فن أصول التفسير [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

فقد أخذنا جزءاً مما يتعلق بسورة الطور، وأيضاً طرفاً مما يتعلق بسور من سور التدبر، لتكون هذه الأفكار مجالاً للتدبر في المستقبل، وإن كان بقي أشياء كثيرة جداً، مثل: قضية تناسب الألفاظ في الآيات، وتناسب الآيات مع بعضها، وأسماء الله الحسنى ومناسباتها للآيات، وهذا من أنفس علوم القرآن، وأقصد ما يتعلق بأسماء الله سبحانه وتعالى، وعلاقتها أو مناسبتها في الآيات التي تذكر، ثم أثرها إما على النفس وإما على الشرع، حسبما يقتضيه السياق الذي مرت به هذه الأسماء.

فهذه مجالات متعددة وكثيرة جداً، وتدلنا بالفعل على أن القرآن معين لا ينضب، وأنه مع تقادم العهد إلا أن المسلم لا زال إلى اليوم يستطيع أن يخرج من هذا القرآن المعلومات الكثيرة التي تبهر العقول، ولا زال الله سبحانه وتعالى ينعم علينا نحن المسلمين بمن يجدد في علوم كثيرة، ومنها هذا العلم، ولهذا إذا نظرت إلى كتب التفسير المعاصرة ستجد القريب منا من المتأخرين، ستجد مثل كتاب الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، وفيه أفكار وقضايا جديدة لم يسبق إليها فيما يتعلق بربط الآيات بعضها ببعض.

وكذلك تجد مثل تفسير الشيخ الإمام الطاهر بن عاشور ، وفيه نفائس وبدائع لم يسبق إليها.

وكذلك مثل عمل الشيخ عبد الرحمن حبنكة ، وإن مشى فيه على طريقة ترتيب السور على حسب النزول، إلا أنه أيضاً أتى بشيء بديع في مواطن كثيرة، وغيرهم ممن ألف في التفسير، لكن استيعاب هذه المنظومة الكبيرة، سيكون صعباً على الفرد، ولهذا لا يطلب من المفسر أن يكون ملماً بكل هذه الأفكار، لكن على الأقل يكون ملماً بما يستطيع أن يكون نافعاً له من جهة، وأن يكون نافعاً لمن يسمع منه من جهة أخرى؛ إذ ليس كل ما يعلم يمكن أن يقال، ويحكى في كل مجلس، فلكل مجلس ما يخصه، ولكل جماعة ما يمكن أن تكلم به؛ لكي تكون الفائدة أكثر.

على سبيل المثال: من لطائف ما مر علي من عمل المتدبرين أحد الأطباء وهو استشاري يقول: رجعت إلى نفسي فنظرت إلى أني مع القرآن في تقصير، فقررت أن يكون عندي حزب للحفظ، مقداره أربع آيات، مع تفهم لما في هذه الآيات الأربع من المعاني ومن القضايا، فمرة طرح علينا سؤالاً أو نوعاً من تدبر له، فاشتد عجبي، وهذا يجعلني بالفعل أكون أكثر يقيناً بأن معلومات القرآن لا يمكن حصرها! وأيضاً أن المتدبرين لا يمكن أن يكونوا فلاناً، وفلاناً فقط، بل كما قال الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، فالذي يعطي عمره القرآن يخرج بنفائس ولطائف لم يسبق إليها.

في قوله سبحانه وتعالى: تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:4-5]، ثم قال: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [طه:6]، حصل بين الآيات هذه مع قربهما من بعضهما تقديم وتأخير، ففي الأولى قدم الأرض على السموات، وفي الثانية قدم السموات على الأرض.

