نداءات الرحمن لأهل الإيمان 23


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، وها نحن مع هذا النداء الثاني والعشرون، وقد علمنا بالأمس أنه في وجوب طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وطاعة أولي الأمر من المؤمنين، وفي رد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

معاشر المستمعين والمستمعات! الغافلون منا ترهبهم كلمة الطاعة، فهي تفزع الغافلين؛ لأنهم ما عرفوا ما تثمر الطاعة، فقد صرفهم العدو إلى جانب آخر، وهو أن العمل إرهاق وإتعاب وتنغيص للسعادة وتكدير لصفاء الحياة، ففهموا هذا الفهم، وأنا أقسم لكم بالله، الذي لا إله غيره، ما طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر منا إلا سلم للكمالات، ويستحيل أن تتم سعادة على غير هذا السلم، وقد جربت البشرية نظريات لا حد لها، وجربت قوانين وضعتها، وجربت أباطيل صاغتها، وغررت بالناس وحفزتهم، ووالله ما أسعدت أحداً.

فالسعادة سلمها هو طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وطاعة أولي الأمر منا معشر المؤمنين! فلا تفزع لكلمة الطاعة، فهي بمثابة تعاليم لإسعادك وإكمالك والسمو بك، ورفعك إلى الملكوت الأعلى، فهي والله لا تخرج عن هذا، وشقي وخسر وتمزق من حرم طاعة الله، وطاعة رسوله وأولي الأمر من المؤمنين، والحياة كلها شاهد. ففي قريتنا ذات الألف ساكن المطيعون لله والرسول أحسننا وأفضلنا وأكملنا وأطهرنا هو أسعدنا، بلا جدال، وأكثرنا عصياناً وتمرداً على الله والرسول أشقانا وأخبثنا وأهبطنا، وليس في هذا شك.

إذاً: هذه مقدمة حتى لا يفزع النائمون من كلمة: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59]. وهذا كالطبيب يقول لك: اشرب كذا لشفائك، أو تناول كذا لدوائك، أو اترك كذا ولا تستعمله حتى لا يضرك، أو اترك كذا حتى لا يرهقك، فهذه الأوامر لا يكرهها العقلاء؛ لأنها تحافظ على حياتك، فكيف بولي المؤمنين ومتولي الصالحين؟ فهو لا يأمرهم أو ينهاهم بما يرديهم أو يشقيهم، وحاشا لله وكلا، فهذا من المستحيل.

والآن مع النداء، نتغنى به مرتين أو ثلاثاً، ثم نأخذ في شرحه كما اتفقنا أمس [ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59] ]. أي: الرد للقضية التي اختلفنا فيها سواء مالية أو سياسية، أو شرائع وتقنين، فرد هذه القضية إلى الله والرسول والله لخير لنا، وأحسن عاقبة منها. فلو اختلف المسلمون في قضية من قضايا الحياة، هذا يجذب وهذا يجذب، فنردها إلى الله والرسول، أي: إلى كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم خير حالاً ومآلاً، ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59]. والتأويل ما يؤول إليه الأمر، حتى وإن تراءى لنا أننا ما استفدنا من هذه القضية وأننا أخذنا جانباً غير ملائم إلا أن العاقبة خير، ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].

وأزيح الستار عن عورة شائنة من عوراتنا، وهي أنه إذا اختلف إقليم مع إقليم في بلاد المسلمين، أو زعيم مع زعيم فينقلون القضية إلى الأمم المتحدة، لا إلى الله والرسول، والله تعالى يقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ [النساء:59]. و(شيء) مطلق. فيا أيها المؤمنون! إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر فردوه إلى قال الله وقال رسوله، والمسلمون لما هبطوا ردوا عوراتهم إلى الأمم المتحدة، والجامعة العربية يمكن أن ينظروا في الكتاب والسنة، وأما جامعات اليهود فلا، فلا يجوز إذا اختلف المسلمون في قضية أن ينقلوها إلى الأمم المتحدة، وإنما إلى الله جل جلاله وعظم سلطانه، وإلى الرسول أستاذ الحكمة ومعلمها على الإطلاق. والله حكيم، فقد قال: إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]. وإذا كنتم لا تؤمنون فلا تردوها إلى الله والرسول، فلا يردها إلى الله والرسول إلا مؤمن بالله ولقائه.

