كيف نجدد الإيمان في قلوبنا؟


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فقد تكلمنا أيها الإخوة! في الدرس الماضي عن مظاهر أو أعراض ضعف الإيمان وأسبابها، ووعدنا أن نتكلم في هذا الدرس عن علاج ضعف الإيمان، ونحن إن شاء الله نشرع في الكلام عن هذا الموضوع في هذا الدرس بعنوان" كيف نجدد الإيمان في قلوبنا؟"

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب) أي: إن الإيمان يبلى في القلب مثلما يبلى الثوب إذا اهترى وأصبح قديماً.

أيها الإخوة: قد تعتري هذا القلب في بعض الأحيان سحابات من سحب المعصية، ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في هذه الحالة: (ما من القلوب قلبٌ إلا وله سحابةٌ كسحابة القمر، بينما القمر يضيء إذ علته سحابةٌ، فأظلم إذ تجلت) حديث حسن في صحيح الجامع.

أحياناً تأتي سحابة فتغطي ضوء القمر برهة من الزمن، ثم تزول السحابة وتنقشع، فيرجع ضوء القمر مرة أخرى؛ ليضيء في السماء، وكذلك قلب المؤمن تعتريه أحياناً سحبٌ مظلمةٌ من المعصية فتحجب نوره، فيبقى الإنسان في ظلمة، فإذا جدد الإيمان، واستعان بالله عز وجل، انقشعت تلك السحب، وعاد نور قلبه يُضيء كما كان.

والإنسان إيمانه في ارتفاع وهبوط، كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة ، فالإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والواحد منا الآن في أحواله العادية إذا خرج يمشي في السوق ويُبصر زينة الدنيا، ثم دخل إلى المقابر، فتفكر ورق قلبه، فإنه يُحس بين الحالتين فرقاً بيناً، فإن القلب يتغير بسرعة.

والكلام في قضية ضعف الإيمان وفي علاج ضعف الإيمان وهو من شقين:

الشق الأول: الكلام في علاج ضعف الإيمان من جهة الفرد المسلم.

الشق الثاني: الكلام في علاج ضعف الإيمان من جهة الوسط الذي يعيش فيه الفرد المسلم، فهناك علاجات فردية وعلاجات جماعية، هناك علاجات تتجه إلى الفرد نفسه، وهناك علاجات تتجه إلى الوسط والمجتمع الذي يعيش فيه الفرد حتى يعالج ضعف الإيمان.

ونحن سنبدأ الكلام إن شاء الله عن القضايا التي تهم الفرد في نفسه، ثم نتبع ذلك بالكلام عن بعض القضايا المنهجية في كيفية علاج ضعف الإيمان من جهة الوسط الذي يعيش فيه المسلم.

من أوائل الأشياء التي تتبادر إلى أذهاننا ونحن نتكلم في علاج ضعف الإيمان: قضية تدبر القرآن العظيم الذي أنزله الله عز وجل تبياناً لكل شيء، ونوراً يهدي به الله سبحانه وتعالى من شاء من عباده، وكان صلى الله عليه وسلم يتدبر كتاب الله ويردده وهو قائمٌ بالليل، حتى إنه مرة من المرات قام يردد آيةً واحدةً من كتاب الله وهو يُصلي حتى أصبح، لم يتعد هذه الآية الواحدة، وهي قول الله عز وجل عن عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]

تدبر القرآن

يقول عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه: [لو طهُرت قلوبنا، لما شبعت من كلام الله] لو أن القلوب صافية لما شبعت ولطلبت الزيادة باستمرار من كلام الله.

وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تدبر القرآن مبلغاً عظيماً، روى ابن حبان في صحيحه وغيره بإسناد جيد، قال عطاء : دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها، فقال عبيد بن عمير : حدثينا بأعجب شيءٍ رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت، وقالت: (قام ليلة من الليالي -أي: يصلي- فقال: يا عائشة ذريني أتعبد لربي قالت: قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يُصلي، فلم يزل يبكي حتى بَلَّ حِجره، ثم بكى، فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت عليَّ الليلة آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.. الآيات [آل عمران:190-191]).

يقول ابن القيم رحمه الله في علاج ضعف الإيمان في القلب: إذا أردت أن تجود إيمانك فملاك ذلك أمران:

أحدهما: أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة، ثم تُقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها وتدبرها، وفهم ما يُراد منه وما نزل لأجله، وأخذ نصيبك من كل آية من آياته، وتنزلها على داء قلبك، فإذا نزلت هذه الآية -العلاج- على داء القلب برئ القلب بإذن الله.

