شرح سنن أبي داود [236]


الحلقة مفرغة

شرح حديث (من استطاع منكم الباءة فليتزوج)

قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [ كتاب النكاح.

باب التحريض على النكاح.

حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة أنه قال: إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بمنى إذ لقيه عثمان رضي الله عنه فاستخلاه، فلما رأى عبد الله أن ليست له حاجة قال لي: تعال يا علقمة . فجئت فقال له عثمان : ألا نزوجك يا أبا عبد الرحمن! بجارية بكر لعله يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد؟ فقال عبد الله : لئن قلت ذاك لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) ].

قوله: [ كتاب النكاح ] النكاح في اللغة: هو الضم والتداخل، يقال: تناكحت الأشجار إذا تداخلت وانضم بعضها إلى بعض، وفي الاصطلاح: هو عقد بين زوجين يحل به الوطء، والوطء شرعاً لا يجوز إلا بأحد طريقين: أحدهما: الزواج، والثاني: ملك اليمين، قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [ المؤمنون:5-7 ]، فالذي شرعه الله عز وجل في ذلك أمران اثنان لا ثالث لهما، وهما الزواج وملك اليمين، وما سوى ذلك فهو من العدوان، وهو من الخروج عن الحق إلى ما سواه.

وعقد المصنف رحمه الله باب التحريض على النكاح، والتحريض: هو الحث عليه والترغيب فيه، وأورد حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).

والحديث حدث به عبد الله بن مسعود بمناسبة ذكرت في الحديث، وهي أن علقمة بن قيس النخعي قال: كنت أمشي مع عبد الله بن مسعود فدعاه عثمان في منى واستخلاه، يعني: خلا به فلم يكن معهما ثالث، فلما رأى عبد الله أن ليس له حاجة دعا علقمة فجاء وجلس معهما، وقال عثمان رضي الله عنه لـعبد الله : [ يا أبا عبد الرحمن ! ألا نزوجك بجارية بكر لعله يرجع إليى من نفسك ما كنت تعهد؟! -يعني: من النشاط- فقال: لئن قلت ذاك لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) ].

وهذا الذي ذكره علقمة مما حصل بين عثمان وابن مسعود من الخلوة والانفراد والتحدث ثم قال: [ فلما رأى أن ليس له حاجة ] جاء في بعض الشروح أنَّ معناه: أنه ليس له حاجة في النكاح، وليس هناك شيء من الروايات يدل على هذا المعنى، والذي يظهر هو خلاف ذلك، وهو أنه لما رأى أن الكلام الذي بينهما قد انتهى ولم يبق هناك حديث يكون سراً بينهما دعا علقمة ليجلس بينهما؛ لأن المقصود من الانفراد قد انتهى، فلم يكن هناك حاجة إلى أن يبقيا منفردين، فدعا علقمة فجاء وجلس معهما، وبعد جلوسه معهما قال عثمان رضي الله عنه لـعبد الله بن مسعود -وهو أبو عبد الرحمن -: يا أبا عبد الرحمن ! ألا نزوجك بكراً لعله يرجع إليك ما كنت تعهد من نفسك؟ ثم إن عبد الله حدث بالحديث بهذه المناسبة.

يقول العلماء في علم المصطلح: إن الحديث إذا كانت له قصة فإنها تدل على ضبط الراوي، فالراوي ضبط الحديث وضبط معه القصة التي كانت فيه، فـعلقمة ضبط القصة وحدث بالمناسبة التي جرت وحصلت وعلى أثرها جاء التحديث بالحديث، فهذا من الأمور التي تدل على ضبط الراوي لما رواه.

ومثله قول ابن عمر رضي الله عنه: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، فكونه يتذكر الهيئة التي حدثه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عليها -وهي وضع يده على منكبه- يدل على ضبطه للحديث.

سبب توجيه الخطاب إلى الشباب في الزواج

قوله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب) خطاب موجه للشباب، والسبب في ذلك أنهم عندهم القوة والنشاط والدوافع التي تدفعهم إلى ذلك، فكان الخطاب موجهاً إليهم بأنَّ عليهم أن يتزوجوا متى قدروا على ذلك ومتى تمكنوا منه.

