تحرير المرأة


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي جعل عز الكافرين بعز التوحيد والإسلام مطموساً، وأذل بقهره منهم أعناق ورءوساً، وصرف عن أهل طاعته بلطفه وإسعاده أذىً وبوساً، ورفع كيد شياطين الإنس والجن عن قلوب أهل الإيمان فأصبح عنها محبوساً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص في معتقده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وعلى سائر التابعين مقصده الصابرين من البلاء على أشده.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

فلبعص الصحفيين مجموعة كتيبات بعنوان: سنة أولى سجن، سنة ثانية سجن، وهكذا، فحق لمحاضرتنا أن يعنون لها: سنة مائة تحرير، أو بالأحرى سنة مائة سجن، يعني: السنة المائة من استعباد المرأة وسجنها في هذه الدعوة المشئومة، وهذه هي المرة الأولى التي تحتفل فيها مصر أو أية دولة أخرى بمرور مائة سنة على صدور كتاب، ولم يحصل أن احتفل بمرور قرن على صدور كتاب، وهم يسمونه الاحتفال بمرور مائة عام على تحرير المرأة، وهذا عنوان غير صحيح؛ إنما هو على صدور كتاب (تحرير المرأة) فإذا كان عنوان المحاضرة: تحرير المرأة من البذر إلى الحصاد، فالمفروض أن نرجع قرنين إلى الوراء وليس فقط قرناً واحداً، وبالضبط إلى تاريخ (21/10/1798م) حيث كانت البذرة الأولى لتحرير المرأة كما سنبين إن شاء الله تعالى، فأقامت مصر جنازة حارة أو بتعبير آخر ذكرى حارة لصدور هذا الكتاب، وانضم عام (1899م) إلى قائمة الأعياد المقدسة في التقويم العلماني، وهو عام صدور كتاب قديس العالمنيين قاسم أمين فتنة الأجيال وداعية السفور في عهد الاحتلال، فهذه ذكرى مرور قرن كامل على بداية الطرح النظري لقضية تحرير المرأة في مصر وفي البلاد العربية، ولكن انتهت من الناحية العملية إلى كونها تغريباً للمرأة، حيث كانت هناك مطالب لإصلاح أوضاع المرأة في ذلك الوقت، لكنها لم تكن في تهور واندفاع قاسم أمين .

وفي الحقيقة لقد تكلم كل من أراد أن يتكلم؛ فليس من الصواب تجاهل هذه القضية، وليس الهدف من الكلام تصفية حسابات مع أناس قد أفضوا إلى ما قدموا فحسابهم على الله سبحانه وتعالى، وإنما الهدف هو تقويم آثارهم التي تركوها، على حد قول الله سبحانه وتعالى: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12]، لا سيما تلك الآثار التي امتدت بحيوتها وتأثيرها إلى واقعنا المعاصر.

من الملاحظ واللافت للنظر أنه لم يكن من طقوس هذه الاحتفالية بمرور مائة عام على صدور هذا الكتاب ترتيل وإنشاد الكتاب المقدس لدى دعاة تحرير المرأة، لأنه ليس من مصلحتهم أن يتلى هذا الكتاب وأن يتعرف الناس على حقيقة محتوى كتاب تحرير المرأة؛ لأنه ربما لو تلي هذا الكتاب وأعلن للناس فلسوف يفضح مدى رجعية صاحب الجنازة، وسوف يوصف بأنه متطرف بالاصطلاح الحديث، وبأنه أصولي وبأنه رجعي؛ وذلك إذا قارنا محتوى كتاب (تحرير المرأة) بالتطور الكبير الذي لحق بالمذهب منذ تأسيسه؛ فـقاسم أمين في محطته الأولى أو بتعبير آخر في المحطة الثانية له وهي كتاب (تحرير المرأة) يعتبر من المتطرفين، حيث ينطبق عليه وصف التطرف؛ لأن قاسم أمين في كتاب (تحرير المرأة) جعل الكتاب كله يتمحور حول قضية أساسية وهي كشف وجه المرأة مع احتفاظها بسائر ملامح الحجاب الإسلامي، فكل ما كان يدعو إليه هو كشف وجه المرأة، وكل المعركة التي قامت كانت من أجل أن يقنع الناس بأنه يجوز كشف وجه المرأة، وكان هذا الاعتقاد والتمسك بالحجاب الكامل للمرأة المسلمة بكل أبعاده وبكل معانيه كان ملمحاً رئيسياً في الهيئة الاجتماعية لمصر في ذلك الوقت، حتى كتب حافظ أمين معاتباً المصريين في شدة تمسكهم بالنقاب وبالحجاب الكامل للمرأة قائلاً:

فلو خطرت في مصر حواء أمنا يلوح محياها لنا ونراقبه

وفي يدها العذراء يسفر وجهها تصافح منا من ترى وتخاطبه

وخلفها موسى وعيسى وأحمد وجيش من الأملاك ماجت مواكبه

وقالوا لنا رفع النقاب محلل لقلنا: صحيح ولكن نجانبه

فلا شك أن هذا الشعر يعكس مدى شدة تمسك المصريين مع التجاوز عما يحتويه هذا الشعر من أمور فيها نظر، وقبل أن نستطرد في الموضوع لو أراد أحد أن يحبط دعوة قاسم أمين وأن يثير ضدها أشنع دعاية وجهت لها على الإطلاق لما استطاع أن يحبط هذه الدعوة وأن يفضحها وأن يدمرها بمثل ما حصل في هذا المؤتمر الأخير الذي أقيم في ذكرى مرور مائة عام على تحرير المرأة.

وباختصار إذا أردنا أن نختزل هذه الرحلة التي امتدت لمسافة قرن وكانت بدايتها البذرة أو البذور التي سنذكرها فإن نهايتها وحصادها الذي جوهر به علناً جهاراً نهاراً في هذا المؤتمر هي أسوأ دعاية لدعوة تحرير المرأة، وبلغ من قبح هذه الدعاية وشؤم هذا الحصاد أن الذين تولوا الرد على ما حصل في هذا المؤتمر أناس كثيرون لا علاقة لهم بالمتطرفين ولا بالأصوليين، بل هم أناس من عامة الناس، حتى من الصحفيات المتبرجات، فهذه واحدة من الصحفيات في صحيفة الأهرام كتبت تقول: إن المرأة لا تحتاج إلى قاسم أمين ، ولكنها تحتاج الآن إلى من يعلمها أن الدين كله حياء، وغير ذلك مما سوف نذكره.

وأحد هؤلاء الأساتذة وهو أستاذ الأدب الانكليزي في جامعة القاهرة الدكتور محمد يحيى يقول: إن الضجة التي نقدت لذكرى كتاب (تحرير المرأة) وتحويل هذا النص إلى عمل مقدس تخفي في الحقيقة وتموه على تاريخ مؤلم وطويل من فرض خطاب علماني ومتغرب النزعة على الأمة بالقوة -يعني: لم يتم اختيار هذا المنحى بمحض الإرادة الحرة للمسلمين أو المسلمات- ليكون خطاب قمع وممارسة قهر ضد دينها وضد رجالها، ولكن ليس لصالح نسائها. -يعني: في الحقيقة ليست دعوة تحرير المرأة هي لصالح النساء؛ لأنهم يدأبون على تقسيم الناس إلى قسمين: من وافق أهواءهم فهذا صديق المرأة، ومن خالف أهواءهم فهذا عدو للمرأة أياً كان، فما دام يخالف دعواتهم فإنه عدو للمرأة، وكان هذا التقسيم فعلاً رائجاً في وقت من الأوقات، وكان يتم تمييز الرجال والأدباء والمفكرين هذا عدو وهذا صديق على أساس موقفه من هذه الدعوة المشئومة- فالحقيقة أن هذا المذهب الذي فرض على الأمة المسلمة لم يكن لصالح نسائها على عكس ما يزعم له من أنه خطاب تحرير وخلاص وانعتاق، بل هو خطاب يزعم التحرير ويمارس القمع قولاً وممارسة، وهو خطاب يزعم تحقيق الخلاص، لكنه يحقق العبودية في الفكر وفي الممارسة وصولاً إلى العمالة الصريحة للقوى التي تنظم له الاحتفال بالتحرير. انتهى كلام الدكتور محمد يحيى .

وقبل أن نستطرد أيضاً نريد أن نبين وبمنتهى الصراحة والوضوح أننا من البداية عندما نناقش هذا الموضوع أنه لا ينفصل على الإطلاق من عقيدتنا وتمسكنا ورضانا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، فليست المسألة في موضوع المرأة مسألة قديم وجديد، وتطور وتخلف، بل القضية قضية إسلام وكفر، هدى وضلال، حق وباطل، وحي وهوى؛ فإنه لا يقابل الوحي إلا الهوى، كما قال الله تبارك وتعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50]، وقال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3]* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]، فالوحي يقابله الهوى، فهي إما هوى وإما وحي، أما أن ندعي الإسلام ونتستر وراء الإسلام ثم ننخر في جسد الإسلام ونحور ونغير مفاهيمه، وإما أن نظهر مخالفته جهاراً. فإن كان لا يعجبك الإسلام فدعه وشأنه، ولك ما شئت، قال تعالى: مَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، فإما أن يدّعوا الإسلام ثم يحاولوا أن يسوغوا ضلالاتهم وانحرافتهم باسم الإسلام فهذا ما لا ينبغي أن يقبل أبداً.

وأيضاً عند تناول هذه القضية كما قلنا يجب أن نعلم أنها قضية لها ارتباط بعقيدتنا، ولابد أن نعلم أن هذا القرآن حق، وأن الرسول حق، وأن الإسلام حق، وأن ديننا هو الإسلام، وأن ربنا هو الله سبحانه وتعالى، وأن الله سبحانه وتعالى أرحم بنا من أنفسنا، وأن الله يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، وبناءً على كل هذه المسلمات نحن نقبل على الشرع بغاية الثقة في أنه يريد لنا الخير في الدنيا وفي الآخرة، وأننا ممتحنون في كل موقف وفي كل اعتقاد وفي كل تصرف، وممتحنون بموقفنا من هؤلاء: هل نواليهم في الله ونبغضهم ونحبهم في الله أم غير ذلك؟

ونرفض أيضاً النبرة الاعتذارية واللهجة التبريرية حين نناقش أمثال هذه القضايا سواء قضية المرأة أو غيرها؛ فإن بعض المنهزمين يقبلون مبدأ أن الإسلام موضوع في داخل قفص الاتهام، وأنهم يقومون بالدفاع عنه دفاعاً هزيلاً ضعيفاً منهزماً، فهم يقرون أن الموضوع الفلاني كأنه تهمة، وأن الإسلام فعلاً أدخل القفص وأغلق عليه، وهم يدافعون كمحامين، ونحن لا نقبل هذا المبدأ على الإطلاق، هذا يمكن أن يصلح بين دين باطل ودين آخر باطل، وفي المذاهب الأرضية مع بعضها البعض، أما بين الإسلام الحق الذي لا حق غيره في الوجود والذي كل ما عداه كفر وبين غيره فلا، ولا نجعل هذا موازياً لذاك أو هذا سواسية مع ذاك، فهذا كمبدأ هو مبدأ مرفوض.

فالقضية هي أن أحكام الشرع نازلة من عند الله، ومن طعن فيها فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً له من الملة، ولا نقاش في هذه البديهية، فنبرة الاعتذار ونبرة من أجل أن يقولوا علينا: إننا معتدلون، ونحوز رضاهم، ونحوز كذا وكذا، غير مقبولة، ويجب أن يرفض مبدأ التنازل في مقابل أي شيء آخر، فلا مساومة ولا أنصاف حلول، ولكن ثقة في حكم الله سبحانه وتعالى وانقياد له؛ لأن هذا هو معنى الإسلام، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ مُبِينًا [الأحزاب:36]، وأذكر هنا ما رواه الشعبي حينما قال: (لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة كان أول من انتهى إليه أبو كنان رضي الله عنه فقال: أبسط يدك أبايعك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: علامَ تبايعني؟ فقال أبو كنان : على ما في نفسك) فهو لا يطلع على ما في نفس النبي عليه السلام، ولكنه الانقياد والاستسلام والإذعان لشرع الله سبحانه وتعالى مهما كان أمر الله، فما دام الأمر صادراً من الله فلا نقاش، وينتهي الخيار تماماً، وهذا هو شأن المؤمن. أما المنافقون وأما الزنادقة فلهم شأن آخر.

وفي الحقيقة نحن في قضية المرأة نحارب في المعركة، ونحن زُجَّ بنا في معركة ليست تخصنا من بدايتها إلى نهايتها، فهي معركة لا علاقة لنا بها في الأصل؛ لأن الإسلام ما ظلم المرأة، وما استعبد المرأة حتى تطالب بتحرير الحجاب، وليس الرجل الذي تعتبره عدو المرأة هو الذي فرضه عليها، ولكن الذي فرضه عليها هو الله سبحانه وتعالى خالقها، فما أكثر ما حارب المسلمين في معارك لا تخصهم وزج بهم فيها وهم لا ناقة لهم فيها ولا جمل! وقد رأينا من قبل مئات الآلاف من المسلمين يجندون في الجيش البريطاني من مسلمي الهند وبدو الجزيرة العربية والأردن وسوريا في أثناء ما يسمى بالثورة العربية للشريف حسين ، فكان الآلاف من المسلمين مجندين تحت قيادة الانكليز يحاربون إخوانهم المسلمين الأتراك بزعم الثورة العربية الكبرى، وكان يفتخر لورنس بأنه قتل الآلاف من العرب في سبيل بريطانيا في حين أنه لم تنزف قطرة دم واحدة من جندي انكليزي، وكان يفخر بأنه فعل هذا لوطنه؛ لأنه أراق دماء مئات الآلاف من العرب، ولم ترق قطرة دم واحدة من جندي انكليزي واحد في سبيل بريطانيا، ومع ذلك نحن نرى اليوم رجالاً ونساءً يحاربون في مدارس الفكر الغربي وهم في الحقيقة يحاربون دينهم دون وعي منهم.

وهذه المعركة المفتعلة ضد الرجل في قضية المرأة هي كما ضرب مثلاً أن رجلاً جاء في وسط الليل إلى أبرز شارع في العاصمة المزدحمة، ثم أتى بكم كبير من الأنقاض وفرغه في هذا الشارع أو في هذه الساحة، ثم صنع منه تلاً عالياً، ووضع على رأسه مصباح، فقال له الناس: لمَ أتيت بهذه الأنقاض؟ قال: لأرفع عليها المصباح، قيل له: لماذا تضع المصباح؟ قال: كي لا يصطدم الناس بالأنقاض!

فالقضية أصلاً هي قضية مفتعلة، فإن المرأة ما عرفت ذلاً من الإسلام، وهناك انحرافات تقع في الواقع البشري في كل أمة وفي كل عصر وهي في الحقيقة ترجع إلى الانحراف عن الإسلام، وما سبب الإسلام أبداً أي مشكلة، ولا يمكن للإسلام أن يسبب ظلماً، ولا يمكن أن يصدق هؤلاء الدجالون العملاء الذين يزعمون أن الرجل عدو المرأة، فالرجل مسلم عدو أي مرأة؟ وأي امرأة هي التي يعاديها؟ هل هي أمه؟ أو أخته؟ أو بنته؟ أو زوجته؟ هذه هي المرأة بالنسبة لأي رجل، فلمَ يعاديها؟! وهل يؤتمن أحد على المرأة كما يؤتمن الأب الحاني أو الأخ الشفيق أو الزوج الرحيم أو الابن البار؟!

وبعض الناس يمارسون موقفهم في هذه القضية يتفاوتون؛ فبعضهم يمارس الفن المتلون الحربائي، ويراوغ ويلف ويدور ويقول لك: هذا هو روح الإسلام، ولا ينبغي أن نجمد عند النصوص، وإنما ننظر إلى روح هذه النصوص، وعلم الله أنهم ما يريدون إلا إزهاق روح هذه النصوص، ويقولون: الإسلام دين السماحة، لكنكم أنتم بعقولكم الذين تشوهون جماله، إلى آخر هذا الدجل الذي يروج على السذج.

وبعضهم في الحقيقة يكونون في غاية الصراحة، ويكونون صرحاء بدرجة يحسدون عليها، وهذا هو الذي سماه أبوه أحمد بهاء الدين الصحفي المعروف؛ فإنه في يوم من الأيام كتب: لابد من مواجهة الدعوات الإسلامية في أيامنا مواجهة شجاعة بعيداً عن اللف والدوران، وإن الإسلام كغيره من الأديان يتضمن قيماً خلقية يمكن أن تستمد كنوع من وازع الضمير، وأما ما جاء فيه من أحكام وتشريعات دنيوية فقد كانت من قبيل ضرب المثل ومن باب تنظيم حياة نزلت في مجتمع بدائي إلى حد كبير، ومن ثمَّ فهي لا تلزم عصرنا ومجتمعنا!!

إنها صراحة يحسد عليها في الحقيقة.

وكذلك الرجل الذي جهر في جريدة الأهرام أثناء موضوع عباد الشيطان حيث قال: بقدر ما أنا ضد الحجاب أنا ضد عبدة الشيطان!

ونقول: بل أنت من عبدة الشيطان، فهم يتصورن أن عبادة الشيطان تقتصر على ما يفعله هؤلاء الشباب من طقوس عبادة الشيطان والأشياء التي فعلوها، فإما أن تعبد الرحمن وإما أن تعبد الشيطان، ولا يوجد حل وسط، قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس:60]* وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ[يس:61]، وقال تعالى حاكياً عن إبراهيم: يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا[مريم:44]، فكل من عبد غير الله فقد عبد الشيطان وكل من صد عن سبيل الله فقد عبد الشيطان.

وقبل أن نستطرد في الكلام في هذا الموضوع وذكر التاريخ من البذرة إلى الحصاد لابد لنا من وقفة مع كلمة الحرية والتحرر، فإنه يكثر الكلام في زماننا عن كلمة الحرية والتحرير، وكلمة التحرر هي الكلمة الرنانة والمحببة إلى النفس، ويدعي كثير من النظم والهيئات أنها تحقق الحرية، أي: حسب فهم كل لمبدأ الحرية.

والإنسان فقير بذاته يتطلع بفطرته إلى الخضوع والذل والعبودية لخالقه وفاطره الغني بذاته سبحانه وتعالى، فالعبد من حيث كونه عبداً لابد أن يشعر بحاجة إلى هذه العبودية، وفيه شعبة لا يمكن أن يسدها إلا الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

والفقر وصف ذات لازم لي أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي

فالإنسان السوي المستقيم على الفطرة لا يستقيم حاله ولا يطمئن قلبه إلا إذا آوى إلى مولاه، وطرح نفسه على عتبته، وأمعن في العبودية الخالصة له عز وجل دون سواه، والعبودية لله عز وجل هي أرقى مراتب الحرية؛ لأن العبد إذا تذلل إلى مولاه وحده فإنه يتحرر من كل سلطان، فلا يتوجه قلبه ولا يطأطئ رأسه إلا لخالق السماوات والأرض، ولابد للإنسان من العبودية، إذ لا يمكن أن يوجد إنسان ليس عبداً، بل لابد من عبودية، فإن وضع العبد العبودية موضعها بأن عبد الله سبحانه وتعالى فهذه أشرف العبودية، وهذه أرقى درجات الحرية على الإطلاق، فإن لم يضع العبودية موضعها فإنه حتماً يتلطخ بالعبودية لغير الله عز وجل من الأنداد والشياطين، والمسلم يتحرر بإسلامه من سيطرة الهوى والشهوة والسلطان الذي يسيطر عليه سلطان الدين الحنيف قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40]* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:39].

إذاً: هذه حرية في صورة العبودية، ولا يمكن للبشرية أن تحرر حقاً إلا بتحقيق هذه العبودية، فإذا وضعت العبودية في موضعها تتحقق لك الحرية، وإلا كنت عبداً لعبيد مثلك، ونحن نعرف الشعار الذي رفعه الصحابة رضي الله تعالى عنهم حينما فتحوا البلاد، فلما سئل ربعي بن عامر من قبل قائد جيش الفرس حيث قال له: ما جاء بكم؟ فقال: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. فهذا هو شعار هذه الدعوة وهذا الفتح: إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد سبحانه وتعالى، فالحرية في غير الإسلام تصبح جوفاء لا معنىً لها، بل هي العبودية المذلة المهينة، حتى لو بدت في صورة الحرية، فالخضوع للطواغيت وللمناهج والقوانين التي بنيت على ما تهواه الأنفس بعيداً عن تشريع الخالق جل وعلا إنما هو عبودية لغير الله، كما يقول الشاعر:

هربوا من الرق الذي خلقوا له فبلوا برق الكفر والشيطان

فإن لم تضع العبودية والرق في موضعه الصحيح -وهو العبودية لله- فلابد أن تبتلى برق الكفر والشيطان، فمفهوم العبودية لله في الإسلام هو الحرية في أرقى صورها وأكمل مراتبها.

والعبودية لله إذا كانت صادقة فإنها تعني التحرر من سلطان المخلوقين والتعبد لهم، فالمسلم ينظر إلى هذا الوجود نظرة صاحب السلطان، فإن الله خلق كل ما فيه من أجلنا وسخره لنا، كما قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13]، وما دام الأمر كذلك وما دام كل ما في الكون مسخر لنا فالمسلم لا يمكن أن يخضع لمخلوق من المخلوقات في هذا الكون، ولا يقصدها؛ لأنها مسخرة له.

إذاً: فهي أقل منه شأناً، وهي مخلوقة لنفعه وصلاحه. والمسلم أيضاً لن يستعبده إنسان مثله؛ لأن الناس جميعاً عبيد الله، فإن حاول بعض المتمردين من بني الإنسان أن يطغى ويبغي وقف المسلم في وجهه يقول كلمة الحق ويذكره بأصله الذي منه خلق، ومصيره الذي لابد له منه، ويذكره بضعفه وعجزه عله يفيق أو يرجع، وبالعبودية لله يتحرر الإنسان من أهوائه، فالهوى شر وثن يعبد، كما قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، فالهوى قد يُجعل إلهاً معبوداً يسيطر على نفس صاحبه فلا يصدر إلا عن هواه، ولا يسعى إلا لتحقيق ما يبعثه إليه، فالإسلام يعتبر الخضوع لأهواء النفس التي تدعو إلى المحرمات والآثام عبودية لهذه الأمور، أما التفاني عما تدعو إليه النفس من المحرمات حتى لو كانت النفوس تميل إليها فإنه يمثل في الإسلام الحرية الحقة؛ لأنه وإن قيدت حريته من جهة بأن ألزم بترك بعض ما يشتهي إلا أنه تحرر من سلطان الهوى من جهة أخرى، وانظر إلى تحرر المسلم أثناء الصيام من عبوديته للشهوات، مع أنها حلال، لكن الله حرم عليه الماء، حتى الماء صار حراماً على الصائم، وكل ما أحل الله سبحانه وتعالى يدعه المسلم في نهار رمضان؛ لأنه تحرر من أن تستعبده هذه الشهوات.