وهناك أيها الإخوة! صور معينة يكون فيها استشعار التأثر عظيماً، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (شيبتني هودٌ وأخواتها قبل المشيب)، وفي رواية: (وأخواتها من المفصَّل) وفي رواية: (هودٌ والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت) هذه السور الخمس: "هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت" شيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المشيب، بما احتوته من حقائق الإيمان والتكاليف العظيمة على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تدبر أمثلة القرآن.

وكان أحد السلف تدبر مرة في مَثلٍ من أمثلة القرآن فبكى، فسئل: ما يبكيك؟ قال: إن الله عز وجل يقول: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ [العنكبوت:43] أي: هذه الأمثال نضربها في القرآن للناس: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] وأنا ما عقلت المثل، فلست بعالم، فأبكي على ضياع العلم مني.

وحال السلف في التدبر كثير جداً ومبثوث في الكتب. منها: ذلك الرجل رحمه الله الذي قرأ قول الله عز وجل: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:109] فسجد سجدة التلاوة، ثم قال معاتباً نفسه: هذا السجود، فأين البكاء؟ لأن الآية فيها ماذا؟ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:109] قال لنفسه: هذا السجود، فأين البكاء؟! يعاتب قسوة قلبه، والكلام في موضوع التدبر طويل، ولكن تدبر القرآن من السبل الأساسية لتقوية ضعف الإيمان.

استشعار عظمة الله عز وجل

ثم أيها الإخوة: من السبل كذلك لتقوية ضعف الإيمان: استشعار عظمة الله عز وجل، ومعرفة أسمائه وصفاته، والتدبر فيها، وعقل معانيها، واستشعارها، وتطبيقها في الواقع.

يقول ابن القيم رحمه الله: أن يشهد قلبك الرب تعالى مستوياً على عرشه، متكلماً بأمره ونهيه، بصيراً بحركات العالم علويه وسفليه، وأشخاصه وذواته، سميعاً لأصواتهم، رقيباً على ضمائرهم وأسرارهم، وأمر الممالك تحت تدبيره -كل الممالك أقوى دولة وأضعف دولة- نازلٌ من عنده وصاعدٌ إليه، وأملاكه بين يديه، الملائكة تنفذ أوامره في أقطار الممالك -لا أحد يصده عن تنفيذ أمر الله- موصوفاً بصفات الكمال، منعوتاً بنعوت الجلال، منزهاً عن العيوب والنقائص والمثال، هو كما وصف نفسه في كتابه وفوق ما يصفه به خلقه، حيٌ لا يموت، قيومٌ لا ينام، عليمٌ لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، بصيرٌ يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، سميعٌ يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، تمت كلماته صدقاً وعدلاً.

يسمع ضجيج الأصوات: الآن العباد يضجون بالأصوات في أنحاء الأرض، والله عز وجل يعلم كل واحدٍ منهم ماذا يقول، ولا تشتبك عليه الأمور، ولا تلتبس عليه اختلاف الأصوات، ولا اختلاف اللغات، ولا اختلاف الحاجات التي يدعو بها العباد، هذا يقول: اللهم أعطني ولداً، وهذا يقول: اللهم اشف مريضي، وهذا يقول: اللهم ارزقني وظيفة ومالاً، وهذا يقول: اللهم ارزقني الجنة، وهذا يقول: اللهم ارحم ميتي، فلا تختلط عليه الأشياء، ولا يعجزه علم ما يقول هذا من هذا.

ونحن البشر العجزة لو تكلم ثلاثة مع واحد في نفس الوقت، فقد التمييز، والله عز وجل ملايين الأصوات تصعد إليه، فيسمع كلام كل واحد.

فإذاً أيها الإخوة: إدراك معاني الأسماء والصفات، وماذا يعني كل واحد؟ وكيف نطبق هذه الأسماء ونستفيد منها في الواقع، ماذا نستفيد من اسم الرزاق؟ ماذا نستفيد من اسم الغفور؟ من اسم الرحيم؟ (إن لله تسعةً وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة) أحصاها بأن يعمل بها في الواقع، وأن يحفظها كما قيل، وأن يعلم معناها، يعلم ويحفظ ويطبق.

