباب، وبوصلة الخير التي ستحدِّد المسار وتوضح الاتجاه لهذه الطرق هي "الإخلاص"، وهذا هو باب السعادة وسرُّ القبول؛ أن يكون طلبك خالصًا لله جلَّ وعلا، وفي حديث كعب بن مالك الأنصاري قال: سمعتُ رسولَ اللهِ يَقولُ: ((مَن طلب العلم ليُجاريَ به العلماء، أو ليُماريَ به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه، فهو في النار))[35]، [36].
 
فالتعلُّم إذًا "له طريقان - بحسب طاقة الناس -:
1 - فمَن كان قادرًا على تلقِّي العلم من شيوخه بالجلوس عند ركبهم، ودراسة العلوم عليهم، وجب عليه أن يتعلم الحدَّ الواجب من العلوم بهذه الطريقة.
 
2 - ومن لم يكن قادرًا على ذلك، فليتعلَّم بطريقة السؤال؛ يسأل أهل الذِّكر وأهلَ العِلم عن المسائل الضروريةِ التي يُصحِّح بها عمَلَه، ويُصحِّح بها إيمانَه.
 
قال الله تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((فإنَّما شفاءُ العيِّ السؤالُ))[37].
 
وقد سلَك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كِلا المسلكَين، كلٌّ على قَدر طاقته، وعلى قدر إمكاناتِه؛ فالمُهاجِرون والأنصارُ الذين كانوا معه في المدينة النبوية المباركة أكثرُهم تلقَّوا العلم مِن فَمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَن لم يسمعه من فمِه صلى الله عليه وسلم يسمعه عمَّن سمعه منه صلى الله عليه وسلم، وكانوا يَتناوَبون على سماع العلم منه صلى الله عليه وسلم.
 
في الصحيحين عن عبدالله بن عباس عن عمر رضي الله عنهما قال: كنتُ أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أميَّة بن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نَتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يومًا، وأنزل يومًا، فإذا نزلتُ جئتُه بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزَلَ فعَل مثل ذلك"[38].
 
وكثير من المسلمين في عهده - الذين لم يستطيعوا التعلم بهذه الطريقة - تلقَّوه بطريق السؤال، كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن كلِّ حدب وصوب يسألون عن الضروري من أمور دينهم، فيُجيبهم صلى الله عليه وسلم بأوجز وأبلغ عبارة، فيَفهمون المراد، ويرجعون إلى بلادِهم وأقوامهم، يُبادرون إلى العمل.
 
فهذا رجل من ثقيف يأتي بعد أن امتنَّ الله على قبيلتِه فدخلَت في الإسلام، لكن ذلك كان في فترة متأخِّرة، فيرغب في الخير الذي حصَّله من سبَقَه، فيَسأل النبيَّ سؤالاً جامعًا، ويُجيبه النبيُّ بإجابة بليغة وجيزة.
 
عن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: قلتُ: يا رسولَ الله، قلْ لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدَكَ، وفي رواية "غيرَك"، قال: ((قلْ آمنتُ بالله فاستقم))[39].
 
فعلى المسلم والمسلمة أن يعمَلا على الأخذ بهذه الأمور مُجتهِدين في سبيل تَحصيلِها؛ ليَحصُل لهم العلم والعمل، واضِعين نصب أعينهما قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
 
قال الفُضيل بن عياض: والذين جاهدوا في طلب العلم، لنهدينهم سبل العمل به[40]، فيؤدِّيا بذلك حقًّا طالَما أضاعاه، وبسببِه ضاعَ الإسلامُ من بين أيديهم، والله المستعان، وعليه التُّكلان.
 
وفي النهاية: تَبقى كلمة:
نعم، فلا أنسى أن أُذكِّرك ما كان مقصودك من التعلُّم حين أردته وغايتك منه لما قصدته، وذاك هو التبصُّر في العمل؛ فحذارِ أن تَترك العمل وتنساهُ، بل كلَّما تعلمتَ شيئًا اعمل به، ولا تَكتب أو تسمع علمًا إلا ويرى عليك أثر العمل به، ولو لمرَّة واحدة، واحذر التفريط في ذلك؛ فكل علم لم تعمل به حجة عليك، فليكن العمل همَّك، وانظر لأثر العلم فيك، فليُرَ عليك، وليَزِدِ العلم في عملك كل يوم جديدًا.
 
