خطب ومحاضرات
كيف تروض نفسك؟
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أيها الإخـوة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
تحية عطرة تلك التحية التي حيّا بها أبونا آدم عليه السلام، وهي تحية أهل الجنة فيما بينهم، وهي التحية التي هي من أسباب المحبة فيما بيننا، فإذا أراد عباد الله أن يتحابوا فيما بينهم فليفشوا السلام.
أيها الإخوة! نفوسنا ملك لله تعالى خلقها وسواها وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:7-10] نفسك التي بين جنبيك خلقها الله عز وجل، وهداها ودلها، وأرشدها إلى الخير والشر وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] هذه النفس إذا زكيتها بطاعة الله أفلحت ونجحت، وإذا دسيتها بمعصية الله خابت وخسرت.
هذه النفس يمكن أن تكون أعدى الأعداء إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53] ويمكن أن تكون نفساً عزيزة كريمة مطمئنة يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].
وإذا كانت تلومك على ما فعلت من الشر فهي نفس طيبة لوامة أقسم الله بها وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:2] هذه النفس تحتاج إلى ترويض لكي تزكو فتفلح أنت يا صاحبها وتنجح.
قال ابن الجوزي : " والنفس كالمرأة العاصية في المداراة والسياسة، فهي تدارى عند نشوزها بالوعظ، فإذا لم تصلح فبالهجر، فإن لم تصلح فبالضرب، وليس في سياط التأديب أنفع من العزم والمجاهدة والمنع ".
الوسائل التي تروض النفس فتجعلها من الناجين المفلحين كالآتي:
الوعظ
وكل واحد من المؤمنين يعظ نفسه ويحاسبها، فنحن نحتاج إلى كتب وعظ نقرأها لنعظ أنفسنا، وأن نذهب إلى من نسمع منه كلاماً يرقق قلوبنا، والموعظة الطيبة قصيرة خفيفة مؤثرة بعيدة عن التعقيب، والواعظ إذا فرغ يقوم، كما أن موسى نبي الله ذكر الناس يوماً حتى إذا رقت القلوب، وفاضت العيون ولى؛ حتى تبقى الموعظة في النفوس.
هنا مسألة: لماذا إذا سمعنا الموعظة تأثرنا، فإذا غاب الواعظ وانقطعت الموعظة، أو خرجنا من خطبة الجمعة زال التأثر؟ أكثر العامة إذا وعظوا تأثروا وتراهم يبكون في رمضان في دعاء القنوت إذا كان مؤثراً، فالمواعظ عندهم كالسياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها كما تؤلم وقت وقوعها، والموعوظ لا يحضر مجلس الوعظ في الغالب وهو جائع أو به حاجة، ولذلك يكون مقبلاً مستجمعاً نفسه، وإذا أتى المسجد يكون قد تخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا، فإذا غادر وعاد إلى الشواغل عادت إليه الغفلة، فكيف يبقى على ما يكون؟
فإذا استمعنا الموعظة ينبغي أن يكون عندنا عزم بلا تردد ولا التفات، ولو أحسسنا نقصاً عادياً كما شعر حنظلة فلسنا بملومين، لكن أن نغادر فنعصي أو نترك الواجبات هذه هي المصيبة.
وبعض الناس لا يتأثرون مطلقاً لا في حال الموعظة ولا بعدها، وبعضهم يتأثرون وقت الموعظة وينسى بعدها، وبعض الناس يريد الله بهم خيراً فيتأثرون وقت الموعظة ويستمر هذا التأثر بعد الموعظة.
كيف تعظ نفسك؟
إذا أرادت نفسك أن تنشغل بالدنيا ذكرها بقول الله: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً [آل عمران:178].
إذا هوت نفسك متاعاً زائلاً عظها بقول الله تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].
وقل لها: ألم يدخل عمر رضي الله عنه إلى رسول الله وهو يتقلب على رمال الحصير قد أثر في جنبه، وبكى عمر وقال: (كسرى وقيصر في الديباج والحرير وأنت يا رسول الله في هذا ! فقال: ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا).
وذكرها بقول الله، وعظها بسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لو انشغلت نفسك في الدنيا فقل لها: ألم يقل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
وتقول: لقد ثبت الأجر من الله للمؤمن، وزمن التكليف قصير فاصبري، ولا ينبغي للعامل في الطين أن يلبس نظيف الثياب، لو أنك تعمل بالطين -تعمل في البناء- هل تلبس الثياب النظيفة؟ فأنت الآن في الدنيا وفي العمل فلا تنشغل بالدنيا - وليس المقصود أنك لا تلبس الملابس النظيفة - بل ينبغي على العبد أن يصابر ساعات العمل، فإذا فرغ من العمل تنظف ولبس أجود ثيابه، ومن ترفه وقت العمل ندم وقت توزيع الأجرة، وعوقب على التواني.