التفكر في عظمة الرب وقدرته

من استشعار عظمة الله أيها الإخوة! هناك مواقف تمر بنا في القرآن إذا فكر فيها الإنسان المسلم، يشعر بأشياء يرتجف لها قلبه، وهو يفكر ويستشعر عظمة الله عز وجل، هذا الاستشعار لعظمة الله أمرٌ مهمٌ.

عندما تتأمل يا أخي قول الله عز وجل: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ [الزمر:67].. وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [يونس:61].. يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] عندما تتأمل في قصة موسى عليه السلام لما طلب أن يرى ربه: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً [الأعراف:143].

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قرأ هذه الآية وقال هكذا (ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر) ثم قال عليه السلام: (فساخ الجبل) أي: تجلى من الله هذا المقدار فساخ الجبل: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) هذا الاستشعار لعظمة الله يقوي الإيمان، قال ابن القيم رحمه الله: إسناده صحيح على شرط مسلم .

ملء الوقت بطاعة الله

ومن الأسباب التي تقوي الإيمان: ملء الوقت بطاعة الله، وهذا أمرٌ عظيمٌ، عندما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟) وأبو بكر يقول: أنا (من عاد منكم اليوم مريضاً؟) وأبو بكر يقول: أنا (من تبع اليوم منكم جنازةً؟) وأبو بكر يقول: أنا.

ماذا تعني لكم هذه القصة؟

تعني: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان وقته مملوءاً بطاعة الله، يعمل في اليوم أعمالاً تأخذ وقتاً كبيراً، ولكنه يسردها سرداً.

وبلغ السلف رحمهم الله في ازديادهم من الأعمال الصالحة وملء الوقت بها درجةً عظيمةً حتى قال بعضهم، عن حماد بن سلمة رحمه الله وهو من العُبّاد من أهل السنة : لو قيل لـحماد بن سلمة -تفكروا معي في هذه العبارة-: إنك تموت غداً، ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً.

تخيل لو قيل له: أنت غداً ستموت.. والواحد لو قيل له: أنت غداً ستموت.. ماذا يفعل؟

يبادر إلى الأعمال بازدياد، هذا يقول: لو قيل لـحماد بن سلمة: إنك تموت غداً، ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً، ماذا يعني؟

فإذاً أيها الإخوة: ملء الوقت بطاعة الله، والاستمرار بالأعمال الصالحة، هذه القضية الثانية.

لاحظ معي هذه الألفاظ في هذه الأحاديث: (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل) ماذا تعني كلمة لا يزال؟ الاستمرارية: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) الاستمرارية: (تابعوا بين الحج والعمرة) الاستمرارية، وهكذا، فالاستمرار في الأعمال الصالحة يقوي الإيمان جداً، والمداومة عليها، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل).

المسارعة إلى الأعمال الصالحة

وكذلك أيها الإخوة! بالإضافة إلى ما سبق المسارعة إلى الأعمال الصالحة والمسابقة إليها، يقول الله عز وجل: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133].. سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [الحديد:21] ويقول عليه الصلاة والسلام: (التؤدة في كل شيء خيرٌ إلا في عمل الآخرة) أي: كل شيء التأني فيه طيب، أن تتريث فيه وتدرسه وتفكر قبل عمله ألف مرة، إلا في شيء واحد وهو عمل الآخرة ليس فيه تأنٍ، أي: سارع مباشرةً، وسابق إلى هذا العمل، يقول عليه الصلاة السلام: (ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها) المفروض أن الناس يهربون منها، لكنهم نائمون عن الهروب، والجنة المفروض أنهم يطلبونها، لكنهم نائمون عن الطلب.

فقضية الأعمال الصالحة: استدراك ما فات من الطاعات. أيها الإخوة! مظاهر ضعف الإيمان: عدم التحسر على فوات مواسم الطاعة، أي: هذا من مظاهر ضعف الإيمان، فعندما تمر الطاعة وموسم الطاعة ينقضي، ولا يشعر بالتأسف، ولا بالتحسر، ولا بالندم، فالشيء المقابل هنا هو استدراك ما فات من الطاعات.

مثال: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن حزبه من الليل، أو عن شيء منه، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل).

وعن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع، أو غيره صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة] حديثان صحيحان.