يقول: جلست أتأمل! ما سر تقديم الأرض في الأولى؟ وتقديم السموات في الثانية؟ مع أن الآيتين متقاربتان، فظهر له أن قوله سبحانه وتعالى: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:1-2]، الإنزال من السماء إلى الأرض، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [طه:3]، والذي يخشى يكون في الأرض، تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى [طه:4]، في الشأن الأول المذكور في القرآن وما يتعلق به، هو لأهل الأرض، فناسب تقديم الأرض على السماء، أما في الآية الأخرى لما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه:5]، فناسب تقديم السماوات على الأرض؛ لأن السماوات أقرب إلى العرش منها إلى الأرض، فمثل هذه المناسبة اللطيفة قد يكون مما انفرد هو بالنظر فيها وإخراجها، وقد يكون سبق لكنه لم يطلع عليه، لكن مع ذلك كون الواحد يتأمل ويصل إلى هذه النتيجة التي وصل إليها أحد قبله، دون أن يطلع عليه، فلا شك أن هذه نعمة من الله.

والمقصود أننا مهما جلسنا نستنبط من آيات الله سبحانه وتعالى، ونذكر الفوائد والمسائل المتعلقة بالآيات، فإننا يمكن أن نجلس من صلاة العشاء إلى الفجر في سورة واحدة، ونحن نستخرج هذه الفوائد والنفائس، ولا شك أن هذا مما يدل على عظمة القرآن، ومجده؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصفه بالمجد، فهو مجيد في ألفاظه ومجيد أيضاً في معانيه، ومجد المعاني، أي: أن معانيه متسعة.

سنأخذ في درسنا كتاب الرقاق من صحيح البخاري ، ولعلنا نأخذ بعض الأمثلة ونربطها بالآيات؛ لكي يكون عندنا أيضاً حس أو نوع من التدبر في قضية ربط الأحاديث بالآيات.

باب ما جاء في الرقاق، وأن لا عيش إلا عيش الآخرة.

وروى بسنده عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فأصلح الأنصار والمهاجرة )، وروى بسنده عن سهل بن سعد الساعدي قال: ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، وهو يحفر، ونحن ننقل التراب، ويمر بنا فقال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة )، لو نظرت إلى هذا الحديث وأنت تفسر القرآن، أين يمكن أن تضع هذا الحديث وأن تستفيد منه، أو توظف هذا الحديث من الآيات القرآنية، هذا المقطع: لا عيش إلا عيش الآخرة، يتناسب مع قوله تعالى: وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:17]،

وتتناسب مع قوله: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت:64]، إذاً هذا حديث واحد يمكن أن نستفيد منه في أكثر من آية، فإذا كان حاضراً في ذهنك، وأنت تفسر، أو وأنت تقرأ السنة النبوية، ولنفترض أن واحداً منا قرر أن يكون له ورد من القراءة في صحيح البخاري أو في صحيح مسلم أو في أحد الجوامع التي تجمع الأحاديث الصحاح، مثل: كتاب جامع الأصول أو غيرها، ويكون في ذهنه وهو يقرأ الأحاديث أن يربطها بآيات، طبعاً قد يكون حديث له آيات عديدة، وحديث إنما له آية واحدة وهكذا، فانظر كم هي الفوائد التي يمكن أن تجنيها من خلال هذا الربط؟

قوله: (فاغفر للأنصار والمهاجرة) هذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يمكن أن نربط هذه الجملة: فاغفر للأنصار والمهاجرة بشيء من الآيات؟ نعم، يمكن ربطها بقوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا [الحشر:10]، وقوله: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غافر:7]، وهذه أعم من قوله: (فاغفر للأنصار والمهاجرة)، فهم يدخلون فيمن تابوا واتبعوا سبيله، وقوله: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ[التوبة:100]، وأيضاً قوله: لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ[التوبة:117].

فإذاً عندنا إمكانية ربط بين الأحاديث والآيات.

ومن باب الفائدة، هذا الربط قد يقرب بحيث يكون واضحاً وضوحاً بيناً، وقد يبعد، أما إذا كنت تتكلم عن موضوع فهذا أوسع، لكن نحن نحاول أن نوجد علاقة بين الآية والحديث.

