معاوية بين المتعسفين والمنصفين


الحلقة مفرغة

نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأكل بالشمال وأخبرنا أن الشياطين يفعلون ذلك، وقد ورد هذا في روايات وأحاديث كثيرة عن جابر بن عبد الله، وعبد الله بن محمد الأنصاري، وعبد الله بن أبي طلحة، وعائشة، وعمر رضي الله عنهم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:1-7] آمين.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

اللهم وارض عن الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض عنا معهم بمنّك وكرمك يا أرحم الراحمين.

رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.

سيكون الحديث بعنوان: (معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما بين المنصفين والمتعسفين) ولن يكون الحديث عن نسبه وحياته وحديثه وما إلى ذلك مما يتعلق به، وإنما سيكون مقصوراً على ناحية معينة، وهي كلام أهل الإنصاف فيه، الذين وفقهم الله سبحانه وتعالى لأن يسلكوا المسلك القويم، وأن يتكلموا فيه بما يليق به دون أن يقعوا فيما وقع فيه أناس لم يحالفهم التوفيق، ولم يحصل لهم ما يكون فيه سلامتهم ونجاتهم وسعادتهم.

معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه هو أحد الصحابة الذين أكرمهم الله بصحبة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وكل كلام يقال في الصحابة -فيما يتعلق بفضلهم وما يجب لهم عموماً- فإن معاوية رضي الله تعالى عنه يدخل في ذلك، ولهم فيه كلام يخصه ويتعلق به مما ينبغي أن يوصف به وأن يتكلم فيه بالنسبة له رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

والكلام الآتي ليس لي منه إلا مجرد النقل من كتب بذل أصحابها جهوداً مشكورة في خدمة السنة النبوية، وفي بيان ما يجب للصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فأنا سآتي بكلام عام في الصحابة جميعاً -ويدخل فيهم معاوية بن أبي سفيان - ثم بالكلام الخاص الذي يتعلق بـمعاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه.

وقد يقول قائل: لماذا اخترت معاوية بن أبي سفيان فخصّصته بالحديث دون غيره؟

والجواب على ذلك: أن أحد التابعين قال قولة مشهورة، وهي: إن معاوية بن أبي سفيان ستر لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كشف الستر اجترأ على ما وراءه.

فالذي يجرؤ على أن يتكلم في معاوية رضي الله عنه بكلام لا يليق فإنه من السهل عليه أن يتكلم في غيره، ولن يكون الأمر مقتصراً عليه بل سيتجاوزه إلى من هو خير منه ومن هو أفضل منه، بل إلى من هو أفضل البشر بعد الأنبياء والمرسلين: أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم عثمان بن عفان ، ثم علي بن أبي طالب ، وغيرهم من الصحابة.

وفي الحقيقة أن ما حصل لهم من كلام يليق بهم فهم أهله، وهو اللائق بهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وهو محمدة لمن تكلم به ولمن حصل منه؛ ولهذا كان ذكر الأسلاف الذين أثنوا على الصحابة الأخيار رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم متردداً دائماً وأبداً على الألسنة، فيأتي كل جيل يذكر كلامهم الجميل، ويترحم عليهم، ويثنى عليهم؛ لكونهم قاموا بما يجب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين.

أما من تكلم فيهم بكلام لا ينبغي فهو في الحقيقة لم يضرهم وإنما ضر نفسه، وذلك أنهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم قَدِموا على ما قَدَّموا، وقد قدموا الخير الكثير، وقدموا الأعمال الجليلة التي قاموا بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي يتكلم فيهم بما لا ينبغي لا يضرهم وإنما يضر نفسه، بل يكون ذلك زيادة في حسناتهم، ورفعة في درجاتهم؛ لأنه إذا تكلم فيهم بغير حق فإنهم يأخذون من حسناته إذا كان له حسنات، فيكون ذلك رفعة في درجاتهم، وإن لم يكن له حسنات فإنه (لا يضر السحاب نبح الكلاب) كما يقولون.