فالذين يزعمون أنهم يستطيعون تحقيق مبدأ الحرية بعيداً عن الله سبحانه وتعالى وعن دينه مخطئون؛ لأن كل مخلوق سيبقى عبداً شاء أم أبى، إلا أنه إن رفض الخضوع لله اختياراً فسيخضع لمخلوق مثله لا يملك له نفعاً ولا ضراً، بل قد يخضع لمن هو أقل منه شأناً، فيكون استبدل عبودية بعبودية، ولم يخرج من العبودية إلى الحرية، بل خرج من عبودية الله إلى عبودية الطاغوت وثناً أو صنماً أو بشراً أو شمساً أو قمراً، يقول الله سبحانه وتعالى: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60]، فمما ابتلاهم الله سبحانه وتعالى به جزاء تكذيبهم جعلهم عبيداً للطواغيت بعد أن كانوا عبيداً لله، فما أكثر ما تتردد كلمة الحرية في زماننا هذا!

ويزعمون أن الثورة الفرنسية هي التي أعلنت هذا المبدأ، وأن هيئة الأمم المتحدة أقرت الحرية مبدأً، وليس الأمر كذلك، فإنما فعله هؤلاء هو أنهم أخرجوا الناس من عبودية نظام وقانون وطائفة إلى عبودية نظام آخر وقانون آخر وطائفة أخرى، فالذين خرجوا من الشيوعية خرجوا إلى عبودية من نوع آخر، ولم يخرجوا من عبودية إلى حرية، فهم بقوا عبيداً وإن ظنوا أنفسهم أحراراً، ولن يحررهم من سلطان البشر ويخلصهم من العبودية الظالمة إلا أن يكونوا عبيداً لله يقصدونه وحده، فعند ذلك يتحررون من سلطان الآخرين حتى من أهواء أنفسهم التي تتردد في أجسادهم، فأخرجوا الناس من ظلمات متراكمة إلى ظلمات أشد ومن عبودية إلى عبودية، ولن يكون من مخلص من العبودية لغير الله إلا بالإسلام، يقول الله سبحانه وتعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، فكل من لم يرض بالإسلام ديناً وبحكمه حكماً فإنه غارق في قاذورات الجاهلية وأوحالها، والذين يرفضون أن يكون الله معبودهم فإنهم يوهمون أنفسهم بتعبيدها لمخلوقات أقل منها شأناً وأحقر منزلة، وهم في ذلك يهينون هذه النفوس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).

وبالنسبة لهؤلاء الذين أطلقوا هذه الكلمة (تحرير المرأة) ومنهم قاسم أمين فإنه كان يقصد بذلك الإشارة إلى أنه يرى المرأة في حالة استعباد، وأنه أتى ليحررها من هذا الرق وهذا الاستعباد، كما سنرى إن شاء الله تعالى.

ولو نظرنا في معنى مصطلح التحرير لرأينا أنه يترجم أحياناً: ليبريشن أو إيمانسفيشن، والاصطلاح الشائع في العالم كله بالنسبة لقضية تحرير المرأة هو اصطلاح: الإيمانسفيشن، وإيمانسفيشن يساوي العتق، وليس التحرير؛ فالتحرير كلمة أعم، لكن الإيمانسفيشن هو المصطلح الذي يعبر عن تحرير المرأة بالعتق، فانعتاق المرأة أدق في تصوير المرأة المسلمة على أنها عبدة، وأنه مطلوب تحريرها بنفس المعنى الذي سوف نستنتجه من القصة التالية.

فقد كان بشر -المشهور بـبشر الحافي - في زمن لهوه في داره وعنده رفقاؤه يشربون ويطيبون، فاجتاز بهم رجل من الصالحين فدق الباب عند أن سمع أصوات اللهو والمعازف؛ فخرجت إليه جارية فقال لها: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ فقالت: بل حر، فقال: صدقتِ؛ لو كان عبداً لاستعمل أدب العبودية وترك اللهو والطرب، فاستمع بشر محاورتهما فسارع إلى الباب حافياً حاسراً -حافي القدمين حاسر الرأس- وقد ولى الرجل، فقال للجارية: ويحك! من كلمك على الباب؟ فأخبرته بما جرى، فقال: أي ناحية أخذ الرجل؟ فقالت: ناحية كذا، فتبعه بشر حتى لحقه، فقال له: يا سيدي! أنت الذي وقفت بالباب وخاطبت الجارية؟ قال: نعم، قال: أعد علي الكلام، فأعاده عليه، فمرغ بشر خديه على الأرض فقال: بل عبد، بل عبد، ثم هام على وجهه حافياً حاسراً، حتى عرف بالحفاء فصار لقبه: بشراًً الحافي ، فقيل له: لمَ لا تلبس نعلاً؟ قال: لأني ما صالحني مولاي إلا وأنا حافٍ، فلا أزول عن هذه الحالة حتى الممات.

الشاهد من القصة: قول الرجل للجارية: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ قالت: حر، فقال: صدقتِ؛ لو كان عبداً لخاف من مولاه أو كما قال، يعني: لو كان محققاً معنى العبودية.

فهؤلاء يريدون أن نكون أحراراً بهذا المعنى الذي هو التحرر من شرع الله ومن أوامر الله عز وجل، والخروج من عبودية الله إلى عبودية كفار الشرق وكفار الغرب، فالحقيقة أن هذه العبودية هي مما يفخر به المسلم.

ففعلاً إنهم يريدون تحرير المرأة من عبوديتها لله، وهذه هي حقيقة دعوة قاسم أمين والشاذلي ومن استنوا بسنتهما، فنحن نفخر بأننا عبيد لله سبحانه وتعالى، كما يقول الشاعر:

ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا

والرسول صلى الله عليه وسلم أشرف صفة رفعت مقامه عند الله هي إمعانه في اتصافه بالعبودية، ولذلك أعظم مديح تمدح به رسول الله عليه السلام أن تقول: عبد الله ورسوله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)، ولما جلس ليأكل على هيئة هي غاية في التواضع قيل له: (هلا اتكأت؟ فأحنى رأسه حتى كادت جبهته تمس الأرض، وقال عليه الصلاة والسلام: بل آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد).

والله سبحانه وتعالى حينما امتدحه امتدحه بالعبودية في أشرف المقامات: في مقام التحدي، كما في قوله تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، وفي مقام الدعوة، كما في قوله عز وجل: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19]، وفي مقام الإسراء، كما في قوله سبحانه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ .. [الإسراء:1] إلى آخر الآية.

فإذاً: هذه العبودية هي أشرف وأعلى درجات الحرية، وهي عبودية نحن نفخر بها، يقول الشاعر:

قوم تخللهم زهو بسيدهـم والعبد يزهو على مقدار مولاه

تاهوا به عمن سواه له يا حسن رؤيتهم في حسن ما تاهوا

ويقول آخر:

شرف النفوس دخولها في رقهم والعبد يحوي الفخر بالتمليك

فالدخول في الرق لله وفي العبودية لله هو أشرف ما يصبو إليه كل مسلم وكل مسلمة، وهذه في الحقيقة هي الحرية وما عدا ذلك فهي السجن، ولذلك قلنا: هذه بداية سنة مائة سجن؛ سجن في الأهواء والشهوات والضلال المبين الذي انتهى إلى الإلحاد والحصاد المرير الذي حصل في هذا المؤتمر، فالمسلمة لا يمكن أبداً أن تقتدي بهؤلاء النسوة العمي اللاتي أعماهن الله سبحانه وتعالى عن هداية الوحي.

وحالهم كما قال الشاعر:

أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم قد ضل من كانت العميان تهديه

ويقول الشاعر الآخر:

كيف نرجو من السجين معيناً؟ وهو في القيد ينشد الإفراجا

سبل الغرب كلها جحر ضب وسبل الإسلام كانت فجاجا

فنحن الأحرار وهم العبيد، والذي يحرر هو الحر، أما العبد الأسير الذي أسره هواه وأسره ضلاله فهذا في الحقيقة هو الذي يحتاج إلى هذه الحرية، فالمرأة المسلمة خلقت حرة؛ والإسلام رفع شأنها وكرمها، وهذا حديث مكرر ومعاد وطويل وكلنا يعرفه، وهو أنه ما كرمت المرأة بمثل ما كرمها الإسلام.

وفي الحقيقة سنسلك مسلك الذين يعملون (فلاش باك) يعني: يبدأ الأول يأتي من الأخير، وبعد ذلك الذاكرة ترجع تأتي من البذرة، فسنبدأ بالحصاد ونقول: إن الإنسان أول ما يقرأ ردود الأفعال بشأن المؤتمر الأخير هذا -مؤتمر مائة عام على تحرير المرأة العربية- فأول كلمة يقولها الإنسان: آمنت بأن الله حليم صبور سبحانه وتعالى! فلولا حلم الله سبحانه وتعالى لاندكت الأرض من تحتنا؛ لأن الإلحاد والكفر قد وصل إلى هذا المدى والله سبحانه وتعالى حليم يعطيهم فرصة ويمهلهم لعلهم يتوبون ولعلهم يستعتبون، وكم كانت الحياة سعيدة هادئة مريحة قبل هذه الحركة النسوية المشئومة!

وهذا المؤتمر انعقد ما بين (23-28 أكتوبر) يعني: لمدة ستة أيام، عقد خلالها أكثر من ستين ندوة ومائة مائدة ومائدة مستديرة وجلسات شهادة، وحين تقرأ كلامهم تحس أن المتكلم حاقد على الدين حاقد على الإسلام.

وقد أتت شاذات الآفاق من هؤلاء النسوة المنحلات، أتين من الشام ومن المغرب، ومن الشمال ومن الجنوب، أتين ليصفين حسابهن مع الإسلام ومع دين الله عز وجل!

والحقيقة أنه تصدى لهن في المؤتمر ناس عاديين ليسوا متطرفين مثلنا، وبالعكس لقد قامت واحدة من الصحفيات وهي متبرجة تماماً في غاية التبرج فكتبت في الأهرام الأدبي تنتقد هذا المؤتمر؛ لأن الصاع اشتط والكيل طفح، إلى حد أن هؤلاء الذين لا يتهمون بالطرف ولا بالأصولية ولا آخر هذه المسميات ما أطاقوا هذا الفجور وهذا الانفجار.

وقد كان هناك مؤتمر حصل أيضاً في اليمن قريباً، وكان عن جندرة اللغة، وجندرة اللغة يبدو من السياق أنهم يريدون عملية تأنيث اللغة، ويتهمون اللغة العربية بأنها منحازة للرجال، ووصل الإلحاد بإحدى الملحدات الكافرات من اليمنيات الخبيثات إنها -والعياذ بالله!- قالت كلاماً شنيعاً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنا في حكايته، لكن وصل إلى حد أنها تريد التعبير عن الله سبحانه وتعالى بغير لفظ (هو)! فرد عليها رئيس تحرير جريدة عقيدتي التابعة للحزب الوطني وغضب غضباً شديداً ووقف واعترض اعتراضاً شديداً، فهذا الإلحاد هو الحصاد!

وقد كان الناس من زمان يكتبون ويقولون: سوف يحصل، والعلماء لما تصدوا لـقاسم أمين كانوا يقولون: سدوا الذرائع، لأنهم أشفقوا من المستقبل، فكانت هذه الأمور متوقعة، أما الآن فنحن رأينا الحصاد ولمسناه بأيدينا.

وقد حاول أحد الصحفيين أن يحتج بالنصوص الشرعية، وأن يذكرهم بقول الله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، وبأحكام الحجاب وتطبيق الشريعة، فهاجمه الفنان التشكيلي عدلي رزق الله ووصفه بالجحش، وأنه جاهل؛ لأنه يستدل بآيات قرآنية!!!

وقد هاجمت سلوى بكر تطبيق الشريعة في السعودية قائلة: إن محاولة إرهاب المواطنين -الحدود أصبحت إرهاب- بقطع اليد عقاباً على السرقة وجلد الزاني والزانية هي أمور رجعية لم تعد صالحة لهذا العصر!! وأتحدى أن يأتوا بعالم واحد على وجه الأرض لا يكفر من يقول هذا.

والكاتبة الكويتية ليلى العثمان كانت هناك تعليمات بعدم التدخين فلم تستطيع أن تستحمل وهي على المنصة، فأشعلت أول سيجارة وتبعها الباقي على هذه السنة، وقد كانت تحاكم في الكويت بتهمة الفجور والخروج على الأدب، فقالت: إن من حق المرأة أن تكتب عما يتعلق بالفواحش وهذه الأشياء والسياسة والدين كما يفعل الرجل تماماً!!

وهذا الدكتور جابر عصفور يقول: الحجاب مسألة ثانوية لا نشغل أنفسنا بها، ومن حق المرأة أن تختار ما تريد بدون ضغط عليها!!

وهذا الدكتور محمد حافظ ذياب يقول: الحجاب أنواع: هناك الحجاب السلفي، والحجاب التكفيري، والحجاب الإخواني، هذا الحجاب يتعامل مع الجسد باعتبار أنه خطيئة، ويقول: إنه حجاب واسع فضفاض داكن يلائم كل الأغراض السياسية والاجتماعية، وأحياناً يتم استخدامه لتخبئة السلاح!!

وأنا حقيقة أختزل الكلام ولا أذكره بالنص، لأنه يوجد كلام لا أقوى على النطق به؛ لأنه كلام إباحي إلى أقصى مدى!

وقد طالبت حياة الحضري -وهذه حذفت كثيراً من كلامها- بإلغاء إذن الزوج لسفر المرأة أو عملها، وإلغاء حق التأديب و، و، و، والمساواة في الإرث بين الذكر والأنثى، وبين الزوج والزوجة!!!

والحقيقة أنا أقول: فتش عن العقد في حياة محررات المرأة فستجد أن المشكلة بالنسبة لهم أنهن أفلسن ولم يفلحن في الحصول على رجل، هي هذه كل مشكلاتهن في كل الأجيال، فهو عبارة عن ثأر مبيت نتيجة ظروف في الغالب.

وأنا أتكلم بتفصيل أكثر وبالذات عن نوال السعداوي فإنها بعثت من أمريكا حيث تقيم الآن رسالة للمؤتمر تقول فيها: مع تصاعد القوى السياسية الدينية في بلادنا اشتدت القيود على النساء. أي: أنها تتهم الحكومة هنا بأنها متواطئة مع التيارات الإسلامية لتقييد حرية المرأة، وأن هناك خطة بين الاثنين من أجل هذا الأمر. وتقول: انتشرت ظاهرة التدين بين الرجال، وظاهرة الحجاب بين النساء، واشتدت عمليات التخويف من عذاب القبر والحرق بالجحيم وتعليق المرأة من شعرها يوم القيامة إن خالفت الله أو الأب أو الزوج!!!

وهذا الدكتور شريف حتاتة يقول: إن الأصولية والعولمة والحداثة ضد تحرير المرأة؛ حيث إنها تتفق على أن المرأة جسد فقط دون عقل.

وهذه الدكتورة نجلاء القليوبي تعلق على مطالب المؤتمرات وتقول: إنهن يطالبن بنوع آخر من الاستعباد، نوع تافه وهزيل. يعني: أنتم لا تريدون تحرير المرأة، بل أنتم تريدون استعباد المرأة، ثم تقول: إن من أحلى ما سمعته من صديقة ارتدت الزي الإسلامي عندما سألتها: ما هو شعورك لما تحجبت؟ قالت: شعرت بالحرية.

