خطب ومحاضرات
تربية النفس على العبادة
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد:
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وتحيةٌ في هذا المجلس الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون زائداً في إيماننا، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا.
أيها الإخوة: موضوعنا الليلة بعنوان: تربية النفس على العبادة.
إن الله سبحانه وتعالى قد امتدح أقواماً بأنهم من العابدين، فقال عز وجل: وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ [الأنبياء:73] فأثنى عليهم لاجتهادهم في عبادة ربهم، وجعل الله الأجر للعابدين كاملاً موفوراً بما صبروا على عبادة ربهم، وضرب الله لنا الأمثال في القرآن من العابدين والعابدات، فذكر لنا من أنبيائه الذين كانوا يسارعون في مرضاته وعبادته رغباً ورهباً وكانوا لله سبحانه وتعالى من الخاشعين، ولو أخذنا مثالاً واحداً على نموذج من النماذج وهو مريم عليها السلام، مريم التي كانت قدوة للعابدين والعابدات في القديم والحديث، التي كانت تقنت وتركع وتسجد، مريم التي وصفها الله بأنها من القانتين: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً [آل عمران:37] هذه التي اتخذت مكاناً شرقياً، شرق بيت المقدس تعبد الله، وكانت أمها قد نذرتها لخدمة المسجد فقالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً [آل عمران:35] وأعاذتها وذريتها من الشيطان الرجيم.
ولذلك، ما أحوجنا إلى التأسي بعبادة العابدين! ولا شك أن العبادة شيء شاق ويتطلب كثيراً من الجهد والتعويد والمجاهدة لحمل النفس على العبادة، وتربية النفس على العبادة نتكلم عنها من خلال بعض نقاط ومنها:
أولاً: العلم بها.
ثانياً: معرفة فضلها.
ثالثاً: المسارعة إليها.
رابعاً: الاجتهاد فيها.
خامساً: تنويعها.
سادساً: الاستمرار عليها.
سابعاً: عدم إملال النفس منها.
ثامناً: استدراك ما فات.
تاسعاً: رجاء القبول مع خوف الرد.
وكذلك من تربية النفس على العبادة: تعويدها من الصغر، وقراءة سير العباد والزهاد، والانخراط في الأوساط الإيمانية.
العلم بالعبادة
ولذلك يخشى اللهَ من عباده العلماءُ؛ لأنهم علموا الشريعة وعلموا العبادة، وطبقوا ذلك وما رسوه، وهذا أمر بدهي ومعروف، لا يعبد الله إلا بما شرع، ولا يعبد بالبدع.
المسارعة إلى العبادة
فأنت ترى أن لفظة المسارعة والمسابقة وكذلك قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] أي: السعي.
ووصف الله عباده الصالحين وهم زكريا وأهله بأنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود في سننه : (التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة) فإنه لا تؤدة ولا انتظار وإنما هو مسارعة ومسابقة، وهذه المسارعة والمسابقة تدل على عمق الإيمان في النفس، فإنه كلما تأصل الإيمان في النفس كان العبد إلى المسارعة في مرضاة ربه أكثر، ولما دنا المشركون من المسلمين في غزوة بدر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) قال أنس -راوي الحديث والحديث في صحيح مسلم -قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري : (يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال:نعم. فقال
قال صلى الله عليه وسلم وكلامه وحي يوحى: (فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لإن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة) قال: فرمى بما كان من التمر ثم قاتل حتى قتل رضي الله عنه.
كانوا يتسارعون إلى طاعة الله، فإذا نادى المنادي وأذن المؤذن وقد رفع أحدهم مطرقته، ألقاها وراء ظهره ثم سارع إلى الصلاة.
الاستمرار على العبادة
ذلك أن بعض الناس إذا سمع خطبة أو شريطاً أو موعظة يتحمس للعبادة، قد يتحمس للعبادة ويستمر في هذا الحماس أياماً، ولكنه بعد ذلك ينطفئ حماسه ويعود إلى سابق عهده من الدعة والكسل عن العبادات والتقاعس عن الأعمال الصالحة.