أرسل الله سبحانه وتعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وختم به الرسالات، وجعل رسالته صلى الله عليه وسلم كاملة شاملة خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد خصه الله سبحانه وتعالى بأصحاب اختارهم لصحبته، فشاء أن يوجدوا في زمانه، وقد قاموا بما أمكنهم من جد واجتهاد في الجهاد معه في سبيل الله، ونشر دعوته وسنته، وتلقي ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام، فصاروا هم الواسطة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين من جاء بعدهم، ومن يقدح فيهم إنما يقدح في الواسطة التي تربط المسلمين برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقدح في الصلة الوثيقة التي تربط الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه لهم ميزة وخصيصة، وهي أنهم اختيروا لصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشّرفهم الله في هذه الحياة الدنيا بالنظر إلى طلعته، وما حصل ذلك لأحد سواهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

وشرفهم الله سبحانه وتعالى بأن سمعوا كلامه من فمه الشريف صلى الله عليه وسلم، فتلقوا منه الخير والنور والهدى، وأدوه إلى من بعدهم، فكل إنسان يأتي بعدهم فلهم عليه منّة، ولهم عليه فضل؛ لأن هذا الهدى والنور وهذا الخير الذي حصل لمن بعدهم لم يحصل إلا بواسطة أولئك الأخيار رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)، فهذا الحديث الشريف لأصحاب رسول صلى الله عليه وسلم منه القسط الأكبر والحظ الأوفر؛ وذلك لأنهم هم الذين تلقوا هذا الهدى وهذا النور من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدوه إلى من بعدهم، فكل من استفاد منه فلهم مثل أجره إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وقبلهم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، الذي جاء بهذا الخير وهذا الهدى، فكل من اهتدى وكل من استفاد وكل من دخل في دين الله وعمل صالحاً فإن الله يثيب نبيه صلى الله عليه وسلم بمثل ما يثيب به ذلك العامل، من غير أن ينقص من أجر العامل شيء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي دعا الناس إلى هذا الهدى، فله مثل أجور من استفاد خيراً بسببه صلوات الله وسلامه عليه.

وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين تلقوا هذا الهدى، فهم الذين جمعوا القرآن، وهم الذين حفظوه، وهم الذين أوصلوه إلى من بعدهم، وهم الذين تلقوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدوها إلى من بعدهم، فصار لهم الثواب الجزيل، والأجر العظيم، ولهم الحظ الأوفر من دعوة الرسول صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الصحيح الذي قال فيه: (نضّر الله امرأً سمع مقالتي، فوعاها وأداها كما سمعها)، فإنهم هم الذين سمعوا منه مباشرة وبدون واسطة، وهذه خصيصة حصلت لهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

إذاً: هؤلاء الأخيار وهؤلاء الأسلاف هم الصلة الوثيقة التي تربطنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قدح فيهم؛ فقد قطع الصلة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفى بذلك ضلالاً وخذلاناً والعياذ بالله!

بعد هذا أذكر بعض النقول التي تكلم بها سلف هذه الأمة في حق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عموماً، ويدخل فيهم معاوية رضي الله تعالى عنه، وكذلك ما تكلموا به في حق معاوية رضي الله تعالى عنه على وجه الخصوص.

يقول الطحاوي في عقيدته المشهورة: (ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان).

وقال شارح الطحاوية: (فمن أضل ممن يكون في قلبه غل على خيار المؤمنين، وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين، بل قد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة، قيل لليهود: من خير أهل ملّتكم؟ قالوا: أصحاب موسى. وقيل للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى. وقيل للرافضة: من شر أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد! ولم يستثنوا منهم إلا القليل، وفيمن سبوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة).

وقال البغوي في شرح السنة: (قال مالك: من يبغض أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ قوله سبحانه وتعالى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [الحشر:7] إلى قوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10] ... الآية.

وذُكر بين يديه رجل ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ مالك هذه الآية: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ [الفتح:29]إلى قوله: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29]، ثم قال: من أصبح من الناس في قلبه غل على أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية).

وفي تفسير قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10] قال الشوكاني بعد أن فسّر الذين جاءوا من بعدهم -أي: بعد المهاجرين والأنصار- بأنهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين:

(أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أولياً؛ لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم، ويطلب رضوان الله لهم؛ فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية، فإن وجد في قلبه غّلاً لهم فقد أصابه نزغ من الشيطان، وحل به نصيب وافر من عصيان الله، بعداوة أوليائه وخير أمة نبيه صلى الله عليه وسلم، وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله سبحانه، والاستغاثة به بأن ينزع من قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون وأشرف هذه الأمة.

فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم فقد انقاد للشيطان بالزمام، ووقع في غضب الله وسخطه، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلّم من الرافضة أو صاحب أحداً من أعداء خير الأمة، الذين تلاعب بهم الشيطان، وزين لهم الأكاذيب المختلقة، والأقاصيص المفتراة، والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الكبار في كل عصر من العصور، فاشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر.

وما زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة ومن رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله ورسوله وخير أمته، وصالحي عباده وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله، وهجروا شعائر الدين، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي، ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر، والله من ورائهم محيط). هذا ما قاله الشوكاني رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية.

ثم قال: (أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: الناس على ثلاث منازل، قد مضت منزلتان، وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه: أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت، ثم قرأ: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10] ... الآية.

وأخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباري في (المصاحف) و ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (أُمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم) ثم قرأت هذه الآية: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر:10] ).

قلت: وقد أخرج مسلم رحمه الله في أواخر صحيحه هذا الحديث بدون تلاوة الآية.

وقال النووي في شرحه: ( قال القاضي: الظاهر أنها قالت هذا عندما سمعت أهل مصر يقولون في عثمان ما قالوا، وأهل الشام يقولون في علي ما قالوا، والحرورية في الجميع ما قالوا. وأما الأمر بالاستغفار الذي أشارت إليه فهو قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]، وبهذا احتج مالك في أنه لا حق في الفيء لمن سب الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ لأن الله تعالى إنما جعله لمن جاء بعدهم ممن يستغفر لهم، والله تعالى أعلم). ا.هـ

وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رجلاً وهو يتناول بعض المهاجرين، فقرأ عليه: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ [الحشر:8] ...الآية، ثم قال: هؤلاء المهاجرون أفأنت منهم؟ قال: لا. ثم قرأ عليه: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ [الحشر:9] ...الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار أفأنت منهم؟ قال: لا. ثم قرأ عليه: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر:10] ...الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو. قال: ليس من هؤلاء من سب هؤلاء.

وقال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب السنة: (ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين، والكف عن الذي جرى بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحداً منهم فهو مبتدع رافضي، حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة).

وقال: (لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساوئهم، ولا يطعن في أحد منهم، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ثم يستتيبه، فإن تاب قُبل منه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وخلّده في الحبس حتى يتوب ويراجع).

وقال الإمام أبو عثمان الصابوني في كتابه عقيدة السلف وأصحاب الحديث: (ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً لهم أو نقصاً فيهم، ويرون الترحم على جميعهم، والموالاة لكافتهم).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: (ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله في قوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، وطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ... إلى أن قال: ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول وعمل، ويمسكون عما جرى بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم: منها ما هو كاذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون.

وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم -إن صدر- حتى إنه يُغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المُدّ من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم.

ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب، فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفّر عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور.

ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع والعمل الصالح.

ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما منّ الله عليهم به من الفضائل، عَلِمَ يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله).

وقال الشيخ يحيى بن أبي بكر العامري اليمني في كتابه الرياض المستطابة فيمن له رواية في الصحيحين من الصحابة: (وينبغي لكل صين متدين مسامحة الصحابة فيما صدر بينهم من التشاجر، والاعتذار عن مخطئهم، وطلب المخارج الحسنة لهم، وتسليم صحة إجماع ما أجمعوا عليه على ما علموه، فهم أعلم بالحال، والحاضر يرى ما لا يرى الغائب، وطريقة العارفين الاعتذار عن المعائب، وطريقة المنافقين تتبع المثالب.

وإذا كان اللازم من طريقة الدين ستر عورات عامة المسلمين فكيف الظن بصحابة خاتم النبيين، مع اعتبار قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أحداً من أصحابي)، وقوله: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، هذه طريقة صلحاء السلف، وما سواها مهاوٍ وتلف).

ونقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري عن أبي المظفر السمعاني أنه قال: (التعرض لجناب الصحابة علامة على خذلان فاعله، بل هو بدعة وضلالة).

وقال الميموني : قال لي أحمد بن حنبل : ( يا أبا الحسن ! إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من الصحابة بسوء، فاتهمه على الإسلام).

وروى الخطيب البغدادي بإسناده إلى أبي زرعة الرازي قال: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة).

هذه طائفة من أقوال المنصفين في معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه.

قال الموفق ابن قدامة المقدسي في لمعة الاعتقاد: (ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، وأحد خلفاء المسلمين رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم).

وقال شارح الطحاوية: (وأول ملوك المسلمين معاوية ، وهو خير ملوك المسلمين).