ولذلك لو فاتت صلاة الوتر أحد الناس، وكان عادة يوتر مثلاً بثلاث ركعات، إذا استيقظ يصلي بعد ارتفاع الشمس، يصليها شفعاً، فيزيد عليها واحدة فتصبح أربعاً، وإذا كان يصلي إحدى عشرة ركعة في الليل عادة، أو كان ينوي أن يصلي في تلك الليلة إحدى عشرة ركعة، ثم نام وما استيقظ إلا الفجر، فإنه يصلي بعد ارتفاع الشمس اثنتي عشرة ركعة.

وبعد كل هذه الطاعات احتقار النفس أمام الواجب في حق الله من هذه الطاعات.

بعد أن تفعل هذا كله تحتقر نفسك، وتحتقر هذه الطاعة، يقول ابن القيم رحمه الله ناقداً بعضهم: وكل ما شهدت حقيقة الربويية وحقيقة العبودية وعرفت الله وعرفت النفس، ويتبين لك أن ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق، ولو جئت بعمل الثقلين خشيت عاقبته، وإنما يقبله سبحانه وتعالى بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه بكرمه وجوده وتفضله، ولو جئت بعمل الثقلين، ما وفيت نعمة واحدة من نعم الله، فكيف والأعمال قليلة وشحيحة؟!

النظر في حسن الخاتمة وسؤئها وتذكر الموت

وكذلك أيها الإخوة: من علاجات ضعف الإيمان: التفكر في حسن الخاتمة وسوء الخاتمة، واستعراض القصص التي تعرفها عن حسن الخاتمة وسوء الخاتمة يجعلك أكثر حماساً في الطاعة، ويجدد الإيمان في القلب، وأحوال الناس التي ذكرت عن حسن الخاتمة وسوء الخاتمة في كتب الأولين كثيرة، ومنها ما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتاب الداء والدواء وفي غيره من الكتب.

يقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر : ولقد سمعت بعض من كنت أظن فيه كثرة الخير وهو يقول في ليالي موته: ربي هو ذا يظلمني،-تعالى الله عن قوله- اتهم الله بالظلم وهو على فراش الموت، فيقول ابن الجوزي رحمه الله: فلم أزل منزعجاً مهتماً بتحصيل عُدةٍ ألقى بها ذلك اليوم.

فأثرت في نفس ابن الجوزي هذه العبارة التي انطلقت من هذا الرجل الذي كان يظن به خيراً، وإذا هو يتهم الله بالظلم وهو على فراش الموت.

ومن ضمن العلاجات: نتداول قصص حسن الخاتمة وسوء الخاتمة التي نسمعها عن الناس اليوم، فهناك قصص كثيرة، تجلس في مجلس من المجالس، وتقول يا جماعة: من سمع منكم فلان كيف مات؟

فتأتيك القصص الواقعية!

الحقيقة أيها الإخوة: أن تداول هذه القصص من الأشياء التي تجدد الإيمان، لأن الشيطان يقول لأعوانه عند الفراق لحظة صعود الروح عند قبض الروح، يقول: عليكم بهذا الميت، فإن فاتكم، لم تقدروا عليه.. آخر فرصة!

ومن الأمور التي تجدد الإيمان في القلب: تذكر الموت، يقول صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هادم اللذات) حديث صحيح، أي: الموت، ولذلك أمر صلى الله عليه وسلم بزيارة المقابر، فقال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها ترق القلب، وتُدمع العين وتُذكر الآخرة، ولا تقولوا هجرا) ما هي أهداف زيارة المقابر؟ لماذا أمر صلى الله عليه وسلم بزيارة المقابر؟ لأنها ترق القلب.

فإذاً: صلة قضية زيارة المقابر بتجديد الإيمان في القلب صلة وثيقة، فإنها ترق القلب، وتُدمع العين، وتُذكر الآخرة، وقراءة الأحاديث التي فيها وصف سكرات الموت وصعود الروح وعذاب القبر ونعيمه من الأشياء المهمة.

وربطاً بالنقطة الماضية وهي قضية حسن الخاتمة وسوء الخاتمة هذا حادث سيارة حصل قريباً، يقول لي أحد الذين كانوا في السيارة -وقد مات واحد ممن فيها:- كنا في طريق السفر، فاتفقنا على أن نستفيد من الوقت في سفرنا هذا، فكل واحد يأخذ فترة من الزمن خمس وعشر دقائق يحدث الآخرين فيها عن موضوع مفيد، فكان ذلك الشخص الذي توفاه الله في الحادث يتكلم لنا عن عذاب القبر ونعيمه، ثم حصلت الحادثة وتوفي هذا الشخص فيها.