قال الشاطبيُّ رحمه الله: "العلم الذي هو العلم المعتبر شرعًا - أعني الذي مدَح الله ورسوله أهله على الإطلاق - هو الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جاريًا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيِّد لصاحبه بمُقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعًا وكرهًا"[41].
 
وقال: "قال سفيان الثوري: إنما يُتعلَّم العلم ليُتقى به الله، وإنما فُضِّل العلمُ على غيره؛ لأنه يُتَّقى الله به، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تزولُ قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس خصال..))، وذكر فيها: ((وعن علمه ماذا عمل فيه))[42].
 
وعن أبي الدرداء: "إنما أنا أخافُ أن يقال لي يوم القيامة: أعلمتَ أم جهلتَ؟ فأقول: علمتُ، فلا تَبقى آية من كتاب الله آمِرَة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها، فتسألني الآمرة: هل ائتمرتَ؟ والزاجرة: هل ازدجرتَ؟ فأعوذ بالله مِن علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع..."[43].
 
وأوضَحَ ابنُ القيم رحمه الله أن العلم النافع هو العلم الذي تطيب به الحياة، ويَنشرِحُ به الصَّدر، وهو الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ومنها - أي من أسباب شرح الصدر -: العلم؛ فإنه يَشرح الصدر ويوسِّعه، حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يُورثه الضيق والحصر والحبْس، فكلما اتَّسع عِلمُ العبدِ انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل علم، بل للعلم الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدرًا، وأوسعهم قلوبًا، وأحسنهم أخلاقًا، وأطيبهم عيشًا..."[44].
 
ومِن روائع ابن الجوزي إليك هذه الرائعة، فلتصحبك طوال طريقك تحثك وتدفعك، قال رحمه الله: لما رأيتُ رأي نفسي في العلم حسَنًا، فهي تُقدِّمه على كل شيء، وتعتقد الدليل، وتفضِّل ساعةَ التشاغُلِ به على ساعات النوافل، وتقول: أقوى دليل لي على فضله على النوافل: أنِّي رأيتُ كثيرًا ممَّن شغلتهم نوافل الصلاة والصوم عن نوافل العلم عاد ذلك عليهم بالقدح في الأصول، فرأيتُها في هذا الاتجاه على الجادة السهلة والرأي الصحيح، إلا أنِّي رأيتُها واقفة مع صورة التشاغل بالعلم، فصِحْتُ بها:
فما الذي أفادَك العلمُ؟ أين الخوفُ؟ أين القلق؟ أين الحذر؟ أوَما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبُّدهم واجتهادهم؟
أما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الكل، ثم إنه قام حتَّى تورَّمت قدماه؟
أما كان أبو بكر رضي الله عنه شجيَّ النشيج، كثير البكاء؟
أما كان في خدِّ عمر رضي الله عنه خطان من آثار الدموع؟
أما كان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن في ركعة؟
أما كان عليٌّ رضي الله عنه يبكي بالليل في محرابه حتَّى تخضلَّ لحيتُه بالدموع؟ ويقول: يا دنيا، غُرِّي غَيري!
أما كان الحسن البصري يحيا على قوَّة القلق؟
أما كان سعيد بن المسيب ملازمًا المسجد فلم تفتْه صلاةٌ في جماعةٍ أربعين سنة؟
أما صام الأسوَدُ بنُ يَزيد حتى اخضرَّ واصفرَّ؟
أما قالت بنت الربيع بن خثيم له: ما لي أرى الناس يَنامون وأنت لا تنام؟
 
فقال: إنَّ أباك يخاف عذاب البَيات؟
أما كان أبو مسلم الخولاني يعلِّق سوطًا في المسجد يؤدِّب به نفسه إذا فتَر؟
أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة وكان يقول: وا لهفاه! سبقني العابدون، وقُطع بي.
أما صام منصور بن المعتمر أربعين سنة؟
أما كان سفيان الثوري يَبكي الدم من الخوف؟
أما كان إبراهيم بن أدهم يَبولُ الدمَ مِن الخوف؟
أما تعلَمين أخبار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبُّدهم؛ أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد؟
 
فاحذري من الإخلاد إلى صورة العلم، مع ترك العمل به؛ فإنها حالة الكُسالى الزَّمْنَى.