مثال آخر قال: باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها:

روى بسنده عن عقبة بن عامر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً، فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرطكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها )، يعني الدنيا.

عندنا جملة من المقاطع نفككها الآن، قوله: (إني فرطكم)، ما معنى فرطكم؟ سابقكم، ولو أردنا أن نستشهد بآية على أن الفرط هو السابق، فما هي الآية التي ورد فيها فرط بمعنى سابق؟

قال تعالى: وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ [النحل:62]، من الفرط، أي: سابقون إليها، وهذه أحد توجيهات هذه القراءة، والآية فيها قراءات متعددة.

قال: (وأنا شهيد عليكم) هذا فيها آية صريحة وهي قوله: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].

قال: (وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن) ورد فيها آية: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، تدل على أن الحوض هو الكوثر.

قال بعد ذلك: ( وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو قال: مفاتيح الأرض )، يمكن ربطها بقوله تعالى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ?[النور:55]، وإن كانت العلاقة ضعيفة، لكن فيها معنى الإيراث، قال: (أعطيت مفاتيح خزائن الأرض)، هذه خاصية من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ممكن ربطها بقوله: إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ ?[الأعراف:128]، وهناك إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطي مفاتيح الأرض، وهو ما وقع بعده صلى الله عليه وسلم، فهو شاهد لذلك، ولهذا فتح المسلمون مشارق الأرض ومغاربها.

قال بعد ذلك: ( وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها )، يعني: تنافسوا في الدنيا، هذا فيه إشارة إلى فتنة الدنيا، وفتنة المال، قال: (إني أخاف عليكم)، والإشارة إلى الخوف من فتنة الدنيا واردة في مثل قوله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، فهذا أقرب إلى هذا.

وكذلك قوله: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [لقمان:33]، ومثل هذه أقرب، فلو أن المتدبر أخذ الأحاديث النبوية وبدأ ينظر فيها بهذه الطريقة، فإنه سيجد الترابط الكبير جداً بين معاني القرآن، ومعاني السنة، وكلما كان أحفظ للسنة وأبرع في فقهها كان أقوى في الربط بين الآيات والأحاديث، وأبرع من كان في ذلك هو ابن كثير وإن لم يكن هو أبرع المفسرين في ربط السنة بالقرآن، ولذلك آية رقم واحد وثمانين من سورة البقرة: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81]، هذه الآية لو تأملتموها، هل يمكن أن تأتوا بحديث له علاقة بمعنى الآية؟ سأعطيكم حديث ذكره ابن كثير في هذا الموطن، قال: قوله: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة:81]، يعني: أحاط به الشرك، وهذا شبيه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إياكم ومحقرات الذنوب، فإن مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا ببطن وادٍ، فجاء ذا بعود، وذا بعود، حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب، متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه )، فهو ربط بين هذا الحديث وهذه الآية، مع أن الناظر في الحديث والآية قد يجد فيها التناسب الذهني، التناسب بالنظرة الأول قد يكون بعيداً، لكن إذا تأملت تجد أن هناك تناسباً من جهة المعنى، وهذا أيضاً بحث لطيف، وهي أننا ننظر العلاقات التي تكون في الربط بين السنة النبوية والقرآن، يعني: ما هي أوجه العلاقات التي يمكن أن يربط بها بين السنة والقرآن؟ لأن هذا النوع من ربط السنة بالقرآن هو من اجتهاد المفسر، فلا بد أن يكون دائماً بين الآية والسنة الوسط الذي هو الاجتهاد العقلي، وأن يعتمد على شيء؛ على لغة، على سياق قرآني، على سياق الحديث، اعتمد على كلام صحابي، اعتمد على واقعة معينة، يعني: ما هو الشيء الذي اعتمد عليه؟ بحيث أنه ربط هذه مع هذه، اعتمد على تشابه، تناسب ألفاظ، تناسب معاني، كل هذا يمكن أن يبحث من خلال ما يتعلق بهذه الأحاديث.

نرجع إلى الفقرة الأخيرة: الاختلاف في الأسباب والأنواع وطرق التعبير عن التفسير، وسنأخذ منها قسمين القسم الثاني والثالث؛ لأنها ألصق بموضوع التدبر.

الإشكالية في هذا الموضوع الذي هو قضية الاختلاف، أن الموضوع يحتاج إلى مقدمات، فعندما تتكلم عن أنواع الاختلاف، وكيفية معالجة الاختلاف، هذا موضوع طويل جداً.

وهنا أنبه على قضية مهمة جداً تتعلق بقضية طلب العلم، فالملاحظ أن الذين يحضرون الدورات كثر، ويحرصون عليها، ويواظبون، ويكتبون، ويسجلون، لكن تقع الإشكالية في عدم المتابعة، وعدم المذكرة والمراجعة، فلا يستفيد الإنسان من هذه الدورات إذا خرج منها، ولم يتابع القراءة بنفس الموضوعات التي أخذها، فيحاول أن يجتهد في تطبيق ما أخذ، خصوصاً أن في بعض الدورات تكون عنده دورات تطبيقية، بإمكانه أن يقوم بقراءة، وعمل نماذج على نفس الطريقة التي أخذها، فهذه الدروس المتعلقة بالاختلاف من الأشياء التي يمكن تطبيقها، ولننظر الآن شرحاً موجزاً يتعلق بالاختلاف.

قد يقول قائل: الاختلاف يقابله الإجماع، فلماذا لا نتحدث عن الإجماع؟ الإجماع له حديث خاص، لكن نحن بحاجة إلى فهم الخلاف أكثر من حاجتنا إلى ما وقع فيه الإجماع، فالذي ما وقع فيه إجماع لا يقع فيه إشكال، والذي يقع فيه خلاف يقع فيه إشكال، كيف نتعامل مع هذا الاختلاف؟

أسئلة لا بد منها عند وجود اختلاف في التفسير

الاختلاف إذا جاءنا مثل: قال فلان، قال قتادة ، قال مجاهد ، قال ابن عباس ، قال ابن مسعود ، أنت أمام أقوال متعددة، إذا نظرت إليها، أول ما تسأل نفسك هذا السؤال: هل هذا الاختلاف يرجع إلى معنى أو إلى أكثر من معنى؟

ستفكك هذا الخلاف. وبقي عندنا إشكال ستقول لي: كيف أعرف أن هذا يرجع إلى معنى، وهذا يرجع إلى أكثر من معنى؟ الذي يرجع إلى معنى في الغالب يكون التعبير فيه عن اللفظ بمعانٍ متقاربة، أو يكون تعبيراً عن اللفظ بمثال له، أو يكون تعبيراً عن اللفظ بلازمه، أو يكون تعبيراً عن اللفظ بجزء من معناه، أو يكون تعبيراً عنه بنوع من أنواعه، وهذه كلها تدخل؛ لأنها ترجع إلى معنى واحد، وكل واحدة من هذه تحتاج إلى مثال، ولعلنا نكتفي ببعض الأمثلة لبعض هذه الأنواع التي ذكرناها.

النوع الأول: الذي يرجع إلى معنى واحد، والنوع الثاني يرجع إلى أكثر من معنى، فإذا رجع إلى أكثر من معنى تنظر فإن كانت المعاني معنيين، وهذا هو الغالب، فهل إذا قيل بأحدهما يبطل الآخر أو لا؟ فإذا بطل الآخر نسميه اختلاف تضاد، وإذا احتملت الآيات كل الأقوال نسميه اختلاف تنوع.

إذاً: إذا كان لها أكثر من معنى، فالتضاد لا يؤثر في الاختلاف، بمعنى: أنه قد نبطل أحد الأقوال ولا يؤثر، وتبقى الأقوال الأخرى محتملة.

فالمقصد من ذلك أننا ننظر إلى احتمال الآية للمعاني جميعاً، فقد تحتملها بصيغة الواو، وقد تحتملها بصيغة أو، وقد لا تحتملها فتكون بصيغة إما!

إذا كانت احتمالاتها بصيغة الواو، فيمكن جمع هذه الأقوال في معنى اللفظ، وإذا احتملتها لكن على صيغة أو، يعني هذا أو هذا، على سبيل التنويع، فهذا قسم ثاني من اختلاف التنوع.

اختلاف التنوع الذي يرجع إلى معنى واحد

نأخذ الآن النوع الأول: الذي ترجع فيه المعاني، ويرجع فيه الاختلاف إلى معنى واحد. أي أنه يعبر عن اللفظ بمعانٍ متقاربة.

ونأخذ له مثالاً: وهو قوله سبحانه وتعالى: وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ [الانشقاق:17-18]، وسق واتسق، عندما نرجع إلى قوله: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ)، بعضهم قال: وما جمع، وبعضهم قال: وما حوى، وبعضهم قال: وما ضم، وبعضهم قال: (وما وسق) نجومها وقمرها. وعندما ترجع إلى مادة وسق في اللغة، الواو والسين والقاف، فإنها تدل على جمع، ومنه سمي الوسق وسقاً؛ لأنه يجمع في الموزون.

نأتي الآن إلى هذه الأقوال: جمع.. حوى.. ضم، هل بينها خلاف؟ هي في النهاية ترجع إلى معنى واحد، أما من قال بأن (ما وسق): نجومها وقمرها، فهذا عبر عن نوع؛ لأن النجوم والقمر هو مما يحويه ويضمه ويجمعه الليل.

إذاً هذا تعبير عن هذا اللفظ الذي هو وسق بمعانٍ متقاربة، لكن ماذا أستفيد عندما أعرف أنهم عبروا عن هذا اللفظ بمعانٍ متقاربة، هل يمكن لي أن أضيف أنواعاً أخرى أو ما يمكن بناءً على هذا؟

لما قال: وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ [الانشقاق:17]، قال: ما جمع، وما ضم، وما حوى، إذاً مما يجمعه الليل ويضمه ويحويه، ليس فقط النجوم والقمر، فأنا يمكن أن أذكر نوعاً من الأنواع التي يحويها الليل، غير الأنواع التي ذكرت، فحينئذٍ عرفت دلالة اللفظ التي هي: حوى، جمع، ضم، وأيضاً عرفت الأنواع التي تدخل في دلالة اللفظ، وبعد ذلك أستطيع أن أضيف ما يدخل ضمن هذه الدلالة، وكذلك أوظفه في حال إفادة السامعين، بمعنى أنك لو كنت تتكلم عن عظمة السماء، وخلق الله في السماء، وعظمته في هذا الخلق، أو تتكلم عن الليل وعظمة الله في خلقه لهذا الليل وما فيه من منافع وما فيه من أمور أخرى، وجئت بقوله: وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ [الانشقاق:17]، ألا يكون عندك مساحة وقدرة من التعبير الإنشائي في التعبير عما وسق في هذا الليل، عما يجمعه ويحويه هذا الليل، فهذا الليل فيه أشياء كثيرة حواها، فتبدأ تذكر كذا، وكذا، وكذا، ثم يمكن أن تربط هذا بقوله: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3]؛ لأن فيه إشارة إلى ما يقع في الليل من شرور، فإذاً الليل يحوي الخير ويحوي الشر، والمتنبي أشار إلى ما يحويه الليل من منافع للإنسان، قال:

وكم لظلام الليل عندي من يد شهدت بأن المانوية تكذب

المانوية: الذي يقولون بأصلين، أصل الظلمة وأصل النور، وأن الظلمة ما يأتي منه إلا الشرور، فالمتنبي يقول: أنتم يا المانوية كذابون؛ لأن الظلمة هذه أفادتني؛ فقد هرب من مصر، من إمرة كافور بالليل، فاستفاد من ظلمة الليل في الهروب، فيقول: أنتم كذابون؛ لأني أنا استفدت من هذا الليل فهربت.