فإذاً: معرفة عذاب القبر ونعيمه من الأمور التي تُساعد في تجديد الإيمان، وقد بلغ الأمر بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يزور مقابر الكفار للاتعاظ، ويجوز لك يا أخي المسلم أن تزور مقابر الكفار للاتعاظ بغرض الاتعاظ، والدليل على ذلك ما ورد في الصحيح (أنه صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله) كانت نفوس الصحابة حية -هذا الفرق بين مجتمعنا والمجتمع الأول- فالتأثر كبير، لقد بكى وأبكى من حوله عند القبر، فقال: (استأذنت ربي بأن أستغفر لها، فلم يؤذن لي) لأنها ماتت على الكفر، ولا محاباة في أمور العقيدة، نوح نبي وولده كافر في النار، إبراهيم نبي وأبوه كافر في النار، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبي وأبوه وأمه وعمه وجده ماتوا على الكفر، قال: (واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تُذكر الموت) .

ولذلك أيها الإخوة: من تمام استشعار هذه المواقف: أن يحضر الإنسان مثلاً تكفين الميت والصلاة على الجنازة وحمله على الأعناق، والذهاب به إلى المقبرة، ودفنه ومواراة التراب عليه، حتى تكون الصورة حية في الذهن، هذا غير ما تسمع أنت عن فلان ذُهب به وغُسل وكفن، فعندما تشاهد بنفسك يكون الأمر مختلفاً.

فالمعاونة تختلف عن السماع من بعيد، وكان السلف رحمهم الله يستخدمون التذكير بالموت فعندما يرون رجلاً يرتكب معصية، لكي يجددوا الإيمان الذي نقص في قلبه، فأدى إلى وقوع المعصية.

فهذا أحد السلف رحمه الله في مجلسه رجلٌ من الجالسين ذكر رجلاً آخر بغيبة، فقال رحمه الله مذكراً ذلك الرجل الذي يغتاب، قال له: اذكر القطن إذ وضعوه على عينيك -هو الآن يرى أمامه الرجل يغتاب، ماذا قال له؟- اذكر القطن إذ وضعوه على عينيك، هذا التذكير وهذه الهزة كفيلة بأن تردع رجلاً عن ارتكاب المعصية، أو الازدياد والاسترسال فيها.

تذكر منازل الآخرة

إن تذكر منازل الآخرة من الأمور المعينة على تجديد الإيمان في القلب، يقول ابن القيم رحمه الله: وإذا صحت الفكرة أوجبت له البصيرة، وهي نور القلب يبصر به الوعد والوعيد والجنة والنار، وما أعد الله في هذه لأوليائه، وفي هذه لأعدائه، فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق، وقد نزلت ملائكة السماء، فأحاطت بهم، وقد جاء الله ونصب كرسيه لفصل القضاء، وقد أشرقت الأرض بنوره ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء، وقد نُصب الميزان وتطايرت الصحف واجتمعت الخصوم، وتعلق كل غريم بغريمه، ولاح الحوض وأكوابه عن كثب، وكثر العُطاش وقلّ الوارد -قل الوارد على الحوض والناس عطاش؛ لأنه ليس لأي واحد أن يرد الحوض- ونُصب الجسر للعبور -الصراط على جهنم- ولز الناس فيه، وقُسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه بحسب أعمالهم -يأتون الأنوار وهم يسيرون على ظلمة الجسر- فالذين عملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم، فيمرون على الجسر المظلم مروراً عظيماً، بخلاف المنافقين الذين يُسلب منهم النور، فيتعثرون ويسقطون في جهنم.

والنار يحطم بعضها بعضاً تحته -تحت هذا الجسر- والمتساقطون فيها أضعاف الناجين، فينفتح في قلبه -عندما يتأمل الإنسان أحوال الآخرة ومنازلها- تنفتح في قلبه عين يرى بها كل هذه الأمور، ويكون في قلبه شاهدٌ من شواهد الآخرة، يريه الآخرة ودوامها والدنيا وسرعة انقضائها.

ولذلك تجد القرآن العظيم فيه اهتمام كبيرٌ بذكر منازل الآخرة؛ لكي يُقبل هذا القلب على الله ويخاف ويرجو الله، فيتجدد الإيمان فيه.

