التبرك الممنوع والمشروع


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

أخرج الإمام البخاري رحمه الله بسنده عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله -أي: ابن مسعود - رضي الله عنه قال: (كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفاً، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء، فقال: اطلبوا فضلة من ماء، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: حي على الطهور المبارك! والبركة من الله. فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل).

قوله رضي الله عنه: ( كنا نعد الآيات ) يعني: كنا نعد الأمور الخارقات للعادات بركة، ( وأنتم تعدونها تخويفاً ) يعني: أنه هنا ينكر على من يسمعونه أو من كان يحدثهم أنهم كانوا يعدون جميع الخوارق تخويفاً، وإلا فليس جميع الخوارق بركة، فقوله: ( كنا نعد الآيات بركة ) والمقصود: كنا نعد بعض الآيات بركة. وقوله: ( وأنتم تعدونها تخويفاً ) أي: وأنتم تعدونها كلها تخويفاً، فليس كلها تخويفاً، وليس كلها بركة، بل بعضها يكون تخويفاً، كما قال عز وجل: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، وبعضها يكون بركة، كما في هذا الحديث المبارك، فليس جميع الخوارق بركة.

يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: إن التحقيق يقتضي عد بعضها بركة من الله، كشبع الخلق الكثير من الطعام القليل، وبعضها تخويف من الله، ككسوف الشمس والقمر، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده)، فكأن القوم الذين خاطبهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بذلك تمسكوا بظاهر قول الله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59].

ثم قال رضي الله عنه : (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر)، كأن هذا السفر يشبه أن يكون في غزوة الحديبية؛ لأن ثبوت نبع الماء كان في هذه الغزوة، كما جاء في بعض الأحاديث، وقد وقع مثل ذلك أيضاً في غزوة تبوك. وقيل: إنه كان في غزوة خيبر، وفي بعض روايات الحديث: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، فأصاب الناس عطش شديد، فقال يا عبد الله ! التمس لي ماءً، فأتيته بفضل ماء في إداوة ...) إلى آخر الحديث.

وقد تكرر وقوع ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم حضراً وسفراً.

قوله: (قال: اطلبوا فضلة من ماء، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل)، وجاء من طريق ابن عباس رضي الله عنهما قال: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً بماء، فطلبه، فلم يجده، فأتاه بسمن في إناء) وفي آخره: (فجعل ابن مسعود يشرب ويكثر)؛ لأنه كان ماءً مباركاً، فجعل يشرب ويكثر، فكأن ابن عباس حمله عن ابن مسعود ، وكأن القصة واحدة.

وقول النبي عليه السلام: (إيتوني بفضلة من ماء، أو أمره أن يأتيه بفضلة من ماء) لا شك أن الله تبارك وتعالى قادر على أن يخلق له الماء بدون هذه الفضلة؛ فالله على كل شيء قدير، لكن أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبين لهم أن هذا الماء قليل، وبإذن الله تبارك وتعالى يبارك الله تبارك وتعالى فيه، فيزيده، ويكثره، ويكون الماء ينبع من أصابعه صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يتوهم متوهم أن البركة إنما هي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما البركة من الله، كما جاء في نص الحديث: (البركة من الله}، لكنه طلب شيئاً ولو قليلاً من الماء حتى يبين أن ابتداء خلقة هذا الماء من الله، والبركة أيضاً من الله؛ حتى لا يقع التباس عند بعض الناس في هذا الأمر، ولذا قال لهم: (حي على الطهور المبارك) ( حي ) يعني: هلموا وأقبلوا. ( إلى الطهور ) المراد به هنا: الماء، ويجوز أن نقول: الطُهور بالضم، والمقصود: الفعل، أي: تطهروا.

وقوله: (والبركة من الله)، البركة مبتدأ. و( من الله ) خبر. وهي إشارة إلى أن الإيجاد والخلق من الله تبارك وتعالى.

وفي بعض الروايات أيضاً: قال ابن مسعود : ( فجعلت أبادرهم إلى الماء )، أي: لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والبركة من الله)، فـابن مسعود علم أن هذا الماء ماء مبارك، فجعل يسابق الصحابة رضي الله عنهم إلى الماء، يقول: (فجعلت أبادرهم -أسابقهم- إلى الماء أدخله في جوفي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: والبركة من الله) ، وفي حديث ابن عباس : (فبسط صلى الله عليه وسلم كفه فيه فنبعت تحت يده عين، فجعل ابن مسعود يشرب ويكثر).

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: والحكمة في طلبه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المواطن فضلة الماء لئلا يظن أنه الموجد للماء، ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن الله أجرى العادة في الدنيا غالباً بالتوالد، وأن بعض الأشياء يقع بينها التوالد، وبعضها لعلها لا يقع، ومن جملة ذلك ما نشاهده من فوران بعض المائعات إذا خمرت وتركت زماناً، ولم تجر العادة في ماء الصرف بذلك، فكانت المعجزة بذلك ظاهرة جداً.