[ الشرح: اذكر أيها القارئ! ] الذي يقرأ كتاب نداءات الرحمن لأهل الإيمان، فهو كتاب قيم حوى تسعين نداءً من نداءات الله جل جلاله إلى أوليائه من عباده، فعلى كل مؤمن أن يسمع هذه النداءات، وأن يتهيأ للعمل بما يدعوه الله تعالى إليه، فإن كان أمراً نهض به في حدود طاقته، وإن كان نهياً تخلى عنه واجتنبه وتجنبه، وإن كان علماً علمه، وإن كان بشرى سر بها وفرح، وإن كان إنذاراً وتخويفاً حذر وخاف ليسلم وينجو، وإما أن يناديك سيدك يا عبدي! تسعين مرة وأنت لا تسمع فالعياذ بالله، فلا نطرد من رحمته، فهو ينادينا لإكمالنا وإسعادنا، ولتعليمنا وتربيتنا، ولرفعتنا وسمونا، ونحن لا نقرأ له نداء ولا نسمع، فالآن إذا طبع هذا الكتاب ووزع ينبغي أن يوجد في بيت كل مؤمن، ولا تقولوا إن هذا ليس ممكناً، فقد وجدنا في بيوتكم التلفاز والفيديوهات وهي بألف ريال أو بخمسة ألاف، وأما هذا فمجاناً، فضعه عند رأسك، فهل أنت لاصق بالأرض ولا تريد السماء أبداً؟ ولو أراد الله بنا أن نرقى إلى الملكوت الأعلى لوجد هذا الكتاب حتى في الفنادق الإسلامية، بل ويترجم إلى لغات العالم، ويوضع في كل الفنادق على الأسرة، فإذا جاء الزبون - كما تقولون- أو النزيل يقرأ نداء ويفكر كلام من هذا ويسأل؟ فنقول له: هذا كلام الرب، فيسأل: من هو الرب؟ فنقول له: خالق الكون كله، ومبدع هذه الكائنات، وهو رب إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد والأنبياء والمرسلين. وهذا الرجل ما كان يسمع بهذا أبداً، ففتحنا أذنيه فيقرأ النداء، ويسمع ماذا يقول، فقلنا: اذكر أيها القارئ! أي: لهذا النداء، أو المستمع! إذا كان أحدنا يقرأ والثاني ما يحسن القراءة، والذي ما يحسن يقول لمن يحسن: من فضلك أسمعني نداء من نداءات ربي، فأنا عبده ووليه، فمن فضلك اقرأ عليّ نداء من نداءاته، وهذه ليست صعبة، ولا يتكبر ويقول: أنا دكتور في الفلسفة فلن أقول هذا الكلام، أو أنا تاجر ملياري فلن أطلب من أحد أن يسمعني هذا النداء، فهذا أبو القاسم محمد صلى الله عليه وسلم - الذي لم تطلع الشمس على مثله قط، الذي كان يتردد جبريل على بيته صباح مساء، والذي أسري به من مكة إلى بيت المقدس، ومنها إلى سدرة المنتهى وإلى جنة المأوى، ومنها إلى فوقها، إلى مكان تأخر عنه جبريل وقال: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ [الصافات:164]. وها هو ذا في حجرته الطاهرة، وكأنه مات الآن، فهو محفوظ البنية والجسد، وهو في دار السلام- يقول لـعبد الله بن مسعود : ( يا ابن أم عبد ! اقرأ عليّ شيئاً من القرآن، فيعجب عبد الله ويقول: أعليك أنزل وعليك أقرأ؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري ). ونحن يتأفف أحدنا أن يسمع، فإذا لم تكن تحسن القراءة فاسمع، وقل: يا بني! اقرأ عليّ، أو يا أخي! أسمعني نداء من نداءات ربي، فأنا ما أحسن القراءة، وهذه ليست دعاية، فوالله لو نجحت هذه الطريقة لما بقي بيننا جاهل ولا جاهلة، ولكن العوائق كبيرة وطويلة وعريضة، وأيما مؤمن في بيته يقبل على هذه النداءات فوالله ليتخرجن فيها من علماء الإسلام الصادقين؛ لأنه عرف مراد الله في هذه الحياة بكاملها، وعرف ماذا يريد منه.