ولذلك كان من الأمور المهمة في هذا الجانب قراءة الكتب التي تتكلم عن الدار الآخرة، وعن الحشر، والحساب، والجنة والنار، وظل الرحمن، والشمس عندما تدنو من الخلائق، والصراط، وبعد دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وما يحدث من ذبح الموت.

والكتب التي تتكلم عن هذه التفاصيل قراءتها مهمة حتى يبقى الإنسان على صلة بهذه الأشياء.

العبادة

وهناك العبادات، ومن أهم الأشياء لتجديد الإيمان في القلب قضية العبادة، والعبادات والطاعات كثيرة، والأوامر بإتيان الطاعات والحرص عليها كثيرة، ونقتصر الآن على ذكر بعض هذه الأشياء.

هناك بعض العبادات أيها الإخوة! تحدث أثراً في النفس، أي: فيها نوع من التميز، أو تُحس وأنت تقرأ تلك الآية، أو ذلك الحديث أن فيها معنى لطيفاً وجميلاً يطرق قلبك وأنت تقرأ هذه الأشياء.

مثلاً: انظر معي إلى هذا الحديث: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح -وهذه روايات كلها صحيحة مجتمعة في هذه الرواية الواحدة-: ( ما من أحد يتوضأ ) تأمل كيف يدفع هذا الإسلام وعظمة هذا الدين المسلم إلى الطاعات، وإلى الصلة بالله بأشياء بسيطة يرتب عليها أجراً عظيماً: (ما من أحد يتوضأ، فيحسن الوضوء، ويصلي ركعتين يُقبل بقلبه ووجهه عليهما لا يسهو فيهما) وفي رواية: (لا يُحدث فيهما نفسه) وفي رواية: (يُحسن فيهن الذكر والخشوع إلا وجبت له الجنة).

وفي رواية: (غُفر له ما تقدم من ذنبه) ماذا فعل؟ ( ما من أحد يتوضأ، فيحسن الوضوء، ويصلي ركعتين ) نافلة لله: (يُقبل بقلبه ووجهه عليهما لا يسهو فيهما) .. (لا يحدث فيهما نفسه) .. (يحسن فيهن الذكر والخشوع إلا وجبت له الجنة).

انظر الآن هذا العمل كيف يجدد الإيمان وهو عمل بسيط، لكن الحقيقة أن الإتيان به كما جاءت الأوصاف أمر لا يقدر عليه إلا من وفقه الله له، ثم نتأمل هذا الحديث الصحيح الآخر، يقول عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يشنؤهم الله -يبغضهم الله-: أما الثلاثة الذين يحبهم الله: الرجل يلقى العدو في فئة فينصب له نحره حتى يُقتل أو يُفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم -يطول السفر- حتى يحبوا أن يمسوا الأرض) -من طول السفر يحبون الآن الراحة- فينزلون، فيتنحى أحدهم، فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم) أي: هؤلاء الناس تعبوا من السفر، فنزلوا منزلاً فناموا، لكن أحدهم ما نام، قام يصلي لله في الليل حتى أوقظهم لرحيلهم، وهذه النماذج عندما يطلع عليها الإنسان، ويفعلها ولو مرة، لا شك أنها تحدث أثراً عظيماً في قلبه.

والاهتمام بالزكوات والصدقات من العبادات، ولها أثر مباشر على القلب: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] تطهر وتزكي قلوبهم.

هناك أشياء بسيطة جداً من المعاملات وهناك قضايا اجتماعية، عندما يتأمل بها الإنسان يُسبح الله تعجباً منها، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث في صحيح الجامع، أو في السلسلة الصحيحة لأحد الصحابة: (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك: ارحم اليتيم وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك) فالآن تصور أيها الأخ المسلم! أن مسح رأس اليتيم من الأشياء التي تُلين القلب.

الشاهد: أن هناك عبادات، وهناك أشياء جاءت في الشرع تؤثر على القلب مباشرة تأثيراً قوياً يلمحها الإنسان ويتعجب من أثرها، ويتعجب من وصفها الوارد في الكتاب والسنة.

التفاعل مع الآيات الكونية

كذلك أيها الإخوة: من الأمور التي تجدد الإيمان: التفاعل مع الآيات الكونية كما يتفاعل القلب مع آيات القرآن، فكيف يكون التفاعل مع الآيات الكونية؟

أعطيكم مثالاً: روى البخاري ومسلم وغيرهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى غيماً، أو ريحاً؛ عُرف ذلك في وجهه) أي: يتفاعل مع الأحداث الكونية، فإذا رأى غيماً أو ريحاً؛ عُرف في وجهه الفزع والخوف، فقالت عائشة: (يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه مطر، وأراك إذا رأيته عرفتُ في وجهك الكراهية).

لماذا الناس يستبشرون، وأنت يا رسول الله! تعرف في وجهك الكراهية إذا رأيت الغيم أو المطر؟! فقال: (يا عائشة ! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب) وقد عُذب قومٌ بالريح: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة:6-7] قال (وقد رأى قومٌ العذاب فقالوا: هذا عارضٌ ممطرنا) قومٌ من الأقوام أرسل الله لهم رسوله، فلما جاءهم العذاب في ظُلة، قالوا: هذا سحاب سيمطر ويمشي، وإذا فيه العذاب الذي نزل على رءوسهم.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم أيها الإخوة! كان يتفاعل مع الآيات الكونية، ومع الأحداث الكونية، الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يرى الكسوف، أو الخسوف، ماذا كان يفعل؟

كان يخرج فزعاً إلى الصلاة؛ لأن هذه من آيات الله التي يخوف الله بها عبادة، فتفاعل القلب مع هذه الأشياء والفزع منها يجدد الإيمان في القلب، ويُذكر القلب بعذاب الله، وبطش الله، وعظمة الله عز وجل، وقوته وقدرته.

ومرتبط بهذه النقطة أيضاً مسألة أخرى: التأثر عند المرور بمواضع العذاب والخسف وقبور الظالمين، فعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما وصل الحِجر) أي: ديار ثمود التي يذهب لها الناس اليوم للسياحة وبِعثات الآثار لالتقاط الصور وعمل التحقيقات، ويقيمون المخيمات هناك مع الأسف الشديد، ماذا كان رسول صلى الله عليه وسلم يفعل؟ اسمع يا أخي! ماذا كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل. (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما وصل الحِجر قال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم) لا تمروا بتلك الديار.

وفي رواية: (لما مرَّ صلى الله عليه وسلم بـالحِجر ، قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين) باكين من ماذا؟ من تذكر نقمة الله وعذاب الله الذي حلَّ بهؤلاء الناس، ثم قنَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، وأسرع السير حتى جاوزا الوادي أن يصيبهم ما أصاب الذين ظلموا.

تأمل يا أخي: الآن قسوة قلوب الناس واستخفافهم، يقولون: ذهبنا نرى وأخذنا صوراً بالكاميرا، وما حصل لنا شيء، والله عز وجل يقول: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83] لما أنزل الله الحجارة على قوم لوط، ماذا قال؟ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83] أي: أن يصيبكم ما أصابهم، فقد ينزل بأناس مثل: عذاب أولئك.

والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه سيحدث في هذه الأمة خسف وقذفٌ ونسفٌ ومسخٌ، وتأتي ريحٌ حمراء، ويأتي فيها عذاب.

يقول عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه: [لو طهُرت قلوبنا، لما شبعت من كلام الله] لو أن القلوب صافية لما شبعت ولطلبت الزيادة باستمرار من كلام الله.

وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تدبر القرآن مبلغاً عظيماً، روى ابن حبان في صحيحه وغيره بإسناد جيد، قال عطاء : دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها، فقال عبيد بن عمير : حدثينا بأعجب شيءٍ رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت، وقالت: (قام ليلة من الليالي -أي: يصلي- فقال: يا عائشة ذريني أتعبد لربي قالت: قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يُصلي، فلم يزل يبكي حتى بَلَّ حِجره، ثم بكى، فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت عليَّ الليلة آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.. الآيات [آل عمران:190-191]).

يقول ابن القيم رحمه الله في علاج ضعف الإيمان في القلب: إذا أردت أن تجود إيمانك فملاك ذلك أمران:

أحدهما: أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة، ثم تُقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها وتدبرها، وفهم ما يُراد منه وما نزل لأجله، وأخذ نصيبك من كل آية من آياته، وتنزلها على داء قلبك، فإذا نزلت هذه الآية -العلاج- على داء القلب برئ القلب بإذن الله.

وهناك أيها الإخوة! صور معينة يكون فيها استشعار التأثر عظيماً، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (شيبتني هودٌ وأخواتها قبل المشيب)، وفي رواية: (وأخواتها من المفصَّل) وفي رواية: (هودٌ والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت) هذه السور الخمس: "هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت" شيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المشيب، بما احتوته من حقائق الإيمان والتكاليف العظيمة على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تدبر أمثلة القرآن.

وكان أحد السلف تدبر مرة في مَثلٍ من أمثلة القرآن فبكى، فسئل: ما يبكيك؟ قال: إن الله عز وجل يقول: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ [العنكبوت:43] أي: هذه الأمثال نضربها في القرآن للناس: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] وأنا ما عقلت المثل، فلست بعالم، فأبكي على ضياع العلم مني.

وحال السلف في التدبر كثير جداً ومبثوث في الكتب. منها: ذلك الرجل رحمه الله الذي قرأ قول الله عز وجل: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:109] فسجد سجدة التلاوة، ثم قال معاتباً نفسه: هذا السجود، فأين البكاء؟ لأن الآية فيها ماذا؟ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:109] قال لنفسه: هذا السجود، فأين البكاء؟! يعاتب قسوة قلبه، والكلام في موضوع التدبر طويل، ولكن تدبر القرآن من السبل الأساسية لتقوية ضعف الإيمان.

ثم أيها الإخوة: من السبل كذلك لتقوية ضعف الإيمان: استشعار عظمة الله عز وجل، ومعرفة أسمائه وصفاته، والتدبر فيها، وعقل معانيها، واستشعارها، وتطبيقها في الواقع.

يقول ابن القيم رحمه الله: أن يشهد قلبك الرب تعالى مستوياً على عرشه، متكلماً بأمره ونهيه، بصيراً بحركات العالم علويه وسفليه، وأشخاصه وذواته، سميعاً لأصواتهم، رقيباً على ضمائرهم وأسرارهم، وأمر الممالك تحت تدبيره -كل الممالك أقوى دولة وأضعف دولة- نازلٌ من عنده وصاعدٌ إليه، وأملاكه بين يديه، الملائكة تنفذ أوامره في أقطار الممالك -لا أحد يصده عن تنفيذ أمر الله- موصوفاً بصفات الكمال، منعوتاً بنعوت الجلال، منزهاً عن العيوب والنقائص والمثال، هو كما وصف نفسه في كتابه وفوق ما يصفه به خلقه، حيٌ لا يموت، قيومٌ لا ينام، عليمٌ لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، بصيرٌ يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، سميعٌ يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، تمت كلماته صدقاً وعدلاً.

يسمع ضجيج الأصوات: الآن العباد يضجون بالأصوات في أنحاء الأرض، والله عز وجل يعلم كل واحدٍ منهم ماذا يقول، ولا تشتبك عليه الأمور، ولا تلتبس عليه اختلاف الأصوات، ولا اختلاف اللغات، ولا اختلاف الحاجات التي يدعو بها العباد، هذا يقول: اللهم أعطني ولداً، وهذا يقول: اللهم اشف مريضي، وهذا يقول: اللهم ارزقني وظيفة ومالاً، وهذا يقول: اللهم ارزقني الجنة، وهذا يقول: اللهم ارحم ميتي، فلا تختلط عليه الأشياء، ولا يعجزه علم ما يقول هذا من هذا.

ونحن البشر العجزة لو تكلم ثلاثة مع واحد في نفس الوقت، فقد التمييز، والله عز وجل ملايين الأصوات تصعد إليه، فيسمع كلام كل واحد.

فإذاً أيها الإخوة: إدراك معاني الأسماء والصفات، وماذا يعني كل واحد؟ وكيف نطبق هذه الأسماء ونستفيد منها في الواقع، ماذا نستفيد من اسم الرزاق؟ ماذا نستفيد من اسم الغفور؟ من اسم الرحيم؟ (إن لله تسعةً وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة) أحصاها بأن يعمل بها في الواقع، وأن يحفظها كما قيل، وأن يعلم معناها، يعلم ويحفظ ويطبق.


استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
كيف تقرأ كتاباً؟ 3160 استماع
كيف تتعامل مع والديك 2886 استماع
كيف نتحمس لطلب العلم 2726 استماع
كيف نحب النبي صلى الله عليه وسلم 2725 استماع
كيف نتعامل مع الناس [2]؟ 2678 استماع
كيف يخدم هذا الدين 2669 استماع
كيف تكون مجالسنا إسلامية؟ [3] 2592 استماع
كيف نتعامل مع أخطاء الناس؟ 2561 استماع
كيف تروض نفسك؟ 2406 استماع
كيف تزكي أموالك 2303 استماع