في مواجهة المواجهة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة, من يطع الله ورسوله فقد رشد, ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته, كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم, وبارك على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فهناك سؤال يتكرر كثيراً, فتعقبه علامة استفهام واحدة، وتعقبه عدة علامات تعجب، وهو: لماذا يتحد العالم كله ضد الإسلام والمسلمين فيما يشبه حرباً عالمية شاملة على كل مستوى وفي كل صعيد؟ ولماذا هذه المذابح في البوسنة وبورما وتايلند وغيرها؟ ولماذا هذه الحملات على كل من يرفع شعار الإسلام ويدعو إليه؟ ولماذا يستثنى المسلمون بالذات حينما يتكلمون عن حقوق الإنسان, وحينما يستنكرون المذابح يقولون: إلا المسلمين، وحينما ينادون بما يسمى بالديمقراطية يقولون: إلا المسلمين؟ لماذا هذه القفزة الهائلة التي قفزها العلمانيون أعداء الله وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين أساءوا لدينه وأساءوا لسنته، فقد كانوا من قبل يستخفون بعلمانيتهم, وإذا بهم اليوم يجاهرون وبلا أدنى استحياء؟

كل هذه الأسئلة وعشرات أمثالها جوابها عبارة واحدة وهي: أنهم يكرهون الإسلام ويخافون منه.

والسؤال المنطقي الذي يفرض نفسه هو: لماذا هذا الحقد على الإسلام؟ ولماذا هذا الخوف من الإسلام؟ إنّ الذين يخافون الإسلام هم الكفار سواء الغربيون منهم أو الشرقيون, والمنافقون عباد الأهواء والشهوات، الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نراهم وكما نحس بهم في زماننا هذا: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قالوا: يا رسول الله! صفهم لنا، جلهم لنا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا ).

وبين الفريقين: الأول الكافر، والثاني المنافق الزنديق صلات أكيدة، وروابط وطيدة وعلاقات وثيقة، كتلك التي تكون بين التاجر والسمسار, أساسها الربح المتبادل للطرفين، أو كتلك العلاقات الوطيدة والحميمة التي تقوم بين الحمار وراكبه, وأساسها السخرة والاحتقار, فالعالم الكافر بكل أبعاده وإمكاناته ودوله يريد علواً في الأرض وفساداً، ويردد مقولة أعداء الإسلام في كل عصر وفي كل مصر, وهي مقولة فرعون: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ [يونس:78], ويردد شعار ألمانيا, ذلك الشعار النازي الذي يزعمون أنهم يستنكرونه على هتلر وأمثاله، وهو: ألمانيا فوق الجميع, وهم في الحقيقة يرفعون هذا الشعار ليكون الكفر بأشكاله وألوانه فوق الجميع، فهذا الصراع هو صراع من أجل العلو في الأرض والإفساد فيها كما قال الله تبارك وتعالى.

فيرفع هذا الشعار على أيدي أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من الملاحدة مع تغيير ألفاظه، وجمع العالم كله في نفس الوقت لتحقيق معناه ومضمونه, فإنهم لما فشلوا في مقاومة الإسلام عسكرياً لجئوا إلى عدة أساليب, فلجئوا إلى إضعاف قوة البلاد الإسلامية, ولجئوا إلى تدمير طاقات البلاد الإسلامية, فتقوم الدنيا وتقعد إذا قيل إن باكستان عندها أسلحة نووية، ويطالبونها بالتفتيش، ويقاطعونها من كل مكان وغير ذلك من الإجراءات المعروفة، أما حينما يكون عند اليهود في فلسطين ترسانة من الأسلحة النووية فلا حرج ولا ضير؛ لأن القاعدة كما ذكرنا: إلا المسلمين، فعمدوا إلى تمزيق الأمم الإسلامية إلى دويلات وشعوب، بحيث لا تجتمع اثنتان منهما على هدف واحد له قيمة, يقول المستر ميرن براون : إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً, أما إذا بقوا متفرقين, فإنهم حينئذ بلا وزن ولا تأثير، فيجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين؛ ليبقوا بلا قوة ولا تأثير.

ومما فعلوه أيضاً: قهر الشعوب الإسلامية وإذلالها على أيدي حكام طغاة, يقول نك ، وهو خبير أمريكي لشئون باكستان: إذا أعطي المسلمون الحرية في العالم الإسلامي، وعاشوا في ظل أنظمة ديمقراطية، فإن الإسلام ينتصر في هذه البلاد، وبالدكتاتوريات وحدها يمكن الحيلولة بين الشعوب الإسلامية ودينها.

ومن ذلك أيضاً إشغال هذه الأمة بالأهداف الحقيرة حتى لا تنتبه إلى الهدف الأكبر الذي عبر عنه ربعي بن عامر رضي الله عنه لما سأله قائد الفرس: ماذا جاء بكم؟ فقال: إنّ الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه, لكننا بدلنا هذا الهدف، وبدلنا هذه البطولات، وصار شغلنا الشاغل إما أفكار عفنة خبيثة جاهلية: كالقومية والوطنية والاشتراكية والناصرية، والكتب البيضاء والخضراء والصفراء والحمراء، أو الاشتغال بالفن والرياضة والكرة والتمثيل وغير ذلك من السفاهات، فانصرفت الأمة عن هدفها الأعظم، وصارت البطولة ما نراه في ساحات الملاعب، وساحات الفن والأفلام والمسرحيات فقط، وصار أصحابها هم الأبطال، وصارت هذه هي القيم والمثل التي ينبغي أن نذب عنها, وقد كان للشعوب الإسلامية حظ وافر من هذه المؤامرات, وقد عبر عن ذلك المنصر المشهور صموئيل زويمر مخاطباً إخوانه التبشيرين المنصرين في أحد المؤتمرات قائلاً: إن مهمة التبشير التي ندبتْكم ديانتكم المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست في إدخال المسلمين إلى المسيحية؛ فإن هذا شرف لا يستحقونه، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من إسلامه ليصبح مخلوقاً لا صلة له تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها, وبعملكم هذا تكونون طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية, ولقد هيأتم جميع العقول في الممالك الإسلامية لقبول السير في الطريق الذي سعيتم إليه، وهو إخراج المسلم من الإسلام, إننا نريد أن تعدوا جيلاً مطابقاً لما أراده له الاستعمار, جيلاً لا يهتم لعظائم الأمور، ويحب الراحة والكسل، ويسعى للحصول على الشهوات بأي أسلوب، وتصبح الشهوات هدفه في الحياة, إن تعلم فللحصول على الشهوات، وإن جمع المال فللشهوات، وإن تبوء المراتب ففي سبيل الشهوات, ويذود بكل شيء في سبيل الشهوات, أيها المبشرون! إنكم إن فعلتم ذلك تمّت مهمتكم على أكمل الوجوه.

لقد تعلموا دروساً كثيرة جداً من التاريخ، وأدركوا أن مخططاتهم وعلوهم في الأرض لا يمكن أن ينجح أبداً إلا في حالة غيبة الإسلام، ففي الحروب الصليبية جاءت جيوشهم الجرارة الكثيرة فتصدى لهم الإسلام، ودحرهم، وأذلهم، وكسر أعناقهم، وذلك في شخص صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى, وفي الغزو التتاري تصدى لهم الإسلام في شخص قطز والظاهر بيبرس ، ثم حصلت أكبر معجزة ولم يحصل لها مثيل في التاريخ، وهي أن الإسلام المغزو غزا قلوب التتار، وتحولت هذه الأمة العظيمة القاهرة الغازية إلى عباد لله سبحانه وتعالى، وأسلموا دينهم لله، وقد رأوا ذلك في الهند, ورأوه في أفغانستان أيضاً، وليس هذا مع بوش فقط مؤخراً، بل وقع ذلك من قبل مع الإنكليز, فرأوه في ثورة الجزائر ضد الفرنسيين, ورأوه في فلسطين, ورأوه في مصر على ضفاف القناة، فتأكدت لديهم هذه الحقيقة، وهي أن العلو في الأرض الذي يسعون إليه, والسيطرة على العالم, والفوقية على عباد الله، مرهونة كلها بغيبة الإسلام وجنوده.

لهذا فهم يخافون الإسلام؛ لأنه قادر على أن يصنع أمة واحدة إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92], قادر على أن يصنع أمة قوية وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60], قادر على أن يصنع أمة مجاهدة: (من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق), أمة يحب رجالها الموت في سبيل الله أكثر مما يحب هؤلاء الكفار الحياة, وحرصهم على الموت أشد من حرص أولئك على الحياة، ويرددون قول الله تبارك وتعالى: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:52].

الإسلام قادر على أن يصنع أمة مؤهلة للقيادة، ولا ترضى بدون منصب الأستاذية للعالم كله هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33], قادر على أن يصنع أمة لا توالي أعداء الله، ولا تنخدع بألاعيبهم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118]، وقال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].

ويخاف الكفار من الإسلام؛ لأنه يربي شعوباً محصنة ضد مؤامراتهم وسماتهم الشهوانية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]، قادر على أن يصنع أمة لا تخشى الناس، ولا تخاف الموت، ولا تخاف انقطاع الرزق, يقول تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78].

أما الرزق فقد أمنه لهم ربهم في قوله: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22]، وأمنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (لو كان ابن آدم يهرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه أجله).

قادر على أن يصنع أمة أخرجت نماذج اندهش التاريخ لعظمتها, وكل رجل من هذه النماذج كان أمة يعد بالآلاف, فهذا عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه يدعو الله سبحانه وتعالى قبل الغزو بليلة, ويتوجه إلى الله عز وجل ويبتهل إليه فيقول: اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غداً فيقتلوني، ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذني, ثم تسألني بم ذاك؟ فأقول: فيك يا رب! فبر الله سبحانه وتعالى قسمه، وما جاء مساء اليوم التالي إلا وقد قُطع أنفه، وعُلق أنفه وأذنه في خيط.

الإسلام صنع أمة كان منها أب وابنه يتنافسان على الخروج إلى الجهاد, وهما: سعد بن خيثمة وأبوه خيثمة , فيقول الابن: والله لو كان غير الجنة لآثرتك, فيقترعان، وتخرج القرعة للابن، فيذهب إلى المعركة ويقتل في سبيل الله عز وجل.

صنع أمة كان فارس من فرسانها هو سيف الله المسلول رضي الله تعالى عنه، قال: ما من ليلة يهدى إليّ فيها عروس وأنا لها محب، أو أبشر بغلام أحب إلي من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد, أصبَّح فيها عدو الله. ولهذا يقول صاحب كتاب (العالم العربي المعاصر) بصراحة ووضوح: إن الخوف من العرب واهتمامنا بالأمة العربية ليس ناتجاً عن وجود البترول بغزارة عند العرب، بل بسبب الإسلام، يجب محاربة الإسلام للحيلولة دون وحدة العرب التي تؤدي إلى قوتهم، فقوة العرب تتصاحب دائماً مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره.

ويقول صاحب كتاب (الاستعمار الفرنسي في إفريقيا السوداء): إن من الضروري لفرنسا أن تقاوم الإسلام في هذا العالم، وأن تنتهج سياسة عدائية للإسلام، وأن تحاول -على الأقل- إيقاف انتشاره.

ويقول المستشرق الفرنسي صاحب كتاب (باثالوجيا الإسلام) -معنى كلمة باثالوجيا: علم الأمراض, وباثالوجيا الإسلام تعني -أمراض الإسلام- يقول في كتابه: وأعتقد أن من الواجب إبادة خُمس المسلمين، والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة، وتدمير الكعبة, ووضع محمد وجثته في متحف اللوفر!

أخزاه الله من مستشرق, وصدق الله العظيم إذ يقول: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]، ويقول تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، فصدق الله، وكذب المنافقون, ولا يمكن أن يرضوا عنا ما لم نتبع ملتهم، فلن نتبعهم وإن رغمت أنوف المخالفين.

إذاً: فلا نعجب من هؤلاء الكفار شرقيين كانوا أم غربيين, فهم أعداء الإسلام، وهذا ديدنهم، وهذه سنتهم, ولكن العجب الذي لا ينقضي هو من هؤلاء الذين يخافون الإسلام ويكرهونه، ويحقدون عليه مع أنهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويتسمون بأسمائنا, فإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون, وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [الحج:72], وإذا رأوا بذرة الإيمان تنمو وتترعرع في شباب المسلمين انقبضوا وتجمعوا لاقتلاعها, وإذا رفع الموحدون لا إله إلا الله رفع أولئك شعارات الوطنية والقومية والوحدة والحرية وغير ذلك من الشعارات.

إن عجبنا يزول إذا فهمنا طبيعة العلاقة بين الفريق الأول: الكفار، والفريق الثاني: المنافقين الزنادقة, إنها صفقة تمت بين الاستعمار وبين أنفار، والمعقود عليه هم المسلمون، وتنفيذ العقد مرهون بالقدرة على التسليم، والإسلام يحرض المعقود عليه على الانعتاق من قبضة السمسار، فكيف لا يخاف السماسرة من الإسلام!

فهؤلاء المنافقون هم السمسار، وهم التجار المنتفعون من غياب الإسلام: صحافيون.. شعراء.. فنانون.. مؤلفون.. مخرجون.. لا يطيقون الإسلام, كيف لا يخافونه وهو يعظم ما حقروه, ويحقر ما عظموه؟! وكيف لا يخافونه وهو يرفع ما وضعوه، ويضع ما رفعوه؟! من أجل ذلك صارت جميع وسائل التأثير مسخرة لهؤلاء الكارهين لما أنزل الله, حتى إن الناظر من بُعد لكأنه يرى أن مصر انقلبت برجالها ونسائها إلى فنانين وراقصين وممثلين، وكأن كل ما فيها هو الإلحاد والزندقة، وبيع الأعراض، والطعن في الدين، والكفر برب العالمين، فكأن هذه هي صورة مصر؛ وذلك من كثرة استيلاء هؤلاء الزنادقة على مواقع التأثير, وكأن الغرب يستعجلهم ويقول لهم: هيا سلموا المبيع, نريد شعوباً هذه مواصفاتها, نريد شعوباً لا تتحرك ولا تنفعل حتى وإن قُطّعت إرباً إرباً.

فقد تربت طائفة من أبناء المسلمين على مائدة الإعلام الذي يديَّث المجتمع، ويخنزر الأخلاق, فكانت حصيلة ذلك ظهور طائفة أخرى لبسوا لباس الثقافة أو ألبسوا لباس الثقافة والعلم، ولا يعرفون عن الإسلام إلا الشبهات التي لقنوها، وزرع في قلوب أصحاب الشهوات منهم الخوفَ والحقدَ على الإسلام.

وحتى نكون صرحاء جداً في تناول ظهور وحقيقة هذا الموقف الذي نعيشه, فنقول: ليس هذا في مصر فقط ولكن في كل بقاع العالم بلا استثناء, فهم يحاولون أن يتسللوا إلينا ويغزونا عبر دين جديد، وهو غير دين الإسلام، وهذه هي الحقيقة بلا مواربة ولا خداع, فيجب أن تكشف هذه الحقيقة للناظرين؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55]، وهذا الدين الجديد اسمه العلمانية أو اللادينية, فهم يبشرون به، ويخدمونه، ويضحون في سبيله.

فالعلمانية دين كأي دين باطل يطلق عليه لفظ الدين، أي: منهج حياة, يقول تعالى في خطاب الكافرين: لَكُمْ دِينُكُمْ [الكافرون:6]، ويقول تعالى في حق العزيز: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف:76], فهذا دين مغاير ومخالف تماماً لدين الإسلام في أصوله فضلاً عن فروعه، وهو معادٍ للإسلام على طول الخط, ولا يمكن أبداًً أن تلتقي العلمانية بالإسلام, فهناك أوجه افتراق عظيمة جداً بين الدينين: الدين السماوي الحق وهو دين الإسلام، وهذا الدين الأرضي المصنوع وهو دين العلمانية, فنبيّن هذه الفروق إن شاء الله تبارك وتعالى, فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

فتجدهم يسمون الكفر إسلاماً، ويسمون عدواً لله ولرسوله وللإسلام بالداعية الإسلامية الكبير، والمفكر الإسلامي المستنير، فبماذا يستنير؟

الاستنارة عندهم غير مأخوذة من قوله تبارك وتعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم:1]، ولا من قوله تبارك وتعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257]، ولكن لا يكون الإنسان عندهم مستنيراً حتى يتبنى أركان وأسس ومبادئ دينهم العلماني كما سنبينها.

إنكار العلمانية لما هو معلوم من الدين بالضرورة

العلمانيون يحاولون أن يوهموا الناس أنه لا تعارض بين الدينين, فيمكن أن تبقى بالاسم الإسلامي لكن يفرغ من مضمونه ومن محتواه, ويقولون للناس: اعتزوا بالإسلام؛ لكن كتراث، وبشرط أن تؤمنوا ببعض الكتاب وتكفروا ببعض, وبشرط أن تبتغوا بين ذلك سبيلاً.

وبعض من فرضوا مفاهيمهم بالحديد والنار تطوع لهم أنفسهم أن يصفوا مخالفيهم من عباد الله، ومن الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى وجنود الإسلام بالتطرف والرجعية والجمود وغيرها من الأوصاف البشعة, والله تبارك وتعالى يقول: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163].

فحياة المسلم كلها إسلام, وهذا الإسلام يحكم المسلم في كل أحواله، فالمسلم الذي يقبل دين العلمانية مهما زعم أن علمانيته معتدلة أو متساهلة فإنه يقف في جبهة معارضة للإسلام؛ لأنه لا يمكن أن يصدق عليه وصف العلماني حتى ينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام, فلابد للعلماني أن ينكر تحريم الربا, وأن ينكر تحريم الزنا، ولابد أن يقف ضد إقامة حدود الله سبحانه وتعالى في الأرض، وضد تطبيق شريعته, ولابد أن ينكر فرضية الزكاة, ومبدأ تحكيم الشريعة من أساسه.

ولذلك -كما قال علماء المسلمين- تجري على العلماني بعد إقامة الحجة عليه واستتابته كل أحكام المرتدين؛ فتسحب منه الجنسية الإسلامية، ويفرق بينه وبين زوجه وولده, وتجري عليه أحكام المرتدين في الحياة وبعد الموت.

العلمانية لا تقبل الإسلام أصلاً للولاء والبراء

الإسلام يرفض دين العلماني، لأنه أيضاً لا يقبل التعايش مع الإسلام كما أنزله الله تبارك وتعالى, وقد يقبل ويسمح له ببعض النوافذ كما يتعامل مع السموم والمخدرات، فيصبح شيئاً مباحاً في المجتمع كأي شيء من الأشياء التي تباح في بعض الحالات؛ فتقبل العلمانية الدين بشرط أن يكون عقيدة نائمة محبوسة بين جدران القفص الصدري للإنسان، وبين جدران المساجد، لكن لا يصطبغ بها المجتمع، ولا يكون لها سلطان عليه، وإن اعترفت العلمانية لله سبحانه وتعالى بالخلق فإنها لا تعترف له بالأمر، والله تعالى يقول: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54].

ولا تقبل العلمانية هذه العقيدة الكامنة في النفس، والنائمة في الضمير, كأساس للانتماء والولاء والبراء، والحب والبغض, والاحتكام إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل تقبلها عبادة ونسكاً, على أن تكون أمراً موكولاً إلى الأفراد, لا أن ترعاه الدولة، وتحاسب الناس عليه, وتقبله أخلاقاً وآداباً، ولكن فيما لا يمس التيار العام المقلد للغرب.

محاربة العلمانية لتحكيم شرع الله

إن أعدى أعداء العلمانية, والشيء الذي تحاربه بكل بطش وقوة وصراحة هو تطبيق الشريعة الإسلامية, سواء كان ذلك في الأحوال الشخصية، أو في المجتمع، أو في الدولة, فالعلمانية تتبنى الذميم الدعي، وتنفي نسب الابن الأصيل، وقد تؤمن ببعض الكتاب وذلك فيما يوافق هواها، وتكفر ببعض وذلك فيما خالف هواها، ولذلك فإن العلاقة الحتمية هي أنها تناصب الإسلام العداء، وأن يناصبها الإسلام العداء؛ لأنها تنازعه سلطانه الشرعي في قيادة سفينة المجتمع، وتوجيه دفته وفقاً لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلا وقع هذا المجتمع في حكم الجاهلية, فهذا هو أساس العلمانية: الفصل بين الدين وبين الحياة, وتحويل الدين إلى شيء مباح, فمن أراد أن يتدين فليتدين، لكن لا يكون ذلك إلّا في حدود نفسه, وفي نطاق المسجد، وأما نُظُم الحياة فلابد أن يعزل الإسلام عنها، ولذلك عبر عنها بعض العلماء بأنها أقصر الطرق الموصلة إلى الكفر.

إنّ الإسلام يعدّ الشرك في الحكم كالشرك في العبادة, يقول تبارك وتعالى في الحكم: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:26]، وفي قراءة : (ولا تشرك في حكمه أحداً), وفي العبادة قال: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، فهذا شرك وهذا شرك, ويقول ًتبارك وتعالى أيضاً: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ [الأنعام:137] يعني: لما أطاعوهم في قتل الأولاد، واستحلوا ذلك، وقال عز وجل: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].

العلمانية تكره ما أنزل الله

والعلمانيون أولى الناس في هذا الزمان أن يدخلوا في وصف الكارهين لما أنزل الله، ولو سألتهم وقلت لهم: هل أنتم مستعدون أن تطيعوا الله ورسوله؟ وهل تقبلون تحكيم القرآن؟ وهل تعتزون بتاريخنا وتراثنا؟ وهل تحترمون أسلافنا من الصحابة ومن بعدهم؟ فإنك ستجد جوابهم في كل هذه الأسئلة كأخبث ما أنت سامع: بغض للصحابة, والتشنيع بالكذب والافتراء على أعلام الصحابة وأعلام الإسلام, والتزييف للتاريخ الإسلامي, وكذلك إقصاء شريعة الإسلام كما بينا.

إنّ العلمانيين ينطبق عليهم قوله تعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى:13]، فتحنى أنوفهم إذا سمعوا من يدعوهم إلى الله، وإلى دين الإسلام.

ويتحقق فيهم قوله تعالى: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:78]، وقوله تعالى: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الجاثية:6-8]، ويقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ [محمد:25-26]، فإذا كان هذا في حق من قال سنطيعكم في بعض الأمر، فما بالك بمن يقول سنطيعكم في كل الأمر!

تصادم العلمانية مع القرآن

ذكرنا سابقاً أنّ العلمانية ترفع ما وضعه الله، وتقرب من أقصاه الله تبارك وتعالى، وهي باعتبار معناها: الدنيوية، أو اللادينية، أو رد الدين وتحكيمه في الحياة فإنها تتصادم كثيراً مع القرآن، فالله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، والعلمانية تحطم مبدأ الولاء والبراء, فتقول بحرية العقيدة: اشرك بالله، سب الله، اشتم الله، سب أنبياء الله، فهذه حرية شخصية في دين العلمانيين.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من بدل دينه فاقتلوه)والعلمانية تقول بحرية العقيدة, وهي ردة عن دين الإسلام, والله سبحانه وتعالى يقول: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23] والعلمانية تقول: كل إنسان حر، فإذا شاء أن يرتكب المعاصي فله ذلك، ولا يتدخل الدين في خصائص الناس.

إنّ جوهر العلمانية الاهتمام بالحياة الدنيا, وإهمال الحياة الآخرة تماماً, فأصل معنى العلمانية: الدنيوية, فالدنيا التي يحقرها الله سبحانه وتعالى ويذمها في القرآن ترفعها العلمانية، وإذا تمادحوا فإنهم يتمادحون بالحضارة.. بالعمارات.. بالمباني الشاهقة.. بزينة الدنيا.. بالمتاع.. بالطعام.. بالشهوات، فهذا هو الذي يفتخرون به فقط, بينما يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [محمد:36]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (مثلي ومثل الدنيا كراكب قال قيلولة تحت شجرة، ثم راح وتركها)، ويقول الله في الآخرة: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَاةُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64]، ويقول عليه الصلاة والسلام ({من كان همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة, ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له).

أما العلمانية فالدنيا عندهم هي الوطن، وهي القرار، وليست مجرد قنطرة نعبرها إلى الآخرة, لذلك فإنهم ينطبق عليهم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8]، وهم الذين قال فيهم الله عز وجل: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]، وهم الذين قال فيهم: فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر:83]، وهم الذين قال فيهم: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] أي نعم.

عدم إنكار العلمانية على من تحلل من الدين واعتمادهم على رابطة الدم والعنصر

إنّ العلمانيين والقائلين بالحرية الدينية وحقوق الإنسان لا ينكرون على الناس إذا لم يؤمنوا بالله، ولا برسله، ولا باليوم الآخر, وترفض العلمانية أيضاً اتخاذ العقيدة أساساً للولاء والبراء، فيقدمون رابطة الدم والعنصر والتراب والطين على رابطة العقيدة.

وأما المسلم في دار الإسلام فإنه لا يكتفي بأن تكون عقيدته أمراً هيناً، أو أمر مباحاً، بل إنّ عقيدته هي روح الحياة, وهي جوهر الوجود, وهي محور التربية والثقافة والإعلام والتشريع, ففي الإسلام يستقبل الطفل الحياة بالتوحيد, وذلك بأن يؤذن في أذنه ليكون أول ما يطرق سمعه ذكر الله، والأذان إلى الصلاة، وهذا مع أنه يولد على فطرة الإسلام، ثم يودع الحياة بالتوحيد، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة).

وفيما بين المولد والموت فإنه يعيش بالتوحيد وللتوحيد التزاماً ودعوة وجهاداً، فهذه هي الحرية الحقيقية.

والعلمانية ترفض نزول المسلمين على حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، فتريد العلمانية أن تصبغ المجتمع بهذه العقيدة، وأن تسمح للإسلام في بعض الأركان والزوايا حتى يتنفس من خلالها، بشرط أن تؤمن ببعض الكتاب وأن تكفر ببعض كما ذكرنا سابقاً, لذا فإنّ الإسلام لا يقبل أن يكون في قلب داره وعز سلطانه شيء مخير فيه, فلا غبار على من آمن به، ولا حرج على من تركه, فالدين لله، والوطن للجميع بزعمهم، ونحن نقول كما قال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:189]، وهذه القسمة لا نعرفها، فكل ما على الأرض، وكل من على الأرض ملك لله تبارك وتعالى.

إنّ المسلم في الواقع العلماني يعاني من التناقض بين عقيدته وبين هذا الواقع, فعقيدته تشرَّق وواقعه يغرَّب، وعقيدته تحرم والعلمانية تبيح, وعقيدته تلزم والعلمانية تعارض.

موقف العلمانية من العبادة

وأما العبادة، فهي جزء من الحرية الدينية، وليست هي المهمة الأولى للإنسان في نظر العلمانية، والله تعالى يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، ولا تقيم العلمانية نظامها التربوي والإعلامي على أساس غرس هذا المعنى، في حين أن الإسلام يَعدّ مجرد الإعراض عنه كفراً به، ومعاداة له, فمجرد الإعراض عن الدين يعتبر طعناً فيه، وتولياً عنه.

وكذلك الحياة الاجتماعية والاقتصادية لا تنظم في النظام العلماني طبقاً لمواعيد الصلاة وغيرها من العبادات، ولا توضع هذه الأمور في الاعتبار, والعلمانية تفرق بين السلوك الشخصي وبين السلوك الاجتماعي، فيمكن أن يكون القائد أو الحاكم أو الوزير ملحداً خبيثاً مجرماً، وهذا لا يقدح فيه، ولا يقدح في عدالته.

والعلمانية لا ترى المجاهرة بترك العبادات مدعاة للمساءلة، كترك الصلاة أو الصيام أو الزكاة وغير ذلك، فالمهم هو أن يؤدي المرء الضرائب كاملة للدولة، وأما الزكاة فلو شاء أعرض عنها ولا ملامة عليه.

وفي مجال الأخلاق تتبع العلمانية المجتمع والفكر الغربي شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، سواء في علاقة الرجل بالمرأة أو في غير ذلك من الأشياء المعروفة.

فعلى هذا الأساس نقول: إن الشريعة هي العدو الأول للعلمانيين؛ لأنها هي التي تنقل الإسلام من عالم النظرية والمثال إلى دنيا الواقع والتنفيذ، يقول عثمان رضي الله تعالى عنه: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، ويتجلى العداء السافر للعلمانية حينما يعارض الإسلام خصائص الحضارة الغربية كتحريم الربا والزنا والسكر، وكتحديد الجزاء على الجرائم بالجلد والقطع ونحوه.

فنلاحظ في هؤلاء العلمانيين أنهم ينظرون إلى الإسلام على أنه عقيدة غريبة خارجة عن ذواتهم, ولا يشعرون بأي حرارة غيرة على الإسلام، ولا يقفون إلا موقف الأعداء، فتجدهم في أي صراع بين الإسلام وأعداء الإسلام ينضمون بلا تفسير إلى أعداء الإسلام، وتجدهم يفصلون الدين عن الدولة كي يسهل عليهم ضربه، وذلك بعد أن يحصروه في ركن ضيق، حتى يستسلم تماماً للعلمانية.

رمي العلمانيين للدعاة إلى الله بكل قبيحة

يجب علينا أن نحاسب العلمانية ونزنها من حيث حقيقتها وواقعها الفعلي, لا من حيث ما تزعمه العلمانية من عدم عداء للدين، فإن العلمانيين يتسترون وراء ادعاء الإسلام، فهم يعرفون جيداً أنهم لو أظهروا الإلحاد والطعن في دين الإسلام، سيرجمون بالحجارة، فلابد من التستر وراء الأساليب الخادعة, لذلك نلاحظ من هؤلاء العلمانيين مغالطات كثيرة جداً، منها: أنهم يشنعون على أولياء الله، وعلى الدعاة إلى دين الله سبحانه وتعالى بأنهم يريدون أن يعودوا بنا إلى العصور الوسطى المظلمة!!

فنقول لهم: أي قرون مظلمة؟! إن هذه القرون مظلمة عند أسيادكم في الغرب، وذلك حينما أذلت النصرانية الشعوب الأوروبية سواء بالإقطاع، أو بمحاكم التفتيش، أو بصكوك الغفران وبيع أماكن في الجنة، أو بالظلم والقهر، أو بالعقيدة الوثنية الشركية التي قدمتها لهم، أو بمقاومة الفطرة، أو بتحريم الطيبات، أو بالاستبداد الكنسي الذي كان يذل الجميع حتى الملوك, فمن أجل ذلك كرهوا الدين، ومن أجل ذلك كانت هذه العصور عصوراً مظلمة، وكل عصور أوروبا مظلمة؛ لأنها بعيدة عن منهج الله تبارك وتعالى ودينه، فالعصور المظلمة ليست عندنا، وإنما هي عند أسيادكم في أوروبا، فهم الذين كانوا في تلك العصور المظلمة لا يعرفون الاستحمام ولا التنظف, بينما كانت الدولة والحضارة الإسلامية هي القوة الأولى في العالم كله, وكانوا يوفدون أبناءهم إلى بلاد المسلمين، وإلى حواضر الإسلام؛ كي يتنوروا، ويتنظفوا، ويتعلموا كيف تكون الحضارة، وكيف يكون التقدم.

ومن ذلك أيضاً أن العلمانيين يقولون عن الدعاة إلى الله: يريدون أن يعيدونا إلى محاكم التفتيش! فنقول لهم: رمتني بدائها وانسلت، هل أقام المسلمون في يوم من الأيام محاكم للتفتيش؟ وهل عرف المسلمون أي نوع من أنواع القهر والإذلال للشعوب؟ وما الذي يحصل الآن في البوسنة والهرسك؟!

وهنا نتذكر كلمة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ، وذلك أن الفرس في إحدى المعارك مثلوا بالقتلى من المسلمين, فقطعوا الجثث ومثلوا بها، فلما رأى المسلمون ذلك حلف بعضهم لئن أمكنهم الله من الفرس ليفعلن مثلها، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، فغضب أشد الغضب وقال رضي الله تعالى عنه: متى كان لنا في الفرس أسوة!

فالمسلمون لما حكموا العالم وكانت لهم الغلبة كانوا أكرم خلق الله سبحانه وتعالى، وكانوا أرحم الناس بالناس، ثم بعد هذا ترموننا بدائكم؟! من الذي يقيم محاكم التفتيش؟ ومن الذي يقيم المحاكم العسكرية الظالمة في كل بلاد العالم الإسلامي؟

ابحثوا عن محاكم التفتيش في تاريخكم القديم والحديث, وابحثوا عنها في عهود قريبة وبعيدة، وابحثوا عنها في عهد عبد الناصر وغيره من الطواغيت والجبابرة, ففي عهد عبد الناصر بلغ الطغيان والإرهاب والتخويف مبلغاً عظيماً، إلى حد أن تيتو في يوم من الأيام أتى ليزور مصر, فكان من عادتهم أن يحبسوا كل دعاة الإسلام فترة زيارته، خوفاً عليه, وكان الرعب قد ملأ قلوب الناس، حتى إن أحد الخطباء -من شدة الرعب والتخويف والإرهاب والبطش- خطب جمعة في أحد المساجد في أثناء زيارة تيتو ، فكان يدعو في الخطبة ويقول: اللهم أهلك الكفرة والمشركين إلا تيتو !! وبلغ القهر إلى حد أن شكوى قدمت في تاجر في إحدى محافظات الصعيد، فوقف أمام الضابط ترتعد فرائصه, وكان مسلماً بالاسم, وأقسم للضابط، وأما نحن فيوم أن سدنا العالم لم تعرف البشرية إلا الرحمة والتسامح والسمو والأخلاق, فمحاكم التفتيش ليست في تراثنا, وليست في ماضينا، ولكنها في ماضيكم وحاضركم أنتم، والجميع يعرف ذلك .

اختفاء روح الإيمان من كتابات العلمانيين

ومن خصائص العلمانيين أنها تختفي من كتاباتهم روح الورع والإيمان والإجلال لرسل الله، وبخاصة رسولنا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم, فتشعر في كتاباتهم بعدم الإيمان بهذا الإسلام، بل وتشعر فيها باحتقار لهذا الدين, فيتكلمون عليه وكأنه عقيدة بدوية بشرية الأصل، وكأنه لم ينزل من السماء, فهذا الذي سماه أبوه أحمد بهاء الدين يقول في يوم من أيام العهد الناصري المظلم: لابد من مواجهة الدعوات الإسلامية في أيامنا مواجهة شجاعة بعيدة عن اللف والدوران، وإن الإسلام كغيره من الأديان يتضمن قيماً خلقية يمكن أن تستمد كنوع من وازع الضمير, أما ما جاء فيه من أحكام وتشريعات دنيوية فقد كانت من قبيل ضرب المثل، ومن باب تنظيم حياة كانت في مجتمع بدائي إلى حد كبير، ومن ثَم فهي لا تلزم عصرنا ومجتمعنا.

ومن غلو هؤلاء عدم تعظيمهم لله ولا لرسل الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام, فهذا مدير جماعة أسيوط الذي عُيَّن فيها قبل إنشائها وإسلامها، فكان يخطب في حضور عبد الناصر ، فقال له: إن كان عيسى المسيح قد أحيا ميتاً أو اثنين أو ثلاثة فقد أحييت يا سيادة الرئيس مائة مليون عربي, وإذا كان موسى عليه السلام قد ضرب البحر بعصاه فشق فيه طريقاً يبساً، فقد صنعت بالسد العالي أكثر مما صنع موسى. وفوراً رقي وزيراً للثقافة.

وكذلك مصطفى القياتي كان مدرساً بالأزهر في ثورة تسع عشرة, وكان يقول: إن سعداً أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام, وإن سعداً أتى بما لم يأت به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه رسول الوطنية.

وهذا الرجل نفسه في إحدى المظاهرات في داخل الأزهر وضع الصليب في المحراب، وخطب فدعا الناس لصلاة ركعتين للصليب ولله بزعمه, فهذه هي العلمانية، وهذه جذورها.

من أجل ذلك فنحن لا نستغرب إذا وجدنا العلمانيين يصرخون إذا حوكم من يسفه أو يشتم الأنبياء كهذا الخبيث المجرم الذي لم نسمع اسمه، ولم نتعرف عليه إلا في صفحات الحوادث, وفي صفحات المجرمين، فهذا علاء حامد ألف كتاب (مسافة في عقل الرجل)، وسخر فيه من الإسلام، وسخر فيه من النبي عليه الصلاة والسلام، فيتصارخ العلمانيون ويتنادون دفاعاً عن حرية الرأي: يا لحرية الرأي! يا لحرية الكلمة! يا لحرية العقيدة! وحينما يطعنون في أنبياء الله، وفي كتبه، وفي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حرج في هذا، وهذه حرية, فهل يقوى العلمانيون على أن يوجهوا عشر معشار هذا الطعن إلى رئيس جمهورية، أو ملك دولة، أو إلى وزير؟ إنهم لا يجرءون على ذلك، وكما يقول الشاعر:

يساق للسجن من سب الزعيم ومن سب الإله فإن الناس أحرار

العلمانيون يحاولون أن يوهموا الناس أنه لا تعارض بين الدينين, فيمكن أن تبقى بالاسم الإسلامي لكن يفرغ من مضمونه ومن محتواه, ويقولون للناس: اعتزوا بالإسلام؛ لكن كتراث، وبشرط أن تؤمنوا ببعض الكتاب وتكفروا ببعض, وبشرط أن تبتغوا بين ذلك سبيلاً.

وبعض من فرضوا مفاهيمهم بالحديد والنار تطوع لهم أنفسهم أن يصفوا مخالفيهم من عباد الله، ومن الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى وجنود الإسلام بالتطرف والرجعية والجمود وغيرها من الأوصاف البشعة, والله تبارك وتعالى يقول: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163].

فحياة المسلم كلها إسلام, وهذا الإسلام يحكم المسلم في كل أحواله، فالمسلم الذي يقبل دين العلمانية مهما زعم أن علمانيته معتدلة أو متساهلة فإنه يقف في جبهة معارضة للإسلام؛ لأنه لا يمكن أن يصدق عليه وصف العلماني حتى ينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام, فلابد للعلماني أن ينكر تحريم الربا, وأن ينكر تحريم الزنا، ولابد أن يقف ضد إقامة حدود الله سبحانه وتعالى في الأرض، وضد تطبيق شريعته, ولابد أن ينكر فرضية الزكاة, ومبدأ تحكيم الشريعة من أساسه.

ولذلك -كما قال علماء المسلمين- تجري على العلماني بعد إقامة الحجة عليه واستتابته كل أحكام المرتدين؛ فتسحب منه الجنسية الإسلامية، ويفرق بينه وبين زوجه وولده, وتجري عليه أحكام المرتدين في الحياة وبعد الموت.

الإسلام يرفض دين العلماني، لأنه أيضاً لا يقبل التعايش مع الإسلام كما أنزله الله تبارك وتعالى, وقد يقبل ويسمح له ببعض النوافذ كما يتعامل مع السموم والمخدرات، فيصبح شيئاً مباحاً في المجتمع كأي شيء من الأشياء التي تباح في بعض الحالات؛ فتقبل العلمانية الدين بشرط أن يكون عقيدة نائمة محبوسة بين جدران القفص الصدري للإنسان، وبين جدران المساجد، لكن لا يصطبغ بها المجتمع، ولا يكون لها سلطان عليه، وإن اعترفت العلمانية لله سبحانه وتعالى بالخلق فإنها لا تعترف له بالأمر، والله تعالى يقول: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54].

ولا تقبل العلمانية هذه العقيدة الكامنة في النفس، والنائمة في الضمير, كأساس للانتماء والولاء والبراء، والحب والبغض, والاحتكام إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل تقبلها عبادة ونسكاً, على أن تكون أمراً موكولاً إلى الأفراد, لا أن ترعاه الدولة، وتحاسب الناس عليه, وتقبله أخلاقاً وآداباً، ولكن فيما لا يمس التيار العام المقلد للغرب.

إن أعدى أعداء العلمانية, والشيء الذي تحاربه بكل بطش وقوة وصراحة هو تطبيق الشريعة الإسلامية, سواء كان ذلك في الأحوال الشخصية، أو في المجتمع، أو في الدولة, فالعلمانية تتبنى الذميم الدعي، وتنفي نسب الابن الأصيل، وقد تؤمن ببعض الكتاب وذلك فيما يوافق هواها، وتكفر ببعض وذلك فيما خالف هواها، ولذلك فإن العلاقة الحتمية هي أنها تناصب الإسلام العداء، وأن يناصبها الإسلام العداء؛ لأنها تنازعه سلطانه الشرعي في قيادة سفينة المجتمع، وتوجيه دفته وفقاً لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلا وقع هذا المجتمع في حكم الجاهلية, فهذا هو أساس العلمانية: الفصل بين الدين وبين الحياة, وتحويل الدين إلى شيء مباح, فمن أراد أن يتدين فليتدين، لكن لا يكون ذلك إلّا في حدود نفسه, وفي نطاق المسجد، وأما نُظُم الحياة فلابد أن يعزل الإسلام عنها، ولذلك عبر عنها بعض العلماء بأنها أقصر الطرق الموصلة إلى الكفر.

إنّ الإسلام يعدّ الشرك في الحكم كالشرك في العبادة, يقول تبارك وتعالى في الحكم: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:26]، وفي قراءة : (ولا تشرك في حكمه أحداً), وفي العبادة قال: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، فهذا شرك وهذا شرك, ويقول ًتبارك وتعالى أيضاً: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ [الأنعام:137] يعني: لما أطاعوهم في قتل الأولاد، واستحلوا ذلك، وقال عز وجل: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].

والعلمانيون أولى الناس في هذا الزمان أن يدخلوا في وصف الكارهين لما أنزل الله، ولو سألتهم وقلت لهم: هل أنتم مستعدون أن تطيعوا الله ورسوله؟ وهل تقبلون تحكيم القرآن؟ وهل تعتزون بتاريخنا وتراثنا؟ وهل تحترمون أسلافنا من الصحابة ومن بعدهم؟ فإنك ستجد جوابهم في كل هذه الأسئلة كأخبث ما أنت سامع: بغض للصحابة, والتشنيع بالكذب والافتراء على أعلام الصحابة وأعلام الإسلام, والتزييف للتاريخ الإسلامي, وكذلك إقصاء شريعة الإسلام كما بينا.

إنّ العلمانيين ينطبق عليهم قوله تعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى:13]، فتحنى أنوفهم إذا سمعوا من يدعوهم إلى الله، وإلى دين الإسلام.

ويتحقق فيهم قوله تعالى: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:78]، وقوله تعالى: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الجاثية:6-8]، ويقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ [محمد:25-26]، فإذا كان هذا في حق من قال سنطيعكم في بعض الأمر، فما بالك بمن يقول سنطيعكم في كل الأمر!

ذكرنا سابقاً أنّ العلمانية ترفع ما وضعه الله، وتقرب من أقصاه الله تبارك وتعالى، وهي باعتبار معناها: الدنيوية، أو اللادينية، أو رد الدين وتحكيمه في الحياة فإنها تتصادم كثيراً مع القرآن، فالله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، والعلمانية تحطم مبدأ الولاء والبراء, فتقول بحرية العقيدة: اشرك بالله، سب الله، اشتم الله، سب أنبياء الله، فهذه حرية شخصية في دين العلمانيين.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من بدل دينه فاقتلوه)والعلمانية تقول بحرية العقيدة, وهي ردة عن دين الإسلام, والله سبحانه وتعالى يقول: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23] والعلمانية تقول: كل إنسان حر، فإذا شاء أن يرتكب المعاصي فله ذلك، ولا يتدخل الدين في خصائص الناس.

إنّ جوهر العلمانية الاهتمام بالحياة الدنيا, وإهمال الحياة الآخرة تماماً, فأصل معنى العلمانية: الدنيوية, فالدنيا التي يحقرها الله سبحانه وتعالى ويذمها في القرآن ترفعها العلمانية، وإذا تمادحوا فإنهم يتمادحون بالحضارة.. بالعمارات.. بالمباني الشاهقة.. بزينة الدنيا.. بالمتاع.. بالطعام.. بالشهوات، فهذا هو الذي يفتخرون به فقط, بينما يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [محمد:36]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (مثلي ومثل الدنيا كراكب قال قيلولة تحت شجرة، ثم راح وتركها)، ويقول الله في الآخرة: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَاةُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64]، ويقول عليه الصلاة والسلام ({من كان همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة, ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له).

أما العلمانية فالدنيا عندهم هي الوطن، وهي القرار، وليست مجرد قنطرة نعبرها إلى الآخرة, لذلك فإنهم ينطبق عليهم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8]، وهم الذين قال فيهم الله عز وجل: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]، وهم الذين قال فيهم: فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر:83]، وهم الذين قال فيهم: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] أي نعم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
قصتنا مع اليهود 2628 استماع
دعوى الجاهلية 2563 استماع
شروط الحجاب الشرعي 2561 استماع
التجديد في الإسلام 2515 استماع
تكفير المعين وتكفير الجنس 2506 استماع
محنة فلسطين [2] 2467 استماع
انتحار أم استشهاد 2439 استماع
تفسير آية الكرسي 2405 استماع
الموت خاتمتك أيها الإنسان 2398 استماع
وإن عدتم عدنا 2397 استماع