وتعظ نفسك فتقول:
وكيف تنام العين وهي قـريرة ولم تدر في أي المحلين تنزل |
في الجنة أم في النار؛ ينبغي لمن رأى نفسه تنجر إلى الرذائل أن يعظها ويذكرها؛ تذكرها إذا دنت إلى الرذائل ومالت إليها بكرامتها عند الله، وكيف أن الله عز وجل خلق آدم بيده، وأسجد له الملائكة وارتضاه للخلافة في الأرض، وراسله بالكتب والرسل، فإذاً تقول: يا نفس! هذا الرب كرمك: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70] وهذه البهائم تمشي على أربع ورأسها إلى أسفل وأنتِ تمشين على رجلين ورأسك إلى الأعلى؛ كرمك خلقةً، وكرمك بإنزال الكتب وإرسال الرسل من أجلك، واقترض منك: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة:245] واشترى منك: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111].
فإذا رأيت نفسك تتكبر فروضها بموعظتها وبتذكيرها وبحقارة أصلها، وأنها خلقت من ماء مهين، وتقول لها: هل أنت إلا قطرة من ماء مهين تقتلك شرقة، وتؤلمك بقة (بعوضة) وإذا رأيت تقصيراً من نفسك فعرفها بحق سيدها ومولاها وربها سبحانه وتعالى.
وإن توانت عن العمل في الصلاة وفي غيرها فذكرها بحق سيدها وبقصر الأجل، وجزالة الثواب.
وإن مالت إلى الهوى فخوفها الإثم وعاجل العقوبة كقول الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ [الأنعام:46] هذه العقوبات المعنوية، والعقوبات الحسية: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146] هذه العقوبة أن الله لا يمكن بعض الناس من أن يتدبروا في آياته: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146].
ولو أن نفسك تاقت لما عليه بعض أهل الدنيا والمعصية من الزخارف والبهجة والنعيم فذكرها بأنه يزول قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79] ماذا قال الذين أوتوا العلم؟ انظروا -أيها الإخوة- ماذا يفعل العلم: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً [القصص:80] ولكن لا يلقاها إلا الصابرون.
ذكرها أن بسط يد العاصي هو قبض في الحقيقة؛ لأن هذا البسط يوجب له عقاباً، وذكرها أن قبض يد الطائع -لو رأيت مسكيناً عابداً زاهداً متمسكاً بدينه لكنه ضعيف مستضعف مسكين- فذكرها أن قبض يد الطائع يوجب بسطاً في الحقيقة؛ لأن هذا القبض يوجب أجراً جزيلاً.
فإذا دعتك نفسك لارتكاب المحرمات والمعاصي، وانجذبت إليها ففسر لها لماذا تنجذب إلى الممنوعات؟ ولماذا كل ممنوع مرغوب؟ إذا عرفنا السر سهل علينا الصمود، إذا عرفنا الحقيقة هانت المسألة، فالنفس تحب الممنوع، وتهفو إليه، ويزيد حرصها كلما زاد المنع، وتستلذ بالحرام ولا تستطيب المباح؛ لأنه يشق عليها أن تمنع ويحظر عليها، وتأمل حال أبينا آدم وأمنا عليهما السلام لما نهيا عن الشجرة حرصا عليها مع كثرة أشجار الجنة -سبحان الله!- كل هذه الجنة بأشجارها أصبحت متروكة واتجهت الهمة إلى هذه الشجرة بالذات، ولماذا أكلا من هذه الشجرة بالذات؟ لأنها ممنوعة فانجذبت النفس إليها، ولولا المنع ما أكلا منها، ولا سألا عنها، ولا انجذبا إليها، ولا حرصا على الأكل منها؛ لكن لأجل المنع.
ولهذا فإن الله عز وجل يبتلي الناس بالممنوعات وبالمحرمات لينظر كيف تعملون؟ هل تمتنعون أو ترتكبون؟ هل ستتركون وتجتنبون أم ستلجون وترتكسون في أوحال هذه المعاصي؟
فماذا قال الشيطان لهما؟ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20] مؤكد أن فيها سراً، الشجرة فيها سر. مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20].
ولذلك قيل: لو أمر الناس بالجوع لصبروا، ولو نهوا عن تفتيت البعر لرغبوا فيه، وقالوا: ما نهينا عنه إلا لشيء، هناك سر فيرغبون في تفتيت البعر، مع أن البعر ما قيمته؟!
وقد قيل: أحب شيء إلى الإنسان ما منع منه، فالمؤمن صاحب البصيرة إذا منع من شيء فإنه يعلم أن في منعه حكمة، مثل المنع من الزنا والمنع من النظر إلى المرأة الأجنبية؛ لأن النظر سيعقبه عذاب في الدنيا والآخرة؛ عذاب في الدنيا كأن تتعلق النفس بهذا الشخص أو بهذه المرأة وتنجذب إليها، فإن وصل إليها بالحرام كانت العقوبة بالحرام، وإن لم يستطع الوصول إليها؛ لأنها ذات زوج أو غير ذلك صار له عذاب بالعشق، ولذلك لا يوجد محرم حرمته الشريعة إلا وفيه ضرر علينا، فالله من رحمته بنا لم يحرم علينا أشياء مفيدة لنا وليس فيها ضرر، أي شيء: خمر، خنزير، ربا، ميتة، زنا، سرقة، رشوة، غصب، كذب ، فأي شيء محرم علينا فيه ضرر علينا، وإذا فسرت هذا لنفسك هانت المحرمات والممنوعات، وعرفت كيف تتعامل معها، وذكر نفسك أن الجنة حفت بالمكاره وأن النار حفت بالشهوات.