قوله: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج): الباءة: هي النكاح وما يلزم له، وذلك بأن يكون عنده قدرة على أن يقضي شهوته بالزواج، فمن كان عنده قدرة على النكاح وعلى الزواج فعليه المبادرة إلى ذلك ولا يتخلف؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام حث ورغب وحرض على الزواج، وبعض الناس من الشباب أو الشابات قد يتعذرون في بعض الأحوال بأن الزواج قد يؤخرهم أو يكون سبباً في التأخر في الدراسة، فيترك أحدهم الزواج حتى يفرغ من الدراسة، وهذا ليس بصحيح، بل قد يكون الزواج سبباً من أسباب القوة والنشاط في الدراسة، وذلك لأنه يصرفك عن التفكيرات التي كنت تفكر بها فيما يتعلق بالزواج، فيكون عنده الإحصان والعفة، وعنده غض البصر، فيكون ذلك من أسباب نشاطه وقوته في الدراسة، وأما بالنسبة للشابات فإنه قد يكون الأمر في حقهن أخطر فيما يتعلق بالتأخير؛ لأن الفتاة إذا كانت في سن الشباب وفي السن الذي يطلب فيه زواجها ويرغب الشباب والرجال فيها ثم تأخرت عن ذلك وردت الكفؤ لأجل أن تكمل الدراسة فإنها قد تجلب على نفسها خسارة فادحة وخسارة عظيمة، وهي أنها تنصرف الرغبة عنها؛ لأنها تقدمت بها السن، ولأنها مضى عليها وقت ولم تتزوج، والوقت الذي يرغب فيها فيه قد فوتته على نفسها، فعند ذلك تضطر إلى أن تتزوج من شخص لا يكون محل رغبة عندها؛ لأنها فوتت الفرصة على نفسها، فتصبح ضرة شريكة بعد أن كان بإمكانها أن تنفرد بزوج، فترتب على ذلك حصول أضرار لها.

فالحاصل أن المبادرة إلى الزواج مطلوبة، فالشاب عليه أن يبادر إلى الزواج متى استطاع إليه سبيلاً، والفتاة إذا تقدم لها كفؤ فإن عليها المبادرة إلى الزواج وعدم التأخير.

فوائد الزواج

لقد بين عليه الصلاة والسلام شيئاً من الحكم والأسرار والفوائد التي تترتب على النكاح، ومن ذلك غض البصر، فالرجل المتزوج يغض بصره عن النساء، والمرأة المتزوجة تغض بصرها عن الرجال؛ لأنه قد حصل الاستغناء والاكتفاء والإعفاف، وكل قد عف الآخر وأحسن إليه، فترتب على ذلك غض البصر عن النظر إلى ما لا يحل.

قوله: (وأحصن للفرج) يعني: أن الإنسان يحصل له بالزواج عفة وإحصان الفرج؛ وذلك قضاء الشهوة وقضاء الوطر، فيكون بذلك قد ظفر بمطلوبه على الوجه المشروع، وسلم من أن يتعرض لأمر محرم، سواءٌ أكان وسيلة أم غاية، فالوسيلة المحرمة هي النظر، كما في الحديث: (العين تزني وزناها النظر) والغاية المحرمة الوقوع في الفاحشة والعياذ بالله.

العلاج عند عدم القدرة على الزواج

لما حث النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ورغب على الزواج والمبادرة إليه لمن قدر عليه أرشد بعد ذلك عليه الصلاة والسلام إلى العلاج لمن لم يقدر على ذلك، فأرشد إلى الصيام؛ لأن الصيام تضعف به القوة والنشاط والرغبة في الجماع، وأرشد عليه الصلاة والسلام إلى الصيام لأن فيه عبادة وقربة، وفيه حمية من الوقوع في المحذور وحصول الضرر الذي يحصل بقوة الشهوة مع عدم القدرة عليها، فالطريق الصحيح والطريق الشرعي الذي أرشد إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو الصيام، فقال: (ومن لم يستطع فعليه فعليه بالصوم) ]، ففيه ترغيب وحث على الصوم لمن لم يستطع الزواج؛ لأنه يحصل بذلك ضعف شهوته وضعف قوته، فتحصل الفائدة الكبيرة من وراء ذلك.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين عظم فائدة الصيام في حق الشاب الذي لا يستطيع الزواج، فقال: (فإنه له وجاء) أي: هو بمثابة الخصاء، والوجاء قيل: هو رض الخصيتين، أي: أنهما لا يستفاد منهما ولا يحصل بسببهما رغبة في النساء، فهو قاطع ومضعف للشهوة، ويكون بمثابة الخصاء الذي يجعل الإنسان لا رغبة له في النساء.