قوله: (ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)، أي: في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففي الغالب أن هذا كان في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وله شاهد من طريق قيس بن أبي حازم قال: كان أبو الدرداء وسلمان إذا كتب أحدهما إلى الآخر قال له: ( بآية الصحفة )، يعني: إذا كتب شيئاً وأرسله مع واحد يقول له: ( بآية الصحفة )، كما نقول نحن: بأمارة كذا، إذا كان الاثنان متفقين على شيء، ولا يعلمه ذلك الرسول الذي يمشي بينهما.

فكان أحدهما يقول للآخر: أعط فلاناً كذا وكذا بآية -يعني: بعلامة أو بأمارة- الصحفة.

قال: ( كان أبو الدرداء وسلمان إذا كتب أحدهما إلى الآخر قال له: بآية الصحفة، وذلك أنه بينا هما يأكلان في صحفة إذ سبحت ).

وجاء في الحديث: (مرض النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل بطبق فيه عنب ورطب، فأكل منه، فسبح)، يعني: الطبق.

قال الحافظ ابن حجر : وقد اشتهر تسبيح الحصى، ففي حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: (تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع حصيات فسبحن في يده؛ حتى سمعت لهن حنيناً، ثم وضعهن في يد أبي بكر رضي الله عنه فسبحن، ثم وضعهن في يد عمر فسبحن، ثم وضعهن في يد عثمان فسبحن)، وفي بعض الروايات: (فسمع تسبيحهن من في الحلقة)، وفيه: (ثم دفعهن إلينا فلم يسبحن)، فهذه من الأشياء التي سبقت فيها بركة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

ومن هذه الأمور أيضاً: خوارق العادات، ففي الحديث الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما في البخاري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع -أي: إلى نخلة- في المسجد -أي: كان يعتمد على هذا الجذع أو يتكئ عليه وهو يخطب- فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، فأتاه فمسح يده عليه، فلما أتى النبي عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة ليخطب، فمر على هذا الجذع وجاوزه إلى المنبر الذي اتخذ له، فلما رأى الجذع ذلك حن -أي يفعل كبكاء الطفل الصغير الذي يحن إلى أمه- حتى أتاه النبي -نزل من على المنبر- وضمه إليه، وأخذ يمسحه، حتى سكن).

وفي رواية أخرى: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار أو رجل: يا رسول الله! ألا نجعل لك منبراً؟ قال: إن شئتم. فجعلوا له منبراً، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكن، فقال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها)أي: كانت تحن إلى الذكر الذي كانت تسمعه حين يخطب عندها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وفي رواية أخرى عن جابر رضي الله عنه قال: (كان المسجد مسقوفاً على جذوع من نخل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر قام عليه، فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها، فسكنت) .

والعشار: جمع عشراء، وهي: الناقة التي انتهت في حملها إلى عشرة أشهر.

فهذا كله تأييد لقول من يحمل قول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44] على ظاهره، وهذا هو الصحيح كما سبق أن تكلمنا عنه في تفسير سورة الحديد.

فهذا ما تيسر من الطرح اليسير لذلك الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفاً؛ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء، فقال: اطلبوا فضلة من ماء، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، فقال: حي على الطهور المبارك! والبركة من الله، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل) .

وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (والبركة من الله) هذا يحتاج إلى مزيد من التوضيح له ضمن هذه السلسلة التي هي تلخيص لبعض الدراسات المهمة، سواء بالنسبة للإخوة أو بالنسبة لدعوتنا لعموم الناس مما قد يلتبس عليهم مما يتعلق بالتوحيد.

وفي هذا الدرس نتكلم عن التبرك المشروع والممنوع، وقد ذكرنا قبل أن هذه المجموعة من الدراسات المفيدة النافعة تحمل اسم ( رسائل ودراسات في منهج أهل السنة ) للدكتور علي العلواني ، ونظراً لندرة هذه الرسائل وعدم توفرها ولشدة الحاجة إليها في نفس الوقت فنقوم بمحاولة نشرها بقدر المستطاع عن طريق هذه البنود.

يقول الدكتور علي العلواني حفظه الله: إن التبرك بذوات الصالحين وآثارهم والتبرك بالأزمنة والأمكنة المرتبطة بهم قضية من أهم القضايا العقدية، كذلك الغلو فيها ومجانبة الصواب قد جر فئاماً من الناس قديماً وحديثاً إلى حظيرة البدع والخرافيات والشركيات.

وهذا من قديم الزمان، فإن أهل الجاهلية الأولى الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أسباب عبادتهم للأصنام التبرك بها، وطلب بركتها في الأموال والأمن والأولاد والأنفس، ثم لما دخلت البدع على هذا الدين أو في هذا الدين عن طريق الزنادقة والمنافقين كان من وسائلهم لتحريف الدين: الغلو في الأولياء والصالحين، والتبرك بقبورهم، وفي مقدمة هؤلاء: الرافضة لعنهم الله، فهم من أولهم ظهوراً بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ومن هنا أدخل أهل النفاق في الإسلام ما أدخلوه من باب التبرك والغلو في الدين.