وأذكر بالمناسبة قصة أخت أمريكية فاضلة تدعى حالياً شريفة كارلو مشهورة جداً الآن في النشاط الإسلامي، هذه المرأة أصلاً كانت شابة صغيرة تدرس في أمريكا، وكانت متحمسة جداً لدعوة تحرير المرأة وحقوق المرأة إلى آخره، فالتقطها مجموعة من الناس، تقول عنهم: إنهم موظفون ولهم مناصب كبرى في الحكومة الأمريكية، قالت: وبينهم عداوات شديدة جداً، ومختلفون على كل شيء إلا على شيء واحد فقط هو تدمير الإسلام والقضاء على الإسلام، فأتاها واحد من كبراء ووجهاء هذه المجموعة التي لها مناصب عالية في الحكومة الأمريكية وقال لها: نراك عندك كفاءة وهمة ونشاط وتحمس لقضية المرأة، وأنا أعدك إذا سلكتِ مسلكاً معيناً في الدراسة وتأهلت أعدك بمنصب في السفارة الأمريكية في القاهرة؛ لتذهبي بعدما تتأهلين لتعملي من هناك وترتبطي بالداعيات إلى تحرير المرأة هناك وترفعي مطالب شأن المرأة، وكذا .. إلى آخره. فهذه الأخت اجتهدت جداً في الدراسة حتى إنها حصلت تحصيلاً عالياً جداً في اللغة العربية وفي التاريخ الإسلامي وفي الفقه وفي القرآن وفي الأحاديث، وعلموها كيف تلوي الأدلة، كما تقول هي، وكيف تدخل الشبهات على المسلمين، وكيف تقنعهم بأن الإسلام ظلم المرأة إلى آخر هذه الأشياء المقررة. وأثناء الدراسة بدأ الإسلام يغزو قلبها كما هو شأنه مع كثير ممن يحاولون قهره فيقهرهم، فبدأ الإسلام يغزو قلبها أو بتعبيرها: باتت تهتز، لما تعاملت مباشرة مع أحكام الإسلام وجمال الإسلام وشرائع الإسلام، فخافت على نفسها، فقالت: أنا كذا سأفقد ديني، فأنا سأعالج الموضوع هذا بأن أذهب إلى واحد متخصص في اللاهوت -قسيس- ويعلمني العقيدة، ويثبت عقيدتي، فذهبت إلى دكتور في اللاهوت من جامعة هارفرد في أمريكا، وعنده دكتوراه في اللاهوت ومتخصص في الدراسات النصرانية اللاهوتية، فشاء الله سبحانه وتعالى أن هذا الرجل ينتمي إلى فرقة معروفة، لكنها تكاد تكون مندثرة، وهي فرقة الموحدين من النصارى، وهؤلاء الموحدون لم يدخلوا في الإسلام، لكنهم مقتنعون تماماً بأن عيسى مجرد نبي، وأنه لم يصلب، وأنه لا يوجد ثالوث ولا شيء من الكلام هذا كله، لكنهم لم يؤمنوا بالنبي عليه السلام، فوجدت أن له دراسات كثيرة جداً عملها في النصوص، وأنه فقد الثقة تماماً بالتراجم الموجودة للإنجيل والتوراة، فبحكم تخصصه في دراسة النصوص باللغة الأصل، وهي: اللغة الآرامية، واللغة العبرية، واللغة اليونانية التي كان يترجم إليها الإنجيل وهذه الكتب، فاطلع على نصوص فعلاً أثبتت التحريف القطعي في الكتب الموجودة عندهم والمترجمة، تقول: ما أن انتهيت من المقرر الذي درسته معه حتى أزال من قلبي آخر بقايا العقيدة النصرانية. يعني: أن الإسلام قضى في الأول عليه قليلاً وهو أجهز على كل ما عندها، وغسل دماغها تماماً من أي ارتباط بهذه العقيدة، حينئذ بدأت تتصل بالمراكز الإسلامية في أمريكا، وتراسل بعض الإخوة هناك ويراسلوها، وتعاملوا معها، إلى أنه في يوم من الأيام اتصل بها أحد الإخوة من مدينة أخرى وقال لها: هذه الليلة سوف يحضر مجموعة من الإخوة المسلمين، أرجو أن تقابليهم، وأظنهم حوالي عشرين أخاً ذهبوا إلى هنالك، وكان معهم عالم باكستاني متخصص جداً في هذا المجال وعلى علم كبير، تقول: رأيت عنده علماً لم أره عند أحد، وظل يناقشها من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وبعدما أجاب عن كل أسئلتها وانشرح صدرها تماماً قال لها: لماذا لا تدخلين في الإسلام؟ ففوجئت بالسؤال، وقالت: إني أنا كثيراً ما جودلت وعلمت حتى شتمت، ولكن لم يقل لي أحد: ادخلي في الإسلام، فتقول: صادفت هذه الكلمة وقت انفتاح قلبها للهداية، فشهدت الشهادتين في الحال، والآن اسمها: شريفة كارلو من أنشط الداعيات على مستوى العالم إلى الإسلام، ولها مقالات في الحجاب، وأنا أذكر لها مقالة باللغة الإنجليزية، ترجمت عنوان المقالة: بمجرد ما غطيت رأسي تفتح عقلي. أي: أنها رأت النور ورأت الهداية بمجرد أن تغطت، لكن هؤلاء الدجالون يقولون: إن الحجاب حجاب على العقل، وإن الإسلام ينظر إلى المرأة على أنها جسد فقط .. إلى آخر هذه الترهات.

ولها مقالات كثيرة، والعجيب أني رأيت لها مقالات تتكلم فيها على أنواع التوحيد: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، ومقالة أخرى في الشرك وكيف ظهر في العالم، وتتكلم على قصة طروء الشرك في عهد نوح عليه السلام، وإن سببه الغلو في الصالحين، وتنقل نقولاً باللغة الإنكليزية، وتقول: شيخ الإسلام ابن تيمية قال كذا وكذا؛ لأنها تضلعت من العلوم في أثناء فترة دراستها، فإنها تضلعت من هذه العلوم حتى تطعن في الإسلام في الصميم، والحقيقة أن هذا أنموذج من النماذج الذي يبين كيف أن الله سبحانه وتعالى يفتح لهذا الدين قلوب الناس.

وكما قلت لكم: كتبت صحفية في الأهرام وهي متبرجة تماماً تستنكر قلة حياء المحاضرات، وتقول: على المرأة بعد مائة عام تحرير ألا تطالب بـقاسم أمين جديد، إنما بمن يعلمها الدين الذي كله حياء.

وقد تفوهت كثيرات بعبارات تخدش الحياء، وبكلام قبيح للغاية، حتى قال سامح كريم في صحيفة الأهرام: هل كان الفيلسوف الألماني شوفن هاور على حق حين قال: إن الرجل أكثر حياء من المرأة؟ هو بلا شك الرجل أكثر حياءً من أمثال هؤلاء النسوة.

وكالعادة ليس من الممكن أن يفوتهن أنهن يشددن ثياب بعض وشعور بعض، وقد تشاجرن على المنصة وصرخن، حتى صرخت إحداهن في الجلسة الأولى بأعلى صوتها قائلة: نحن نريد قاسم أمين جديداً يحرر المرأة من المرأة!! فالحقيقة أن المجتمع قفز من مرحلة كان الناس فيه يذمون المرأة ويقولون عليها: هذه وجهها مكشوف، وكانوا حينما يريدون أن يذموا امرأة بأنها ما عندها حياء ولا كذا وكذا يقولون: هذه وجهها مكشوف، كان في أيام البذرة، والحصاد الآن وصل إلى مرحلة تفكك لا يستطيع أحد أن ينكرها، بل وصل الأمر إلى حد أنه في إحدى الدول العربية قامت طالبات كلية الشريعة بالسباحة لابسات أقبح ما يمكن من أزياء السباحة، فهللوا لذلك وقالوا: هذه بداية مرحلة التنوير، وهذه بداية التغلب على الأصولية في هذه البلاد، وهؤلاء السابحات هن طليعة التنوير الإسلامي ورسولات الإسلام المستنير في هذه البلد!!!

فهذا هو الحصاد، وهذه إشارة هذا الحصاد الذي رأيناه في مؤتمر القاهرة ثم في مؤتمر بكين الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى تحطيم الأسرة تماماً، والقضاء على الأسرة، وإيجاد تعريف جديد للأسرة.

ومن هذا الحصاد ما نعانيه الآن من القنوات الفضائية ذوات القصف الإعلامي المركز.