فالنفس تشتهي ما يؤدي إلى النار، وتكره القيود والتكاليف، ولكن من لاح له فجر الأجر هانت عليه مشقة التكليف، وهان عليه الليل؛ لأن الفجر قريب، فذكر نفسك بذلك يا عبد الله إذا دعتك إلى فعل ممنوع .
تسلية النفس بآيات الوعد
يقول ابن الجوزي رحمه الله: مر بي حمالان تحت جذع ثقيل وهما يتجاذبان بإنشاد الشعر، فأحدهما يصغي إلى ما يقوله الآخر ثم يعيده أو يجيبه بمثله والآخر مثل ذلك، فرأيت أنهما لو لم يفعلا هذا زادت مشقة الطريق وثقل الأمر، وكلما فعلا هذا هان الأمر، فتأملت السبب في ذلك فإذا به تعليق فكر كل واحد منهما بما يقوله الآخر، وانشغال فكره في الجواب على صاحبه فينقطع الطريق وينسى ثقل المحمول
نحن كلفنا بأمور صعبة فيها مشقة مثل صلاة الفجر وإسباغ الوضوء، وإخراج المال -الزكاة والصدقة- والصيام فيه مشقة، وكذلك الحج، والصدق، والتعفف عن الحرام، وغض البصر، وعدم سماع الغناء؛ فالنفس تحب الألحان والطرب، ولتقطع الحياة -وهي الزمن والوقت- بتحمل المشاق لا بد أن يكون لك حادٍ، فإن الإبل في طريق السفر إذا كلت وملت ماذا يفعل سائق البعير -الراحلة-؟
ينشد لها، والعرب تسمي هذا النشيد حُداءً، والحادي يحدو بالإبل، فإذا حدا بها نشطت وأسرعت وذهب عنها الكلل والملل، نحن الآن نسير إلى الله، والعمر يمضي وفيه مشاق وتكاليف، وفيه صعوبات، وخاصة في هذا الزمان زمان الفتن، فتن الصور والمجلات وفتن التلفزيون، وفتن الملابس وفتن السوق وغيرها من الفتن الكثيرة.
وأنت تمشي في هذا الطريق عليك صلوات، وعليك صيام، وعليك التزام بالأخلاق الإسلامية والصدق والأمانة .. إلى آخره، والنفس تدعو إلى الروغان والمحرمات والوقوع في الممنوعات والكذب والخيانة، وأخذ المال من أي طريق، وإطلاق البصر، وإطلاق العنان للأذن تسمع ما تشاء.
لكي يمضي العمر وأنت تتحمل مشاق التكليف ماذا ينبغي عليك أن تفعل لتسوس نفسك وتروضها على قطع الطريق؟
تحدو بنفسك في مسيرها بآيات الله وذكره، وأحاديث رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليست مثل ألحان الإبل، فالإبل لا تعقل ولا تفهم الكلام لكن تأنس بالصوت وتسرع لأجل الصوت، رغم أنها لا تفقه الكلمات.
الله ضرب مثلاً للذين يسمعون ولا يفهمون: كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة:171] لا يفهم الكلام، لكنه يسمع صوتاً بدون فهم كلام، مثل الدابة ومثل الشاة عندما يدعوها الراعي تستجيب لكن بدون فهم للكلام، فنحن نحدو بأنفسنا في سيرها إلى الله بآيات وأحاديث ترفع الهمة وتنشط العزيمة، وتكبت الحرام، وتثبط الرغبة إليه، وهكذا نندفع في الطاعات ونحجم عن المعاصي، ونحن نسير إلى الله تعالى.
فتسلية النفس بآيات الوعد لتكون هذه الآيات والأحاديث في بيان الأجر والثواب مثل: الحادي (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح).
فطم النفس عن المألوفات
والنفس كالطفل إن تهمله شب علـى حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم |
ومن وسائل ترويض النفس فطمها عن المألوفات، مهم أن يكون لدينا انقطاع عن المألوفات أحياناً، ونحن لا نحتاج أن نتكلف ذلك؛ لأن عندنا من العبادات ما يفطم نفوسنا عن مألوفاتها.
من أمثلتها:
عبادة تعود النفس على ترك المألوفات: الصيام، وقيام الليل، والحج، إذاً: عندنا في الدين عبادات تساعد النفس على ترك المألوفات فتنفطم النفس وتتقي، وهذا يساعد على ترك الحرام؛ لأنك إذا تركت الحلال المتعود عليه كالنوم والطعام لله وهو حلال، فأحرى أن تترك الحرام.