ويكفينا نحن هنا في مصر أن مصر تتميز بقدر من البدع لا تحظى به كل البلاد الإسلامية، كباكستان وأفغانستان وهذه البلاد البعيدة عن مبادئ الإسلام الأولى، فلنا هنا في مصر بدع لا تكاد تجدها تنتشر في بلاد أخرى، وبالذات مسألة بناء المساجد على القبور، وتعظيم المقابر بهذه الطريقة، والموالد، والمواسم، والأطعمة، والاشتغال بهذه الشكليات التي تنسي الناس جوهر الإسلام، وكثرة المواسم والموالد، والحلوى التي تفعل في المواسم، وما يحصل فيها، وكل هذه البدع أو أغلبها إنما طرأ علينا هنا في مصر بسبب شؤم الدولة الفاطمية الملحدة التي حكمت مصر ردحاً من الزمان.

فنحن ابتلينا بهذه الدولة الرافضية الفاطمية الخبيثة، فإنها لما حكمت هنا في مصر بثت هذه البدع، ولعل مما يشرف أهل الإسكندرية أن الإسكندرية هي المدينة الوحيدة التي استعصت على الفاطميين في فترة حكمهم وغزوهم العقدي للمسلمين هنا في مصر.

وعلى أي الأحوال نحن نعيش بين هذه البدع، ونرى نارها، ونكتوي بنارها، كالغلو في أهل البيت، الغلو في الصالحين، وبناء المساجد على القبور، حتى إن العقائد السائدة عند الناس أنهم يعتقدون أن كل قرية لابد أن يكون لها ولي يدفن في وسط المقابر لأجل أن يحمي القرية، والذين يعتقدون ذلك هم عموم الناس في الأرياف، ونرجو أن تنقطع هذه العقائد الآن؛ بسبب دعوة الإخوة جزاهم الله خيراً.

فيعتقدون أن كل بلد تحمى وتحفظ بالولي المدفون فيها، والذي يعظم قبره، ويشد إليه الرحال، حتى إن بعض الناس ألفوا كتباً ليوضحوا فضل مناسك الحج إلى هذه المشاهد! وسموها مناسك الحج، ونرى فيها أنواعاً من الشرك التي تضاهي ملة إبراهيم عليه السلام وتشابهها، وكأنه يحج إلى بيت الله العتيق، فتجد الطواف حول هذه القبور والأضرحة، مع أنها مؤسسة على لعنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومؤسسة على غضب من الله تبارك وتعالى؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ يحذر ما صنعوا.

والأدلة في ذلك معروفة، وتجد أنهم يحجون إليهم كما يفعل الموحدون إذا حجوا إلى بيت ربهم تبارك وتعالى.

وتجد أيضاً أنهم يتبركون بهؤلاء الأنجاس الذين يعبدونهم من دون الله، وتجد الذبائح التي يهدونها إلى الميت وإلى القبور، وهذا عجل البدوي وهذا عجل فلان، ولا أحد يقربه أبداً مثل ما عمل أهل الجاهلية: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فعجل البدوي هذا ما أحد يقربه، ولا أحد ينتفع به؛ لأن هذا عجل البدوي ، ويذبحون هذه الذبائح للأنداد الذين اتخذوهم من دون الله تبارك وتعالى، فنجد عندهم الطواف والذبح والحلق والنحر، وكل هذه الأشياء؛ مضاهاة لما يفعله الموحدون أتباع ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

فالحقيقة أن هذه من أشد مظاهر غربة الإسلام هنا في بلادنا وفي كثير من بلاد المسلمين، فإذا تتبعت منابع هذه الضلالات وهذه الشركيات فسوف تجدها تعود إلى جذور خبيثة منتنة، كما قال عز وجل: وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا [الأعراف:58].

فهذا النكد أتانا من هؤلاء المبتدعين والمنافقين، فكثير من الناس لما أرادوا الطعن في الإسلام طعنوا فيه من خلال الغلو في الصالحين أو الغلو في أهل البيت.

فالذي ابتدع دين الرافضة، وأسس دين الرافضة هو يهودي خبيث اسمه: عبد الله بن سبأ ، وكان يقال له: ابن السوداء ، ذلك الخبيث هو الذي أثار الفتن في المسلمين، وكان زنديقاً أظهر الإسلام وأبطن الكفر؛ ليحتال في إفساد دين المسلمين، كما احتال بولس في إفساد دين النصارى؛ لأن الذي أفسد دين النصارى أيضاً هو بولس ، وهو يهودي أيضاً، وقد سعى هذا اليهودي الخبيث في الفتنة بين المسلمين، حتى قتل عثمان رضي الله عنه، وكان هو ممن غذى هذه الفتنة، وكان يغذي فتنة الاقتتال بالكذب والدعاوى بين المسلمين، المؤمنين لم يستجيبوا لهذه الفتن، كما قال تبارك وتعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47].

ثم إنه لما تفرقت الأمة ابتدع ما ادعاه في الإمامة من النص والعصمة، وافترى أن كل نبي لابد أن ينص على إمام من بعده، وأن هذا الإمام يكون معصوماً، فهو الذي أسس للشيعة الرافضة دينهم الخبيث.

وأظهر التكلم في أبي بكر وعمر ، فهو الذي فتح باب الطعن في أبي بكر وعمر ، وصادف ذلك قلوباً فيها جهل وغل وإن لم تكن كافرة، فظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشر -هذا كله كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله-، ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد.