ولذلك، فإن من التربية أن يعود الإنسان نفسه على الالتزام بقدر من العبادة يداوم عليها من الأعمال المشروعة، أما الواجبات فلا بد من القيام بها دائماً، لكن المستحبات مثل: قراءة القرآن، وذكر الله، ونحو ذلك، لا بد أن يعود الإنسان نفسه على القيام بشيء منها، لما (سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل ) أي: أن المسلم مطالب بأن يستمر، وهذا معنى المداومة.
وروى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا عمل عملاً أثبته فداوم عليه واستمر عليه) .
الاجتهاد في العبادة
وقال الله تعالى عن عباده الصالحين أهل الجنة: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:17-19]. والذي يطلع على حال السلف في تحقيق صفات العابدين، والاجتهاد في العبادات فهو شيء يبعث على العجب والإعجاب، ويقود إلى الاقتداء من أصحاب النفوس السليمة، ألم تر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل أصحابه مرة فقال: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال
وفي رواية: (ما اجتمعن في امرئ في يوم إلا دخل الجنة) فإذا كنا نستطيع في يوم من الأيام أن نصبح صائمين، ونتبع جنازة، ونطعم مسكيناً، ونعود مريضاً، فإننا في هذه الحال نشعر ولا شك بنوع من السمو في الإيمان والقوة في الدين بسبب اجتماع العبادات والاجتهاد فيها، ولا شك أن الصديق لما سئل لم يكن مخططاً بأن يقوم بهذه الأعمال من أجل السؤال، وإنما كان ذلك يوماً طبيعياً عادياً من أيام الصديق ، وما سبق الصديق الأمة وكان في الفضل بعد نبيها إلا بأشياء من هذا القبيل، وقد كان السلف رحمهم الله تعالى، يجتهدون في العبادة ويملئون أوقاتهم بها، وهذه عبارة كانت تقال عن جماعة من السلف ، ومنهم حماد بن سلمة على سبيل المثال، قال فيه الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: لو قيل لـحماد بن سلمة : إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً، فهو بالغ للغاية والنهاية في أعمال البر والعبادة، ولا يستطيع المزيد، لأنه مشبع، ويومه مشبع بأوقات الطاعات والعبادات.
ومن الأمور -كذلك- التي تدل على أن السلف رحمهم الله كانوا مجتهدين في العبادة، ما نقرأ في سيرهم أنهم كان لهم سبع من القرآن يختمونه كل يوم، هذا حال الصحابة يختمون القرآن في أسبوع سبعة أقسام معروفة، وكانوا يقومون الليل وحالهم معروف في قيام الليل وقراءتهم للقرآن القراءة الكثيرة المتواصلة، حتى إن بعضهم ربما إذا أصبح رفع رجليه على الجدار ليعود الدم إلى الجسم من طول القيام، وكانوا يقومون الليل في ليالي الغزو، ففي الصباح قتال وفي الليل صلاة وقيام، يذكرون الله ويتهجدون، حتى في السجن لو أدخلوهم قاموا يصلون، يصفون أقدامهم، وتسيل دموعهم على خدودهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض.
يخادع أحدهم زوجته، كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أنها نامت انسل من لحافها وفراشها لصلاة القيام، وكان بعضهم يقسم الليل على نفسه وأهله، فيوقظ بعضهم بعضاً متتابعين للصلاة، ونهارهم في الصيام، والتعلم، والتعليم واتباع الجنائز، وعيادة المرضى، وقضاء حوائج الناس.
إذاً: أوقاتهم كانت مملوءة بالطاعة وهذا شيء مهم جداً أن تكون الأوقات ممتلئة بالطاعة، لو حصل هذا لو صلنا إلى مراتب عليا، ولوصلنا إلى منازل في غاية الرفعة والسمو، وكان بعضهم يُنفق على عيال أخيه بعد موت الأخ لسنوات، فهؤلاء الذين كانوا يراعون جميع الجوانب من جهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وعبادة وصلاة وقيام، وأمور اجتماعية كالإنفاق على المحتاجين وغيرهم، هؤلاء هم أهل الجنة فعلاً.