سر نداء الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين

قال: [اذكر أيها القارئ أنك أهل لنداء الله تعالى لك، ولسائر المؤمنين والمؤمنات ] وهذا حق، فالمؤمن بإيمانه قد أصبح أهلاً لأن يسمع نداء الله، ولأن يناديه ربه، ولولا الإيمان لما نادانا؛ إذ أننا بإيماننا أصبحنا أهلاً لأن نسمع ونعي، ونفقه ونفهم وننهض أيضاً، وننتهي عندما ينهانا، ومن فقد الإيمان بالله ولقائه مات وهو ميت [ وأن سبب هذا التأهيل ] لأن ينادينا رب العالمين [ هو الإيمان بالله رباً وإلهاً، وبمحمد نبيناً ورسولاً، وبالإسلام شرعاً وديناً، مع ضرورة الإيمان بباقي الأركان، وهي: الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره] فهذا كله داخل في كلمة مؤمن، ولو قال: أنا أؤمن بهذه الأصول إلا أصلاً واحد لا أومن به، كأن يقول: أنا لا أومن بالقضاء والقدر فقد كفر، وخرج من ملة الإسلام، ولو قال: أنا أؤمن بكل هذا إلا الملائكة لا أؤمن بهم؛ لأني ما رأيتهم لم يبق مؤمناً، بل قد ارتد وكفر. هذه هي أصول الإيمان. لكن إذا قلنا: فلان آمن بالله ولقائه فقد دخل فيه كل ما سمعتموه.

[ وهل تدري ] أيها المؤمن أو أيتها المؤمنة! [ لم ناد الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين في هذا النداء؟ إنه ناداهم ليأمرهم بأمرين عظيمين ] والله العظيم [ أنيطت ] أي: علقت [ بهما سعادة الدنيا والآخرة معاً ] وقد قدمت لكم هذا، فليس هناك من يسعد بدون الإيمان ودون العمل، ولا يمكن هذا، وإن تبدل الناس وظنناه سعيداً لأنه كالبهائم تأكل وتشرب وتنكح فسيتمزق عما قريب ويتلاشى، وهذه ليست سعادة.

[ فالأول ] أي: الأمر الأول من الأمرين العظيمين هو: [ طاعة الله وطاعة رسوله ] صلى الله عليه وسلم [ وطاعة أولي الأمر من المؤمنين، وهم الأمراء والعلماء ] وإن شئتم أضيفوا الوالدين، والذي لا يطيع العلماء ما أطاع الله ورسوله، ولا أطاع أولي الأمر، وقد تمزق وضاع وتلاشى، ولو أننا أطعنا العلماء فقد صدرت فتيا من سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله وأخذ من عمري فزاد في عمره قولوا: آمين- بأن هذا الصحن الهوائي لا يليق بمؤمن أن يدخله في بيته؛ لما ينتجه من فساد طويل عريض، يقضي على الخلق وعلى الكرامة والحياء والمروءة، ويحول المتفرجين والمتفرجات بطول الزمان إلى بهائم، ينزو بعضهم على بعض، ووزعت الفتيا، وسمعها القريب والبعيد، لكننا لم نستمع لها، وأدخلنا الصحن إلى بيوتنا، واخرج انظر وستراها على السطوح، حتى نعرف واقعنا، فقد أصبحنا أمة هابطة.