وقد قلنا قبل: إن القلب لا يتسع للبدعة والسنة، ولا يتسع للتوحيد والشرك، فإذا دخل أحدهما خرج الآخر، ولا يجتمعان معاً؛ لأنهما نقيضان، فالقلب الذي يمحص وينقى ولا يكون إلا للتوحيد والسنة لا يطيق أبداً خلاف ذلك، وبقدر ما يدخل من البدع في القلب بقدر ما يذهب من نور السنة، فالذي يرتبط أيضاً بالقرآن كتاب الله، ويستقي الحكمة من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تجد تعظيمه للقرآن وحبه للقرآن وشعوره بحلاوة القرآن ولذة مناجاة الله تبارك وتعالى حين يتلو كلامه أعظم بكثير جداً ممن أخذ من ذلك بحظ قليل، ثم ملأ قلبه بالشعر وبأقوال حكماء اليونان وحكماء الهند وكلام الفلاسفة والشعراء والكلام الفارغ، فهذا الذي يملأ قلبه بهذه الأشياء يكون تعظيمه وتأثره بالحكم الإلهية والنبوية أقل.

والإنسان لما يراقب نفسه وينقي نفسه ويكون عنده الاحتفال بعيدي المسلمين في يومين لا ثالث لهما: عيد الفطر وعيد الأضحى تجد شعوره بالفرحة في عيدي المسلمين: الأضحى والفطر لا يكون كمن جعل بين كل عيد وعيد عيداً، كما يحصل هنا في بلادنا من الأعياد السياسية، والأعياد الوطنية، والموالد الشركية، والبدع والضلالات، وكل يوم يطلع لنا عيد؛ معاندة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أبدلكم بهما عيدين: عيد الفطر، وعيد الأضحى)، فالبدل لا يجتمع مع المبدل منه.

كذلك الإنسان الذي لا يحج ولا يشد الرحال ولا يفعل المناسك إلا في بيت الله الحرام، فالشخص الذي يحج فقط إلى بيت الله الحرام، ويطوف فقط بالكعبة، ويذبح فقط لله، هذا إنسان توحيده أتم وأكمل وأنقى من هؤلاء الذين يتمرغون في الشرك ممن يحجون إلى البدوي والدسوقي ، وتجد همة هذا وحبه للكعبة وحبه لبيت الله الحرام وحبه للحج لا شك يضعف؛ لأنه يعظم من دون الله هذه المشاهد وهذه القبور والحج إليها؛ فأنت حين تطوف بالكعبة وحدها وحين تذبح الهدي لله فقط وحين تقف على عرفات وهكذا، هل تستوي أنت ومن اتخذ من دون الله أنداداً، وطاف بقبورهم، وتمسح بأضرحتهم، وفعل هذه الشركيات التي ما أنزل الله بها من سلطان؟!

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد؛ محتجين: بأنه لا تصلى الجمعة والجماعة إلا خلف المعصوم.

ولذلك من ابتلي برؤية الشيعة أخزاهم الله عند البيت الحرام أو في المدينة المنورة يجد أنه يخرج الموحدون المسلمون من المسجد النبوي -مثلاً- في صلاة الفجر وهؤلاء قادمون أفواجاً وراء أفواج من المقابر من البقيع، ولا يصلون مع المسلمين في المسجد!

فهؤلاء هم كما وصفهم ابن تيمية تماماً: يهجرون المساجد ويعظمون المشاهد، فدينهم هو عبادة القبور والأضرحة والمقامات وغير ذلك، ولهم أيضاً كذلك تفاصيل في المناسك التي تؤدى عند هذه القبور.

يقول شيخ الإسلام : محتجين بأنه لا تصلى الجمعة والجماعة إلا خلف معصوم. ورووا في عمارة المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب ما لم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب أهل الكتاب، حتى صنف كبيرهم ابن النعمان كتاباً في مناسك حج المشاهد، وكذبوا فيه على الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه، وغيروا ملته، واتبعوا الشرك المنافي للتوحيد، فصاروا جامعين بين الشرك والكذب. انتهى كلام شيخ الإسلام .

يقول الدكتور علي حفظه الله: ثم اقتبس أناس متصوفة من الرافضة التبرك بالمشائخ وقبورهم وآثارهم، فهذا البوصيري يرى أن من تبرك بتراب قبر النبي صلى الله عليه وسلم كانت له طوبى، وطوبى هذه: شجرة في الجنة، فكيف يقال: طوبى بدون وحي؟! أليس الكلام في باب القطع؟ وهذا لابد أن يقال من وحي المعصوم.

يقول البوصيري :

لا طيب يعدل ترباً ضم أعظمه طوبى لمنشق منه وملتثم

أي: ضم أعظمه عليه الصلاة والسلام.

وقوله: ( طوبى لملتصق منه وملتثم ) يعني: أن الذي يلثم يأخذ هذا التراب ويقبله هذا هو الطيب.

