شرح الأصول الستة - الأصل الثاني


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:

[الأصل الثاني: أمر الله بالاجتماع في الدين، ونهى عن التفرق فيه، فبين الله هذا بياناً شافياً تفهمه العوام، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا قبلنا فهلكوا، وذكر أنه أمر المسلمين بالاجتماع في الدين ونهاهم عن التفرق فيه، ويزيده وضوحاً ما وردت به السنة من العجب العجاب في ذلك، ثم صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين وفروعه هو العلم والفقه في الدين، وصار الأمر بالاجتماع في الدين لا يقوله إلا زنديق أو مجنون].

يقول الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (الأصل الثاني) أي: من الأصول التي دل عليها القرآن، وجاءت بها السنة على وجه الاستفاضة، قال: (أمر الله بالاجتماع في الدين، ونهى عن التفرق فيه) الاجتماع في الدين لا يمكن ولا يتحقق إلاّ بالاعتصام بالكتاب الحكيم والأخذ بسنة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، والسير على صراط الصحابة والتابعين من خير القرون، هذه الأمور الثلاثة بها يحصل الاجتماع في الدين، ومن غيرها لا يمكن أن يحصل اجتماع، بل غيرها هو الفرقة التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها، وحذر منها رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد أمر الله عز وجل بالاجتماع في الدين في آياتٍ كثيرة، كما أنه نهى عن الفرقة في آياتٍ كثيرة، فمن الأمر بالاجتماع في الدين قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13] فهذا هو الذي شرعه الله عز وجل لهذه الأمة، كما أنه أمر به من تقدم من الرسل، وأمره للرسل أمر للأمم، فإن الله عز وجل أمر الرسل وأمر أممهم بإقامة الدين فقال: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ، وإقامة الدين لا تتحقق إلاّ بالأخذ بالكتاب الحكيم وسنة سيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم، فالواجب على الأمة إذا أرادت الاجتماع أن تنبذ ماعدا هذين الوحيين: كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما أجمع عليه السلف؛ لأن ما أجمع عليه سلف الأمة لابد أن يكون له دليل من الكتاب أو السنة، وقد قال الله جل وعلا في بيان ذلك: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وحبله هو شرعه الذي أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فالأمر بالاجتماع ليس مجرد الاتفاق على أي وجهٍ كان، كما يدعو إليه بعض من قل نصيبه من العلم، فيقول: الواجب على الأمة أن تجتمع مذاهبها على اختلافها، وعلى تناحرها، فهذا هو الواجب على الأمة في نظره، ونحن نقول: هذا هو الواجب، لكن مع أمرك بالاجتماع لابد أن تبين طريق الاجتماع، وهو ما بينه الله في كتابه، أما أن تطلق الدعوة إلى الاجتماع دون بيان الطريق الموصل للاجتماع فهذا لا يحقق المقصود؛ لأن الله لما أمر بالاجتماع لم يأمر به مطلقاً، بل أمر به أمراً واضحاً مقيداً فقال سبحانه وتعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وقال جلّ وعلا: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، وإقامته لا تكون إلا بأخذه من مصادره الأصيلة الكتاب والسنة، فالأمر بالاجتماع والنهي عن التفرق مما دل عليه الكتاب والسنة دلالةً واضحة، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (فبين الله هذا بياناً شافياً تفهمه العوام) يعني: لا يختلط، ولا يحتاج إلى عميق نظر وكبير تأمل حتى يتوصل الإنسان لهذه النتيجة، بل هي واضحة بينة لكل من أحسن قراءة أو سَمْع القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى أمر بذلك أمراً واحداً.

وأما النهي عن الفرقة فإنه كثير، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]

ثم قال رحمه الله: (ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا قبلنا).

نهانا كما ذكرنا في الآية: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وقوله جلّ وعلا: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159]، والآيات التي تحذر من التفرق في الدين كثيرة جداً.

أسباب الاختلاف في الدين

واعلم أن التفرق في الدين له أسبابٌ كثيرة، لكن الذي يجمع هذه الأسباب على اختلافها وتنوعها هو الإعراض عن الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح، فبقدر ما يحصل عند الناس من الإعراض عن هذه الأمور يحصل بينهم من الفرقة والاختلاف بقدر إعراضهم؛ لأن الناس إذا أعرضوا عن الكتاب والسنة يرجعون إلى أهوائهم، وإلى آرائهم وأذواقهم، وإلى ما يشتهون ويحبون، وهل هذا مما يتفق فيه الناس؟

الجواب: إن هذا مما يختلف فيه الناس اختلافاً عظيماً، فاختلاف الناس في آرائهم وأقوالهم وعقولهم وما يحبون أشد وأعظم من اختلافهم في ألوانهم وأجناسهم وألسنتهم، ولو أردنا أن نحصي ما يتكلم به الناس من اللغات فهل نستطيع إحصاءها؟

الجواب: إننا لا نستطيع؛ لأنها كثيرة متنوعة، حتى اللغة الواحدة يتفرع عنها لغات عديدة، فاختلاف الناس في آرائهم وعقولهم أشد من اختلافهم في لغاتهم، وأشد من اختلافهم في ألسنتهم، وأشد من اختلافهم في ألوانهم، ولذلك فالمرجع الذي يجتمع عليه الناس ولا يختلفون فيه ولا يختلفون عليه هو الكتاب والسنة، ولذلك فمن دعا إليهما فهو الداعي إلى الاجتماع، ومن دعا إلى غيرهما فهو الداعي إلى الفرقة.