فهذا هو المسلك والسبيل الذي أرشد إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للتخلص من ذلك الضرر والبلاء الذي قد يحصل للإنسان نتيجة لقوة الشهوة من الاندفاع إلى المحذور والمحرم.

مشروعية المخاطبة بالكنى

في هذا الحديث أن عثمان رضي الله عنه وأرضاه خاطب عبد الله بن مسعود بكنيته، وهذا يدل على أن المخاطبة بالكنى صحيحة، وهي أدب كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يخاطب أصحابه بكناهم، وكان الصحابة يكني بعضهم بعضاً في مخاطبتهم، وهو من الآداب الحسنة والأخلاق الكريمة، وهو يؤدي إلى الألفة والمودة، فكون الرجل يخاطب بكنيته هو من الأمور المألوفة التي جاءت بها السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عليها أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه ذلك في أحاديث كثيرة، كان يخاطب أصحابه بكناهم، وأمثلته لا تحصى.

تراجم رجال إسناد حديث (من استطاع منكم الباءة فيلتزوج)

قوله: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة ].

عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في (عمل اليوم والليلة) وابن ماجة .

[ حدثنا جرير ].

هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن الأعمش ].

هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن إبراهيم ].

هو إبراهيم ين يزيد بن قيس النخعي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن علقمة ].

هو علقمة بن قيس النخعي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود ].

هو عبد الله بن مسعود الهذلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد فقهاء الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

هل وافق ابن مسعود على الزواج

إن هذا الذي عرضه عثمان رضي الله عنه على عبد الله بن مسعود يبين ما يدل على الترغيب فيه، لكن لا نعلم هل وافقه ابن مسعود وافقه على ذلك، فليس هناك ما يدل عليه، وقد كان ابن مسعود من الشباب في وقت مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، والكلام بينه وبين عثمان كان في خلافة عثمان رضي الله عنه، وعثمان رضي الله عنه تولى الخلافة سنة ثلاث وعشرين، ومكث في الخلافة اثنتي عشرة سنة، حيث توفي سنة خمس وثلاثين، وابن مسعود رضي الله عنه توفي في خلافة عثمان في سنة اثنتين وثلاثين، فمعنى ذلك أن الكلام كان في الفترة التي هي بين ثلاث وعشرين واثنتين وثلاثين.

وهنا مسألة وهي: هل لفظ النكاح يطلق على الوطء أو على العقد؟

الجواب: النكاح قيل: إنه يطلق على العقد، وقيل: إنه يطلق على الوطء، وقيل: إنه مشترك بينهما.

فمن العلماء من قال: إنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء، ومنهم من عكس، والذين يقولون: إن اللغة ليس فيها مجاز يقولون: إنه يطلق كثيراً على كذا ويطلق قليلاً على كذا، وكله إطلاق لغوي صحيح.

ومنهم من قال: إنه يطلق بالاشتراك، فهو لفظ واحد يطلق على هذا وعلى هذا، كما يطلق لفظ القرء على الطهر والحيض، وكما يطلق لفظ (عسس) على أقبل وأدبر، وهي من الألفاظ المتضادة، وكما يطلق اسم العين على العين الجارية والعين الباصرة وعلى النقد، فهذا يسمونه مشتركاً لفظياً.

وقد رجح بعض أهل العلم أنه حقيقة في العقد، وقال: إنه لم يأت في القرآن إلا بمعنى بالعقد غالباً، وقد جاء بمعنى الوطء في آية، وهي قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [ البقرة:230 ].