وهكذا انتشار المجلات النسائية التافهة، فإذا أردنا أن نفتح كشف حساب ختامي لوضع المرأة في نهاية القرن هذا الذي مضى فلا شك أن العاقبة في غاية المرارة، وأنه مما يغنينا عن إكثار الكلام في هذا الموضوع عن هذا المؤتمر وما حصل فيه؛ فإنه لا يمكن أن يفضح أحد دعوة قاسم أمين بمثل ما فعل هؤلاء الملحدات، حيث وقفت واحدة منهم تقول: أنا ملحدة! وأصر على أني ملحدة! وأرفض أن يصفني أحد بأني مسلمة!!

وبالنسبة لهذا الشر ليس جديداً علينا؛ لأننا الآن في عصر الغربة الثانية، كما قال النبي عليه السلام: (وسيعود غريباً كما بدأ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)، يعني: من غير اليهود والنصارى؟ فكل الشر يأتينا من أوروبا، ويأتينا من الكفار، ومن الشر الذي أتانا هذه الدعوة المشئومة، كما ورد إلينا منهم كثير من الشرور الأخرى.

وهذه مقدمة بسيطة تتعلق بجذور تحرير المرأة في الغرب:

الجذور الثقافة الأوروبية أساساً ترجع إلى التراث اليوناني والروماني الوثني، وأصول الحضارة الغربية ترجع إلى الثرات اليوناني والروماني الوثني، وفي الحقيقة هي تنبذ الدين وتنبذ التوراة والإنجيل.

ومعلوم أن في هذا التراث أفلاطون في دولته الخيالية التي افترضها جعل النساء متاعاً في طبقة الجنود، على أساس هذا التراث بنيت علاقات الرجال بالنساء، ولا شك أن هذا يصطدم تماماً مع الإسلام الذي يحرص على الستر وعلى العفاف، وقد تكلمنا من قبل مراراً على المقاصد العليا للشريعة الإسلامية والتي منها: صيانة العرض، وصيانة الشرف، وفي الإسلام العرض له قيمة عظمى جداً، وهكذا الشرف.

أما اللغات الأوروبية فكلها تخلو من كلمة (العرض) فلا تعرف كلمة (العرض) فضلاً عن المعاني الحقيقية لهذه الكلمة، فأصلاً الشرف والعرض والصيانة هذا مما لا قيمة له عندهم، والإسلام لأنه يعطيه قدراً عظيماً جداً وضع الاحتياطات الكفيلة بعدم المساس بهذه الأمور المصونة أو اختراق حجب الستر والعفاف، فعندهم حينما يحصل التحلل والاختلاط وكذا كذا هم ما يخسرون شيئاً في تصورهم؛ لأنهم لن يصطدموا مع عقيدة، أما نحن فهذا يصطدم مع عقيدتنا؛ ولا يمكن لإنسان أن يكون مخلصاً وملتزماً بدعوة قاسم أمين إلا إذا خرج من الإسلام، فكما رأينا وصلوا إلى حد أنهم يقولون: تحرير المرأة هو: المساواة بين الرجل والمرأة، يعني: المساواة بينهما في الميراث وفي كل شيء، وهذا خروج من الملة، ويقولون غير ذلك من الكفريات التي وصلوا إليها.

فأصل دعوة تحرير المرأة هو انعكاس لدعوة مماثلة شاعت في الغرب في القرن التاسع عشر، وهي أحد فروع التوجه العلماني الليبرالي الذي كان عدواً للنصرانية، فالنصرانية لها تصور عجيب جداً عن المرأة في فترة شباب النبي عليه السلام؛ حيث إنه في نفس الوقت عقد في فرنسا مؤتمر يناقش: هل المرأة لها نفس أم أنها حيوان وليس له نفس؟! واتفقوا في النهاية على أن لها نفساً، لكن لا ترقى إلى روح الرجل، فقد كانوا في غاية التخلف بالنسبة لموضوع المرأة.

وتحرير المرأة نشأ في الغرب كرد فعل من موقف النصرانية واليهودية من المرأة.

وهؤلاء استوردوا موضوع تحرير المرأة من الغرب. والغرب تبنى فكرة تحرير المرأة مضادة للكنيسة ومضادة للنصرانية، فلما تستورد هنا لازم يحصل تغيير، فأصبح العدو هو الإسلام!! إنه تعميم ظالم، كما حصل في قضية العلمانية، فأصبح العدو الذي يجب تحرير المرأة منه هو الإسلام، أو بالتعبير المموه العدو هو: التفسيرات الخاطئة للإسلام، من أجل أن يهذبوها وتدخل على الناس ويستطيعون خداع الناس بها، وهذا التعبير المألوف والمطروح هو على سبيل التقية، مثل تقية الشيعة بالضبط، وأن الذي يدعون إليه هو الإسلام الصحيح، وسماحة الإسلام ويسر الإسلام ... إلى آخره.

وهذا الإسلام الصحيح يشترط دائماً أن العلمانيين وحدهم هم الذين أوتوا بمفاتحه، ولا يستطيع أحد أبداً أن يصل إلى الإسلام الصحيح إلا هؤلاء العلمانيون، وإلا هؤلاء المتحررة! أما العلماء والفقهاء والمتخصصون فلا يتكلمون باسم الإسلام؛ لأن هؤلاء ناس رجعيون! فالحقيقة أن الاشتباك مع الإسلام جاء ليس لأن الإسلام يعادي المرأة أو يقمع المرأة، ولكن لأن النبع الأم الذي استوردت منه هذه الفكرة كان يعادي الدين النصرانية، فلابد أيضاً أن يعادي في بلادنا الدين الذي هو دين الإسلام.

وهذه الدول الأوروبية التي احتلت معظم بلاد المسلمين سعت منذ اللحظة الأولى لإحلال نظام العلاقات الأوروبية بين الرجال والنساء محل العفاف والستر الإسلاميين، فكان هذا أساسي دائماً في كل مرة، وعلى هذا كان موضوع تحرير المرأة وإحلال النظم الأوروبية أو بتعبير أدق الفوضى الأوروبية في علاقات الرجال بالنساء محل العفاف والستر والصيانة الذي تتميز به المرأة المسلمة، وكان هذا الإحلال يمثل دائماً ركيزة أساسية في مشروعهم للقضاء على هوية الشعوب المسلمة واستقلالها الاعتقادي والتشريعي والأخلاقي.

كان المجتمع المصري قبل مقدم نابليون ملتزماً بالإسلام وأخلاقياته، وكان كل من خرج على هذه الأخلاقيات يلقى العقاب والردع، وكان الحجاب على رءوس النساء جميعاً حتى النصرانيات واليهوديات المصريات، ولم تظهر امرأة سافرة إلا زوجات القناصل الأوروبية في مناخ الاحتلال، وكان يحصل انتشار النساء الفرنسيات في شوارع القاهرة؛ لأن الحملة كان معها كمٌّ كبير من العلماء والباحثين؛ لأنها كان لها هدف خبيث جداً حملة نابليون ، وكان معهم مطبعة، وكان معهم أيضاً حوالي ثلاثمائة امرأة، وهؤلاء النسوة هن بذرة الفساد في مصر؛ لأنهن بدأن ينتشرن في الشوارع ويفسدن المجتمع بصورة فاحشة جداً، في تبذل وتبرج وفساد، وبدأت بعض النسوة غير مسلمات يحاكين أولاء النسوة، ولم يمر حوالي أربعة عشر شهراً حتى انقلبت الأوضاع رأساً على عقب.

ومن الأمور التي ينبغي أن نلتفت إليها: أول مواجهة حصلت حين ثار المسلمون في مصر ضد هذا الوضع، فقد كانت ثورة القاهرة الأولى في (21 أكتوبر 1798م) أي: منذ حوالي قرنين من الزمان، وكان السبب في ثورة القاهرة الأولى أساساً هو هذه الإباحية التي انتشرت وأرادت أن تحل محل العفاف.