فعرفنا الجامع لأسباب الفرقة، والجامع لأسباب الاجتماع، فأعظم أسباب الفرقة هو البغي، والبغي: هو مجاوزة الحد ويقابله العلم؛ فإن العلم من أعظم أسباب الاجتماع؛ لأنه كلما كثر علم الإنسان ورسخ كان داعياً إلى الاجتماع ونبذ الفرقة.

ومن البغي الذي يسبب الفرقة والاختلاف الحسد والكبر، والحسد: هو كراهة ما أنعم الله به على الغير ولو لم يتمنَّ زواله. فكل من كره ما أنعم الله به على غيره في دينٍ أو دنيا فهو حاسد، سواء تمنى أن تزول النعمة أم لم يتمنَّ ذلك، وانتبه إلى هذا؛ لأن بعض الناس يظن أن الحسد هو تمني زوال النعمة عن الغير. وهذا تعريف قاصر للحسد، بل الحسد: هو أن يكره الإنسان ما منَّ الله به على غيره من النعم الدينية أو النعم الدنيوية.

والكبر أيضاً هو سبب من أسباب الفرقة والاختلاف؛ لأن الكبر يحمل الإنسان على رد الحق، فالمتكبر يأنف ويستعلي أن يأخذ الحق من غيره، ويقول: أنا آخذ الحق من هذا! فما الذي تميز به عليَّ؟ أنا أحسن منه في كذا. إما في مالٍ، أو في جاه، أو في منصب، أو في نسب، أو في لون، ويرد الحق بسبب كبره، فتقع الفرقة.

افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة

قال: [ وذكر أنه أمر المسلمين بالاجتماع في دينهم، ونهاهم عن التفرّق فيه، ويزيده وضوحاً -أي: هذا الأصل- ما وردت به السنة من العجب العجاب في ذلك ].

والعجب العجاب أن الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة). ولذلك يجب على المؤمن أن يحرص على أن يكون من هذه الواحدة التي بشرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنجاة، وصفتها جاءت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم في رواية الترمذي لما سئل عن الفرقة الناجية قال: (هم من كان على ما أنا عليه وأصحابي)، وفي رواية أخرى قال: (هي الجماعة)، والجماعة هم المجتمعون على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

انقلاب الموازين عند كثير من الناس

قال رحمه الله تعالى: [ ثم صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين وفروعه من العلم والفقه في الدين ].

أصول الدين مسائل الاعتقاد، وفروعه مسائل الفقه، وهذا لا إشكال فيه، فقد أصبح الأمر على خلاف ما أمر الله به، فأصبح الناس يدعون إلى فرقٍ وإلى مذاهب شتى، ويعدون أن الدعوة إلى هذه الفرق وإلى هذه المذاهب وإلى هذه الأحزاب هي الموصلة إلى ما دعت إليه الرسل، والرسل لم تدعُ إلى مذهب معين، إنما دعت إلى عبادة رب العالمين، ودعت إلى صراط الله المستقيم، وإلى كلمة سواء، وهي أن يخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، وأن يطيعوا الله عز وجل فيما أمر، وأن يتركوا ما عنه نهى وزجر.

ثم قال رحمه الله تعالى: (وصار الأمر بالاجتماع في الدين لا يقوله إلا زنديق أو مجنون) أي: أن من يأمر الناس بالإقبال على الكتاب والسنة ونبذ الأقوال المخالفة لهما مهما كانت مصادرها، سواء أكانت في الاعتقاد أم في الفقه يصفونه بالزندقة، أو بالجنون، والزنديق في كلام السلف هو المنافق، فقوله: (إلاَّ زنديق) أي: إلاَّ منافق، (أو مجنون)، أي: فاقد العقل، والزنديق هو فاسد الدين، والمجنون: هو فاقد العقل، فيصفونه بأحد هذين الوصفين، وهو نظير ما وصف به الجاهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر كما قال الله جل وعلا: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:53] أي أن هذه المقولة سببها الطغيان والخروج عن الصراط المستقيم.

إذاً: الواجب على كل مؤمنٍ أن يسعى إلى الاجتماع، وأن يأمر به، وأن يحث عليه، لكن ما هو الاجتماع الذي دعت النصوص إلى الأخذ به؟ الجواب: هو الوارد في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [آل عمران:103]، والحبل في هذه الآية هو شرع الله المتين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.