المقصود من ذلك أنه في قوله: وَمَا وَسَقَ [الانشقاق:17]، تستطيع أن تفسر أو أن تعبر للناس عن بيان شيء من عظمة الله سبحانه وتعالى في ما يتعلق بالليل من خلال معرفتك بمعنى وسق من جهة، وأيضاً ما يمكن أن تدخله من أنواع أخرى في هذه الدلالة.

مثال آخر: هو أيضاً مهم جداً، بل هو من الأشياء التي تحتاج حقيقة إلى بحث.

عندنا في قوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [البقرة:49]، أنا أريد أن تنتبهوا للنص القرآني في اختيار الألفاظ، قال: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة:49]، الآن وازنوا بين الأبناء والنساء، هل هم في مرتبة واحدة، في طبقة واحدة؟ الابن صغير، والنساء كبيرات، هل كان الواقع أنهم يستحيون النساء؟ لا، كانوا يستحيون الفتيات، فلما قال: (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) خالف بين الطبقتين، طبقة المذبوح، وطبقة المستبقى، وأحد المفسرين من براعته، وهو ابن جريج المكي توفي سنة مائة وخمسين، من أتباع التابعين، قال: وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة:49]، أي: يسترقون نساءكم، يعني يجعلوهن رقيقاً وخدماً، وهذا القول لـابن جريج لو ناقشناه من جهة اللغة، من جهة مفردة، نقول: الاستحياء في اللغة من الحياة، ولا تدل على معنى استرق من الرق إطلاقاً، فهاتان دلالتان مختلفتان، هذه دلالة وهذه دلالة، إذاً كيف فهم ابن جريج هذا الكلام؟ فهمه من الآية، فقال: هم يستحيون البنات؛ من أجل أن يكبرن فيصرن خادمات، وهذا الفهم هو في الحقيقة لازم المعنى، ودلالة اللازم وفهم اللوازم من الأشياء التي تفتح باباً من العلم، ومن الاستنباط كبيراً ونعني بلازم المعنى نتيجة المعنى، ومآل المعنى، وما تأوي إليه، أو ما يأوي إليه هذا المعنى، وهو مجال رحب واسع جداً، وهو محل للتأمل والتفكر والتدبر.

والأمثلة في هذا الباب عند السلف بالذات كثيرة، فإذاً ماذا نستفيد نحن من مثل هذا في حالة التدبر؟ هو النظر في اللوازم والمآلات والنتائج لهذه المعاني أو الألفاظ التي يذكرها الله سبحانه وتعالى.

وهذه اللوازم أحياناً قد تكون طريقاً إلى العمل، كيف تكون طريقاً للعمل؟

لما قال الله سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل: ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ?[البقرة:52]، هل مغفرة الله سبحانه وتعالى وعفوه خاص فقط ببني إسرائيل؟ أو هو عام لكل من أذنب؟ هو عام لكل من أذنب، والخبر وإن جاء في بني إسرائيل إلا أنك أيضاً أنت تعلم أنه ما دام عفا عن هؤلاء، وهم من عبيده، فمن باب أولى أن يعفو عنك، وأنت أيضاً من عبيده.

قال: ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:52]، يعني من لوازم ذلك، أن من لا يشكر الله فإنه قد أخل بجانب الشكر في مثل هذا الأمر في العفو.

فأنت تبدأ تتأمل وتنظر في قضية لوازم المعاني، وهو باب واسع جداً.

عندنا أيضاً من الأنواع التي ذكرناها جزء المعنى، مثلاً في قوله: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ [مريم:31]، هذه مباركاً تحوي أجزاء من المباركية ممكن أن تحكيها، (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا)، أي: معلماً للخير، (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا)، أي: مصلياً له، (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا)[مريم:31]، أي: تالياً وقارئاً للتوراة؛ لأنها نزلت في يحيى عليه السلام.