وصدرت أمس فتيا من عالم رباني كبير - وهؤلاء العلماء أفذاذ لا يوجد لهم نظير في دنياكم اليوم- بأنه لا ينبغي التفرج على الألعاب من الكرة إلى الملاكمة، ولا يحل لمؤمن أبداً أن يذهب إلى ملعب أو إلى ملاكمة ويبقى الساعة والساعتين يتفرج، أو يمشي إلى أوروبا إلى بلد فيه الملاكمة أو فيه الكرة وينفق ماله ووقته ليتفرج، فهذا ليس إنساناً حياً، بل ميت. فالمؤمن لا يقول الكلمة حتى يستأذن سيده، ولا ينفق الفلس حتى يستأذن مالكه، ولا يجلس جلسة ولا ينظر نظرة حتى يعرف أسيده أذن له أم لم يأذن، ولا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يستيقظ إلا تحت تلك التعاليم الإلهية، وكونك تترك الصلاة وتجلس تتفرج على اللعب لست محمدياً، بل ممسوخاً. وهذه الفتيا وصلتنا أمس، وإن شاء الله تأخذون بها.

ونستغرب أن يسافر إنسان من المدينة ليشاهد مباراة في أمريكا أو في إيطاليا أو في مصر أو في المغرب، ويشاهد حركة الأرجل والأيدي كالبهائم! وهل بهذا ترتفع الأمة إلى القمة.

وا حر قلباه ممن قلبه شبم

فقد هبطنا يا عباد الله! ويعجز أحدهم أن يجلس جلسة كهذه، بل يتململ ويتضجر ولا يقوى، ويجلس جلسات الباطل يضحك، ويقول: إنه مؤمن.

[ والثاني ] من الأمرين: [ ورد ] وإرجاع [ المختلف فيه والمتنازع عليه إلى كتاب الله وهو القرآن الكريم، وإلى سنة رسوله الأمين محمد صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً.

قال: [وإليك بيان وجه السعادة فيما أمر الله بطاعته، والرد إليه:]

طاعة الله عز وجل بفعل الأمر وترك النهي

قال: [ أولاً: طاعة الله عز وجل، وطاعته تعالى تتحقق ] للعبد [ بفعل الأمر وترك النهي ] فإن قال: أقم الصلاة فأقمها، وإذا قال: لا تشرب الخمر فلا تشربها، فطاعة الله ليست إلا أمراً ونهياً، أمر بما يزيد في كمالك وسعادتك، ونهي عما يشقيك ويرديك إن أنت فعلته [ ولا فرق بين ما كان من الأمر للوجوب، وما كان للندب والإرشاد، وكذلك النهي، لا فرق بين ما كان منه للتحريم، وما كان للكراهة؛ وذلك أن الله تعالى لا يأمر ولا ينهى إلا من أجل إكمال عباده وإسعادهم وإبعاد الشقاوة عنهم والخسران في الحياتين؛ لأنه ربهم ووليهم، وليس في حاجة إليهم.

ومن هنا: فإنه لا يأمرهم إلا بما يحقق سعادتهم وكمالهم، ولا ينهاهم إلا عما يسبب شقاءهم وخسرانهم في الدارين ] ومن شك في هذا يراجع إسلامه. فهو الذي حرم الربا، فإذا تعاطيناه أصابتنا الشقاوة، وإن خفيت عنك اليوم فسوف تنكشف أمامك غداً، فلو كان الربا يرفع أو يسمن أو يغلي أو يعز فوالله ما حرمه الله، ولكن علم أنه يمزق الأوصال، ويشتت القلوب، ويمنع التآلف والتحاب والتوادد، ويثير الغرائز والشهوات والأباطيل. والمسلمون يسمعون هذا في الشرق والغرب، ولكنهم لم يستجيبوا؛ لأنهم أموات لم يحيوا بعد، وإيمانهم تقليدي فقط، فيسمون أنفسهم مسلمين ومؤمنين، ولكن لا نور في قلوبهم يفيض على سمعهم وأبصارهم وألسنتهم، ويحرك ويدفع كل أجسادهم إلى طاعة ربهم.

