شرح سنن أبي داود [136]


الحلقة مفرغة

شرح حديث حلة عطارد

[ قال المصنف رحمه الله تعالى: باب اللبس للجمعة.

حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر (أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء -يعني: تباع عند باب المسجد- فقال: يا رسول الله! لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة) ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل فأعطى عمر بن الخطاب منها حلة، فقال عمر : كسوتنيها -يا رسول الله- وقد قلت في حلة عطارد ما قلت؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أكسكها لتلبسها، فكساها عمر أخاً له مشركاً بمكة) ].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب اللبس للجمعة] يعني: لبس الثياب الحسنة والجميلة والنظيفة للجمعة، والمقصود من هذا أن الجمعة يتجمل لها بلبس أحسن الثياب، وقد وردت السنة بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث الذي أورده أبو داود رحمه الله في هذه الترجمة، وهو حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى حلة سيراء تباع عند باب المسجد فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو اشتريتها تلبسها للجمعة وللوفد إذا جاءوا. فقال عليه الصلاة والسلام: [(إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة)] فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلل مثل هذه الحلة، فأعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه منها واحدة، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: [كسوتنيها -يا رسول الله- وقد قلت في حلة عطارد ما قلت؟!] فقال: [(إنني لم أكسكها لتلبسها)] يعني: وإنما لينتفع بها، فأهداها عمر رضي الله عنه لأخ له مشرك في مكة.

والحديث يدل على التجمل للجمعة من جهة أن عمر رضي الله عنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يشتري هذه الحلة للجمعة وللوفد إذا قدموا، فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا، وهذا شيء مستقر عندهم، ولكن الذي أنكره الرسول عليه الصلاة والسلام أنها حرير، والحرير لا يلبسه الرجال وقال: [(إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة)] يعني: ممن لا يصلح له لبسه وهم الرجال، وأما النساء فقد أبيح لهن لبس الحرير كما ثبتت السنة في ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد أخذ ذهباً وحريراً وقال: (هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها)، فالرجال لا يحل لهم لبس الحرير؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: [(إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة)] يعني: من لا نصيب له في الآخرة، فدل هذا على ما ترجم له المصنف من التجمل للجمعة؛ لأن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما عرض عليه ذلك لم ينكر عليه السبب الذي ذكره، وهو استعمال ذلك للجمعة وللوفود إذا قدموا، وإنما أخبره بأن مثل هذه الثياب لا يلبسها إلا من لا خلاق له في الآخرة، فهذا هو الذي أنكره صلى الله عليه وسلم، وأما أصل التجمل فإن هذا ثابت ومستقر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.

ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءته حلل من جنسها، فأعطى عمر واحدة منها، فتذكر عمر رضي الله عنه قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: [(إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة)] فقال: إنك قلت في حلة عطارد ما قلت؟ ! فقال عليه الصلاة والسلام: [(إني لم أما كسكها لتلبسها)] فأعطاها عمر رضي الله عنه أخاً له مشركاً بمكة.

فـعمر رضي الله عنه راجع النبي عليه الصلاة والسلام حيث تذكر قوله، فبين له النبي عليه الصلاة والسلام أن السبب هو إنما أعطاه إياها ليستفيد منها ولينتفع بها في أي وجه من وجوه الانتفاع من غير اللبس للرجال، فيمكن أن تستعملها النساء، ويمكن أن يبيعها ويستفيد من ثمنها، لكن ليس له أن يلبسها، فـعمر رضي الله عنه وأرضاه أعطاها أخاً له مشركاً بمكة، فكيف يعطي المشرك شيئاً لا يجوز في الإسلام، وهو لبس الحرير؟ وهل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أو غير مخاطبين؟

والجواب أنه على القول بأنهم غير مخاطبين فلا إشكال، ولكن على القول بأنهم مخاطبون ففي ذلك إشكال، ويكون الجواب عن هذا الإشكال أن المشرك عندما يعطاها عليه أن يبيعها ويستفيد من ثمنها، أو يعطيها لامرأة تستفيد منها وتستعملها، وأما الرجال فإنهم لا يستعملونها، فعلى القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة يكون الأمر مثل ما حصل لـعمر ، والكافر لا يعطاها ليلبسها وإنما لينتفع بها، والقول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة قول قوي، وفائدة ذلك أنهم مخاطبون بالأصول والفروع، ويؤاخذون على ترك الأصول والفروع، ولكن لو حصلت منهم الفروع قبل أن تحصل منهم الأصول فإنه لا يعتد بها ولا عبرة بها؛ لقول الله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، ولكنهم مخاطبون بالأصول وبالفروع، ويحصل لهم إثم ترك الأصول وإثم ترك الفروع، ولا تقبل منهم الفروع بدون الأصول، بل هم مطالبون بالأصول أن يأتوا بها وأن يأتوا بعدها بالفروع.

وعطارد هو صاحب الحلة التي عرض عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشتريها منه، واسمه عطارد بن حاجب التميمي ، وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلم، فهو صحابي، وهو الذي كان يبيع هذه الحلل، وبيع الحرير وتملكه سائغ ولكن الممنوع أن يلبسه الرجل، وأما المرأة فإنها تلبس الحرير، وقد أبيح لها ذلك في الإسلام، وإنما منع منه الرجال.

تراجم رجال إسناد حديث حلة عطارد

قوله: [ حدثنا القعنبي ].

هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ حدثنا مالك ].

هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام الفقيه المحدث المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن نافع ].

هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عبد الله بن عمر ].

هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث من مسنده لا من مسند أبيه؛ لأنه يحكي أن عمر حصل منه كذا وكذا.

حكم البيع عند أبواب المساجد

والحلة السيراء هي نوع من الحرير، والبيع عند أبواب المساجد لا بأس به، وإنما الممنوع المساجد، فالمساجد لا بيع فيها ولا شراء، ولا إنشاد ضالة، والمقصود من أبواب المساجد خارج الأبواب والجدران، وإذا كان المسجد له فناء ومساحات تابعة له فهي من ضمن المسجد، وحكمها حكم المسجد، فكل ما تحيط به الجدران والأبواب يعتبر مسجداً، سواءٌ أكان مغطى أم مكشوفاً.

وأخو عمر المذكور قيل هو أخوه من أمه أو من الرضاع، أما أخوه من النسب زيد بن الخطاب فإنه أسلم قبل إسلام عمر رضي الله تعالى عنهما.

شرح حديث (وجد عمر حلة استبرق تباع بالسوق)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس وعمرو بن الحارث عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (وجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حلة استبرق تباع بالسوق فأخذها فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ابتع هذه تجمل بها للعيد والوفود) ثم ساق الحديث، والأول أتم ].

أورد المصنف الحديث من طريق آخر، وفيه أن عمر رضي الله عنه وجد حلة تباع في السوق، فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: [ابتع هذه تجمل بها للعيد وللوفود]، وفي الرواية السابقة قال: (للجمعة)، وكل من العيد والجمعة يتجمل له ويلبس فيه أحسن الثياب، سواءٌ أكان جديداً أم نظيفاً مغسولاً.

وقوله: [ثم ساق الحديث] يعني: مثل الحديث الذي تقدم [والأول أتم] أي: الحديث الذي هو من رواية نافع عن ابن عمر أتم من رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وحلة الإستبرق نوع من الحرير، قيل: هو ما غلظ من الديباج.

تراجم رجال إسناد حديث (وجد عمر حلة استبرق تباع بالسوق)

قوله: [ حدثنا أحمد بن صالح ].

هو أحمد بن صالح المصري ، وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.

[ حدثنا ابن وهب ].

هو عبد الله بن وهب المصري ، ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرني يونس ].

هو يونس بن يزيد الأيلي المصري ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ وعمرو بن الحارث ].

هو عمرو بن الحارث المصري ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن شهاب ].

هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سالم ].

هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، ثقة فقيه، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبيه ].

قد مر ذكره.

شرح حديث (ما على أحدكم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس وعمرو أن يحيى بن سعيد الأنصاري حدثه أن محمد بن يحيى بن حبان حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما على أحدكم إن وجد -أو: ما على أحدكم إن وجدتم -أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته) قال عمرو : وأخبرني ابن أبي حبيب عن موسى بن سعد عن ابن حبان عن ابن سلام أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك على المنبر.

قال أبو داود : ورواه وهب بن جرير عن أبيه عن يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب عن موسى بن سعد عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن النبي صلى الله عليه وسلم ].

أورد أبو داود حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وقد ذكره هنا في الرواية الأولى مرسلاً، فإن محمد بن يحيى بن حبان من التابعين، وقد أضاف ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مرسل، ولكن جاء في الروايات الأخرى ذكر الواسطة وهو ذكر عبد الله بن سلام ، وهو صحابي، وجاء في الرواية الأخيرة ذكر ابنه يوسف بن عبد الله بن سلام وهو صحابي صغير.

وهذا الحديث فيه إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الإنسان يجعل له ثياباً يلبسها في الجمعة غير الثياب التي اعتاد لبسها في أثناء الأسبوع، والتي يستعملها في جميع أحواله وفي مهنته وعمله، فيستحب أن يجعل له ثياباً يتجمل بها للجمعة وللعيدين غير الثياب التي اعتاد لبسها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: [(ما على أحدكم إن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته)] ويعني بالثوبين مثل الإزار والرداء أو قطعتين من القماش، والمقصود من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد من وجد وكان عنده قدرة مالية وعنده جدة أن يتخذ ثوبين للجمعة يلبسهما يوم الجمعة غير الثوبين الذين اعتاد لبسهما في جميع أحواله وفي مهنته وعمله؛ لأن اتخاذ مثل ذلك وتهيئته للجمعة فيه تجمل لها، وهو دال على أن الجمعة يتجمل لها ويلبس أحسن الثياب لها.

تراجم رجال إسناد حديث (ما على أحدكم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته)

قوله: [ حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس وعمرو أن يحيى بن سعيد الأنصاري حدثه ].

تقدم ذكر الأربعة الأولين، ويحيى بن سعيد الأنصاري هو المدني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أن محمد بن يحيى بن حبان ].

محمد بن يحيى بن حبان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

قوله: [ قال عمرو : وأخبرني ابن أبي حبيب عن موسى بن سعد عن ابن حبان عن ابن سلام ].

هذا طريق آخر، وعمرو هو عمرو بن الحارث ، وابن أبي حبيب هو يزيد بن أبي حبيب المصري وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وموسى بن سعد مقبول أخرج له مسلم وأبو داود وابن ماجة ، ومحمد بن يحيى بن حبان مر في الإسناد السابق.

[ عن ابن سلام ].

وابن سلام هو: عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك على المنبر ].

يعني أنه سمعه يخطب به ويبلغه للناس حتى يكثر الآخذون عنه، وحتى يكثر من يتلقى ذلك عنه؛ لأن تعليم الشيء على المنبر تحصل به كثرة الآخذين وكثرة من يبلغهم ذلك؛ لأنه يكون من جملة ما يخطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه.

قوله: [ قال أبو داود : ورواه وهب بن جرير عن أبيه ].

وهب بن جرير بن حازم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأبوه ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن يحيى بن أيوب ].

يحيى بن أيوب صدوق ربما أخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن يزيد بن أبي حبيب عن موسى بن سعد عن يوسف بن عبد الله بن سلام ].

يوسف بن عبد الله بن سلام له رؤية، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.

[ قال المصنف رحمه الله تعالى: باب اللبس للجمعة.

حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر (أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء -يعني: تباع عند باب المسجد- فقال: يا رسول الله! لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة) ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل فأعطى عمر بن الخطاب منها حلة، فقال عمر : كسوتنيها -يا رسول الله- وقد قلت في حلة عطارد ما قلت؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أكسكها لتلبسها، فكساها عمر أخاً له مشركاً بمكة) ].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب اللبس للجمعة] يعني: لبس الثياب الحسنة والجميلة والنظيفة للجمعة، والمقصود من هذا أن الجمعة يتجمل لها بلبس أحسن الثياب، وقد وردت السنة بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث الذي أورده أبو داود رحمه الله في هذه الترجمة، وهو حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى حلة سيراء تباع عند باب المسجد فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو اشتريتها تلبسها للجمعة وللوفد إذا جاءوا. فقال عليه الصلاة والسلام: [(إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة)] فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلل مثل هذه الحلة، فأعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه منها واحدة، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: [كسوتنيها -يا رسول الله- وقد قلت في حلة عطارد ما قلت؟!] فقال: [(إنني لم أكسكها لتلبسها)] يعني: وإنما لينتفع بها، فأهداها عمر رضي الله عنه لأخ له مشرك في مكة.

والحديث يدل على التجمل للجمعة من جهة أن عمر رضي الله عنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يشتري هذه الحلة للجمعة وللوفد إذا قدموا، فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا، وهذا شيء مستقر عندهم، ولكن الذي أنكره الرسول عليه الصلاة والسلام أنها حرير، والحرير لا يلبسه الرجال وقال: [(إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة)] يعني: ممن لا يصلح له لبسه وهم الرجال، وأما النساء فقد أبيح لهن لبس الحرير كما ثبتت السنة في ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد أخذ ذهباً وحريراً وقال: (هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها)، فالرجال لا يحل لهم لبس الحرير؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: [(إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة)] يعني: من لا نصيب له في الآخرة، فدل هذا على ما ترجم له المصنف من التجمل للجمعة؛ لأن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما عرض عليه ذلك لم ينكر عليه السبب الذي ذكره، وهو استعمال ذلك للجمعة وللوفود إذا قدموا، وإنما أخبره بأن مثل هذه الثياب لا يلبسها إلا من لا خلاق له في الآخرة، فهذا هو الذي أنكره صلى الله عليه وسلم، وأما أصل التجمل فإن هذا ثابت ومستقر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.

ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءته حلل من جنسها، فأعطى عمر واحدة منها، فتذكر عمر رضي الله عنه قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: [(إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة)] فقال: إنك قلت في حلة عطارد ما قلت؟ ! فقال عليه الصلاة والسلام: [(إني لم أما كسكها لتلبسها)] فأعطاها عمر رضي الله عنه أخاً له مشركاً بمكة.