وقال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: (أمير المؤمنين، ملك الإسلام).

وروى البيهقي عن الإمام أحمد أنه قال: (الخلفاء أبو بكر و عمر و عثمان و علي.

فقيل له: فـمعاوية؟

قال: لم يكن أحد أحق بالخلافة في زمان علي من علي ، ورحم الله معاوية !).

وروى ابن أبي الدنيا بسنده إلى عمر بن عبد العزيز قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام و أبو بكر و عمر جالسان عنده، فسلمت عليه وجلست، فبينا أنا جالس إذ أتي بـعلي و معاوية ، فأدخلا بيتاً وأجيف الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج علي وهو يقول: قُضي لي ورب الكعبة، ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة!).

وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي أنه قال له رجل: إني أبغض معاوية . فقال له: ولِمَ؟ قال: لأنه قاتل علياً . فقال له أبو زرعة : (ويحك! إن ربّ معاوية رب رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فإيش دخولك أنت بينهما رضي الله تعالى عنهما؟!).

وسئل الإمام أحمد عما جرى بين علي و معاوية فقرأ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134]، وكذا قال غير واحد من السلف.

وسئل ابن المبارك عن معاوية فقال: (ما أقول في رجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمع الله لمن حمده، فقال معاوية خلفه: ربنا ولك والحمد).

ومعلوم أن (سمع) بمعنى: استجاب، ومعاوية حصل له هذا الفضل، وهو الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم قال وهو يصلي: سمع الله لمن حمده، و معاوية رضي الله عنه ممن كان يصلي وراءه ويقول: ربنا ولك الحمد.

فقيل له -أي ابن المبارك -: (أيهما أفضل: هو أو عمر بن عبد العزيز ؟ فقال: لتراب في منخري معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز ).

وسئل المعافى بن عمران : (أيهما أفضل: معاوية أو عمر بن عبد العزيز ؟ فغضب، وقال للسائل: أتجعل رجلاً من الصحابة مثل رجل من التابعين؟! معاوية صاحبه وصهره، وكاتبه وأمينه على وحي الله).

وقال الفضل بن زياد : سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل تنقص معاوية و عمرو بن العاص أيقال له: رافضي؟ فقال: (إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحد أحداً من الصحابة إلا وله داخلة سوء).

وقال ابن المبارك عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنساناً قط إلا إنساناً شتم معاوية فإنه ضربه أسواطاً.

وقال أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي : ( معاوية ستر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه).

وقد عقد الإمام البخاري رحمه الله في كتاب فضائل الصحابة من صحيحه باباً، قال فيه: باب ذكر معاوية رضي الله تعالى عنه. وأورد فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها: عن ابن أبي مليكة قال: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة، فأتى ابن عباس فسأله فقال: دعه فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وثانيها: عن ابن أبي مليكة : قيل لـابن عباس : هل لك في أمير المؤمنين معاوية ، فإنه ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: إنه فقيه.

وثالثها: عن معاوية رضي الله تعالى عنه قال: (إنكم لتصلون صلاة لقد صحبنا النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيناه يصليها، ولقد نهى عنها) يعني: الركعتين بعد العصر.

قال الحافظ ابن حجر في شرحه: (عبر البخاري في هذه الترجمة بقوله: (ذِكْر) ولم يقل: فضيلة، ولا منقبة؛ لكون الفضيلة لا تؤخذ من حديث الباب، إلا أن ظاهر شهادة ابن عباس له بالفقه والصحبة دالة على الفضل الكثير.

وقد صنف ابن أبي عاصم جزءاً في مناقبه، وكذلك أبو عمر غلام ثعلب ، و أبو بكر النقاش ، وأورد ابن الجوزي في الموضوعات بعض الأحاديث التي ذكروها، ثم ساق عن إسحاق بن راهويه أنه قال: لم يصح في فضائل معاوية شيء.

فهذه النكتة في عدول البخاري عن التصريح بلفظ منقبة اعتماداً على قول شيخه، لكنه بدقيق نظره استنبط ما يدفع به رءوس الروافض.

وورد في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في معاوية : (لا أشبع الله بطنه). فروى بسنده إلى ابن عباس قال: (كنت ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواريت خلف باب، قال: فجاء فحطأني حطأة -يعني: ضرب بيده بين كتفي- وقال: اذهب وادع لي معاوية ، قال: فجئت فقلت: هو يأكل. ثم قال: اذهب فادع لي معاوية . قال: فجئت فقلت: هو يأكل. قال: لا أشبع الله بطنه).