وحكاية قديمة عن صحفية -والمرأة المسلمة لا يصح أن تكون صحفية؛ لأن الصحفية تجلس مع البعيد والقريب، وتخلو بمن هب ودب لصالح العمل- لقيها صحفي في جدة، فقال لها: ما دينك؟ وظنها بريطانية، فقالت له بلهجتها: أظنه الإسلام! فانظر إلى هبوطنا، وانتظر ما سيحيق بنا وينزل بساحتنا، فإن الله بالمرصاد، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]. وانتقامه مخيف، فهو الذي سلط النصارى على جنة العالم الإسلامي الأندلس فحولها إلى صلبان، ومسحوا تلك الأمم الإسلامية في شرق أوروبا وحولها إلى بهائم، وهو الذي سلط علينا بريطانيا وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا فسادونا وحكمونا من أندونيسيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً، فلا نتكبر الآن على الله، ولا تصيبنا عدم المبالاة بتحريمه أو تحليله، فما نحن فيه والله ما هو إلا إمهال، فإما أن يتوب العالم الإسلامي، وإما أن تنزل الكوارث والمحن، إن ربك لبالمرصاد [الفجر:14].

[ ومن هنا أيها القارئ الكريم! ] أو المستمع المستفيد! [ وجب أن تعلم أن معرفة أوامر الله تعالى ومعرفة نواهيه من أوجب الواجبات وألزمها ] ومعنى هذا: ألا يبق جاهل في العالم الإسلامي، فهذا لا يجوز [ وأن من لم يعرف ذلك لا يمكنه أن يطيع الله بحال من الأحوال ] لأنك لا تستطيع أن تطيع الله في أوامر ما عرفتها، ولا أن تطيعه في ترك منهيات وأنت لا تعرفها؛ ولهذا كان طلب العلم فريضة، فيجب أن نطلب العلم، ولا نحتاج في الحقيقة إلى جمعيات وجامعات وكليات وطلوع وهبوط، وإنما فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [النحل:43]. فتعال أعلمك كيف تغتسل، فأغتسل أمامك وعلي إزار، فإذا عرفت ذلك فبلغ امرأتك وبناتك وأولادك، عرف، وإذا أرتد أن تحج فتعال أعلمك كيف تحج، وسأريك كيف تحج، ثم امش به وبلغه جماعتك وأهلك، وبهذا انتشر العلم الإلهي في أصحاب رسول الله وأحفادهم وأبنائهم، يوم أن لم يكن هناك جامعة ولا كلية ولا مدرسة؛ لأنهم صادقون، وأرادوا أن يتعلموا، فإذا سأل وعلم نقل ذلك العلم في صدق وكمال، وفي أقصر مدة وأخصرها تتفوق الأمة بالعلم. والله عز وجل هو القائل: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [النحل:43]. فيجب على من لا يعلم أن يسأل حتى يعلم، وإلا فهو عاص فاسق متمرد؛ لأنه لا يستطيع أن يطيع الله ورسوله وهو لا يعرف أمراً ولا نهياً، أو يعرف مجموعة من الأوامر ولا يعرف آلافاً منها، أو يعرف منهيات محدودة ولا يعرف آلاف المنهيات، فلا يمكنه تحقيق طاعته لله وللرسول [ فهو إذاً خاسر لا محالة في الدنيا والآخرة، فلنذكر هذا، ولنعلم المؤمنين به ] فلا يجوز للمؤمن أن يعيش عاماً أو عامين أو عشرة وهو لا يعرف ما أحل الله ولا ما حرم، ولا ما يحب ولا ما يكره، ولا تقولوا: أوقعتنا في حرج يا شيخ! فنحن لا نستطيع أن نتعلم، فوالله لتعلمنا لا شيء أيسر منه أبداً، فأهل القرية يجتمعون في مسجدهم بنسائهم وأطفالهم، والنساء وراء الستارة، ومكبر الصوت بينهن، والأطفال دونهن، والفحول أمام الكل، والمربي يعلمهم قال الله وقال رسوله على كرسيه بينهم، وليلة آية وليلة حديث وليلة حكمة وليلة معرفة، وهكذا يعلمون ويعملون وينمون ويرتفعون، فلا يمر عام إلا وكلهم أولياء الله. فلنجرب هذا ونفعله، ولا نقل: لا نستطيع، ولكنهم وضعوا لنا العراقيل والسلاسل والأغلال، وكبلونا وقيدونا، حتى لم نعد نستطيع، فأهل الحي في المدينة، والمدن الكبرى فيها أحياء إلى عشرين حي، فأهل كل حي يوسعون جامعهم؛ حتى يتسع لكل أفراد الحي، ويأتون من بعد المغرب إلى العشاء فقط، وطول النهار يجلسون في المصنع والمتجر والمزرعة، ومع غروب الشمس يأتون إلى بيت الرب يستمطرون رحماته، ويطلبون إفضاله وإنعامه، ويطلبون حمايته وحراسته من شياطين الإنس والجن، ويتعلمون الهدى، وإذا بهم كأنهم أسرة واحدة! وليس من أسرنا هذه الهابطة، بل كأنها أسرة من أسر الأولين، فيكون أهل القرية قلب واحد، فإذا قال الواعظ: غداً كذا، فعلوا، لا يتخلف أحد، وهذا لا يكلف إلا الراحة، فنستريح بين يدي الله. وبهذا نتعلم ما يأمر الله به وينهى عنه، وما يأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم وينهى عنه.