أما أتباع الطريقة الرفاعية فقد ذكروا من بركات صاحب الطريقة ما يجل عن الوصف، من ذلك قوله في شعر:

أنا الرفاعي ملاذ الخافقين فلذ في باب جودي لتسق الخير من ديمي

إذا دعاني مريدي وهو في لجج من البحار نجا من حالة العدم

ولاية صانعي للمريد بدا وحالة قربت من جملة الأمم

فلو ذكرت بأرض لا نبات لها لأقبلت بصنوف الخير والنعم

ولو ذكرت بنار قط ما لهبت ولو ذكرت بسفح غار من عظمي

ولا يساوي الرفاعي في هذه البركات إلا الشيخ نقشبند شيخ الطريقة النقشبندية، الذي يقول عنه الشيخ محمد أمين الكردي : هو الغيث الأعظم، وعقد جود المعارف الأنظم، انزاحت بأنوار هدايته أعلام الأغوار، وعادت الأسرار ببركة أسراره للأخيار أعيان وأعوان الأخيار.

أما شيخ البريلوية في الهند فإنه لا يرى بأساً من وضع تمثال لمقبرة الحسين في المنزل من أجل التبرك به.

ومع انتشار العلم في هذا الزمن إلا أن هذا التبرك بالأشياخ وآثارهم وبالقبور وأصحابها لا يزال شائعاً منتشراً حتى بين من يحوزون أعلى الدرجات العلمية! وما الحجر الطيني المصنوع من تراب النجف الذي نرى حجاج الرافضة يحملونه معهم للسجود عليه في الصلاة إلا مظهر منحرف من مظاهر التبرك المحرم، وما قيام أصحاب الموالد أثناء قراءتهم للمولد وشربهم للماء الموضوع عند قارئ المولد إلا مظهر منحرف من مظاهر التبرك المحرم؛ إذ يعتقد بعضهم أن روح الرسول صلى الله عليه وسلم حضرت قراءة المولد، وشربت من الماء الموضوع، ومن ثم فهم يتبركون ببقية الماء.

والدكتور علي قسّم البحث إلى بابين: الأول بعنوان: التبرك المشروع، وتكلم فيه على التبرك المشروع بذات النبي صلى الله عليه وسلم، والتبرك المشروع بالأقوال والأفعال، والتبرك المشروع بالأمكنة، والتبرك المشروع بالأزمنة، والتبرك المشروع بالمطعومات وما في حكمها.

ثم الباب الثاني تكلم فيه عن التبرك الممنوع، فهو مهد له أولاً بالتبرك عند أهل الجاهلية الأولى، ثم التبرك الممنوع بالأمكنة والجمادات، والتبرك الممنوع بالأزمنة، والتبرك الممنوع بذوات الصالحين وآثارهم.

فنبدأ أولاً بذكر تمهيد في معنى التبرك وحقيقته.

قال في اللسان: قال الليث في تفسير: تَبَارَكَ اللَّهُ [الأعراف:54]: يعني: تعظيم وتمجيد، وتبارك بالشيء أي: تفاءل به.

وقال الزجاج في قوله تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ [الأنعام:92] قال: المبارك: ما يأتي من قبله الخير الكثير. وقال أيضاً: تبركت به أي: تيممت به.

وقال الراغب : البركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء. قال تعالى: لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، وسمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البِرْكة؛ لأن الماء إذا كان في البركة يثبت فيها.

كذلك البركة؛ لأن الخير في هذا الفعل مبارك يثبت فيه ولا يزول، ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس على وجه، قيل لكل ما يشاهد منه بطريقة غير محسوسة: هو مبارك، وفيه بركة.

وأما التنبية الآخر فهو: أن التبرك بالأشياء يكون غالباً بما كان سبب البركة فيه، وليس من الأسباب المعهودة للناس، من أجل ذلك كان يحرص الصحابة رضي الله عنهم على هذا كثيراً، فعندما أدخل الرسول صلى الله عليه وسلم يده في الإناء. ثم قال: (حي على الطهور المبارك! والبركة من الله)، وكان الماء ينبع من بين أصابعه، جعل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يبادر الصحابة إلى الماء، ويدخله في جوفه، فيكثر من شربه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والبركة من الله).

وكذلك فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قصة رواها البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: ( إن أصحاب الصفة كانوا ناساً فقراء، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث)، يعني: الذي عنده طعام اثنين -مثلاً- هو وزوجته يأخذ معه ثالثاً من أهل الصفة، (ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس)، أو كما قال، وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة، قال: فهو أنا وأبي وأمي، ولا أدري هل قال: وامرأتي وخادم بين بيتنا وبين بيت أبي بكر ، يعني: أنهم عبد الرحمن بن أبي بكر وأبوه أبو بكر وأمه أم رومان وخادم، يعني: أنها كانت تخدم بيت عبد الرحمن وبيت أبي بكر ، وهذا معنى قوله: (خادم بين بيتنا وبين بيت أبي بكر ).

قال: وإن أبا بكر أخذ هؤلاء الضيوف وذهب بهم إلى البيت، ووكل ابنه عبد الرحمن أن يتولى قراهم وإطعامهم، فبعدما وصلهم أبو بكر إلى البيت رجع هو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتعشى أبو بكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لبث حتى صلى العشاء، وكان النبي عليه السلام يحب تأخير صلاة العشاء، قال: فلبث حتى تعشى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله، فقالت له امرأته - أم رومان -: ما حبسك عن أضيافك؟ أي: ما الذي أخرك على الضيوف؟ قال: أو ما عشيتيهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء. أي: رفضوا أن يأكلوا حتى تحضر وتجيء، يعني: أن أهل بيت أبي بكر رضي الله عنه عرضوا على الضيوف العشاء فرفضوا أن يأكلوا، وغلبوهم وأصروا.