وقد ختم مسلم رحمه الله بهذا الحديث الأحاديث الواردة في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ما صدر منه من سب ودعاء على أحد ليس هو أهلاً لذلك أن يجعله له زكاة وأجراً ورحمة، وذلك كقوله: (تربت يمينك) (ثكلتك أمك) (عقرى حلقى) (لا كبرت سنك)، فقد أورد في صحيحه عدة أحاديث أحدها هذا الحديث، وقبله حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كانت عند أم سليم يتيمة - و أم سليم هي أم أنس - فرآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أأنت هي؟! لقد كبرت لا كبر سنك. فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم : مالك يا بنية؟ قالت الجارية: دعا علي النبي صلى الله عليه وسلم ألاّ يكبر سني أبداً. أو قالت: قرني. فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك يا أم سليم ؟ قالت: يا رسول الله! أدعوت على يتيمتي؟ قال: وما ذاك يا أم سليم ؟! قالت: زَعَمت أنك دعوت ألا يكبر سنها ولا يكبر قرنها. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أم سليم ! أما تعلمين أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها له طهوراً وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة).

وعَقِبَ هذا الحديث مباشرة أورد مسلم رحمه الله الحديث الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاوية : (لا أشبع الله بطنه)، وهذا من حسن صنيع مسلم رحمه الله، وجودة ترتيبه لصحيحه، وهو من دقيق فهمه، وحسن استنباطه رحمه الله.

وقد قال النووي رحمه الله في شرحه: وقد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقاً للدعاء عليه، فلهذا أدخله في هذا الباب، وجعله غيره من مناقب معاوية -يعني: وجعله غير مسلم من مناقب معاوية - لأنه في الحقيقة يصير دعاء له).

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء في الذي جرى بين معاوية وعلي رضي الله تعالى عنهما:

(وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويتغالون فيه ويفضلونه، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإما قد ولدوا في الشام على حبه، وتربى أولادهم على ذلك، وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق، ونشئوا على النصب -نعوذ بالله من الهوى- كما قد نشأ جيش علي رضي الله عنه ورعيته إلا الخوارج منهم على حبه، والقيام معه، وبغض من بغى عليه، والتبرؤ منهم، وغلا خلق منهم في التشيع.

فبالله كيف يكون حال من نشأ في إقليم لا يكاد يشاهد فيه إلا غالياً في الحب مفرطاً في البغض؟! ومن أين يقع له الإنصاف والاعتدال؟! فنحمد الله على العافية، الذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق، واتضح من الطرفين، وعرفنا مآخذ كل واحدة من الطائفتين، وتبصرنا فعذرنا واستغفرنا، وأحببنا باقتصاد، وترحمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة، أو بخطأ إن شاء الله مغفور، وقلنا كما علمنا ربنا: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، وترضينا أيضاً عمن اعتزل الفريقين: كـسعد بن أبي وقاص ، و ابن عمر ، و محمد بن مسلمة ، و سعيد بن زيد وخلق، وتبرأنا من الخوارج المارقين، الذين حاربوا علياً ، وكفروا الفريقين، فالخوارج كلاب النار قد مرقوا من الدين، ومع هذا فلا نقطع لهم بخلود في النار كما نقطع به لِعَبَدَة الأصنام والصلبان).

وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [الإسراء:33]:

(وقد أخذ الحبر ابن عباس من عموم هذه الآية الكريمة ولاية معاوية السلطة، وأنه سيملك؛ لأنه كان ولي عثمان ، وقد قتل عثمان مظلوماً رضي الله تعالى عنه، وكان معاوية يطالب علياً رضي الله عنه أن يسلمه قتلته حتى يقتص منهم؛ لأنه أموي، وكان علي رضي الله تعالى عنه يستمهله في الأمر حتى يتمكن ويفعل ذلك، ويطلب علي من معاوية أن يسلمه الشام، فيأبى معاوية ذلك حتى يسلمه القتلة، وأبى أن يبايع علياً هو وأهل الشام، ثم مع المطاولة تمكن معاوية ، وصار الأمر إليه كما قاله ابن عباس واستنبطه من هذه الآية الكريمة، وهذا من الأمر العجب!) انتهى كلام ابن كثير رحمه الله.

وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح أن هذا الفضل للأنصار يشاركهم فيه من كان مشاركاً في المعنى الذي من أجله حصل لهم ذلك الفضل، وهو نصرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وقد ثبت في صحيح مسلم عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)، وهذا جارٍ بالمراد في أعيان الصحابة لبتحقق مشترك الإكرام، لما لهم من حسن الغناء في الدين.

ثم قال: قال صاحب (المفهم): (وأما الحروب الواقعة بينهم، فإن وقع من بعضهم بغض لبعض فذاك من غير هذه الجهة، بل للأمر الطارئ الذي اقتضى المخالفة، ولذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام: للمصيب أجران، وللمخطئ أجر واحد، والله تعالى أعلم).

وقال الشيخ يحيى بن أبي بكر العامري اليمني في كتابه (الرياض المستطابة) في ترجمة أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: (ونقل السيد الإمام الشريف محمد بن إبراهيم بن المرتضى رضي الله تعالى عنه أن بغض علي إنما كان علامة النفاق في أول الإسلام؛ لأنه كان ثقيلاً على المنافقين؛ ولذلك جاء في الأنصار أن بغضهم علامة النفاق أيضاً، وحبهم وحب علي علامة الإيمان، واستدل على ذلك بأن الخوارج يبغضون علياً ويكفرونه مع الإجماع على أنهم غير منافقين، وإن كان ذنبهم عظيماً، ومروقهم من الإسلام منصوصاً، والباطنية يحبونه مع الإجماع على كفرهم، ثم كذلك الروافض يحبونه مع ضلالتهم وفسوقهم، وعلى كل حال فلا يصدر سب أهل السوابق من الصحابة، وتتبع عوراتهم، والتفتيش عن مثالبهم، عن ذي قلب سليم، ودين مستقيم، نسأل الله العافية والسلامة).

وهناك شيء معلوم، وهو أن المحدثين رووا عمن يوصفون بأنهم شيعة، إذا كان الأمر كذلك فكيف يكون هذا شأنهم وأصحاب الحديث يروون عنهم؟

أورد الذهبي رحمه الله سؤالاً وأجاب عليه فقال:

(فإن قيل: كيف ساغ توثيق مبتدع وحد الثقة العدالة والإتقان، فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة؟!

والجواب: أن البدعة على ضربين:

فبدعة صغرى، كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرق، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رُدّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة.

ثم بدعة كبرى: كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر و عمر رضي الله تعالى عنهما، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة.

وأيضاً فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله؟ حاشا وكلا!

فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلم في عثمان و طلحة و الزبير و معاوية ، وطائفة ممن حارب علياً رضي الله تعالى عنهم، وتعرض لسبهم، والغالي في زماننا وعُرْفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة ويتبرأ من الشيخين أيضاً، فهذا ضال مفتر).انتهى كلام الذهبي .

قلت: ومن المحدثين الذين وصفوا بالتشيع: الفضل بن دكين ( أبو نعيم ) شيخ البخاري ، قال الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح: والثناء عليه في الحفظ والتثبت يكثر، إلا أن بعض الناس تكلم فيه بسبب التشيع، ومع ذلك فصح أنه قال: ما كتبت علي الحَفَظَة أني سببت معاوية .

ومنهم: محمد بن فضيل بن غزوان الكوفي قال عنه الحافظ في المقدمة: قلت: إنما توقف فيه من توقف لتشيعه، وقد قال أحمد بن علي الأبار حدثنا أبو هاشم : سمعت ابن فضيل يقول: رحم الله عثمان ، ولا رحم الله من لا يترحم عليه. قال: ورأيت عليه آثار أهل السنة والجماعة رحمه الله.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :

(لا يجوز لعن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سبّه، ومن لعن أحداً منهم كـمعاوية بن أبي سفيان ، و عمرو بن العاص ونحوهما، ومن هو أفضل منهما، كـأبي موسى الأشعري ، و أبي هريرة وغيرهما، أو من هو أفضل من هؤلاء، كـطلحة بن عبيد الله ، و الزبير بن العوام ، و عثمان بن عفان ، و علي بن أبي طالب ، أو أبي بكر الصديق ، و عمر بن الخطاب ، أو عائشة أم المؤمنين، وغير هؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه مستحق للعقوبة البليغة باتفاق أئمة الدين.

وتنازع العلماء: هل يعاقب بالقتل، أو ما دون القتل؟).

وقال: (والمهاجرون من أولهم إلى آخرهم ليس منهم من اتهمه أحد بالنفاق، بل كلهم مؤمنون مشهود لهم بالإيمان).

وقال: (وأما معاوية بن أبي سفيان وأمثاله من الصلحاء الذين أسلموا بعد فتح مكة كـعكرمة بن أبي جهل ، و الحارث بن هشام ، و سهيل بن عمرو ، و صفوان بن أمية ، و أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، هؤلاء وغيرهم ممن حسُن إسلامهم باتفاق المسلمين، لم يتهم أحد منهم بعد ذلك بنفاق، ومعاوية قد استكتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم).

وقال: (لما مات يزيد بن أبي سفيان في خلافة عمر استعمل أخاه معاوية ، وكان عمر بن الخطاب من أعظم الناس فراسة، وأخبرهم بالرجال، وأقومهم بالحق، وأعلمهم به).

وقال: (فما استعمل عمر قط بل ولا أبو بكر على المسلمين منافقاً، ولا استعملا من أقاربهما، ولا كانت تأخذهما في الله لومة لائم).

وقال: (وقد علم أن معاوية و عمرو بن العاص وغيرهما كان بينهم من الفتن ما كان، ولم يتهمهم أحد من أوليائهم ولا محاربيهم بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، بل جميع علماء الصحابة والتابعين بعدهم متفقون على أن هؤلاء صادقون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مأمونون عليه في الرواية عنه، والمنافق غير مأمون على النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو كاذب عليه مكذب له).

وقال: (وسائر أهل السنة والجماعة وأئمة الدين لا يعتقدون العصمة لأحد من الصحابة، ولا القرابة، ولا السابقين، ولا غيرهم، بل يجوز عندهم وقوع الذنوب منهم، والله يغفر لهم بالتوبة، ويرفع بها درجاتهم، ويغفر لهم بحسنات ماحية أو بغير ذلك من الأسباب.

قال: وهذا في الذنوب المحققة، فأما ما اجتهدوا فيه: فتارة يصيبون، وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا فأخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور).

وقال: (و معاوية لم يدّعِ الخلافة، ولم يبايع له فيها حين قاتل علياً ، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وكان هو يقر بذلك لمن يسأله، وما كان يرى هو وأصحابه أن يبتدئوا علياً وأصحابه بالقتال، بل لما رأى علي رضي الله تعالى عنه هو وأصحابه أنه يجب على معاوية وأصحابه طاعته ومبايعته؛ إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته، وممتنعون عن هذا الواجب وهم أهل شوكة، فرأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب فتحصل الطاعة والجماعة.

وقال معاوية وأصحابه: إن ذلك لا يجب عليهم، وإنهم إذا قوتلوا كانوا مظلومين؛ قالوا: لأن عثمان قتل مظلوماً باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي ، وهم غالبون لهم شوكة).

وقال: ثم إن حديث: (إن عماراً تقتله الفئة الباغية) ليس نصاً في أن هذا اللفظ لـمعاوية وأصحابه، بل يمكن أنه أريد به تلك العصابة التي حملت عليه حتى قتلته، وهي طائفة في العسكر، ومن رضي بقتل عمار كان حكمه حكمها، ومن المعلوم أنه كان في المعسكر من لم يرض بقتل عمار كـعبد الله بن عمرو بن العاص وغيره، بل كل الناس كانوا منكرين لقتل عمار حتى معاوية و عمرو). اهـ.

والحاصل: أن الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم يجب أن يكون حظ العاقل منها حسن الظن بالصحابة الكرام، والسكوت عن الكلام فيهم إلا بخير، والترضي عن الصحابة جميعاً، وموالاتهم ومحبتهم، والجزم بأنهم دائرون في اجتهاداتهم بين الأجر والأجرين.

ولقد أحسن شارح الطحاوية حيث قال بعد أن أشار إلى ما جرى بين علي و معاوية رضي الله تعالى عنهما: (ونقول في الجميع بالحسنى: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].

ثم قال: والفتن التي كانت في أيامه -أي: أيام أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه- قد صان الله عنها أيدينا فأسأله سبحانه وتعالى أن يصون عنها ألسنتنا بمنه وكرمه).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه وأفضل أنبيائه ورسله، نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.


استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
أثر دراسة الحديث 1723 استماع