طاعة الرسول كطاعة الله تعالى لا تتحقق إلا بامتثال أوامره وترك نواهيه

قال: [ ثانياً: طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي كطاعة الله تعالى لا تتحقق إلا بمعرفة أوامره ونواهيه صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بين ما كان للوجوب والندب، وما كان للتحريم والكراهة، وإن كانت أوامره ونواهيه صلى الله عليه وسلم مستوحاة ] ومأخوذة [ من الكتاب الكريم ] فكل أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها من القرآن [ إلا أن الله تعالى أمر بطاعته طاعة استقلالية؛ إذ قال تعالى: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول [المائدة:92] ] فحتى ولو ما أمر الله بهذا الشيء والرسول أمر يجب أن يطاع، ومع هذا لو أمر الرسول بمعصية يطاع فوالله ما يطاع، واسمع آية البيعة للنساء: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة:12]. وأما في المنكر فلهن الحق أن يعصينك، وهذا لنعرف مستوى العالم الإسلامي، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لو أمر مؤمنة بغير المعروف لا حق له في الطاعة، ونحن نطيع المغنين، وهذا القرآن العظيم عجب، ولا يعصينك في معروف [الممتحنة:12]. وأما غير المعروف والمشروع فلا حق لك في الطاعة، لا أنت ولا أبوك ولا أميرك.

[ فكرر الأمر بالطاعة؛ لعلمه تعالى أن الأمة قد تعجز عن إدراك الأحكام الشرعية، والهدايات القرآنية ما لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم مبيناً لها، آمراً بها، ناهياً، وكيف وقد قال عز من قائل: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [النحل:44] ] فهذه هي مهمة أبي القاسم، ليبين للناس ما نزل إليهم مما يحمل من المعاني والشرائع [ وهو صلى الله عليه وسلم قد قال: ( من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله )] وهو كذلك، فمن أطاع رسول الله فقد أطاع الله، ومن عصى رسول الله فقد عصى الله؛ لأن الله أمر بطاعة الرسول، وهو لم يطعه، أي: أنه عصى الله عز وجل.