عدم إملال النفس
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) فإذاً: لا بد من مراعاة النفس إذا أقبلت فأعطها المجال للزيادة؛ لأن النفوس لها إقبال وإدبار، لها ارتفاع وانخفاض كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لكل عمل شرة) وفي رواية: (لكل عامل شرة) أي: نهاية عظمى وقمة، (ولكل شرة فترة) تقابلها وتعقبها، وهكذا في ازدياد ونقصان فالإيمان يزيد وينقص، وارتفاع وانخفاض (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) فمن كان في حال فتوره متبع للسنة موافق، بحيث إنه قائم بالواجبات ممتنع عن المحرمات فهذا مهتد (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) من كان في حال فتوره قائم بالواجبات تارك للمحرمات فهذا على خير عظيم.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (القصد القصد تبلغوا) الاقتصاد في العبادة، بمعنى: أنه يراعي نفسه، فينشط وقت النشاط ويرتاح في وقت الفتور والتعب؛ لأنه إذا حمل على نفسه حملة واحدة، شق عليها وربما تركت العبادة وانقطع به الحبل، لكن لو أنه يعمل الواجبات ويترك المحرمات، والمستحبات يأخذ ما استطاع منها، إذا نشط زاد، وإذا فتر ارتاح، هذه الطريقة المثلى في العبادة.
وقال البخاري رحمه الله: باب ما يكره في التشديد في العبادة: عن أنس رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لـ
ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل كله ويصوم النهار متتابعاً، سأله فأخبره وأقر أنه هذا ما يفعله، فنهاه عليه الصلاة والسلام وعلل ذلك بقوله: (فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك، ونفهت نفسك) هجمت عينك أي: غارت أو ضعفت من كثرة السهر، ونفهت نفسك أي: كلت وتعبت وسئمت هذا التواصل المستمر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله عز وجل لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله عز وجل أدومه وإن قل) .
نحن نقول: إننا لا نشتكي من قضية الذين يشددون على أنفسهم في العبادات بقدر ما نشتكي من المفرطين على أنفسهم من الذين قصروا في العبادات.
أقول مرة أخرى: في هذا الزمن الواقع الذي نعيش فيه نحن لا نشتكي من الذين يشددون على أنفسهم في العبادات بقدر ما نشتكي من قلة العبادات فينا ومن تكاسلنا عن العبادات، وتراخينا في القيام بها، وتقاعسنا عن أدائها، ورغبتنا عنها وعن مواسمها، وكأننا مستغنون عن الأجر، هذا الذي نشتكي منه أكثر، لكن من باب عرض الموضوع فهذا من الشمولية فيه وإلا فإن التقصير عندنا أكثر من الزيادة، الزيادة مضرة لكن نحن نشتكي من التقصير أكثر، ونشتكي من الكسل.
استدراك ما فات
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة داوم عليها، وكان إذا فاته القيام من الليل -بسبب مثلاً غلبته عيناه بنوم أو وجع- صلى ثنتي عشرة ركعة من النهار] يعني: كان يشفع وتره، أي: يزيد ركعة.
وفي رواية: (كان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة) ومن الأدلة كذلك: أن أم سلمة -والقصة في صحيح البخاري - جاءها ضيوف من الأنصار، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام وصلى ركعتين، وهي عندها ضيوف، وكانت لا تريد تركهم، فقالت للجارية: اذهبي إليه فقومي بجانبه فقولي له: تقول لك أم سلمة : إنك نهيت عن الركعتين بعد العصر، وأراك تصليهما، فإن أشار إليك فتأخري عنه، فجاءت الجارية ووقفت بجانب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقالت له هذا الكلام، فأشار إليها فتأخرت الجارية وذهبت، وبعدما فرغ من صلاته جاء إلى أم سلمة فقال: (يا
وكذلك: جواز الإشارة في الصلاة.