إدراك إقبال النفس وإدبارها
قال عمر رضي الله عنه: [إن لهذه القلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإذا أدبرت فألزموها بالفرائض] أقل شيء إذا انحدرت وانحدرت ألا تصل إلى مستوى تترك فيه واجباً أو تفعل فيه محرماً.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن لكل عمل شرة) نهاية عظمى علوية، وكل شرة وكل نهاية علوية وصعود لابد أن يقابله هبوط: (ولكل شرة فترة) النفس لا تستطيع أن تستمر على حالة واحدة: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) من كان في حال فتوره لا يترك واجباً ولا يعمل محرماً فقد اهتدى.
ولذلك كان من سياسة النفس: عدم إملالها، فقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلغه أن عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل ويصوم النهار، فأراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبين له اتباع السنة، والتوسط في الأمور، فقال له: (ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ قلت: إني أفعل ذلك، قال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك، ونفهت نفسك، وإن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك حقاً، فصم وأفطر، وقم ونم) رواه البخاري.
معنى هجمت عينك أي: غارت وضعفت لكثرة السهر.
ونفهت نفسك: كلَّت، وملَّت، وتعبت.
إن لنفسك عليك حقاً: تعطيها ما تحتاج إليه ضرورة البشرية مما أباح الله من الأكل والشراب والراحة، الذي يقوم به بدنه ليكون أعون على عبادة ربه - هذا كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث.
منع النفس عن الصغائر
بعض الناس يتساهلون بنظرة محرمة، وكلمة غيبة في عرض مسلم، ودرهم من شبهة أو حرام، يذهب إلى وليمة لم يدع إليها، لا يرد كتاباً استعاره يقول: هذه أشياء بسيطة.
فقد ضرب لنا مثلاً بالأعواد التي تجمع فتحرق.
وهكذا الذنوب الصغيرة تجتمع فتحرق صاحبها، وقد تحرق الشرارة بلداً.
ومعظم النار من مستصغر الشرر |
ويتبع هذا في وسائل ترويض النفس لجمها عن التساهل وعدم التحرج من المعاصي، مثلما يفعل بعض الناس الآن من التوسع في قضية الضرورة، فيجعلون أموالهم في بنوك ربا وهم يقدرون على استعمالها بغير ذلك.
المرأة تتوسع في الكشف عند الطبيب، والطبيب يتوسع في الكشف على المريضة، والناس يتوسعون في التصوير، كذلك ما يحدث من التوسع في الخادمات، وليست متحجبة كما ينبغي، والسائقين، والتساهل في لباس البنات الصغيرات.
والتساهل له صور كثيرة ولذلك سنخصه إن شاء الله بمحاضرة.
لكن من وسائل ترويض النفس لجمها عن التساهل؛ لأن هذا انزلاق وتحته واد سحيق، وإذا انزلق في البداية فالجاذبية لن تساعده على التوقف، وإنما ستجذبه إلى الهاوية ولا شك.
إصلاح الخواطر
فإن هذا الكلام فيه شيء من العمق يحتاج إلى تأمل خطورة الخواطر.
أولاً: الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم السر وأخفى، يعلم الكلام الجهري والكلام السري، والكلام الذي في نفسك، والخواطر التي في عقلك وذهنك وقلبك، والشيء الذي لم يخطر بعد أو أنه سيخطر. فهو الحي القيوم الذي لكمال حياته وقيوميته لا تأخذه سنة ولا نوم، ملك السماوات والأرض، الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، العالم بكل شيء الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلفهم، فلا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه، يعلم دبيب الخواطر في القلوب، حيث لا يطلع عليها إلا الله -أورد هذا الكلام ابن القيم في كتابه طريق الهجرتين .
وهو الرقيب على الخواطر واللواحظ كيف بالأفعال بالأركان |
وهو الحفيظ عليهـم وهو الكفيل بحفظهم من كل أمر عاني |
فالقلب لوح فارغ، والخواطر نقوش تنقش فيه، ولا بد من الخواطر، أي: هل تستطيع أن تمنع نفسك من الخواطر؟ هل تستطيع أن تغلق ذهنك وتبقى بدون خواطر؟ لا يمكن.
حاول أن تقفل عقلك ولا يخطر في بالك أي شيء وأنت صاح، وقد خلق الله سبحانه وتعالى النفس شبيهة بالرحى الدائرة -الرحى: آلة الطحن- التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وضع فيها حب طحنته، وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته، فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحَبِّ الذي يوضع في الرحى، ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط، بل لا بد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن حصىً ورملاً وتبناً ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه، ذكره ابن القيم في كتاب الفوائد.
ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها، فإنها تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، وعلى دفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه، كما قال الصحابة: (يا رسول الله ! إن أحدنا يجد في نفسه ما أن يحترق حتى يصير حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان) وفي لفظ: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة). أورده ابن القيم رحمه الله.