وخذْ لكَ مِنْك عَلَى مُهْلةٍ
وَمُقبلُ عَيْشِكَ لمْ يُدبِرِ


وَخَفْ هَجْمَةً لا تُقيلُ العَثا
رَ تَطْوي الوُرود عَلَى المُصْدِر


ومثِّل لِنَفْسِكَ أي الرَّعيل
يَضمُّكَ فِي حَلْبَةِ المحشَر[45]






والسلام.


[1] سير أعلام النبلاء (4 / 583).
[2] اقتضاء العلم العمل؛ للخطيب البغدادي، بتحقيق الشيخ الألباني (ص: 14).
[3] تفسير البغوي (4 / 113).
[4] كتاب العلم؛ لابن عثيمين (ص: 9).
[5] بتصرف يسير من (مجموع الفتاوى 11 / 396، 397).
[6] رواه مسلم (816).
[7] التحرير والتنوير (13 / 416).
[8] انظر: الفتح (1 / 193).
[9] كشف الخفاء (2 / 262).
[10] رواه البيهقي في الشعب (5751)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (58).
[11] إحياء علوم الدين (1 / 7).
[12] نفسه (1 / 7).
[13] رواه ابن ماجه 224، والطبراني في الكبير 10439، والأوسط 9 - و2008، والصغير 22، والبزار 94، والبيهقي في الشُّعب 1665، وصحَّحه الألباني في صحيح ابن ماجه (183)، واستوفى الشيخ في تخريج أحاديث مشكلة الفقر الكلام عنه، تخريج أحاديث مشكلة الفقر؛ للألباني (ص: 48 - 62).
تنبيه: قال في المقاصد الحسنة: قد ألحق بعض المصنِّفين بهذا الحديث: "ومسلمة"، وليس لها ذكر في شيء من طرقه، وإن كان معناها صحيحًا؛ تمييز الطيب من الخبيث؛ لابن الديبع: (ص: 116)، كشف الخفاء: 2 / 56 - 57، نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني (ص: 35 - 37).
[14] وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع: 3914.
[15] تفسير القرطبي (8/ 293 - 294).
[16] جامع بيان العلم وفضله؛ لابن عبدالبر (ص: 5 - 7).
[17] انظر: التربية الذاتية من الكتاب والسنة؛ الدكتور هاشم علي الأهدل.
[18] متفق عليه؛ رواه البخاري 6937، ومسلم 1389.
[19] رواه البخاري 605.
[20] متفق عليه؛ أخرجه البخاري 724، ومسلم 397.
[21] رواه مسلم 1297.
[22] العبودية (ص: 4).
[23] مجموع الفتاوى (10 / 5) بتصرف يسير.
[24] منطلقات طالب العلم (ص: 78، 79)، بتصرف وزيادة، فتفطَّن.
[25] أخرجه ابن ماجه (1/ 92)، والترمذي (5/ 470).
[26] ديوان الشافعي (ص: 116).
[27] متفق عليه؛ رواه البخاري (2509)، ومسلم (2533) عن عبدالله بن مسعود.
[28] بتصرف من المُوافقات؛ لأبي إسحاق الشاطبي (1 / 96، 97).
[29] خواطر على طريق الدعوة (ص: 109)؛ لفضيلة الشيخ محمد حسان.
[30] جامع بيان العلم وفضله؛ لابن عبدالبر (1 / 196).
[31] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي؛ لابن القيم (ص: 14).
[32] ديوان الشافعي (ص: 88)، وانظر: الجواب الكافي (ص: 14).
[33] رواه البخاري 1 / 276.
[34] نفسه 1 / 276.
[35] رواه ابن ماجه (253)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1).
[36] خواطر على طريق الدعوة جراح وأفراح (ص: 111)، الشيخ محمد حسان.
[37] رواه أبو داود 316، وصححه الألباني في صحيح الجامع 4363.
[38] متفق عليه؛ رواه البخاري 89، ومسلم 1479 وغيرهما.
[39] رواه مسلم 38.
[40] تفسير البغوي (6 / 256).
[41] الموافقات (1 / 34).
[42] من حديث أبي برزة الأسلمي، وصححه الألباني في الصحيحة 649.
[43] الموافقات (1 / 29 - 30).
[44] زاد المعاد (2 / 24).
[45] صيد الخاطر (ص: 72، 73).

شارك المقال


Warning: Undefined array key "codAds" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/a920adceac475d2e17f193a32cdaa1b563fd6f5b_0.file.footer.tpl.php on line 33

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/a920adceac475d2e17f193a32cdaa1b563fd6f5b_0.file.footer.tpl.php on line 33
ساهم - قرآن ١