قال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: فذهبت فاختبأت. يعني: خوفاً من عقوبة أبيه، أو أن يوبخه ويعنفه: كيف يترك الأضياف حتى هذا الوقت ولا يطعمهم؛ فخشي أن يتهمه بالتقصير في قراهم. قال: فذهبت فاختبأت، فقال: يا غنثر! والغنثر هو: السقيم الوخم. وقيل: الجاهل والسفيه واللئيم. فقال لابنه يعاتبه: يا غنثر! فجدع وسب. يعني: دعا عليه بقطع أنفه أو غير ذلك؛ فاشتد على ابنه لهذا. ثم قال لأضيافه: كلوا. وقال: لا أطعمه أبداً. أي: حلف أبو بكر أنه لا يأكل من هذا الطعام أبداً. أي: لأنهم تأخروا بسببه هو حتى يعود.

ثم قال: وأيم الله! ما كنا نأخذ من اللقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها. أي: كلما بدأ الضيوف يأكلون اللقمة يخرج من أسفلها أكثر منها ببركة الله تبارك وتعالى، فبارك الله في هذا الطعام، وكلما أخذ الضيوف لقمة يرون بعينهم زيادتها. قال: ابنه عبد الرحمن -وهو الجاني هنا- وأيم الله! ما كنا نأخذ من اللقمة إلا ربا من أسفلها. يعني: كبر ونما وطلع من أسفلها أكثر منها حتى شبعوا -أي: شبع الضيوف- وصارت أكثر مما كانت قبل. أي: صارت أكثر مما كانت قبل، صارت مزيدة ومباركة أكثر مما كانت قبل أن يأكلوا، فنظر أبو بكر رضي الله عنه، وتعجب؛ لأن هذه كرامة.

فنظر أبو بكر ، وتعجب مما حصل في هذا الطعام، فقال لامرأته: يا أخت بني فراس! ما هذا؟ فقالت: لا وقرة عيني، لهي الآن أكثر مما قبل بثلاث مرار، فأكل منها أبو بكر ، وحنث في يمينه؛ لأجل أن ينال بركة هذا الطعام المبارك. فأكل منها أبو بكر وحنث في يمينه، وقال: إنما كان من الشيطان. يعني: يمينه، ثم حملها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصبحت عنده.

كان بيننا وبين قوم عهد، فمضى الأجل ففرقنا اثني عشر رجلاً، مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل. يعني: أنهم كانوا أثني عشر رجلاً، ومع كل واحد منهم عدد كبير، قال: فأكلوا منها أجمعون). أو كما قال.

ولن نطيل في شرح الحديث، لكن باختصار موضع الشاهد فيه هو: هذه البركة التي أنزلها الله عز وجل في طعام أبي بكر ؛ كرامة لـأبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه.

والشاهد هنا أيضاً: أن أبا بكر مع أنه كان حلف ألا يأكل منها لما رأى هذه البركة حلت فيها حرص على أن يأكل منها؛ لأن البركة في الغالب تكون بأسباب غير الأسباب العادية، لذلك الصحابة كانوا إذا حصل شيء من هذا بادروا إليه.

فالتبرك هو: طلب البركة، يعني: طلب الزيادة في الخير والأجر، وكل ما يحتاجه العبد في دينه ودنياه بسبب ذات مباركة أو زمان مبارك، وتكون هذه البركة قد ثبتت بوجود ذلك السبب ثبوتاً شرعياً، وتنال البركة منه بالكيفية التي شرعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

أما التبرك المشروع فهو أنواع:

التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره

فالنوع الأول من التبرك المشروع هو: التبرك بذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآثاره، فلا شك أن ذات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذات مباركة؛ جعل الله تبارك وتعالى فيها بركة خاصة به صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون ذلك، كما روى البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفخ على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات -يعني: كان يرقي نفسه- فلما ثقل كنت أنفث عنه بهن، وأمسح بيد نفسه؛ لبركتها)يعني: بدل ما تقوم هي بقراءة المعوذات بيدها، وتنفث فيها، ثم تمسح عليه بيديها، كانت تجمع يديه وتقرأ فيهما، ثم تمسح عليه بيديه الشريفتين صلى الله عليه وآله وسلم.

فـعائشة رضي الله عنها كانت تعرف بركة يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا كانت تمسح بها على نفسه الشريفة وهو صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك، ولم يقل لها: لا فرق بين يدي ويدك، مما يدل على اختصاصه صلى الله عليه وآله وسلم بتلك البركة العظيمة، وأن تلك البركة العظيمة تنتقل بإذن الله عز وجل إلى المتبرك الذي يعلم أنها من الله تبارك وتعالى.

وهذه البركة خص بها أفضل الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة -أي: الفجر- جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه، فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها صلى الله عليه وآله وسلم)، أي: يعلمون هذا تبركاً بالماء الذي تدخل فيه يده الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم .

تبرك الصحابة رضي الله عنهم بوضوء النبي صلى الله عليه وسلم وإجلالهم له

ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه في حديث صلح الحديبية وفيه : (ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، يقول عروة : فوالله! ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره - أي: تسابقوا إلى طاعته والانقياد له- وإن توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه يعني من شدة حرصهم على أن يأخذ كل منهم من هذا الماء الذي توضأ به ولمس جسده الشريف صلى الله عليه وسلم- وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر؛ تعظيماً له).

فهذه من آداب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كان يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: إنه كان قبل أن يسلم لم يكن أحد أبغض إليه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال بعدما أسلم: ( فلم يكن أحد أحب إلي منه. وما ملأت عيني منه؛ تعظيماً له صلى الله عليه وسلم، حتى لو قيل: صف النبي صلى الله عليه وسلم لما أطقت ذلك؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه؛ إجلالاً له صلى الله عليه وسلم، ولو قيل لي صفه لما أطقت ) أي: لأنه كان لا يحد النظر إليه.

فهذه من الآداب التي ينبغي أن تسلك بالذات مع الوالدين أو مع كبار السن أو مع العلماء، ولا ينبغي أن يثبت الابن عينه في عين أبيه أو شيخه أو كبار السن، فينبغي أن يغض الإنسان الطرف أمام من ينبغي توقيرهم، فهذه من الآداب الشرعية، كما كان يفعل الصحابة رضي الله عنهم، فالويل لهؤلاء الأبناء العاقين الذين ينظر أحدهم إلى أبيه كأنه هو الأب، وكأن أباه هو الابن، وكأنه هو الذي يؤدب أباه، فقد يثبت الولد عينه في عين أبيه يقصد بذلك الزجر والشدة على أبيه، وهذا من العقوق، فصحيح أنه لا يتكلم، ولا يقول: أفٍ، لكن قد تكون أشد من الأف مثل هذه النظرات الثاقبة.

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: أبشر. فقال: قد أكثرت علي من (أبشر))، يعني: عادة الأعراب أنهم ما يحسنون آداب الحوار، فهذا الأعرابي بشره النبي عليه الصلاة والسلام، ولعله كان طلب منه شيئاً فوعده بأنه سوف يملكه هذا الشيء، أو غير ذلك، فقال له (أبشر)، يعني: إن شاء الله يكون خيراً. فرد عليه الأعرابي وقال: قد أكثرت علي من (أبشر). قال: (فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: رد البشرى! فاقبلا أنتما. قالا: قبلنا.)، فانظر كيف قالا: قبلنا، دون أن يعرفا ما هي هذه البشرى. قال: (ثم دعا بقدح فيه ماء، فغسل يديه ووجه فيه، ومج فيه -يعني: أخرج الماء من فمه بعدما مضمض- ثم قال: اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما، وأبشرا. فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة -وكانت ترقب هذا الموقف من وراء الستر-: أن أفضلا لأمكما -يعني: لا تنسيا أمكما أم المؤمنين، وأبقيا لها ولا تأخذاه كله- فأفضلا لها منه طائفة) رواه البخاري .

حرص الصحابة رضي الله عنهم على اقتباس شيء من آثار النبي صلى الله عليه وسلم

ومن ذلك أيضاً: ما حدث به عثمان بن عبد الله قال: أرسلني أهلي إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقدح من ماء، وقبض إسرائيل -يعني: أحد الرواة- ثلاث أصابع من فضة، يعني معناه: أن القدح كان صغير بحجم الثلاث الأصابع، فيه شعر من شعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مخضبة فاطلعت في الجلجل فرأيت شعرات حمراً، فرأيت شعرات حمراً، يعني: كان في هذا القدح شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

والجلجل هو: وعاء صغير يحفظ فيه الشعر.

وروى البخاري أيضاً بسنده عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببردة، فقال سهل للقوم: أتدرون ما البردة؟ فقال القوم: هي شملة. فقال سهل : هي شملة منسوجة فيها حاشيتها -يعني: بطانتها-. فقالت: يا رسول الله! أكسوك هذه؟ فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها -يعني: أنه كان في حاجة إليها- فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة رضي الله عنهم، فقال: يا رسول الله! ما أحسن هذه! فاكسنيها، فقال: نعم، وكان خلق النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يرد سائلاً، وهو أولى بصفة الجود والكرم من ذلك الذي قيل فيه:

هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله

تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله

ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله

فأولى بهذا الوصف هو رسول الله عليه الصلاة والسلام.

فهذا الصحابي كان يعرف أن هذا من خلق النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كان له مأرب وغرض، فهو أراد أن يحرج النبي عليه السلام، ويعلم أنه سيقول له: خذها، فقال له: ( ما أحسن هذه! اكسنيها )، أي: أعطني إياها، أريد أن ألبسها، وهو يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجاً إليها.