ولذلك من رحمته تعالى -لما كانت الخواطر لا بد منها- أنه لا يؤاخذنا على ما حدثتنا به نفوسنا ما لم نتكلم أو نعمل، وما حدثنا به أنفسنا، وما كان من الخواطر والأفكار لا نؤاخذ عليه ولكن لو لم نصلح الأمر من بدايته فإن الخراب هو المصير.
فمبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فالخاطرة: تتحول إلى فكرة، والفكرة إلى تصور، والتصور إلى إرادة، والإرادة إلى فعل، وكثرة الفعل يصير عادة.
قال رحمه الله: واعلم أن الخاطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر، فيأخذه الذكر فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذه الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، وهذه الخطورة الكبرى أن يصبح الشر عادة.
وكلام ابن القيم في الخواطر لا يكاد يوجد له مثيل في كلام العلماء، فقد أبدع في كتبه في ذكرها.
قال رحمه الله: الخواطر والهواجس ثلاثة أنواع: رحمانية، وشيطانية، ونفسانية.
الخواطر الرحمانية: في فعل الخير كأن تريد أن تذهب عمرة أو تتصدق أو تذهب إلى الجهاد.
الخاطرة الشيطانية: أن تمشي إلى حرام وتفعل الحرام، وكأن تكون جالساً في غرفتك لوحدك ليس معك أحد فتأتيك خاطرة شيطانية فتقوم وتعمل عملاً محرماً.
الخواطر النفسانية: مثل الرؤيا، والإنسان معه شيطانه ونفسه لا يفارقانه إلى الموت: (والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم).
والخواطر الباطلة: النوع الأول: منها في الحرام والفواحش، كم من الشباب لو قدر لنا أن نرى ما في أذهانهم وهم في حال الوحدة، شخص وحيد فماذا يدور في باله الآن؟
لربما ترى أكثرهم تدور في أذهانهم خواطر الفاحشة والحرام من كثرة الصور، ومن كثرة ما يرون وما يسمعون يخطر في بالهم الحرام والفواحش.
النوع الثاني من الخواطر الباطلة: خيالات وهمية لا حقيقة لها، أو أشياء باطلة أو فيما لا سبيل في إدراكه من أنواع ما طوي عنا علمه، فإذا كان هذا مجال التفكير ومسرح الخواطر فالعاقبة وخيمة، ولذلك فإن التمني واحد قال: رأى أحدهم رجلاً عنده مال يذهب به إلى الحرام ويسافر في الحرام، فقال: لو أن لي مال فلان لعملت بعمله فهما في الإثم سواء كما في الحديث، ولذلك فإن تمني الخيانة وإشغال الفكر والقلب بها ربما يكون أضر على القلب من الخيانة نفسها، فإذا جعل الإنسان الخيانة هي تفكيره وهمه، وانشغل تفكيره بالخيانة، وكيف يستدرج امرأة أو يخرج إلى سوق أو مكان فيظفر بفريسة، وكيف يخون الأمانة ويعتدي على ما استؤمن عليه، فإن هذا عاقبته وخيمة فإذا علمت هذا -يا عبد الله!- فماذا ينبغي أن تفعل من أجل إصلاح الخواطر؟ إذا علمت الآن أن المشكلة تبدأ من الخواطر فكيف تعالج مسألة الخواطر؟ أن تشغل هذا البال بطاعة الله، وأن تفرغ قلبك لله بكليته، وتقيمه بين يدي ربه مقبلاً بكليته عليه، يصلي لله تعالى كأنه يراه، قد اجتمع همه كله على الله، وصار ذكره ومحبته والأنس به في محل الخواطر والوساوس.
وهذا الكلام الذي قاله ابن القيم نفيس جداً جداً، إذا تأملته وطبقته سنجد عواقب حميدة وأنواراً وأبواباً من الخير تنفتح عليك؛ أن تجعل عقلك وذهنك وقلبك منشغلاً بالله وذكره، والتفكير في جنته وناره، وعذابه ونعيمه، وعقابه وحسابه، والموت وما بعده.
أشغل نفسك بالله، إذا أشغلت فكرك بالله فإنك ستكون بمنأى عن هذه الترهات والمحرمات، وتستريح نفسياً وقلبياً وذهنياً وجسمياً.
فالوعظ أول هذه الوسائل، أن نعظ أنفسنا ونذكرها بالله عز وجل، فنحن محتاجون إلى الوعظ جداً، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعظ أصحابه كما في الحديث: (وعظنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موعظة بليغة، وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله ! كأنها موعظة مودع فأوصنا)
وكل واحد من المؤمنين يعظ نفسه ويحاسبها، فنحن نحتاج إلى كتب وعظ نقرأها لنعظ أنفسنا، وأن نذهب إلى من نسمع منه كلاماً يرقق قلوبنا، والموعظة الطيبة قصيرة خفيفة مؤثرة بعيدة عن التعقيب، والواعظ إذا فرغ يقوم، كما أن موسى نبي الله ذكر الناس يوماً حتى إذا رقت القلوب، وفاضت العيون ولى؛ حتى تبقى الموعظة في النفوس.