وفوائد كثيرة أخرى ذكرها الحافظ رحمه الله في الفتح ، الشاهد أنه قال لها: (يا
وهذه الأحاديث تدل على مشروعية قضاء السنن الرواتب، وتدل على مشروعية قضاء صلاة الليل، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله في صومه صلى الله عليه وسلم شعبان أكثر من غيره، لماذا كان عليه الصلاة والسلام يصوم أكثر شعبان؟ حتى قالت: بل كله، ذكر ثلاثة أسباب في تعليقه على سنن أبي داود ، وابن القيم له تعليق نفيس جداً على سنن أبي داود مطبوع مع شرح الخطابي ، يقول: ليس فقه ابن القيم في زاد المعاد فقط، بل في هذا الكتاب فقه عظيم.
يقول: من أسباب إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصيام في شعبان:
أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فكان ربما شغل عن الصيام أشهراً فجمع ذلك في شعبان ليدركه قبل صيام الفرض، كأن يخرج في سفر أو في جهاد أو أنه قد يمرض فلا يصوم ثلاثة أيام من الشهر التي كان يصومها وهو متعود عليها، فكان يقضيها في شعبان.
وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان -وهذا معروف- فلما فاته الاعتكاف مرة لعارض السفر، اعتكف في العام المقبل عشرين يوماً، ولذلك عنون عليه البخاري : الاعتكاف في العشر الأواسط، يعني: أن الاعتكاف في العشر الأواسط، من رمضان -أيضاً- مشروع، إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فاته شيء لا يضيعه ويتركه لفواته وإنما كان يستدركه، وهذا الاستدراك مهم في الاستمرار على العبادة، والحمد لله أن الشريعة فتحت لنا باب الاستدراك، حتى يحس الإنسان أنه عوض شيئاً فاته.
رجاء القبول مع الخوف من الرد
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60] هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟) -يعني: يعملون أشياء ويخافون من الأعمال السيئة التي فعلوها، يعبدون الله ويتصدقون ويخافون مما عملوا من شرب الخمر والسرقة مثلاً- (قال: لا يا ابنة
لا يا ابنة الصديق ! ليس ما ظننتيه ولكنهم الذي يسارعون في الخيرات منهم، ولكنهم: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60] ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [المؤمنون:61] الخشية هذه من رد العمل مهمة، والمؤمن يجب أن يعيش بين الخوف والرجاء، مهما كثرت العبادة يخشى على نفسه لربما وقع في عجب أذهب أجره، أو وقع في شيء من الرياء أو الاغترار، ثم إنه مهما عبد فلا يكافئ نعمة البصر، فأي شيء يظن في نفسه؟
ومن صفات المؤمنين: احتقار النفس أمام الواجب من حق الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد : (لو أن رجلاً يُجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة) كله عبادة متواصلة لا نوم ولا أكل ولا شرب، كله عبادات متواصلة في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة، يعني: بجانب ما يرى من الواجب عليه في النعم وحق الله يرى أن ما عمله طيلة حياته من يوم ولد إلى يوم يموت يراه لا شيء بجانب حق الله، ولذلك لا يمكن أن يكون المسلم مغتراً بالعبادة مهما كثرت عبادته؛ لأن من عرف الله وعرف النفس، يتبين له أن ما معه من البضاعة لا يكفيه ولو جاء بعمل الثقلين، وإنما يقبله الله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيب عليه بكرمه وجوده وتفضله.
ومن اللفتات الجليلة ما كان يقوله أبو الدرداء رضي الله عنه: [لئن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها إن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]] لو علمت أن الله تقبل صلاة واحدة، لكان عندي شيئاً عظيماً، ولشعرت بطمأنينة، ونحن نعمل ولا ندري أيقبل منا أو لا يقبل، لكن يجب أن يكون عندنا حسن ظن بالله أنه يقبلها منا، إذا صليت وصمت يجب أن يكون عندك حسن ظن بالله أنه يقبلها منك، لكن هل تقطع لنفسك أنها قبلت؟ لا. حسن الظن بالله أنه يقبل، ورجاءً أن يقبل لا يعني: أنك تقطع لنفسك أنه قبلك، فإذا بقيت على هذا الشعور بين الرجاء وحسن الظن بالله أنه يقبل، وبين الخوف من ردها عليك وعدم قبولها، أو حبوطها، لكان المسلم يعمل ويعمل وهو على خير عظيم.
التنويع في العبادة
وإذا التفت إلى هذا النوع من قيام الليل لوجدته أنواعاً متنوعة، فمنه تستطيع أن تصلي واحدة وثلاثاً وخمساً وسبعاً وتسعاً، وإحدى عشرة، تستطيع أن تصلي مثنى مثنى، وفي قول بعض أهل العلم في رواية: (يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً) ووردت رواية: (أنه يصلي خمساً بتشهد وسبعاً بتشهد واحد وتسعاً بتشهد واحد) فإذاً: الكيفيات تتنوع، فالتحيات -الصلاة الإبراهيمية- صيغها متنوعة، ودعاء الاستفتاح متنوع الصيغ.
هذا التنوع يمنع الملل، وهذا من رحمة الله، وكذلك الصيام فيه معنى لا يوجد في الزكاة، والزكاة فيها معنى لا يوجد في الصلاة، والحمد لله أن عبادات هذا الدين ليست نوعاً واحداً ولا متماثلاً وإنما هي متنوعة تنوعاً كثيراً، ولذلك يحصل التجدد في النفس، فلا تمل وتنجذب وتستلذ بالعبادة.
وسبحان الذي جعل أبواب الجنة منوعة على أنواع العبادات، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في البخاري: (من أنفق زوجين في سبيل الله ) -من أي شيء؟ من الإبل أو من البقر أو من الغنم أو من الذهب أو من العبيد- (نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله ! هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) الحديث.
أبواب الجنة منوعة، ومنها باب الوالد: (الوالد أوسط أبواب الجنة) كما جاء في حديث أبي الدرداء ، يعني: أن بر الوالدين باب من أبواب الجنة، فتنوعت أبواب الجنة على أنواع العبادات، وهناك من يدعى من هذه الأبواب، ومنهم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولعله مما يفسر ذلك الحديث المتقدم، في عيادة المريض والجنازة وإطعام المسكين والصيام، ما المقصود بباب الصيام وباب الصلاة؟ هل معناها أن المصلين يدخلون من باب الصائمين والذين لا يصلون يدخلون من باب آخر؟ كل هؤلاء الذين يدخلون من هذه الأبواب يدعون -حسب الحديث- يدعون من الأبواب المختلفة، كلهم من القائمين بالواجبات الذين يدخلون الجنة ولا شك، لكن الذي يدعى من باب الريان المكثر من الصيام النفل، والذي يدعى من باب الصلاة: الذين يكثرون من صلاة النفل، والذي يدعى من باب الصدقة المكثر من الصدقة النفل، وإلا فإنهم جميعاً يصلون الفرائض، ويصومون رمضان، ويؤتون الزكاة الواجبة.
ولكن لأن بعض النفوس تستلذ بعبادة دون أخرى، وتميل إلى نوع دون آخر، وقد تزيد فيه وتكثر منه، فالله جعل لهم باباً يدعون منه على حسب العمل الذي قد استكثروا منه في الدنيا، وإلا فجميع من يدعى ممن أدوا الفرائض بطبيعة الحال، وهناك أناس يتقنون فن الجهاد ويحبون الجهاد ولا يتركون سريةً ولا جيشاً إلا يخرجون فيه، وهكذا.. وأناس اشتهروا ببرهم لآبائهم وأمهاتهم، ملازمين لهم، طائعين لهم بطاعة الله، هؤلاء لهم باب يدعون منه، لكن الجميع قائمون بالواجبات تاركون للمحرمات، هذا واجب عليهم، لكن المكثر من نافلة من النوافل يدعى من بابه يوم القيامة، وهذا التنوع الاستفادة منه في جذب النفس إلى العبادة، لأن بعض الناس -مثلاً- قد يكون له جسم قوي، ويصبر على الجوع، ولا يشعر بألم الجوع كثيراً، فيجد الصيام سهلاً بالنسبة له، وآخر عنده مال كثير فالصدقة سهلة بالنسبة له، وإنسان لسانه سهل الحركة، وكل الألسنة سهلة الحركة لكن عنده أن الذكر مهم، عنده أن الذكر له مرتبة خاصة، مكانة خاصة في نفسه، فهو يكثر منه، فتراه دائماً يذكر الله ولا يمل لسانه من ذكر الله، ولا يفتر لسانه من ذكر الله، ولا يزال لسانه رطباً من ذكر الله، فهذا النوع عنده سهل، فأقول: لا بأس أن الإنسان إذا وجد نافلة من النوافل سهلة عليه أكثر من غيرها، فالأفضل له أن يستزيد منها وأن يكثر منها وهو مبشر بهذا الأجر، وهو الوارد في حديث دعاء أصحاب النوافل من أبوب الجنة التي خصصت لهم، وهناك عبادات للإنسان فيها طعم خاص، ولها أثر خاص في النفس مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الثلاثة الذين يحبهم الله: (الرجل يلقى العدو في الفئة فينصب له نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلون، فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم) هذا الرجل أصابه ألم السفر وتعب السفر مثلما أصابهم، لما أحبوا أن يمسوا الأرض، مسوا الأرض ليناموا فإذا به يتوضأ ويقوم للصلاة حتى يوقظهم لرحيلهم، هذا يحبه الله. (والرجل يكون له جار يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ضعن) إما أن يرحل هو عن جاره أو أن يرحل الجار عنه، أو يموت واحد منهما، فهو صابر على أذى الجار، هذه عبادة لها لذة في النفس وأثر.
أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك؛ يلن قلبك وتدرك حاجتك) فالاعتناء باليتيم عبادة لها أثرها في النفس، ولذلك قال: (أتحب أن يلين قلبك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك) .
الإلمام بنصوص الترغيب في العبادة
فالشريعة لما فتحت الباب للعبادات وحثت عليها، كان من وسائل الحث -أيها الإخوة!- ذكر الأجور، أجور معينة للعبادات؛ لأن النفس تتحمس إذا ذكر الأجر، فلنأخذ على سبيل المثال بعض الأحاديث الواردة في أجور مرتبة على أداء بعض العبادات، ونتمعن فيها لنجد أن ذكر الأجر يحمس النفس ويشجع على العبادة، قال عليه الصلاة والسلام: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة) أي: من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، تجلس معهم يذكرون الله، ويقرءون القرآن، ويقرءون العلم، هذا أحسن من أن يعتق أربعة رقاب، مع أن عتق الرقبة فيه فضل عظيم. (
العلم بالعبادة لا شك أنه ركن مهم لكي تصح؛ لأن العبادة تتحول إلى بدعة إذا كانت بناءً على جهل، فإنه لا يُعبد الله إلا بالعلم، وعلى العلم وبنور من العلم فإذا كانت العبادة من جاهل وقعت في البدع، وهذا هو سبب وقوع الكثيرين ممن أرادوا التعبد لله والتنسك وقعوا في البدع والسبب هو جهلهم.
ولذلك يخشى اللهَ من عباده العلماءُ؛ لأنهم علموا الشريعة وعلموا العبادة، وطبقوا ذلك وما رسوه، وهذا أمر بدهي ومعروف، لا يعبد الله إلا بما شرع، ولا يعبد بالبدع.
استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تربية الطفل في الإسلام | 2549 استماع |
تربية الزوجة | 2386 استماع |
تربية البنات مهمة صعبة | 2282 استماع |
تربية النفس على الجدية | 2236 استماع |
تربية النفس على التعاون على الخير | 1599 استماع |