فـعمر رضي الله عنه راجع النبي عليه الصلاة والسلام حيث تذكر قوله، فبين له النبي عليه الصلاة والسلام أن السبب هو إنما أعطاه إياها ليستفيد منها ولينتفع بها في أي وجه من وجوه الانتفاع من غير اللبس للرجال، فيمكن أن تستعملها النساء، ويمكن أن يبيعها ويستفيد من ثمنها، لكن ليس له أن يلبسها، فـعمر رضي الله عنه وأرضاه أعطاها أخاً له مشركاً بمكة، فكيف يعطي المشرك شيئاً لا يجوز في الإسلام، وهو لبس الحرير؟ وهل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أو غير مخاطبين؟

والجواب أنه على القول بأنهم غير مخاطبين فلا إشكال، ولكن على القول بأنهم مخاطبون ففي ذلك إشكال، ويكون الجواب عن هذا الإشكال أن المشرك عندما يعطاها عليه أن يبيعها ويستفيد من ثمنها، أو يعطيها لامرأة تستفيد منها وتستعملها، وأما الرجال فإنهم لا يستعملونها، فعلى القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة يكون الأمر مثل ما حصل لـعمر ، والكافر لا يعطاها ليلبسها وإنما لينتفع بها، والقول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة قول قوي، وفائدة ذلك أنهم مخاطبون بالأصول والفروع، ويؤاخذون على ترك الأصول والفروع، ولكن لو حصلت منهم الفروع قبل أن تحصل منهم الأصول فإنه لا يعتد بها ولا عبرة بها؛ لقول الله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، ولكنهم مخاطبون بالأصول وبالفروع، ويحصل لهم إثم ترك الأصول وإثم ترك الفروع، ولا تقبل منهم الفروع بدون الأصول، بل هم مطالبون بالأصول أن يأتوا بها وأن يأتوا بعدها بالفروع.

وعطارد هو صاحب الحلة التي عرض عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشتريها منه، واسمه عطارد بن حاجب التميمي ، وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلم، فهو صحابي، وهو الذي كان يبيع هذه الحلل، وبيع الحرير وتملكه سائغ ولكن الممنوع أن يلبسه الرجل، وأما المرأة فإنها تلبس الحرير، وقد أبيح لها ذلك في الإسلام، وإنما منع منه الرجال.

قوله: [ حدثنا القعنبي ].

هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ حدثنا مالك ].

هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام الفقيه المحدث المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن نافع ].

هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عبد الله بن عمر ].

هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث من مسنده لا من مسند أبيه؛ لأنه يحكي أن عمر حصل منه كذا وكذا.

والحلة السيراء هي نوع من الحرير، والبيع عند أبواب المساجد لا بأس به، وإنما الممنوع المساجد، فالمساجد لا بيع فيها ولا شراء، ولا إنشاد ضالة، والمقصود من أبواب المساجد خارج الأبواب والجدران، وإذا كان المسجد له فناء ومساحات تابعة له فهي من ضمن المسجد، وحكمها حكم المسجد، فكل ما تحيط به الجدران والأبواب يعتبر مسجداً، سواءٌ أكان مغطى أم مكشوفاً.

وأخو عمر المذكور قيل هو أخوه من أمه أو من الرضاع، أما أخوه من النسب زيد بن الخطاب فإنه أسلم قبل إسلام عمر رضي الله تعالى عنهما.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس وعمرو بن الحارث عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (وجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حلة استبرق تباع بالسوق فأخذها فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ابتع هذه تجمل بها للعيد والوفود) ثم ساق الحديث، والأول أتم ].

أورد المصنف الحديث من طريق آخر، وفيه أن عمر رضي الله عنه وجد حلة تباع في السوق، فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: [ابتع هذه تجمل بها للعيد وللوفود]، وفي الرواية السابقة قال: (للجمعة)، وكل من العيد والجمعة يتجمل له ويلبس فيه أحسن الثياب، سواءٌ أكان جديداً أم نظيفاً مغسولاً.

وقوله: [ثم ساق الحديث] يعني: مثل الحديث الذي تقدم [والأول أتم] أي: الحديث الذي هو من رواية نافع عن ابن عمر أتم من رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وحلة الإستبرق نوع من الحرير، قيل: هو ما غلظ من الديباج.

قوله: [ حدثنا أحمد بن صالح ].

هو أحمد بن صالح المصري ، وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.

[ حدثنا ابن وهب ].

هو عبد الله بن وهب المصري ، ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرني يونس ].

هو يونس بن يزيد الأيلي المصري ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ وعمرو بن الحارث ].

هو عمرو بن الحارث المصري ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن شهاب ].

هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سالم ].

هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، ثقة فقيه، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبيه ].

قد مر ذكره.




استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2887 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2835 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2831 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2728 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2698 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2688 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2677 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2674 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2651 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2643 استماع