ومعروف أن ثورة القاهرة الأولى قادها أئمة المسلمين وعلماؤهم وطلبة الأزهر، وأحبطت الثورة بعد أن أطلقت المدفعية الحديثة على الأزهر والمساجد المختلفة، ودخلوا الأزهر وحولوه إلى إسطبل للخيول، وكل هذه القصص الوحشية التي فعلها الفرنسيون معنا معروفة، ومع ذلك يأتي الخونة ليحتفلوا بذكرى احتلال مصر على يد نابليون بونابرت ، ويذكرونا بكلام طه حسين لما كان يستنكر على المسلمين المغاربة كيف يقاومون الاحتلال الفرنسي، ويقول لفرنسا: لا عليك اصبري؛ هذا عناء وثمن لابد أن تدفعيه في سبيل فرض الحضارة على هذه الشعوب المتوحشة!

واندلعت ثورة القاهرة الأولى كرد فعل ضد الانحلال الذي كان يمارسه الفرنسيون، وهذا حقيقة هو فعلاً بدء البذرة الأولى لتحرير المرأة.

وهذه البذرة الأولى التي وجدت في مصر جاءت مع الحملات الغربية بقيادة نابليون بونابرت ، وحصلت ثورة القاهرة الأولى، ثم بعد خمسة شهور تقريباً وستة أيام حصلت ثورة القاهرة الثانية وكليبر لم يجد بداً من قصف المدينة بالمدافع وتجويعها حتى تسلِّم.

وفي الحقيقة هنا أقول: لما نؤرخ هم يقولون: مرور مائة سنة على تحرير المرأة العربية، وهذا تعبير غير صحيح، فليست مائة سنة، بل هي مائتان، إلا إذا كانوا يقصدون على صدور كتاب، أما البذرة الأولى فكانت نتيجة هذا الاحتكاك بالفرنسيين في الحملة الفرنسية، وهذا الكلام هو الذي قاله لويس عوض كما سنبين إن شاء الله. هذا أمر.

الأمر الثاني: أن كلمة (المرأة العربية) كلمة غير صحيحة، فلم يكن المسلمون حينذاك يعرفون مصطلح (المرأة العربية) وما عرفوا إلا المرأة المسلمة فقط، وقاسم أمين ما كان موجهاً دعوته إلى المرأة العربية ولا المرأة النصرانية ولا المرأة اليهودية إنما إلى المرأة المسلمة!

ولويس عوض كتب يقول: إن تحرير المرأة بدأ (1800م) وأن الحملة الفرنسية كانت نقطة الانطلاق إلى تحرير المرأة من كل قيد بما فيه قيد الدين والخلق والحياء.

وعام (1800م) هو عام هزيمة ثورة القاهرة الثانية حينما سبى جنود الاحتلال الفرنسي نساء مصر وبناتها وغلمانها! هذا هو عام تحرير المرأة المصرية في زعم لويس عوض .

والجبرتي وصف بدايات حركة السفور، ووصف بداية حركة تحرير المرأة ووصف ما أصاب بعض نساء القاهرة من الانطلاق نتيجة مخالطة المصريين للفرنسيين ومحاكاتهم في الزي وفي السلوك. والجبرتي يتكلم عن الأسافل من النسوة، وهو يسميها: ثورة نساء أو ثورة حريم، يعني: أنهم كن يقعن في الفاحشة والبغاء نتيجة الاختلاط بالجنود الفرنسيين، وبدأ ذلك ينتشر في المجتمع، فـلويس عوض وهو تلميذ المدرسة الاستعمارية يصر على أن هذه كانت ظاهرة عامة ليست في الأسافل كما يقول الجبرتي : إن الأسافل من الجواري والسفل من النساء هن اللائي كن يفعلن ذلك؛ فهو يرى أن هذه ثورة تحررية، ويجعل من انحطاط المرأة إلى حد التكسب بالفاحشة ثورة نساء وبداية تحرر المرأة، فـلويس عوض يؤرخ من بداية تحرير المرأة بثورة القاهرة الثانية؛ لأن الدليل عليها كما يقول الجبرتي -وهو كلام شديد-: أما الجواري فذهبن إليهم أفواجاً وفرادى وأزواجاً فنططن الحيطان، وتسلقن إليهم من السيقان، ودلوهن على كذا وكذا .. إلى آخره، فيحكي أيضاً ما كان يحصل من الفواحش والتبرج والاختلاط بالفرنسيين ومصاحبتهم في المراكب والرقص والغناء والشرب في النهار والليل بالفوانيس والشموع الموقدة .. إلى آخره.

هذه هي بداية تحرير المرأة ثم يأتون إلى الإسلام ويقولون: الإسلام ينظر إلى المرأة على أنها كذا وكذا. فمن الذي يعامل المرأة على أنها سلعة؟! ومن الذي يعاملها على ذلك؟! فالإسلام هو الذي كرمها. ومع هذا يأتي هذا الخبيث ويرى أن بداية تحرير المرأة هو هذا الفجور والفساد والتفسخ الذي حصل من سفلة النساء في مصر، وادعى أيضاً أن طبقات النساء اللواتي حاكين المتبرجات والعادات الفرنسية قد طرحن الحشمة والوقار والمبالاة والاعتبار، واتسعت هذه الدعوة بتأثير سبايا الفرنسيين المتحررات من بنات بولاق، فرائدات تحرير المرأة في نظره هن هؤلاء السبايا المتحررات؛ لأنهن كنَّ يمارسن البغاء وهذه الأشياء، فانظر إلى العجب! وكيف لا تتعارض عنه سبايا مع متحررات؟! لأن الحرية التي يقصدها هنا هي الحرية الشهوانية بمعناها السوقي المبتذل، فيمكن في نظره أن تكون المرأة جارية سبية وفي نفس الوقت متحررة، بل طليعة ثورة تحررية؛ لأنها تتبرج في ثيابها وتخرج سافرة الوجه متأبطة ذراع محررها ومالكها في نفس الوقت، وأيضاً مع فصل كامل مع حرية المرأة المملوكة وبين حرية هذا الوطن الأسير!

هذا هو ما يتعلق بموضوع البذرة الأولى لتحرير المرأة، وهو ثورة القاهرة الثانية التي قام بها المسلمون المجاهدون من علماء الأزهر ومن طلاب الأزهر ومن الطبقة الفقيرة من المجتمع المصري، قامت هذه الثورة ضد الحملة الفرنسية من أجل التصدي لهذا التفسخ وهذا الانحلال الذي يعتبرونه بداية تحرير المرأة.

وبالنسبة لقضية الحجاب فإن كلمة الحجاب في العرف الذي استعمله فيه قاسم أمين لم يقتصر المقصود بها على ما نفهمه نحن الآن، فالحجاب كانوا يفهمونه بالوضع الصحيح، أي: أن كلمة (الحجاب) عبارة عن عنوان لمجموعة من الأحكام الشرعية التي تنظم وضعية المرأة في المجتمع الإسلامي سواء فيما يتعلق بالثياب أو فيما يتعلق بالقرار في البيوت أو غير ذلك من الفروع في هذه القضايا.

فالحجاب ليس فقط المقصود به موضوع ملابس المرأة، ولكن الحجاب بمعناه الأوسع -وهو المعنى الصحيح، حتى قاسم أمين كان يدركه، وكان يفهم ما لا يفهمه كثير من الناس الآن- هو قرار المرأة في البيت وعدم مخالطتها للرجال، وعند خروجها أيضاً تلتزم بالحجاب الشرعي الكامل، هذا فيما يتعلق بهذا التعريف؛ لأننا سوف نحتاجه.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
قصتنا مع اليهود 2628 استماع
دعوى الجاهلية 2563 استماع
شروط الحجاب الشرعي 2561 استماع
التجديد في الإسلام 2515 استماع
تكفير المعين وتكفير الجنس 2506 استماع
محنة فلسطين [2] 2467 استماع
انتحار أم استشهاد 2439 استماع
تفسير آية الكرسي 2405 استماع
الموت خاتمتك أيها الإنسان 2398 استماع
وإن عدتم عدنا 2397 استماع