[ ومن هنا وجبت طاعته صلى الله عليه وسلم على كل مؤمن ومؤمنة في الأمر والنهي على حد سواء، ولا سيما ما كان منها للوجوب والتحريم، ووجب معرفة أوامره ونواهيه لأمته، وإلا فطاعته متعذرة على المؤمن الجاهل بها ] فالمؤمن الجاهل لا يعرف لا أمراً ولا نهياً، حتى يطيع الرسول.

طاعة أولي الأمر من المؤمنين

قال: [ ثالثاً: طاعة أولي الأمر من المؤمنين؛ إذ أمر تعالى بها في هذا النداء بقوله: وأولي الأمر منكم [النساء:59]. وقيد (منكم) يخرج به طاعة الكافر، إذ لا طاعة لحاكم كافر إلا في حالة الإكراه الشديد المقتضي للقتل أو أشد العذاب؛ لقوله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [النحل:106] ] وأساساً ما يحكم المسلمين الكافرون، ولكنهم حكمونا لما هبطنا، وأصبحوا فوقنا في آدابهم وأخلاقهم وعدلهم، فإذا أمر الميسيو فأطعه، وقد عاشرناهم وما أمرونا بمعصية الله، وأتحداكم أن تروني مستعمراً كان يعيش مع بريطانيا وقالوا له: يجب أن تحلق وجهك، أو يجب أن تكشف وجه امرأتك، فهذا والله ما كان، أو قالوا له: يجب أن تسرق جارك، والله ما أمروا بهذا؛ لتقوم الحجة لله علينا. ولو أمروا كما فعلوا بـسمية وعمار عندما أمروهم بالكفر بالحديد والنار، أو كما فعلته الشيوعية أيضاً التي حكمت البلاد الإسلامية فقد حملت أهلها بالحديد والنار على الكفر، وأما النصارى واليهود فلا.

[ وأولو الأمر يتناول الأمراء والعلماء والوالدين والمربين الصالحين ] فهم أصاحب الأمر، وهم الأمير والمعلم والمربي والأب [ إلا أن طاعتهم ليست مطلقة، بل مقيدة بالمعروف ] فالأب إذا قال: افعل كذا افعل، وإذا قال: لا تفعل كذا لا تفعل، ولكن في حدود المعروف؛ إذ: ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ). و( إنما الطاعة في المعروف ) [ فمن أمر منهم بالمعروف، وهو ما عرفه الشارع صالحاً نافعاً ] وأمر به وشرعه [ أو عرفه ضاراً فاسداً، فهذا الذي إذا أمر به الأمير أو العالم أو الوالد أو المربي الصالح تجب فيه الطاعة فعلاً أو تركاً ] فإذا كان مما يفعل فعل، وإذا كان مما يترك تركه، فعلاً أو تركاً [ إذ قال تعالى وهو يخاطب رسوله ] صلى الله عليه وسلم: [ وَلا يَعْصِينَكَ [الممتحنة:12] ] يا رسولنا! [ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12] ] وهؤلاء اللائي لا يعصينك هن المؤمنات، وإذا أمر الرسول مؤمنة بغير المعروف فلا طاعة له، وحاشاه أن يأمر بغير المعروف، ولكن هذا من باب: ( إياك أعني واسمعي يا جارة!) [ أي: على المؤمنات طاعتك في المعروف، وأما غير المعروف لو أمرتهن به فلا طاعة لك فيه. وهذا من باب الهداية القرآنية، وإلا حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر بغير المعروف، ومن هنا فطاعة أولي الأمر لا تجب إلا فيما كان معروفاً في الشرع، مأموراً به أو منهياً عنه ] أو مباحاً [ وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرر هذا الحكم فيقول: ( من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني ) ] والفوضى الحادثة الآن في العالم الإسلامي سببها أنهم ما أطاعوا حكامهم والله العظيم! لأنه ما بلغني أبداً ما عدا فترة مضت في عدن لما بدأت الشيوعية جاءوا وعلموهم كيف يكفرون، وما عدا ذلك فليس في العالم الإسلامي من أمر بترك الصلاة ولا بالزنا، ولا بشرب الخمر، ولا ببيعها، ولا بإتيان الربا، ولا ضرب المؤمن ولا سبه أبداً، وأتحدى من يقول: الحاكم الفلاني قال: لا تصلوا، أو قال: امسحوا كذا، ومع هذا عصيناهم؛ حتى نجد مجالاً للهو والباطل.

[ وفي الوالدين يقول تعالى: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [لقمان:15] ] أي: اصحب والديك بالمعروف، فلو قال: اجلس اجلس، ولو قال: قم قم، ولو قال: لا تصل فلا تطعه، ولو قال: اربط الدابة أو احلب العنزة افعل، فهذا مأمور به شرعاً، وأما إذا قال: لا تصل فلا تطعه، وصاحبهما في الدنيا بالمعروف لا بالمنكر.

وجوب رد المختلف فيه إلى الكتاب والسنة

قال: [ كان ذلك الأمر الأول، وهو طاعة الله وطاعة رسوله وأولي الأمر، وأما الأمر الثاني فهو: رد المختلف فيه إلى الكتاب والسنة، وهو رد واجب، من رفضه ] أي: لم يقبله [ على علم فقد فسق وظلم وتعرض للكفر. والعياذ بالله ] تعالى. فلا تقل: لا إذا دعيت إلى كتاب الله وإلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم [ إذ قال تعالى: فإن تنازعتم في شيء [النساء:59] ] فالتنازع أن يقول هذا: حقي وهذا يقول: بل حقي، أو أنا أقول: هذا بيتي، وهذا يقول: هذا بيتي، أو هذه سيارتي، هذا التنازع، فإن تنازعتم في شيء [ أيها المؤمنون! حكاماً أو محكومين، علماء أو جاهلين، أي: في حليته أو ] في [ حرمته، في وجوبه أو عدم وجوبه، في جوازه وإباحته أو عدم ذلك، فردوه إلى القرآن والسنة النبوية الصحيحة ] وأما سنة ضعيفة أو موضوعة فلا التفات إليها، بل السنة الثابتة الصحيحة.

[ والذي يقوم بالتحقيق بيننا والمعرفة هم العلماء، علماء الشرع الفقهاء، والعارفون بالكتاب والسنة، لا الجهال والذين لا علم لهم، حتى ولو كانوا الحاكمين ] أو القضاة. فنرد إلى الكتاب والسنة، والذين نرفع إليهم ذلك هم الفقهاء العلماء، العارفون بالكتاب والسنة، وأما شخص لا يعلم فلا ننقل إليه قضية كهذه، ولو كان الحاكم جاهلاً فنرجع للقاضي [ وقوله تعالى: إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر [النساء:59] فيه إشارة أفصح من عبارة، وهي أن الذين يرفضون الرد إلى الكتاب والسنة فيما اختلف في حكمه ما هم بالمؤمنين بالله واليوم الآخر، ومن لم يؤمن بالله واليوم الآخر فهو كافر.

وأخيراً وإتماماً للنصح والتوجيه يقول تعالى: ذلك خير وأحسن تأويلًا [النساء:59] ] أي: الطاعة لله والرسول وأولي الأمر ورد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة خير لكم أيها المؤمنون! [ أي: أحسن عاقبة ] ولو بعد خمسين سنة [ فهو خير حالاً ومآلاً. والحمد لله والشكر له على هدايته وتعليمه وإنعامه، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ]. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.


استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة اسٌتمع
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 72 4031 استماع
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 49 3686 استماع
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 68 3673 استماع
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 47 3651 استماع
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 41 3503 استماع
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 91 3477 استماع
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 51 3472 استماع
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 50 3465 استماع
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 60 3422 استماع
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 75 3373 استماع