وقالوا: إن الذي جاء في السنة من تفسير النكاح بأن المقصود به ذوق العسيلة إنما هو زيادة إيضاح وبيان على العقد، وإلا فإن العقد موجود، ولكن بينت السنة أنه لا يتم حلها للأول إلا إذا وطئها الثاني، وأن مجرد العقد لا يكفي، بل لابد من أن تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها كما جاء في ذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومنهم من قال: إنه حقيقة في الوطء؛ لأنه هو الذي يكون به المقصود، وبه حصول الغاية وحصول المطلوب.

وقد ترجم الإمام أبو داود للباب فقال: باب التحريض على النكاح، والتحريض هو الحث، ولم يذكر له حكماً من الأحكام التكليفية الخمسة، والعلماء على أن الزواج إنما هو من الأمور المستحبة، وبعض أهل العلم قال: إنه يجب إذا خاف العنت، وأما إذا لم يخف العنت فإنه لا يجب عليه. وكثير من أهل العلم يقولون: إنه لا يجب عليه ولو خاف العنت، ويعتبرونه مستحباً.

وقول علقمة : (إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود بمنى) يمكن أن يكون في الموسم، لكن هذا يكون بعد التحلل الأخير، فبعد التحلل الأخير يحل للمحرم كل شيء حرم عليه بالإحرام، ومعلوم أن الحاج إذا رمى في يوم العيد وحلق وطاف وسعى إذا كان عليه سعي فإنه بعد ذلك يجامع ولو كان في منى.

قول علقمة في حديثه: (فاستخلاه) يقصد عثمان مع عبد الله بن مسعود ، وقد جاء النهي عن تناجي اثنين دون الثالث، ومعلوم أنهما لم يكونا جالسين وإنما كانا يمشيان فدعاه عثمان ، وهذا بخلاف ما لو كانا جالسين فيتناجى اثنان دون الثالث؛ لأن ذلك يشق عليه، لكن كانا يمشيان فإنه يختلف عن أن يكونا جالسين.

ومعنى قول عثمان لـعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما: (لعله يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد) أي: النشاط الذي كان في شبابه، أي: لعله ينشط إذا رأى الشابة ورأى الجارية، فينشط ويعود إلى نشاطه الأول الذي كان يعرف، وهذا يدل على أنه قال له ذلك وهو ليس بشاب؛ لأنه قال: (ما كنت تعهد) يعني: في حال شبابك، فالكلام كان مع كبير وليس مع شاب، ولهذا قال: (لعله يرجع إليك ما كنت تعهد من نفسك).

وهذا يدل على أنه لا يعاب الزواج في الكبر، فـسويد بن غفلة تزوج وهو فوق المائة، ولكن يتزوج بامرأة بينه وبينها سنوات، لا أن تكون صغيرة، بل تكون امرأة قد انقطع منها النسل أو أنها تنجب لكن تكون كبيرة في العمر.

قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [ كتاب النكاح.

باب التحريض على النكاح.

حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة أنه قال: إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بمنى إذ لقيه عثمان رضي الله عنه فاستخلاه، فلما رأى عبد الله أن ليست له حاجة قال لي: تعال يا علقمة . فجئت فقال له عثمان : ألا نزوجك يا أبا عبد الرحمن! بجارية بكر لعله يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد؟ فقال عبد الله : لئن قلت ذاك لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) ].

قوله: [ كتاب النكاح ] النكاح في اللغة: هو الضم والتداخل، يقال: تناكحت الأشجار إذا تداخلت وانضم بعضها إلى بعض، وفي الاصطلاح: هو عقد بين زوجين يحل به الوطء، والوطء شرعاً لا يجوز إلا بأحد طريقين: أحدهما: الزواج، والثاني: ملك اليمين، قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [ المؤمنون:5-7 ]، فالذي شرعه الله عز وجل في ذلك أمران اثنان لا ثالث لهما، وهما الزواج وملك اليمين، وما سوى ذلك فهو من العدوان، وهو من الخروج عن الحق إلى ما سواه.

وعقد المصنف رحمه الله باب التحريض على النكاح، والتحريض: هو الحث عليه والترغيب فيه، وأورد حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).

والحديث حدث به عبد الله بن مسعود بمناسبة ذكرت في الحديث، وهي أن علقمة بن قيس النخعي قال: كنت أمشي مع عبد الله بن مسعود فدعاه عثمان في منى واستخلاه، يعني: خلا به فلم يكن معهما ثالث، فلما رأى عبد الله أن ليس له حاجة دعا علقمة فجاء وجلس معهما، وقال عثمان رضي الله عنه لـعبد الله : [ يا أبا عبد الرحمن ! ألا نزوجك بجارية بكر لعله يرجع إليى من نفسك ما كنت تعهد؟! -يعني: من النشاط- فقال: لئن قلت ذاك لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) ].

وهذا الذي ذكره علقمة مما حصل بين عثمان وابن مسعود من الخلوة والانفراد والتحدث ثم قال: [ فلما رأى أن ليس له حاجة ] جاء في بعض الشروح أنَّ معناه: أنه ليس له حاجة في النكاح، وليس هناك شيء من الروايات يدل على هذا المعنى، والذي يظهر هو خلاف ذلك، وهو أنه لما رأى أن الكلام الذي بينهما قد انتهى ولم يبق هناك حديث يكون سراً بينهما دعا علقمة ليجلس بينهما؛ لأن المقصود من الانفراد قد انتهى، فلم يكن هناك حاجة إلى أن يبقيا منفردين، فدعا علقمة فجاء وجلس معهما، وبعد جلوسه معهما قال عثمان رضي الله عنه لـعبد الله بن مسعود -وهو أبو عبد الرحمن -: يا أبا عبد الرحمن ! ألا نزوجك بكراً لعله يرجع إليك ما كنت تعهد من نفسك؟ ثم إن عبد الله حدث بالحديث بهذه المناسبة.

يقول العلماء في علم المصطلح: إن الحديث إذا كانت له قصة فإنها تدل على ضبط الراوي، فالراوي ضبط الحديث وضبط معه القصة التي كانت فيه، فـعلقمة ضبط القصة وحدث بالمناسبة التي جرت وحصلت وعلى أثرها جاء التحديث بالحديث، فهذا من الأمور التي تدل على ضبط الراوي لما رواه.

ومثله قول ابن عمر رضي الله عنه: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، فكونه يتذكر الهيئة التي حدثه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عليها -وهي وضع يده على منكبه- يدل على ضبطه للحديث.

قوله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب) خطاب موجه للشباب، والسبب في ذلك أنهم عندهم القوة والنشاط والدوافع التي تدفعهم إلى ذلك، فكان الخطاب موجهاً إليهم بأنَّ عليهم أن يتزوجوا متى قدروا على ذلك ومتى تمكنوا منه.

قوله: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج): الباءة: هي النكاح وما يلزم له، وذلك بأن يكون عنده قدرة على أن يقضي شهوته بالزواج، فمن كان عنده قدرة على النكاح وعلى الزواج فعليه المبادرة إلى ذلك ولا يتخلف؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام حث ورغب وحرض على الزواج، وبعض الناس من الشباب أو الشابات قد يتعذرون في بعض الأحوال بأن الزواج قد يؤخرهم أو يكون سبباً في التأخر في الدراسة، فيترك أحدهم الزواج حتى يفرغ من الدراسة، وهذا ليس بصحيح، بل قد يكون الزواج سبباً من أسباب القوة والنشاط في الدراسة، وذلك لأنه يصرفك عن التفكيرات التي كنت تفكر بها فيما يتعلق بالزواج، فيكون عنده الإحصان والعفة، وعنده غض البصر، فيكون ذلك من أسباب نشاطه وقوته في الدراسة، وأما بالنسبة للشابات فإنه قد يكون الأمر في حقهن أخطر فيما يتعلق بالتأخير؛ لأن الفتاة إذا كانت في سن الشباب وفي السن الذي يطلب فيه زواجها ويرغب الشباب والرجال فيها ثم تأخرت عن ذلك وردت الكفؤ لأجل أن تكمل الدراسة فإنها قد تجلب على نفسها خسارة فادحة وخسارة عظيمة، وهي أنها تنصرف الرغبة عنها؛ لأنها تقدمت بها السن، ولأنها مضى عليها وقت ولم تتزوج، والوقت الذي يرغب فيها فيه قد فوتته على نفسها، فعند ذلك تضطر إلى أن تتزوج من شخص لا يكون محل رغبة عندها؛ لأنها فوتت الفرصة على نفسها، فتصبح ضرة شريكة بعد أن كان بإمكانها أن تنفرد بزوج، فترتب على ذلك حصول أضرار لها.

فالحاصل أن المبادرة إلى الزواج مطلوبة، فالشاب عليه أن يبادر إلى الزواج متى استطاع إليه سبيلاً، والفتاة إذا تقدم لها كفؤ فإن عليها المبادرة إلى الزواج وعدم التأخير.

لقد بين عليه الصلاة والسلام شيئاً من الحكم والأسرار والفوائد التي تترتب على النكاح، ومن ذلك غض البصر، فالرجل المتزوج يغض بصره عن النساء، والمرأة المتزوجة تغض بصرها عن الرجال؛ لأنه قد حصل الاستغناء والاكتفاء والإعفاف، وكل قد عف الآخر وأحسن إليه، فترتب على ذلك غض البصر عن النظر إلى ما لا يحل.

قوله: (وأحصن للفرج) يعني: أن الإنسان يحصل له بالزواج عفة وإحصان الفرج؛ وذلك قضاء الشهوة وقضاء الوطر، فيكون بذلك قد ظفر بمطلوبه على الوجه المشروع، وسلم من أن يتعرض لأمر محرم، سواءٌ أكان وسيلة أم غاية، فالوسيلة المحرمة هي النظر، كما في الحديث: (العين تزني وزناها النظر) والغاية المحرمة الوقوع في الفاحشة والعياذ بالله.

لما حث النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ورغب على الزواج والمبادرة إليه لمن قدر عليه أرشد بعد ذلك عليه الصلاة والسلام إلى العلاج لمن لم يقدر على ذلك، فأرشد إلى الصيام؛ لأن الصيام تضعف به القوة والنشاط والرغبة في الجماع، وأرشد عليه الصلاة والسلام إلى الصيام لأن فيه عبادة وقربة، وفيه حمية من الوقوع في المحذور وحصول الضرر الذي يحصل بقوة الشهوة مع عدم القدرة عليها، فالطريق الصحيح والطريق الشرعي الذي أرشد إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو الصيام، فقال: (ومن لم يستطع فعليه فعليه بالصوم) ]، ففيه ترغيب وحث على الصوم لمن لم يستطع الزواج؛ لأنه يحصل بذلك ضعف شهوته وضعف قوته، فتحصل الفائدة الكبيرة من وراء ذلك.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين عظم فائدة الصيام في حق الشاب الذي لا يستطيع الزواج، فقال: (فإنه له وجاء) أي: هو بمثابة الخصاء، والوجاء قيل: هو رض الخصيتين، أي: أنهما لا يستفاد منهما ولا يحصل بسببهما رغبة في النساء، فهو قاطع ومضعف للشهوة، ويكون بمثابة الخصاء الذي يجعل الإنسان لا رغبة له في النساء.

فهذا هو المسلك والسبيل الذي أرشد إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للتخلص من ذلك الضرر والبلاء الذي قد يحصل للإنسان نتيجة لقوة الشهوة من الاندفاع إلى المحذور والمحرم.

في هذا الحديث أن عثمان رضي الله عنه وأرضاه خاطب عبد الله بن مسعود بكنيته، وهذا يدل على أن المخاطبة بالكنى صحيحة، وهي أدب كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يخاطب أصحابه بكناهم، وكان الصحابة يكني بعضهم بعضاً في مخاطبتهم، وهو من الآداب الحسنة والأخلاق الكريمة، وهو يؤدي إلى الألفة والمودة، فكون الرجل يخاطب بكنيته هو من الأمور المألوفة التي جاءت بها السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عليها أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه ذلك في أحاديث كثيرة، كان يخاطب أصحابه بكناهم، وأمثلته لا تحصى.

قوله: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة ].

عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في (عمل اليوم والليلة) وابن ماجة .

[ حدثنا جرير ].

هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن الأعمش ].

هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن إبراهيم ].

هو إبراهيم ين يزيد بن قيس النخعي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن علقمة ].

هو علقمة بن قيس النخعي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود ].

هو عبد الله بن مسعود الهذلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد فقهاء الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.




استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2887 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2835 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2831 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2728 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2698 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2688 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2677 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2674 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2651 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2643 استماع