هنا مسألة: لماذا إذا سمعنا الموعظة تأثرنا، فإذا غاب الواعظ وانقطعت الموعظة، أو خرجنا من خطبة الجمعة زال التأثر؟ أكثر العامة إذا وعظوا تأثروا وتراهم يبكون في رمضان في دعاء القنوت إذا كان مؤثراً، فالمواعظ عندهم كالسياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها كما تؤلم وقت وقوعها، والموعوظ لا يحضر مجلس الوعظ في الغالب وهو جائع أو به حاجة، ولذلك يكون مقبلاً مستجمعاً نفسه، وإذا أتى المسجد يكون قد تخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا، فإذا غادر وعاد إلى الشواغل عادت إليه الغفلة، فكيف يبقى على ما يكون؟
فإذا استمعنا الموعظة ينبغي أن يكون عندنا عزم بلا تردد ولا التفات، ولو أحسسنا نقصاً عادياً كما شعر حنظلة فلسنا بملومين، لكن أن نغادر فنعصي أو نترك الواجبات هذه هي المصيبة.
وبعض الناس لا يتأثرون مطلقاً لا في حال الموعظة ولا بعدها، وبعضهم يتأثرون وقت الموعظة وينسى بعدها، وبعض الناس يريد الله بهم خيراً فيتأثرون وقت الموعظة ويستمر هذا التأثر بعد الموعظة.
كيف تعظ نفسك؟
إذا أرادت نفسك أن تنشغل بالدنيا ذكرها بقول الله: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً [آل عمران:178].
إذا هوت نفسك متاعاً زائلاً عظها بقول الله تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].
وقل لها: ألم يدخل عمر رضي الله عنه إلى رسول الله وهو يتقلب على رمال الحصير قد أثر في جنبه، وبكى عمر وقال: (كسرى وقيصر في الديباج والحرير وأنت يا رسول الله في هذا ! فقال: ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا).
وذكرها بقول الله، وعظها بسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لو انشغلت نفسك في الدنيا فقل لها: ألم يقل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
وتقول: لقد ثبت الأجر من الله للمؤمن، وزمن التكليف قصير فاصبري، ولا ينبغي للعامل في الطين أن يلبس نظيف الثياب، لو أنك تعمل بالطين -تعمل في البناء- هل تلبس الثياب النظيفة؟ فأنت الآن في الدنيا وفي العمل فلا تنشغل بالدنيا - وليس المقصود أنك لا تلبس الملابس النظيفة - بل ينبغي على العبد أن يصابر ساعات العمل، فإذا فرغ من العمل تنظف ولبس أجود ثيابه، ومن ترفه وقت العمل ندم وقت توزيع الأجرة، وعوقب على التواني.
وتعظ نفسك فتقول:
وكيف تنام العين وهي قـريرة ولم تدر في أي المحلين تنزل |
في الجنة أم في النار؛ ينبغي لمن رأى نفسه تنجر إلى الرذائل أن يعظها ويذكرها؛ تذكرها إذا دنت إلى الرذائل ومالت إليها بكرامتها عند الله، وكيف أن الله عز وجل خلق آدم بيده، وأسجد له الملائكة وارتضاه للخلافة في الأرض، وراسله بالكتب والرسل، فإذاً تقول: يا نفس! هذا الرب كرمك: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70] وهذه البهائم تمشي على أربع ورأسها إلى أسفل وأنتِ تمشين على رجلين ورأسك إلى الأعلى؛ كرمك خلقةً، وكرمك بإنزال الكتب وإرسال الرسل من أجلك، واقترض منك: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة:245] واشترى منك: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111].
فإذا رأيت نفسك تتكبر فروضها بموعظتها وبتذكيرها وبحقارة أصلها، وأنها خلقت من ماء مهين، وتقول لها: هل أنت إلا قطرة من ماء مهين تقتلك شرقة، وتؤلمك بقة (بعوضة) وإذا رأيت تقصيراً من نفسك فعرفها بحق سيدها ومولاها وربها سبحانه وتعالى.
وإن توانت عن العمل في الصلاة وفي غيرها فذكرها بحق سيدها وبقصر الأجل، وجزالة الثواب.
وإن مالت إلى الهوى فخوفها الإثم وعاجل العقوبة كقول الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ [الأنعام:46] هذه العقوبات المعنوية، والعقوبات الحسية: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146] هذه العقوبة أن الله لا يمكن بعض الناس من أن يتدبروا في آياته: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146].
ولو أن نفسك تاقت لما عليه بعض أهل الدنيا والمعصية من الزخارف والبهجة والنعيم فذكرها بأنه يزول قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79] ماذا قال الذين أوتوا العلم؟ انظروا -أيها الإخوة- ماذا يفعل العلم: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً [القصص:80] ولكن لا يلقاها إلا الصابرون.
ذكرها أن بسط يد العاصي هو قبض في الحقيقة؛ لأن هذا البسط يوجب له عقاباً، وذكرها أن قبض يد الطائع -لو رأيت مسكيناً عابداً زاهداً متمسكاً بدينه لكنه ضعيف مستضعف مسكين- فذكرها أن قبض يد الطائع يوجب بسطاً في الحقيقة؛ لأن هذا القبض يوجب أجراً جزيلاً.
فإذا دعتك نفسك لارتكاب المحرمات والمعاصي، وانجذبت إليها ففسر لها لماذا تنجذب إلى الممنوعات؟ ولماذا كل ممنوع مرغوب؟ إذا عرفنا السر سهل علينا الصمود، إذا عرفنا الحقيقة هانت المسألة، فالنفس تحب الممنوع، وتهفو إليه، ويزيد حرصها كلما زاد المنع، وتستلذ بالحرام ولا تستطيب المباح؛ لأنه يشق عليها أن تمنع ويحظر عليها، وتأمل حال أبينا آدم وأمنا عليهما السلام لما نهيا عن الشجرة حرصا عليها مع كثرة أشجار الجنة -سبحان الله!- كل هذه الجنة بأشجارها أصبحت متروكة واتجهت الهمة إلى هذه الشجرة بالذات، ولماذا أكلا من هذه الشجرة بالذات؟ لأنها ممنوعة فانجذبت النفس إليها، ولولا المنع ما أكلا منها، ولا سألا عنها، ولا انجذبا إليها، ولا حرصا على الأكل منها؛ لكن لأجل المنع.
ولهذا فإن الله عز وجل يبتلي الناس بالممنوعات وبالمحرمات لينظر كيف تعملون؟ هل تمتنعون أو ترتكبون؟ هل ستتركون وتجتنبون أم ستلجون وترتكسون في أوحال هذه المعاصي؟
فماذا قال الشيطان لهما؟ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20] مؤكد أن فيها سراً، الشجرة فيها سر. مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20].
ولذلك قيل: لو أمر الناس بالجوع لصبروا، ولو نهوا عن تفتيت البعر لرغبوا فيه، وقالوا: ما نهينا عنه إلا لشيء، هناك سر فيرغبون في تفتيت البعر، مع أن البعر ما قيمته؟!
وقد قيل: أحب شيء إلى الإنسان ما منع منه، فالمؤمن صاحب البصيرة إذا منع من شيء فإنه يعلم أن في منعه حكمة، مثل المنع من الزنا والمنع من النظر إلى المرأة الأجنبية؛ لأن النظر سيعقبه عذاب في الدنيا والآخرة؛ عذاب في الدنيا كأن تتعلق النفس بهذا الشخص أو بهذه المرأة وتنجذب إليها، فإن وصل إليها بالحرام كانت العقوبة بالحرام، وإن لم يستطع الوصول إليها؛ لأنها ذات زوج أو غير ذلك صار له عذاب بالعشق، ولذلك لا يوجد محرم حرمته الشريعة إلا وفيه ضرر علينا، فالله من رحمته بنا لم يحرم علينا أشياء مفيدة لنا وليس فيها ضرر، أي شيء: خمر، خنزير، ربا، ميتة، زنا، سرقة، رشوة، غصب، كذب ، فأي شيء محرم علينا فيه ضرر علينا، وإذا فسرت هذا لنفسك هانت المحرمات والممنوعات، وعرفت كيف تتعامل معها، وذكر نفسك أن الجنة حفت بالمكاره وأن النار حفت بالشهوات.
فالنفس تشتهي ما يؤدي إلى النار، وتكره القيود والتكاليف، ولكن من لاح له فجر الأجر هانت عليه مشقة التكليف، وهان عليه الليل؛ لأن الفجر قريب، فذكر نفسك بذلك يا عبد الله إذا دعتك إلى فعل ممنوع .
ومن الوسائل: تسلية النفس بآيات الوعد (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح).
يقول ابن الجوزي رحمه الله: مر بي حمالان تحت جذع ثقيل وهما يتجاذبان بإنشاد الشعر، فأحدهما يصغي إلى ما يقوله الآخر ثم يعيده أو يجيبه بمثله والآخر مثل ذلك، فرأيت أنهما لو لم يفعلا هذا زادت مشقة الطريق وثقل الأمر، وكلما فعلا هذا هان الأمر، فتأملت السبب في ذلك فإذا به تعليق فكر كل واحد منهما بما يقوله الآخر، وانشغال فكره في الجواب على صاحبه فينقطع الطريق وينسى ثقل المحمول
نحن كلفنا بأمور صعبة فيها مشقة مثل صلاة الفجر وإسباغ الوضوء، وإخراج المال -الزكاة والصدقة- والصيام فيه مشقة، وكذلك الحج، والصدق، والتعفف عن الحرام، وغض البصر، وعدم سماع الغناء؛ فالنفس تحب الألحان والطرب، ولتقطع الحياة -وهي الزمن والوقت- بتحمل المشاق لا بد أن يكون لك حادٍ، فإن الإبل في طريق السفر إذا كلت وملت ماذا يفعل سائق البعير -الراحلة-؟
ينشد لها، والعرب تسمي هذا النشيد حُداءً، والحادي يحدو بالإبل، فإذا حدا بها نشطت وأسرعت وذهب عنها الكلل والملل، نحن الآن نسير إلى الله، والعمر يمضي وفيه مشاق وتكاليف، وفيه صعوبات، وخاصة في هذا الزمان زمان الفتن، فتن الصور والمجلات وفتن التلفزيون، وفتن الملابس وفتن السوق وغيرها من الفتن الكثيرة.