قال: فقالت المرأة: يا رسول الله! أكسوك هذه؟ فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها، فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة رضي الله عنهم فقال: يا رسول الله! ما أحسن هذه! فاكسنيها، فقال: نعم، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم لامه أصحابه، وانظر إلى الأدب؛ لم يلوموه في حضور النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما انتظروا حتى انصرف فلاموه، ووبخوه، وعنفوه: كيف فعلت هذا؟ فقالوا: ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجاً إليها، ثم سألته إياها؛ وقد عرفت أنه لا يسأل شيئاً فيمنعه، فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم، لعلي أكفن فيها، فهذه هي الخطة التي دبرها من أخذها، يعني: أنه أراد أن يأخذ منه هذه البردة بعد أن تلامس جسد النبي عليه الصلاة والسلام؛ رجاء بركته صلى الله عليه وسلم؛ ولذا قال: ( رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلي أكفن فيها ) فيا ليتنا كنا هذا الرجل.

فكل هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها كثير تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذاته وما انفصل من جسده من شعر وعرق ولباس وما استعمله من الأواني قد جعل الله فيه من البركة ما يستشفى به، ويرجى بسببه الفائدة في الدنيا والآخرة، والواهب لهذا الخير والمعطي له هو رب السموات والأرض.

تبرك الصحابة رضي الله عنهم بشعر النبي صلى الله عليه وسلم وعرقه

وقال أنس : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه، وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل، رواه مسلم في صحيحه، يعني: كان الحلاق إذا حلقه اجتمع الصحابة وأطافوا به حتى لا تكاد تسقط شعرة واحدة على الأرض، وهذا من حرص الصحابة على أن يقع هذا الشعر في أيديهم، فكانوا ويأخذونه ويتبركون به.

وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل بيت أم سليم ، فينام على فراشها وليست فيه، - وأم سليم كانت محرماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما بين ذلك الإمام النووي رحمه الله- قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأتت فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه وسلم نام في بيتك على فراشك. قال: فجاءت وقد عرق، واستنقى عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها -والعتيدة: مثل الصندوق الصغير، تجعل المرأة فيه ما يعز عليها من المتاع أو يندر- فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قوارير، ففزع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تصنعين يا أم سليم ؟! فقالت: يا رسول الله! نرجو بركته - أي: العرق - لصبياننا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبت. وفي رواية: أدوف به طيبي يعني: أخلط به الند أو العطر الذي أستعمله.

وفي صحيح البخاري عن ثمامة عن أنس : أن أم سليم كانت تبسط للنبي صلى الله عليه وسلم نطعاً، فيقيل عندها على ذلك النطع، النطع هو: بساط من الجلد. وقوله: يقيل عندها، يعني: ينام وقت القيلولة. وهو قبل صلاة الظهر، وليس كما يتصور بعض الناس أنه بعد صلاة الظهر، بل وقت القيلولة ما قبل صلاة الظهر.

قال: فإذا نام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذت - يعني: أم سليم - من عرقه وشعره، فجمعته في قارورة، ثم جمعته في طست- والطست هو: طيب مركب يضاف إليه غيره- وهو نائم. وأنس بن مالك هو ابن أم سليم . قال الراوي: (فلما حضرت أنساً الوفاة أوصى بأن يجعل في حنوطه من ذلك الطست ). يعني: من ذلك الطيب أو الأطيبة التي يدهن بها الميت بعد أن يغسل بالماء. قال: ( فجعل في حنوطه ).

قال أيوب عن ابن سيرين : فاستوهبت من أم سليم من ذلك السك، فوهبت لي منه. قال أيوب : فاستوهبت من محمد من ذلك الطست فوهب لي منه؛ فإنه عندي الآن. قال: ولما مات محمد حنط بذلك السك.

وأيضاً في نفس هذا الباب روى مسلم في صحيحه عن السائب بن يزيد قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابن أختي وجع، فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة، أي: أن خاتم النبوة كان بين كتفيه صلى الله عليه وآله وسلم مثل زر الحجلة، والحجلة: واحدة الحجال، وهي: ساتر كالقبة لها أزرار كبار وعرى. وهي شيء كان يجعل للعروس في ثوبها مثل الستائر. فخاتم النبوة مثل الزر الذي كان يفعل للحجلة.

فالنوع الأول من التبرك المشروع هو: التبرك بذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآثاره، فلا شك أن ذات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذات مباركة؛ جعل الله تبارك وتعالى فيها بركة خاصة به صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون ذلك، كما روى البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفخ على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات -يعني: كان يرقي نفسه- فلما ثقل كنت أنفث عنه بهن، وأمسح بيد نفسه؛ لبركتها)يعني: بدل ما تقوم هي بقراءة المعوذات بيدها، وتنفث فيها، ثم تمسح عليه بيديها، كانت تجمع يديه وتقرأ فيهما، ثم تمسح عليه بيديه الشريفتين صلى الله عليه وآله وسلم.

فـعائشة رضي الله عنها كانت تعرف بركة يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا كانت تمسح بها على نفسه الشريفة وهو صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك، ولم يقل لها: لا فرق بين يدي ويدك، مما يدل على اختصاصه صلى الله عليه وآله وسلم بتلك البركة العظيمة، وأن تلك البركة العظيمة تنتقل بإذن الله عز وجل إلى المتبرك الذي يعلم أنها من الله تبارك وتعالى.

وهذه البركة خص بها أفضل الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة -أي: الفجر- جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه، فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها صلى الله عليه وآله وسلم)، أي: يعلمون هذا تبركاً بالماء الذي تدخل فيه يده الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم .