نظرة في تاريخ العقيدة [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لاسيما عبده المصطفى. اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن الموضوع الذي سنتناوله اليوم هو موضوع النظر إلى تاريخ العقيدة الإسلامية، خاصة وأن هذه المسألة مع وضوحها كالشمس، لكن نجد في الناس من يخلط في هذه القضية المهمة. فبعض الناس يزعم أن العقيدة لم يعرفها الإنسان على ما هي عليه مرة واحدة، وإنما ترقت العقيدة وتطورت خلال قرون سحيقة، وأطلقوا عليها عصور ما قبل التاريخ، أو العصور الحجرية، حيث يزعمون أن الإنسان الذي يسمونه البدائي أو الحجري لم يكن يعرف له رباً ولا معبوداً، ثم نشأت عنده بعد ذلك عاطفة التدين؛ بسبب أنه رأى الحيوانات تخشى القوى الخفية، فتخاف من البرق والرعد، فظل الإنسان يبحث عن معبود يشعر نحوه بالولاء والتقديس، مهما كانت صورة هذا المعبود. وهذا فيه عملية إضفاء نوع من العذر والاعتذار عن هذه الجريمة التي تعتبر أكبر جريمة وقعت في الوجود، وهي الشرك بالله سبحانه وتعالى. فكأن الإنسان الأول كان حائراً يبحث عن إله يأوي إليه ويحبه، وانظر إلى هذه العاطفة، فكأن الخبثاء يريدون أن يقولوا: إن الدين نبع من الأرض ولم ينزل من السماء، وإن الدين اختراع بشري، وإن الإنسان هو الذي توصل إليه واكتشفه؛ وبالتالي فإن هذه الأديان تستوي؛ لأنها صنع بشري، فلكل إنسان أن يختار الدين الذي يرتاح إليه، فانكمش هذا المعبود في الشمس وفي القمر وفي الكواكب، حتى في الأشجار وفي الحيوانات. ثم قالوا: إنه تطور من وثنية إلى وثنية إلى أن اكتشف التوحيد من تلقاء نفسه، فعند هؤلاء أنّ الإنسان هو الذي اكتشف التوحيد. فخلاصة الكلام أن الدين في زعم هؤلاء الناس هو نتاج العقل البشري واختراعه.

زعم الأفّاكين: أن الإنسان الأول كان شبيهاً بالحيوان

من جملة مزاعم القوم في هذا الباب: أن الإنسان الأول كان أقرب إلى الحيوانات، لذلك نجد كتب العلوم والأحياء وغيرها من الكتب تحاول دائماً أن تصور وتحفر في ذاكرة الطلبة أن هذه حقيقة لا مناص منها، والله سبحانه وتعالى يقول: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51]، فهم يرجمون بالغيب، ويحاولون أن يطبعوا في أذهان الشباب هذه الصورة، أعني: صورة أنّ الإنسان مترقي من الشمبانزي وهذا نوع من القرود، وكيف أنه كان يترقى بانحناءته، وطريقته في المشي، وزوال الشعر عن جسده، إلى أن وصل إلى الإنسان الحجري، فهذه هي الصورة التي يحفظونها الأبناء.

ولن نناقش اليوم قضية الترقي والتطور في البنية البشرية، أعني: بنية الجسد؛ لأن هذا موضوع آخر نرجو أن نتكلم عليه في فرصة أخرى، وإن كنا قد تكلمنا عليه منذ سنوات ولكن بَعُد العهد به جداً.

فنرجو أن يتيسر لنا الكلام على نظرية دارون ، هذه النظرية الفاشلة التي تستعمل لحرف العقيدة، وتشكيك الشباب في عقيدتهم ودينهم، مع أنها نظرية فاشلة بكل المقاييس، وليس ذلك فقط من الناحية الدينية، فهي حتى من النواحي العلمية نظرية فاشلة، وقد انهارت، ومع ذلك يصرون على تدريسها في بلادنا في أحرج سنوات العمر، وهي: فترة الثانوية العامة، ويركزون عليها وكأنها أمر ثابت، وهي كذب وتزوير كما سنبينه إن جاءت فرصة إن شاء الله تعالى.

فتصويرهم لهذا الإنسان بهذه الصورة، وتعليمهم ذلك للشباب يجعل الشاب يشعر في نفسه بتناقض: فنحن نؤمن بالقرآن وبالوحي وفيها: أن آدم أول البشر، فهل كان عليه السلام بهذه الصورة؟ وهل كان آدم عليه السلام أقرب ما يكون لمنظر الشمبنزي والقرد الذي يزعمون أنه ابن عم الإنسان؟! فإنهم يقولون: إن الإنسان والشمبنزي انحدرا من أصل واحد، فعلى هذا: فهذا الأصل إذاً غير معروف، وهذه هي الحلقة المفقودة، وليس هناك دليل أبداً يسد هذه الحلقة، فهي مجرد افتراض وهمي.

فهل كان آدم عليه السلام بالصورة التي نتلقاها من القرآن والسنة، أو أنّه كان أقرب ما يكون إلى الحيوان: من حيث التخلف العقلي، والبدائية أي: أنه منحني في مشيته، والشعر على جسده مثل فروة الغوريلا أو الشمبنزي وغيرها من القرود، وأنه أقرب ما يكون للأبله الذي لا عقل له؟!!

فهم يصورون هذا الإنسان الذي يسمونه: بالإنسان الأول على أنه كان أقرب ما يكون إلى الحيوان، وأنه خُلق خلقاً ناقصاً غير مؤهل لأن يتلقى الحقائق العظمى كاملة، كما تزعم ذلك النظرية الدروانية الفاشلة كما ذكرنا، وأنه كائن تطور عن غيره، وعلى هذا الأساس فلا يكون هناك أي معنى لاستخلاف هذا الإنسان وتكليفه في هذه الأرض.

زعم الأفاكين: أنّ الأصل في الإنسان الشرك

الأمر الثاني من هذه المزاعم الكاذبة: أن الإنسان كان مشركاً بطبيعته، ففطرته ملوثة بالشرك، وأول ما يبحث فإنه يبحث عن عبادة الأحجار والأقمار والأشجار والكواكب إلى غير ذلك، فيصورونه على أن الأصل في فطرته هو الشرك والوثنية، وبناءً على ذلك زعموا أن الأصل في عقيدة البشر هي العقيدة الفاسدة، ثم طرأ التوحيد بعد ذلك، لكن الأصل أن الإنسان ملوث بالشرك، ميال بطبعه وفطرته إلى الشرك والوثنية، ثم إن التوحيد شرع بعد ذلك، حيث إن الدين الداعي إلى التوحيد جاء متأخراً عن وجود الإنسان على ظهر الأرض في زعمهم.

فدين التوحيد هذا لم ينزل، بل إنّ الإنسان هو الذي اكتشف أن أفضل شيء هو التوحيد، فبعد مضي أجيال طويلة اخترعت البشرية عقيدة التوحيد!

زعم الأفاكين: أنّ الإنسان تطور بأفكاره حتى اكتشف الدين بنفسه

الأمر الثالث من هذه المزاعم: أن الإنسان سعى بجهده وعقله في البحث عن معبود، وأن أفكاره تطورت ذاتياً، بناءً على تجاربه، وذلك دون توجيه رباني يهديه ويرشده، إلى أن اكتشف الدين بنفسه دون معلم يعلمه، وأنه كما ترقى في العلوم والصناعات، ترقى كذلك في معرفة الله تبارك وتعالى.

زعم الأفاكين: أن قروناً طويلة مرّت على الإنسان دون أن يعرف فيها رباً ولا معبوداً

الأمر الرابع من هذه المزاعم: أن قروناً طويلة مرت على البشرية وهي لا تعرف لها رباً ولا معبوداً، لكن كلما تقدمت البشرية فإنها تترقى وتتطور في فهمها للدين، وعلى ذلك فكل من جاء بعد آدم من القرون البشرية كانوا على دين أكمل من دين آدم، لأن آدم كان هو الإنسان الأول، وكان متخلفاً عقلياً ولم يكن مؤهلاً لتلقي هذه الحقيقة العظمى، وهي حقيقة التوحيد، فمن أتى بعده فهو أكمل منه عليه السلام، وكلما تأخرنا تكون القرون المتأخرة أقرب للفهم الصحيح من الأمم المتقدمة! وعلى هذه المزاعم صنفوا تواريخ الأمم التي سبقت بعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. بما في ذلك تاريخ أوروبا على أنه تاريخ وثني جاهلي محض، لا أثر فيه لوجود الله ولا لدين طلب الله من البشرية أن تعتنقه، ولا لنظام ولا لشرع رباني طلب الله من بني آدم أن يُخضعوا حياتهم له، ولا وجود لرسل من قِبَل الله عز وجل يطلبون من الناس عبادة الله وحده لا شريك له. ويفهم مما سبق انتفاء التكليف الإلهي للبشر، بل إذا أقروا بوجود خالق لهذا الكون، فإنهم يقولون: خلقه ثم حرّكه، ثم تركه، أي: أنه خلق الكون وحركة فالشمس تجري، والأرض تدور، والأقمار تسبح في الفضاء، ثم ترك العالم على هذا الأساس بلا تكليف ولا أمر ولا نهي.

خطر الدسائس التاريخية والغزو الثقافي على الأمة الإسلامية

إذا تأملنا كيفية معالجة المستشرقين لتاريخ مصر والعراق وبلاد الشام والجزيرة العربية منذ أقدم الدهور، فهم عندما درسوا تاريخ هذه البلاد في القرون القديمة فإنهم يحذفون من حساباتهم ذكر الإسلام تماماً، ويهملون ذكر دعوات الرسل في حياة هذه الأمم التي سكنت تلك البلاد، وبهذا أصبحت جميع الأمم بلا استثناء تنظر إلى هذا الفترة من تاريخها على أنها خلقت وتركت هملاً، فلم تكن تعرف لها رباً ولا ترتضي لنفسها ديناً، بل أخذوا يرددون بأن الأصل في عقيدة أهل تلك الأقطار هي الوثنية، وأنهم تطوروا في الوثنية من التعدد إلى التوحيد، وأن أول الموحدين وذلك من تلقاء نفسه في التاريخ هو الفرعون أخناتون ، أو أمنحتب الرابع ، ويفخرون بـأخناتون فخراً عجيباً جداً، فتجدهم في الأناشيد والأشعار والكتب يمدحونه على أنه أول مخترع للتوحيد، رغم أنه لم يكن توحيداً، بل كان شركاً نجساً خبيثاً. إنّ أخناتون هذا هو أول من إلى التوحيد بين آلهة ثلاثة في إله واحد، وقد أخذ النصارى عن قدماء المصريين أفكارهم الشركية أيضاً. فكان أمنحتب الرابع أو أخناتون يعبد القوة الكامنة وراء إله الشمس آتون، ويعتقد أن عبادته هي الحقيقة، وأنها هي الدين الصحيح، وأن هذه الفكرة انتقلت من مصر إلى بلاد العراق، حيث أقام إبراهيم دينه، أي: أن الإسلام ليس وحياً من عند الله تبارك وتعالى. فهذه من الدسائس التي تسمم قلوب الشباب والأجيال، فتتخرج أجيال بعد أجيال على هذه العقائد التي يُلحّ إلحاحاً في تحفيظهم إياها على أنها حقائق مسلمة، فلا شك أنه بذلك تنقطع رابطة هؤلاء الشباب بالإسلام. فالغزو في الحقيقة من كل جانب، فقد سمعتُ مؤخراً عن أشياء تُعرض في القنوات الفضائية مخالفة للشريعة، وقد يستهين بها كثير من الناس، وهناك أشياء كثيرة نستهين بها وهي تؤثر على نفسيات الأطفال أكثر، فالأشياء التي نستهين بها هي من أخطر الأشياء، فكثير من الناس يتهاونون مع ما يسمى بأفلام الكرتون، ويقولون: إن هذه تسلية للأطفال، وليس فيها رقص ولا غناء ولا أي منكرات! فأقول: كلا، بل فيها كثير من المنكرات، وهذا أنموذج من هذه النماذج سمعت عنه، فقد أتوا بقصة فيها: أن أباً وأماً وأولاداً خرجوا في رحلة جميلة، وكانوا في مركب في البحر، فجاءت عاصفة شديدة كادوا أن يغرقوا ويهلكوا بسببها، فأخرج الأب الذي هو رب الأسرة جهازاً لاسلكياً، واتصل بإله البحر؛ حتى يأتي وينقذه، فأتى هذا الإله وأنقذه من الغرق في الحال. وفي مناسبة أخرى تكررت نفس القصة، فقد وقع الولد في نفس الورطة وأشرف على الغرق، فماذا فعل الطفل الصغير؟ أخرج الجهاز اللاسلكي، واتصل بابن إله البحر، أي: الإله الصغير، فأتى ابن إله البحر وأنقذه. وأنا ما رأيتها، ولكني سمعت ذلك. فلا شك أنّ هذه رسالة من خلال أفلام الكرتون لإفساد العقيدة، وتهيئة الأولاد لقبول فكرة أنّ هناك إلهاً كبيراً وأن له ابناً، وأن كليهما قادر على أن ينقذك في الضراء وفي الكربات. إذاً: فمثل هذه الأشياء لا شك أنها تترك آثاراً خطيرة جداً، وخاصة أنها لا تقترن بما ينفر منها، بل العكس فإنها تقترن بما يرغب فيها من المحسنات والمزينات، فمثل هذه الحقائق كثير من المسلمين الجهلة ليس عندهم خبر بها، وما يشعرون بخطر التساهل في مثل هذه العقائد، فانظر إلى ما يدرسونه أبناءنا في التاريخ، يدرسونهم أن التوحيد أول من اخترعه هو: أمنحتب ، أو أخناتون ، ونفرتيتي ، فإنهما عملا مع آتون شركة، ووحدوا هذه الآلهة الثلاثة في إله واحد وهو إله الشمس، فهذا أول اكتشاف بشري للتوحيد. ثم بعد ذلك انتقلت عقيدة التوحيد هذه إلى بلاد العراق، حيث أقام إبراهيم دينه، فانظر إلى هذا الربط في قولهم: حيث أقام إبراهيم دينه، فما معنى ذلك؟! معنى ذلك: أنّ أبا الأنبياء وخليل الرحمن سبحانه وتعالى وإمام الحنفاء -الذي أَمرنا الله سبحانه وتعالى أن نكون على ملته، والذي كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [آل عمران:95] - اقتبس هذا التوحيد من مصر أم الدنيا، فهي التي نقلت التوحيد إلى إبراهيم الخليل، وعلى هذا الأساس أقام إبراهيم دينه، أي: أنّ الدين تأسيس بشري وليس له أصل إلهي. وتأكيداً على هذه المزاعم، فقد حرص علماء الآثار من المستشرقين على طمس أي قرينة أثرية، أو ملامح تاريخية تؤكد أن الله سبحانه وتعالى فطر البشرية على الإسلام، وارتضاه لها ديناً، وبعث به الرسل، وعندما تظهر قرينة رغماً عنهم تؤكد أصالة خط التوحيد في حياة البشر، فإنهم يعزونها إلى تطور الفكر البشري، فهم يزعمون أن الإنسان قد تطور في معتقده كما تطور في صناعته. فهؤلاء كما يسميهم كثير من الفضلاء: أصحاب منهج التجاهل والتجهيل، فهم يتجاهلون الحقائق، ويريدون أن يخرجوا جيلاً يتجاهل أيضاً هذه الحقائق، فهم متجاهلون ومجَّهلون لهذه الأجيال، ولا يستندون إلى أي دليل في هذه الفكرة الخطيرة سوى الجهل، والجهل لا يصلح أن يكون دليلاً.

طرق دراسة تاريخ أديان الأمم القديمة ومصادرها

ليس هناك دليل مادي على أمر التوحيد واتصال الأرض بالسماء بهذه الكيفية عند هؤلاء المستشرقين والباحثين، فالطريق الذي يسلكه جمهور الباحثين للوصول إلى هذا المطلب هو دراسة تاريخ أديان الأمم القديمة، عن طريق التنقيب في الحفريات والرمم والجثث المحنطة والآثار الحجرية، ثم البحث في أديان الأمم المعاصرة غير المتحضرة، وهذا هو المنهج الذي ارتضوه كي يصلوا إلى الحقيقة فيما يتعلق بقضية الدين. وهم أيضاً متأثرون بفكرة النشوء والتطور، فلذلك هم يبحثون في هذين الخطين فقط في الأمم القديمة، والأمم المعاصرة غير المتحضرة، ولا يلتفتون إلى الدين؛ لأن الدين تخلف، والدين اختراع عتيق في متحف التاريخ، فالذي يريد أن يبحث في التاريخ ينبغي له أن يبحث عنه في الحفريات وفي طبقات الأرض (الجيولوجيا)، وفي تواريخ الأمم القديمة، وإذا كنا نبحث في القرون المعاصرة فعلينا أن نبحث في تاريخ الأمم المعاصرة غير المتحضرة، ويعتبر هؤلاء نهاية ما يعلمونه في القدم من أديان البشر، وما عليه الأمم الأشد تخلفاً من ممارسات دينية، صورة مطابقة لما كان عليه الإنسان الأول. فزعموا أن ما عليه الأمم المتخلفة التي تعيش في المجاهل والأدغال الآن، والتي تعيش حياة الوحوش، هو صورة لما كان عليه الإنسان الأول . أما بالنسبة للأديان القديمة، فليس لهم أي مصادر علمية، بل هو القول على الله بغير علم، ويستندون إلى النقوش والرسوم والرمم التي يستوحون منها ما يزعمونه قطعياً، ولما كانت تلك مصادر آرائهم اختلفت آراؤهم. فذهب فريق إلى أن الدين بدأ بصورة الخرافة، وأن الإنسان أخذ يترقى في دينه على مدى الأجيال حتى وصل إلى الكمال فيه بالتوحيد، كما تدرج في علومه وصناعاته، حتى زعم بعضهم أن عقيدة الإله الأحد عقيدة حديثة، وأنها وليدة عقلية خاصة بالجنس الثاني. وقد نادى بهذه النظرية أنصار المذهب التصوري الذي ظهر في أوروبا في القرن التاسع عشر، وذلك في أكثر من فرع من فروع العلم. وهناك فريق آخر من هؤلاء الباحثين الماديين قال بفطرة التوحيد وأصالته، وأثبت أن عقيدة الخالق الأكبر هي أقدم ديانة ظهرت في البشرية، فردوا على أنصار المذهب الأول، ورفضوا ما قالوه، مع أن مسلكهما في تحديد بداية الدين مسلك واحد وهو: الوصول إلى ذلك عن طريق الرمم والنقوش والحفريات، وأيضاً دراسة تواريخ الأمم المعاصرة غير المتحضرة. إنّ ممن أجاد وأفاد في هذا المبحث واكتشف فيه الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله تعالى، وهو من علماء الأزهر الذين لم توفهم الصحوة الإسلامية حقهم من الاهتمام بكتبه النادرة، فهذا من العلماء المعاصرين الذين ابتكروا البحث في تاريخ الدين، وهو في عامة بحوثه مبتكر، ولا يكرر مثل الآخرين، بل تجد أفكاره ناضجة جداً، وللأسف الشديد أنه لم يأخذ حقه من الاهتمام، ولم تذع كتبه كما كان ينبغي لها أن تذاع. يقول رحمه الله تعالى: أما من حيث الغاية التي يهدف إليها البحث فهي تحديد أصل العقيدة، والمظهر الذي ظهرت به في أول الأزمنة، وهذه المنطقة البدائية المحضة اعتبرها العلم شقة حراماً حظرها على نفسه، وأعلم بصراحة خروجها عن حدود علمه؛ لأنه سيخبر عن غيب، فكيف سيصل إلى هذه المنطقة البدائية؟ وبم سيتكلم عنها؟ أيرجم بالغيب؟! فلذلك نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة من القرآن يمتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه يخبره بأنباء الغيب، وجعل الله هذا دليلاً من أدلة صدق نبوته فقال: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران:44]، وهكذا في كثير من الآيات مثل قوله: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا [طه:99] إلى آخر الآيات. فهناك آيات كثيرة في القرآن يمتن الله سبحانه وتعالى بها على نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه يطلعه على بعض أخبار الغيب التي لا سبيل إليها إلا عن طريق الوحي. ويقول: ومؤرخو الديانات على الخصوص معترفون بأن الآثار الخاصة بديانة العصر الحجري وما قبله لا تزال مجهولة لنا جهلاً تاماً، فلا سبيل للخوض فيها إلا بضرب من التكهن والرجم بالغيب. وأما من حيث المنهج وهو الاستدلال على ديانة الإنسانية الأولى بديانة الأمم المنعزلة المتخلفة عن ركب المدنية فهذا مبني على أساس افتراض أن هذه الأمم كانت منذ بدايتها على الحالة التي وصل إليها بحثنا، وأنها لم تمر بها أدوار متقلبة، وهو افتراض لم يقم عليه دليل، بل الذي أثبته التاريخ واتفق عليه المنقبون عن آثار الأمم الماضية، هو أن فترات الركود والتقهقر التي سبقت مدنيتنا الحاضرة كانت مسبوقة بمدنيات مزدهرة، وأن هذه المدنيات قامت بدورها على أنقاض مدنيات بائدة قريبة أو بعيدة، وذلك في أدوار تتعاقب على البشرية. فانظر إلى قدماء المصريين، فقد كانوا في فترة زمنية قريبة، وليست بالسحيقة كالقرون الأولى من قبلهم، ومع ذلك فقد تركوا آثاراً تُظهر تفوقاً في بعض فروع العلوم، ولا يستطيع العلم البشري إلى اليوم أن يصل إلى عشر معشارها، فهناك بعض الألغاز الموجودة حتى الآن لم يستطع العلم الحديث أن يفسرها، وهذا ما حدا بالكثيرين إلى أن يقولوا: إن قدماء المصريين كانوا يستعينون بالجن والسحر؛ وذلك بسبب ضخامة ما خلفوه من علوم تدل على تقدم وازدهار حضاري كما يسمونه ويزعمونه. وقد نُشر في مجلة لا أذكر اسمها الآن في أمريكا مقالاً تحت عنوان: مدينة الأبراج، وهي منطقة في حضرموت، وفي نفس المكان الذي نعتقد نحن أنه كانت فيه مدينة عاد إرم ذات العماد، فيقولون: إنهم عن طريق التصوير والاستعانة بالأقمار الاصطناعية اكتشفوا مدينة كاملة مغمورة تحت الأرض، وفيها مبان مرتفعة جداً، وسموها مدينة الأبراج، وهم لا خبر عندهم بما يتعلق بالقرآن الذي وصفها بهذا الوصف: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:6-8]. فهذا مما يدل على أن الأمر بالعكس، فهناك أمم في القرون الماضية قد يكون عندها حضارات وتقدم هائل جداً، ثم تحصل فترات ركود وانحدار، وذلك في فترات تتعاقب على البشرية. ويقول: فمن العسير أن نحكم بصفة قاطعة أن الخرافات القديمة بداية أديان؛ لأننا حتى في هذا العصر الذي نزعم فيه الترقي والتطور والتقدم والحضارة وغير ذلك لا زلنا نجد هذا موجوداً، بل ومن أرقى الأمم تحضراً كأمة اليابان مثلاً، فاليابانيون يعبدون الإمبراطور ويعبدون العائلة المالكة كما كان يفعل المصريون. وهنالك في أوروبا والغرب من يعبد آلهة قدماء المصريين، ويأتون إلى هنا، ويحجون إلى الأهرامات وإلى الآثار. وهناك ما تعجبون منه، ففي بعض الدول في شرق آسيا من يعبد الفئران! وقد رأى أحد الإخوة منظراً مثل هذا في شرق آسيا، ورأى أشياء مقززة، ولولا ذلك لحكيتها لكم، وذلك فيما يتعلق بتقديس الفئران، وهي أمور لا يتصورها أي إنسان عنده فطرة سليمة، أو ذوق مستقيم، فهم يقدسون الفئران، ويبنون قصوراً من الرخام الأبيض الجميل؛ كي يعبدوا فيها هذه الفئران. وهناك من يعبد النيران وغير ذلك من الأوثان، وهذا يحصل الآن -كما يقولون- في القرن العشرين. إذاً: فليس هناك قديم ولا جديد فيما يتعلق بالعقيدة، بل هي فترات ركود وانحدار وانحطاط بعد الترقي، فهذه في حد ذاتها ليست دليلاً على صحة المبدأ الذي عليه هؤلاء الناس. ويقول بعض إخواننا: لو يرانا عباد الفئران ونحن نقتل الفئران هنا لأقاموا علينا حرباً مقدسة، كما فعل إخوانهم في المسجد البابري في الهند، وسبب المشكلة في ذلك المسجد أنّه بُني على مسقط رأس إلههم، أي: أنّ الإله ولد في هذا المكان، إله يولد تباً لهم! فهذا المكان مقدس عندهم. فيمكن أن تطرأ على بعض هذه الحضارات بعض الطوارئ فتمزقهم الحروب، أو تفسدهم بعض المؤثرات الاجتماعية، فينحرفون عن التوحيد الذي كانوا عليه، أو يقل اعتناؤهم بأصول دينهم فيضيع هذا الدين، ويبقى تعلقهم بأشياء محرفة أو مغلوطة. فإذاً: هذه البحوث التي يسمونها بحوثاً علمية في تاريخ الأديان، كلها مبنية على شفا جرف هار، وليس لها دليل علمي يدل عليها؛ لأنها لا تقوم إلا على التخمين والظن اللذين لا يغنيان من الحق شيئاً. وأما الاستدلال بالآثار والنقوش والحفريات ودراسة الرمم، فهذا أمر يحتاج إلى كثير من التأمل، وكل من كان له قلب فإنه يدرك مدى اختلاف الناس في الأشياء المشاهدة في وقت واحد، فكيف بتفسير أشياء بيننا وبينها قرون سحيقة، وما ندري ما وراءها!! ومن عجيب أمر الباحثين في موضوع تاريخ الأديان أنهم يغفلون تماماً آثار الأنبياء، فتراهم يتجاهلون قضية الأنبياء وآثار الأنبياء، ويتجاهلون كتب الأنبياء، ويتعلقون بالواهي من الأدلة ورموز الأخبار والآثار، وتزداد الغرابة وتعظم المصيبة حينما يكون الباحث مسلماً، ويتابع غير المسلمين في مثل هذه الأمور التي صرحت بها الرسالات السماوية، متجاهلاً للحقائق التي جلاها الإسلام بما لا يدع مجالاً للشك، سواء كان ذلك فيما يتعلق بقضية خلق الإنسان، أو تكوينه أو نظام حياته وتدينه، أو الحكمة من خلقه ووجوده، والله عز وجل يقول: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، ويقول: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51].

من جملة مزاعم القوم في هذا الباب: أن الإنسان الأول كان أقرب إلى الحيوانات، لذلك نجد كتب العلوم والأحياء وغيرها من الكتب تحاول دائماً أن تصور وتحفر في ذاكرة الطلبة أن هذه حقيقة لا مناص منها، والله سبحانه وتعالى يقول: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51]، فهم يرجمون بالغيب، ويحاولون أن يطبعوا في أذهان الشباب هذه الصورة، أعني: صورة أنّ الإنسان مترقي من الشمبانزي وهذا نوع من القرود، وكيف أنه كان يترقى بانحناءته، وطريقته في المشي، وزوال الشعر عن جسده، إلى أن وصل إلى الإنسان الحجري، فهذه هي الصورة التي يحفظونها الأبناء.

ولن نناقش اليوم قضية الترقي والتطور في البنية البشرية، أعني: بنية الجسد؛ لأن هذا موضوع آخر نرجو أن نتكلم عليه في فرصة أخرى، وإن كنا قد تكلمنا عليه منذ سنوات ولكن بَعُد العهد به جداً.

فنرجو أن يتيسر لنا الكلام على نظرية دارون ، هذه النظرية الفاشلة التي تستعمل لحرف العقيدة، وتشكيك الشباب في عقيدتهم ودينهم، مع أنها نظرية فاشلة بكل المقاييس، وليس ذلك فقط من الناحية الدينية، فهي حتى من النواحي العلمية نظرية فاشلة، وقد انهارت، ومع ذلك يصرون على تدريسها في بلادنا في أحرج سنوات العمر، وهي: فترة الثانوية العامة، ويركزون عليها وكأنها أمر ثابت، وهي كذب وتزوير كما سنبينه إن جاءت فرصة إن شاء الله تعالى.

فتصويرهم لهذا الإنسان بهذه الصورة، وتعليمهم ذلك للشباب يجعل الشاب يشعر في نفسه بتناقض: فنحن نؤمن بالقرآن وبالوحي وفيها: أن آدم أول البشر، فهل كان عليه السلام بهذه الصورة؟ وهل كان آدم عليه السلام أقرب ما يكون لمنظر الشمبنزي والقرد الذي يزعمون أنه ابن عم الإنسان؟! فإنهم يقولون: إن الإنسان والشمبنزي انحدرا من أصل واحد، فعلى هذا: فهذا الأصل إذاً غير معروف، وهذه هي الحلقة المفقودة، وليس هناك دليل أبداً يسد هذه الحلقة، فهي مجرد افتراض وهمي.

فهل كان آدم عليه السلام بالصورة التي نتلقاها من القرآن والسنة، أو أنّه كان أقرب ما يكون إلى الحيوان: من حيث التخلف العقلي، والبدائية أي: أنه منحني في مشيته، والشعر على جسده مثل فروة الغوريلا أو الشمبنزي وغيرها من القرود، وأنه أقرب ما يكون للأبله الذي لا عقل له؟!!

فهم يصورون هذا الإنسان الذي يسمونه: بالإنسان الأول على أنه كان أقرب ما يكون إلى الحيوان، وأنه خُلق خلقاً ناقصاً غير مؤهل لأن يتلقى الحقائق العظمى كاملة، كما تزعم ذلك النظرية الدروانية الفاشلة كما ذكرنا، وأنه كائن تطور عن غيره، وعلى هذا الأساس فلا يكون هناك أي معنى لاستخلاف هذا الإنسان وتكليفه في هذه الأرض.

الأمر الثاني من هذه المزاعم الكاذبة: أن الإنسان كان مشركاً بطبيعته، ففطرته ملوثة بالشرك، وأول ما يبحث فإنه يبحث عن عبادة الأحجار والأقمار والأشجار والكواكب إلى غير ذلك، فيصورونه على أن الأصل في فطرته هو الشرك والوثنية، وبناءً على ذلك زعموا أن الأصل في عقيدة البشر هي العقيدة الفاسدة، ثم طرأ التوحيد بعد ذلك، لكن الأصل أن الإنسان ملوث بالشرك، ميال بطبعه وفطرته إلى الشرك والوثنية، ثم إن التوحيد شرع بعد ذلك، حيث إن الدين الداعي إلى التوحيد جاء متأخراً عن وجود الإنسان على ظهر الأرض في زعمهم.

فدين التوحيد هذا لم ينزل، بل إنّ الإنسان هو الذي اكتشف أن أفضل شيء هو التوحيد، فبعد مضي أجيال طويلة اخترعت البشرية عقيدة التوحيد!

الأمر الثالث من هذه المزاعم: أن الإنسان سعى بجهده وعقله في البحث عن معبود، وأن أفكاره تطورت ذاتياً، بناءً على تجاربه، وذلك دون توجيه رباني يهديه ويرشده، إلى أن اكتشف الدين بنفسه دون معلم يعلمه، وأنه كما ترقى في العلوم والصناعات، ترقى كذلك في معرفة الله تبارك وتعالى.

الأمر الرابع من هذه المزاعم: أن قروناً طويلة مرت على البشرية وهي لا تعرف لها رباً ولا معبوداً، لكن كلما تقدمت البشرية فإنها تترقى وتتطور في فهمها للدين، وعلى ذلك فكل من جاء بعد آدم من القرون البشرية كانوا على دين أكمل من دين آدم، لأن آدم كان هو الإنسان الأول، وكان متخلفاً عقلياً ولم يكن مؤهلاً لتلقي هذه الحقيقة العظمى، وهي حقيقة التوحيد، فمن أتى بعده فهو أكمل منه عليه السلام، وكلما تأخرنا تكون القرون المتأخرة أقرب للفهم الصحيح من الأمم المتقدمة! وعلى هذه المزاعم صنفوا تواريخ الأمم التي سبقت بعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. بما في ذلك تاريخ أوروبا على أنه تاريخ وثني جاهلي محض، لا أثر فيه لوجود الله ولا لدين طلب الله من البشرية أن تعتنقه، ولا لنظام ولا لشرع رباني طلب الله من بني آدم أن يُخضعوا حياتهم له، ولا وجود لرسل من قِبَل الله عز وجل يطلبون من الناس عبادة الله وحده لا شريك له. ويفهم مما سبق انتفاء التكليف الإلهي للبشر، بل إذا أقروا بوجود خالق لهذا الكون، فإنهم يقولون: خلقه ثم حرّكه، ثم تركه، أي: أنه خلق الكون وحركة فالشمس تجري، والأرض تدور، والأقمار تسبح في الفضاء، ثم ترك العالم على هذا الأساس بلا تكليف ولا أمر ولا نهي.

إذا تأملنا كيفية معالجة المستشرقين لتاريخ مصر والعراق وبلاد الشام والجزيرة العربية منذ أقدم الدهور، فهم عندما درسوا تاريخ هذه البلاد في القرون القديمة فإنهم يحذفون من حساباتهم ذكر الإسلام تماماً، ويهملون ذكر دعوات الرسل في حياة هذه الأمم التي سكنت تلك البلاد، وبهذا أصبحت جميع الأمم بلا استثناء تنظر إلى هذا الفترة من تاريخها على أنها خلقت وتركت هملاً، فلم تكن تعرف لها رباً ولا ترتضي لنفسها ديناً، بل أخذوا يرددون بأن الأصل في عقيدة أهل تلك الأقطار هي الوثنية، وأنهم تطوروا في الوثنية من التعدد إلى التوحيد، وأن أول الموحدين وذلك من تلقاء نفسه في التاريخ هو الفرعون أخناتون ، أو أمنحتب الرابع ، ويفخرون بـأخناتون فخراً عجيباً جداً، فتجدهم في الأناشيد والأشعار والكتب يمدحونه على أنه أول مخترع للتوحيد، رغم أنه لم يكن توحيداً، بل كان شركاً نجساً خبيثاً. إنّ أخناتون هذا هو أول من إلى التوحيد بين آلهة ثلاثة في إله واحد، وقد أخذ النصارى عن قدماء المصريين أفكارهم الشركية أيضاً. فكان أمنحتب الرابع أو أخناتون يعبد القوة الكامنة وراء إله الشمس آتون، ويعتقد أن عبادته هي الحقيقة، وأنها هي الدين الصحيح، وأن هذه الفكرة انتقلت من مصر إلى بلاد العراق، حيث أقام إبراهيم دينه، أي: أن الإسلام ليس وحياً من عند الله تبارك وتعالى. فهذه من الدسائس التي تسمم قلوب الشباب والأجيال، فتتخرج أجيال بعد أجيال على هذه العقائد التي يُلحّ إلحاحاً في تحفيظهم إياها على أنها حقائق مسلمة، فلا شك أنه بذلك تنقطع رابطة هؤلاء الشباب بالإسلام. فالغزو في الحقيقة من كل جانب، فقد سمعتُ مؤخراً عن أشياء تُعرض في القنوات الفضائية مخالفة للشريعة، وقد يستهين بها كثير من الناس، وهناك أشياء كثيرة نستهين بها وهي تؤثر على نفسيات الأطفال أكثر، فالأشياء التي نستهين بها هي من أخطر الأشياء، فكثير من الناس يتهاونون مع ما يسمى بأفلام الكرتون، ويقولون: إن هذه تسلية للأطفال، وليس فيها رقص ولا غناء ولا أي منكرات! فأقول: كلا، بل فيها كثير من المنكرات، وهذا أنموذج من هذه النماذج سمعت عنه، فقد أتوا بقصة فيها: أن أباً وأماً وأولاداً خرجوا في رحلة جميلة، وكانوا في مركب في البحر، فجاءت عاصفة شديدة كادوا أن يغرقوا ويهلكوا بسببها، فأخرج الأب الذي هو رب الأسرة جهازاً لاسلكياً، واتصل بإله البحر؛ حتى يأتي وينقذه، فأتى هذا الإله وأنقذه من الغرق في الحال. وفي مناسبة أخرى تكررت نفس القصة، فقد وقع الولد في نفس الورطة وأشرف على الغرق، فماذا فعل الطفل الصغير؟ أخرج الجهاز اللاسلكي، واتصل بابن إله البحر، أي: الإله الصغير، فأتى ابن إله البحر وأنقذه. وأنا ما رأيتها، ولكني سمعت ذلك. فلا شك أنّ هذه رسالة من خلال أفلام الكرتون لإفساد العقيدة، وتهيئة الأولاد لقبول فكرة أنّ هناك إلهاً كبيراً وأن له ابناً، وأن كليهما قادر على أن ينقذك في الضراء وفي الكربات. إذاً: فمثل هذه الأشياء لا شك أنها تترك آثاراً خطيرة جداً، وخاصة أنها لا تقترن بما ينفر منها، بل العكس فإنها تقترن بما يرغب فيها من المحسنات والمزينات، فمثل هذه الحقائق كثير من المسلمين الجهلة ليس عندهم خبر بها، وما يشعرون بخطر التساهل في مثل هذه العقائد، فانظر إلى ما يدرسونه أبناءنا في التاريخ، يدرسونهم أن التوحيد أول من اخترعه هو: أمنحتب ، أو أخناتون ، ونفرتيتي ، فإنهما عملا مع آتون شركة، ووحدوا هذه الآلهة الثلاثة في إله واحد وهو إله الشمس، فهذا أول اكتشاف بشري للتوحيد. ثم بعد ذلك انتقلت عقيدة التوحيد هذه إلى بلاد العراق، حيث أقام إبراهيم دينه، فانظر إلى هذا الربط في قولهم: حيث أقام إبراهيم دينه، فما معنى ذلك؟! معنى ذلك: أنّ أبا الأنبياء وخليل الرحمن سبحانه وتعالى وإمام الحنفاء -الذي أَمرنا الله سبحانه وتعالى أن نكون على ملته، والذي كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [آل عمران:95] - اقتبس هذا التوحيد من مصر أم الدنيا، فهي التي نقلت التوحيد إلى إبراهيم الخليل، وعلى هذا الأساس أقام إبراهيم دينه، أي: أنّ الدين تأسيس بشري وليس له أصل إلهي. وتأكيداً على هذه المزاعم، فقد حرص علماء الآثار من المستشرقين على طمس أي قرينة أثرية، أو ملامح تاريخية تؤكد أن الله سبحانه وتعالى فطر البشرية على الإسلام، وارتضاه لها ديناً، وبعث به الرسل، وعندما تظهر قرينة رغماً عنهم تؤكد أصالة خط التوحيد في حياة البشر، فإنهم يعزونها إلى تطور الفكر البشري، فهم يزعمون أن الإنسان قد تطور في معتقده كما تطور في صناعته. فهؤلاء كما يسميهم كثير من الفضلاء: أصحاب منهج التجاهل والتجهيل، فهم يتجاهلون الحقائق، ويريدون أن يخرجوا جيلاً يتجاهل أيضاً هذه الحقائق، فهم متجاهلون ومجَّهلون لهذه الأجيال، ولا يستندون إلى أي دليل في هذه الفكرة الخطيرة سوى الجهل، والجهل لا يصلح أن يكون دليلاً.

ليس هناك دليل مادي على أمر التوحيد واتصال الأرض بالسماء بهذه الكيفية عند هؤلاء المستشرقين والباحثين، فالطريق الذي يسلكه جمهور الباحثين للوصول إلى هذا المطلب هو دراسة تاريخ أديان الأمم القديمة، عن طريق التنقيب في الحفريات والرمم والجثث المحنطة والآثار الحجرية، ثم البحث في أديان الأمم المعاصرة غير المتحضرة، وهذا هو المنهج الذي ارتضوه كي يصلوا إلى الحقيقة فيما يتعلق بقضية الدين. وهم أيضاً متأثرون بفكرة النشوء والتطور، فلذلك هم يبحثون في هذين الخطين فقط في الأمم القديمة، والأمم المعاصرة غير المتحضرة، ولا يلتفتون إلى الدين؛ لأن الدين تخلف، والدين اختراع عتيق في متحف التاريخ، فالذي يريد أن يبحث في التاريخ ينبغي له أن يبحث عنه في الحفريات وفي طبقات الأرض (الجيولوجيا)، وفي تواريخ الأمم القديمة، وإذا كنا نبحث في القرون المعاصرة فعلينا أن نبحث في تاريخ الأمم المعاصرة غير المتحضرة، ويعتبر هؤلاء نهاية ما يعلمونه في القدم من أديان البشر، وما عليه الأمم الأشد تخلفاً من ممارسات دينية، صورة مطابقة لما كان عليه الإنسان الأول. فزعموا أن ما عليه الأمم المتخلفة التي تعيش في المجاهل والأدغال الآن، والتي تعيش حياة الوحوش، هو صورة لما كان عليه الإنسان الأول . أما بالنسبة للأديان القديمة، فليس لهم أي مصادر علمية، بل هو القول على الله بغير علم، ويستندون إلى النقوش والرسوم والرمم التي يستوحون منها ما يزعمونه قطعياً، ولما كانت تلك مصادر آرائهم اختلفت آراؤهم. فذهب فريق إلى أن الدين بدأ بصورة الخرافة، وأن الإنسان أخذ يترقى في دينه على مدى الأجيال حتى وصل إلى الكمال فيه بالتوحيد، كما تدرج في علومه وصناعاته، حتى زعم بعضهم أن عقيدة الإله الأحد عقيدة حديثة، وأنها وليدة عقلية خاصة بالجنس الثاني. وقد نادى بهذه النظرية أنصار المذهب التصوري الذي ظهر في أوروبا في القرن التاسع عشر، وذلك في أكثر من فرع من فروع العلم. وهناك فريق آخر من هؤلاء الباحثين الماديين قال بفطرة التوحيد وأصالته، وأثبت أن عقيدة الخالق الأكبر هي أقدم ديانة ظهرت في البشرية، فردوا على أنصار المذهب الأول، ورفضوا ما قالوه، مع أن مسلكهما في تحديد بداية الدين مسلك واحد وهو: الوصول إلى ذلك عن طريق الرمم والنقوش والحفريات، وأيضاً دراسة تواريخ الأمم المعاصرة غير المتحضرة. إنّ ممن أجاد وأفاد في هذا المبحث واكتشف فيه الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله تعالى، وهو من علماء الأزهر الذين لم توفهم الصحوة الإسلامية حقهم من الاهتمام بكتبه النادرة، فهذا من العلماء المعاصرين الذين ابتكروا البحث في تاريخ الدين، وهو في عامة بحوثه مبتكر، ولا يكرر مثل الآخرين، بل تجد أفكاره ناضجة جداً، وللأسف الشديد أنه لم يأخذ حقه من الاهتمام، ولم تذع كتبه كما كان ينبغي لها أن تذاع. يقول رحمه الله تعالى: أما من حيث الغاية التي يهدف إليها البحث فهي تحديد أصل العقيدة، والمظهر الذي ظهرت به في أول الأزمنة، وهذه المنطقة البدائية المحضة اعتبرها العلم شقة حراماً حظرها على نفسه، وأعلم بصراحة خروجها عن حدود علمه؛ لأنه سيخبر عن غيب، فكيف سيصل إلى هذه المنطقة البدائية؟ وبم سيتكلم عنها؟ أيرجم بالغيب؟! فلذلك نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة من القرآن يمتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه يخبره بأنباء الغيب، وجعل الله هذا دليلاً من أدلة صدق نبوته فقال: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران:44]، وهكذا في كثير من الآيات مثل قوله: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا [طه:99] إلى آخر الآيات. فهناك آيات كثيرة في القرآن يمتن الله سبحانه وتعالى بها على نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه يطلعه على بعض أخبار الغيب التي لا سبيل إليها إلا عن طريق الوحي. ويقول: ومؤرخو الديانات على الخصوص معترفون بأن الآثار الخاصة بديانة العصر الحجري وما قبله لا تزال مجهولة لنا جهلاً تاماً، فلا سبيل للخوض فيها إلا بضرب من التكهن والرجم بالغيب. وأما من حيث المنهج وهو الاستدلال على ديانة الإنسانية الأولى بديانة الأمم المنعزلة المتخلفة عن ركب المدنية فهذا مبني على أساس افتراض أن هذه الأمم كانت منذ بدايتها على الحالة التي وصل إليها بحثنا، وأنها لم تمر بها أدوار متقلبة، وهو افتراض لم يقم عليه دليل، بل الذي أثبته التاريخ واتفق عليه المنقبون عن آثار الأمم الماضية، هو أن فترات الركود والتقهقر التي سبقت مدنيتنا الحاضرة كانت مسبوقة بمدنيات مزدهرة، وأن هذه المدنيات قامت بدورها على أنقاض مدنيات بائدة قريبة أو بعيدة، وذلك في أدوار تتعاقب على البشرية. فانظر إلى قدماء المصريين، فقد كانوا في فترة زمنية قريبة، وليست بالسحيقة كالقرون الأولى من قبلهم، ومع ذلك فقد تركوا آثاراً تُظهر تفوقاً في بعض فروع العلوم، ولا يستطيع العلم البشري إلى اليوم أن يصل إلى عشر معشارها، فهناك بعض الألغاز الموجودة حتى الآن لم يستطع العلم الحديث أن يفسرها، وهذا ما حدا بالكثيرين إلى أن يقولوا: إن قدماء المصريين كانوا يستعينون بالجن والسحر؛ وذلك بسبب ضخامة ما خلفوه من علوم تدل على تقدم وازدهار حضاري كما يسمونه ويزعمونه. وقد نُشر في مجلة لا أذكر اسمها الآن في أمريكا مقالاً تحت عنوان: مدينة الأبراج، وهي منطقة في حضرموت، وفي نفس المكان الذي نعتقد نحن أنه كانت فيه مدينة عاد إرم ذات العماد، فيقولون: إنهم عن طريق التصوير والاستعانة بالأقمار الاصطناعية اكتشفوا مدينة كاملة مغمورة تحت الأرض، وفيها مبان مرتفعة جداً، وسموها مدينة الأبراج، وهم لا خبر عندهم بما يتعلق بالقرآن الذي وصفها بهذا الوصف: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:6-8]. فهذا مما يدل على أن الأمر بالعكس، فهناك أمم في القرون الماضية قد يكون عندها حضارات وتقدم هائل جداً، ثم تحصل فترات ركود وانحدار، وذلك في فترات تتعاقب على البشرية. ويقول: فمن العسير أن نحكم بصفة قاطعة أن الخرافات القديمة بداية أديان؛ لأننا حتى في هذا العصر الذي نزعم فيه الترقي والتطور والتقدم والحضارة وغير ذلك لا زلنا نجد هذا موجوداً، بل ومن أرقى الأمم تحضراً كأمة اليابان مثلاً، فاليابانيون يعبدون الإمبراطور ويعبدون العائلة المالكة كما كان يفعل المصريون. وهنالك في أوروبا والغرب من يعبد آلهة قدماء المصريين، ويأتون إلى هنا، ويحجون إلى الأهرامات وإلى الآثار. وهناك ما تعجبون منه، ففي بعض الدول في شرق آسيا من يعبد الفئران! وقد رأى أحد الإخوة منظراً مثل هذا في شرق آسيا، ورأى أشياء مقززة، ولولا ذلك لحكيتها لكم، وذلك فيما يتعلق بتقديس الفئران، وهي أمور لا يتصورها أي إنسان عنده فطرة سليمة، أو ذوق مستقيم، فهم يقدسون الفئران، ويبنون قصوراً من الرخام الأبيض الجميل؛ كي يعبدوا فيها هذه الفئران. وهناك من يعبد النيران وغير ذلك من الأوثان، وهذا يحصل الآن -كما يقولون- في القرن العشرين. إذاً: فليس هناك قديم ولا جديد فيما يتعلق بالعقيدة، بل هي فترات ركود وانحدار وانحطاط بعد الترقي، فهذه في حد ذاتها ليست دليلاً على صحة المبدأ الذي عليه هؤلاء الناس. ويقول بعض إخواننا: لو يرانا عباد الفئران ونحن نقتل الفئران هنا لأقاموا علينا حرباً مقدسة، كما فعل إخوانهم في المسجد البابري في الهند، وسبب المشكلة في ذلك المسجد أنّه بُني على مسقط رأس إلههم، أي: أنّ الإله ولد في هذا المكان، إله يولد تباً لهم! فهذا المكان مقدس عندهم. فيمكن أن تطرأ على بعض هذه الحضارات بعض الطوارئ فتمزقهم الحروب، أو تفسدهم بعض المؤثرات الاجتماعية، فينحرفون عن التوحيد الذي كانوا عليه، أو يقل اعتناؤهم بأصول دينهم فيضيع هذا الدين، ويبقى تعلقهم بأشياء محرفة أو مغلوطة. فإذاً: هذه البحوث التي يسمونها بحوثاً علمية في تاريخ الأديان، كلها مبنية على شفا جرف هار، وليس لها دليل علمي يدل عليها؛ لأنها لا تقوم إلا على التخمين والظن اللذين لا يغنيان من الحق شيئاً. وأما الاستدلال بالآثار والنقوش والحفريات ودراسة الرمم، فهذا أمر يحتاج إلى كثير من التأمل، وكل من كان له قلب فإنه يدرك مدى اختلاف الناس في الأشياء المشاهدة في وقت واحد، فكيف بتفسير أشياء بيننا وبينها قرون سحيقة، وما ندري ما وراءها!! ومن عجيب أمر الباحثين في موضوع تاريخ الأديان أنهم يغفلون تماماً آثار الأنبياء، فتراهم يتجاهلون قضية الأنبياء وآثار الأنبياء، ويتجاهلون كتب الأنبياء، ويتعلقون بالواهي من الأدلة ورموز الأخبار والآثار، وتزداد الغرابة وتعظم المصيبة حينما يكون الباحث مسلماً، ويتابع غير المسلمين في مثل هذه الأمور التي صرحت بها الرسالات السماوية، متجاهلاً للحقائق التي جلاها الإسلام بما لا يدع مجالاً للشك، سواء كان ذلك فيما يتعلق بقضية خلق الإنسان، أو تكوينه أو نظام حياته وتدينه، أو الحكمة من خلقه ووجوده، والله عز وجل يقول: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، ويقول: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51].

فإذا كنا من خلال هذا التقديم قد رأينا أن مسالكهم التي يسمونها علمية لا علاقة لها على الإطلاق بالعلم، فإنّ العلم هو أن تصل إلى حقائق الأشياء على ما هي عليه في واقع الحقيقة، وعلى هذا الأساس فالحقائق الموجودة في الوجود لا تنحصر في الأمور المحسوسة.

المنهج العلمي الصحيح في معرفة الأمور المحسوسة

فالأمور المحسوسة تعرف عن طريق المنهج العلمي المادي المعروف، وهو ما يسمونه بالمنهج التجربي، وهذه الطريقة تعتمد على التجربة والمشاهدة والاستنتاج، فهذا محصور في دائرة الأمور الحسية فقط.

فهذا ما يتعلق بالأمور التجريبية، فهي تخضع للحواس مثل: الذوق والشم النظر اللمس وهكذا، فمن خلالها نصل إلى الحقائق الحسية، وهذا الجانب من العلم تركه الله سبحانه وتعالى للبشر يجتهدون في استخراجه، واستنباطه، وإعمال عقولهم فيه، مع هدايته سبحانه وتعالى لهم.

المنهج العلمي الصحيح في معرفة الأمور الغيبية الموجودة والماضية والآتية

أما القسم الآخر وهو الأخطر فهو العلم بحقائق موجودة، أو قد وجدت من قبل، أو ستوجد في المستقبل، فهو علم بلا حدود، وهذا لا سبيل على الإطلاق للوصول إلى العلم به، وإدراك حقائقه على ما هي عليه إلا من خلال نافذة الوحي فقط؛ لأن الذي خلق هذه الأشياء هو الذي يخبرنا بذلك، وأما غيره فلا يمكن أن يخبرنا بحقائق ذلك. فلذلك عرفنا ما جرى في هذا الوجود قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، حينما أمر الله القلم فقال له: (اكتب). وعرفنا أن أول مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وهو العرش. وعرفنا أن الجن كانوا يعيشون في الأرض قبلنا، وأنهم أكثروا فيها الفساد. وعرفنا قصة خلق آدم بالتفصيل، وإخراجه من الجنة، وسبب ذلك، وتوبة الله عليه. وعرفنا قصص جميع الأنبياء عن طريق هذه النعمة العظمى نعمة الوحي. كذلك نعرف ونجزم قطعاً بأحداث مستقبلية ستقع، لا لأننا نعلم الغيب، ولكن لأنه أخبرنا من يخبر عمن يعلم الغيب: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فأخبرنا عن أشراط الساعة، وما سيحصل في آخر الزمان بتفاصيل دقيقة، فذكر فتنة الدجال ، وأشراط الساعة الصغرى والكبرى بكل تفاصيلها، وما يعصمنا منها. وأيضاً هذا من العلم بالحقائق على ما هي عليه، وعلى ما ستكون عليه، ولا سبيل إلى ذلك إلّا عن طريق نعمة الوحي. وكذلك نعرف أن الجنة موجودة الآن، وأن النار موجودة الآن، وما صفتها وما عدد أبوابها، وتفاصيل أحوال أهل الدارين، وما سيحصل في يوم القيامة إلى آخر كل هذه التفاصيل، فهذا علم. وعرفنا صفات الله سبحانه وتعالى وأفعاله وما يتعلق بتوحيده عن طريق الوحي أيضاً، وهو أرقى وأشرف العلوم على الإطلاق. فإذاً: لا سبيل لإدراك هذه الحقائق إلا عن طريق الوحي، فالقوم في مناقشتهم وبحثهم في هذا الأمر، ووسائلهم في ذلك، لا يمكن أبداً أن تقدم جواباً شافياً يطمئن إليه القلب والنفس عن ديانة الإنسان الأول. فالمصدر الوحيد الذي يمكن من خلاله أن نستشرف هذا الغيب، وأن نقف على وجه الصواب فيه، هو الوحي الإلهي الذي يطلعنا على حقائق الماضي والحاضر والمستقبل التي تغيب عن عقولنا وحواسنا، إنه القرآن الكريم كلام الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من عزيز حميد.

المنهج العلمي الصحيح في معرفة الأمور الغيبية الموجودة أو التي مضت أو التي ستأتي

أما القسم الآخر وهو الأخطر: فهو العلم بحقائق موجودة، أو قد وجدت من قبل، أو ستوجد في المستقبل، فهو علم بلا حدود، وهذا لا سبيل على الإطلاق للوصول إلى العلم به، وإدراك حقائقه على ما هي عليه إلا من خلال نافذة الوحي فقط؛ لأن الذي خلق هذه الأشياء هو الذي يخبرنا بذلك، وأما غيره فلا يمكن أن يخبرنا بحقائق ذلك.

فلذلك عرفنا ما جرى في هذا الوجود قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، حينما أمر الله القلم فقال له: اكتب.

وعرفنا أول مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وهو العرش.

وعرفنا أن الجن كانوا يعيشون في الأرض قبلنا، وأنهم أكثروا فيها الفساد.

وعرفنا قصة خلق آدم بالتفصيل، وإخراجه من الجنة، وسبب ذلك، وتوبة الله عليه.

وعرفنا قصص جميع الأنبياء عن طريق هذه النعمة العظمى: نعمة الوحي.

كذلك نعرف ونجزم قطعاً بأحداث مستقبلية ستقع، لا لأننا نعلم الغيب، ولكن لأنه أخبرنا من يخبر عمن يعلم الغيب: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]، وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

فأخبرنا عن أشراط الساعة، وما سيحصل في آخر الزمان بتفاصيل دقيقة، فذكر فتنة الدجال، وأشراط الساعة الصغرى والكبرى بكل تفاصيلها، وما يعصمنا منها، وأيضاً هذا من العلم بالحقائق على ما هي عليه، وعلى ما ستكون عليه، ولا سبيل إلى ذلك إلّا عن طريق نعمة الوحي.

وكذلك نعرف أن الجنة موجودة الآن، وأن النار موجودة الآن، وما صفتها وما عدد أبوابها، وتفاصيل أحوال أهل الدارين، وما سيحصل في يوم القيامة إلى آخر كل هذه التفاصيل، فهذا علم، بل هو أرقى وأشرف العلوم على الإطلاق.

وعرفنا صفات الله سبحانه وتعالى، وأفعاله، وما يتعلق بتوحيده عن طريق الوحي أيضاً.

إذاً: لا سبيل لإدراك هذه الحقائق إلا عن طريق الوحي، فالقوم في مناقشتهم وبحثهم في هذا الأمر، ووسائلهم في ذلك، لا يمكن أبداً أن تقدم جواباً شافياً يطمئن إليه القلب، وتدخل إليه النفس عن ديانة الإنسان الأول.

فالمصدر الوحيد الذي يمكن من خلاله أن نستشرف هذا الغيب، وأن نقف على وجه الصواب فيه، هو الوحي الإلهي الذي يطلعنا على حقائق الماضي والحاضر والمستقبل التي تغيب عن عقولنا وحواسنا، إنه القرآن الكريم كلام الله عز وجل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلاً من عزيز حميد.

وحيث أنّا قد وصلنا إلى هذه النقطة فلنزدها إيضاحاً، وهي: أن القرآن الكريم وحده فقط هو مصدر معرفة حقيقة تاريخ هذه العقيدة، فليس هناك كتاب في الأرض يوضح تاريخ العقيدة بصدق إلا كتاب الله تبارك وتعالى، ففيه علم غزير في هذا الموضوع، وعلم البشر لا يمكن أن يدرك هذا الجانب إدراكاً وافياً للأسباب التالية:

أولاً: أن ما نعرفه من التاريخ البشري قبل خمسة آلاف عام قليل، أي: لو أردنا أن نتعرف على حقائق التاريخ البشري فقط منذ خمسة آلا سنة صعُب علينا جداً أن نصل إلى الأمور على حقيقتها.

وأما ما نعرفه من أحداث لهذا التاريخ البشري قبل عشرة آلاف سنة فأقل من القليل، أما قبل ذلك فهي مجاهيل لا يدري علم التاريخ عنها شيئاً، لذا فإن كثيراً من الحقائق ضاع بضياع التاريخ الإنساني.

السبب الثاني: أنّ الحقائق الموجودة لدينا عن تواريخ الأمم السابقة اختلطت بباطل كثير، بل ضاعت في أمواج متلاطمة في محيطات واسعة من الزيف والدجل والتحريف.

وأقرب دليل على ذلك: أنك لو أردت أن تؤرخ لتاريخ جماعة معينة، أو شخصية معينة حتى من العصر الحديث الذي نعيشه لشق عليك أن تدرك الحقائق على ما هي عليه؛ لأنّه يدخلها الكثير من التحريف والدجل والأغراض الخبيثة التي تحاول أن توجه هذه الأمور لخدمة أشياء معينة.

فكيف نصل إلى حقائق تاريخ يمتد إلى الفجر الأول لهذا البشرية.

أما السبب الثالث: فهو أن قسماً من التاريخ المتلبس بالعقيدة، لم يقع في الأرض، بل وقع في السماء، وذلك ما وقع من خلق آدم عليه السلام، فإننا نرجع إلى فجر البشرية، وهذا بدأ بخلق آدم عليه السلام، ثم خلق حواء، ثم نزولهما من الجنة إلى الأرض .

فمن أين سنصل إلى الجنة حتى نأتي بذلك التاريخ؟! وذلك إذا قلنا: إنها جنة المأوى.