وأنت تمشي في هذا الطريق عليك صلوات، وعليك صيام، وعليك التزام بالأخلاق الإسلامية والصدق والأمانة .. إلى آخره، والنفس تدعو إلى الروغان والمحرمات والوقوع في الممنوعات والكذب والخيانة، وأخذ المال من أي طريق، وإطلاق البصر، وإطلاق العنان للأذن تسمع ما تشاء.
لكي يمضي العمر وأنت تتحمل مشاق التكليف ماذا ينبغي عليك أن تفعل لتسوس نفسك وتروضها على قطع الطريق؟
تحدو بنفسك في مسيرها بآيات الله وذكره، وأحاديث رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليست مثل ألحان الإبل، فالإبل لا تعقل ولا تفهم الكلام لكن تأنس بالصوت وتسرع لأجل الصوت، رغم أنها لا تفقه الكلمات.
الله ضرب مثلاً للذين يسمعون ولا يفهمون: كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة:171] لا يفهم الكلام، لكنه يسمع صوتاً بدون فهم كلام، مثل الدابة ومثل الشاة عندما يدعوها الراعي تستجيب لكن بدون فهم للكلام، فنحن نحدو بأنفسنا في سيرها إلى الله بآيات وأحاديث ترفع الهمة وتنشط العزيمة، وتكبت الحرام، وتثبط الرغبة إليه، وهكذا نندفع في الطاعات ونحجم عن المعاصي، ونحن نسير إلى الله تعالى.
فتسلية النفس بآيات الوعد لتكون هذه الآيات والأحاديث في بيان الأجر والثواب مثل: الحادي (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح).
والنفس كالطفل إن تهمله شب علـى حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم |
ومن وسائل ترويض النفس فطمها عن المألوفات، مهم أن يكون لدينا انقطاع عن المألوفات أحياناً، ونحن لا نحتاج أن نتكلف ذلك؛ لأن عندنا من العبادات ما يفطم نفوسنا عن مألوفاتها.
من أمثلتها:
عبادة تعود النفس على ترك المألوفات: الصيام، وقيام الليل، والحج، إذاً: عندنا في الدين عبادات تساعد النفس على ترك المألوفات فتنفطم النفس وتتقي، وهذا يساعد على ترك الحرام؛ لأنك إذا تركت الحلال المتعود عليه كالنوم والطعام لله وهو حلال، فأحرى أن تترك الحرام.
كذلك من وسائل ترويض النفس العظيمة إدراك إقبالها وإدبارها فتلتمس إقبالها للزيادة من الطاعات، وإدبارها لإلزامها بالواجبات والامتناع عن المحرمات.
قال عمر رضي الله عنه: [إن لهذه القلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإذا أدبرت فألزموها بالفرائض] أقل شيء إذا انحدرت وانحدرت ألا تصل إلى مستوى تترك فيه واجباً أو تفعل فيه محرماً.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن لكل عمل شرة) نهاية عظمى علوية، وكل شرة وكل نهاية علوية وصعود لابد أن يقابله هبوط: (ولكل شرة فترة) النفس لا تستطيع أن تستمر على حالة واحدة: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) من كان في حال فتوره لا يترك واجباً ولا يعمل محرماً فقد اهتدى.
ولذلك كان من سياسة النفس: عدم إملالها، فقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلغه أن عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل ويصوم النهار، فأراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبين له اتباع السنة، والتوسط في الأمور، فقال له: (ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ قلت: إني أفعل ذلك، قال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك، ونفهت نفسك، وإن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك حقاً، فصم وأفطر، وقم ونم) رواه البخاري.
معنى هجمت عينك أي: غارت وضعفت لكثرة السهر.
ونفهت نفسك: كلَّت، وملَّت، وتعبت.
إن لنفسك عليك حقاً: تعطيها ما تحتاج إليه ضرورة البشرية مما أباح الله من الأكل والشراب والراحة، الذي يقوم به بدنه ليكون أعون على عبادة ربه - هذا كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث.
استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
كيف تقرأ كتاباً؟ | 3160 استماع |
كيف تتعامل مع والديك | 2886 استماع |
كيف نتحمس لطلب العلم | 2726 استماع |
كيف نحب النبي صلى الله عليه وسلم | 2725 استماع |
كيف نتعامل مع الناس [2]؟ | 2678 استماع |
كيف يخدم هذا الدين | 2669 استماع |
كيف تكون مجالسنا إسلامية؟ [3] | 2592 استماع |
كيف نتعامل مع أخطاء الناس؟ | 2561 استماع |
كيف تزكي أموالك | 2303 استماع |
كيف ينظم المسلم وقته؟ | 2271 استماع |