فانظر إلى قوله: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا)، تجد أنه لفظ يحتمل أجزاء متعددة، وأنواعاً متعددة، كيف أيضاً نستفيد من هذا؟ يكون ذلك بأن نختار لكل مقام مقالاً، مثلاً: إذا كنت تريد أن تستفيد من قول يحيى عليه السلام: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ[مريم:31]، فطلب المباركية أصلاً هو مطلب للمسلم ولهذا من أدعية المسلمين بعضهم لبعض أن يقول: بارك الله فيك، أي: أنزل عليك من بركاته.

فإذا حلت عليك بركة الله سبحانه وتعالى، فإنه قد جعلك مباركاً.

كذلك إذا كنت تتكلم عن بر الوالدين، وبر الوالدين جزء من المباركية للعبد، فأنت ممكن أن تأتي بقضية: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ [مريم:31]، أن من أنواع البركة التي وقعت لـيحيى عليه السلام أنه كان باراً بوالديه، وكذلك تعلم العلم، وتعليم العلم، وإنفاق الجاه، كل هذه تدخل ضمن المباركية؛ لأنها داخلة بالمعنى العام في قوله: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ [مريم:31].

فإذاً المقصد من ذلك أننا نستفيد منها توسيع أجزاء دلالة المباركية، والاستفادة منها في حال الوعظ.

كذلك حال التدريس، مثلاً: وأنت تدرس طلاباً في الابتدائي غير ما أنت تدرس طلاباً في المتوسط، غير طلاب الثانوية، غير طلاب الجامعة، غير ما بعد الجامعة، فكل واحد ستعطيه من المقال وأنت تفسر هذه الآية غير ما تعطي الآخر، فهذا يتم من خلال معرفة، أو توظيف مثل هذا النوع من الاختلاف، الذي هو اختلاف التنوع الذي يكون تعبيراً عن اللفظ بجزء من معناه، فأنت تختار من جزء المعنى ما يتناسب مع من تتحدث معه، والتمثيل للفظ العام بنفس فكرة جزء المعنى.

مثال آخر قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، فقوله: إِنَّ الْحَسَنَاتِ )) قيل: الصلوات الخمس، وبعضهم قال: لا إله إلا الله، والحمد لله، وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وبعضهم قال: الحسنات عام، والصواب: أن الحسنات عام، يشمل أي حسنة يقوم بها الإنسان، لكن قوله: (يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) السيئات هنا خاص بالصغائر؛ لأن الكبائر تحتاج إلى مغفرة الله سبحانه وتعالى، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: ( الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر ).

فقوله: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، ما دام علمت أنه عام، وكنت تريد أن تنصح مثلاً من يتعاطى المخدرات، أو من يشرب الدخان أو عاصياً لوالديه، أو أو .. إلخ، عندما تتلو عليه هذه الآية تستطيع أن توظف هذا العموم في مثل هذا الأمر فتقول: إن أنت تركت هذا البلاء الذي هو السيئة وعملت الحسنات، فإنها تميت هذه السيئات التي عملتها، إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114].

فإذاً هناك إمكانية لتوظيف مثل هذا حتى في جانب الوعظ والإلقاء والتدريس.

وبالنسبة لقضية التدبر في العموم، يعني: النظر في عمومات القرآن، فإن الأصل هو العموم، في الخبر أو في الحكم، و الطبري له كلام مهم ونفيس في هذا، ومن ذلك ما جاء في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، فقد نبه إلى أن السلف رحمهم الله تعالى ورضي عنهم كانوا يفهمون من أخبار الله وأحكامه العموم، يعني: الأصل عندهم هو العموم في هذه الألفاظ والأحكام، واستدل بتفسيرهم لقوله: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، بقوله: لو ذبحوا أي بقرة لأجزأتهم، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم، فهذا العموم تستفيد منه في مجالات متعددة.

مثال آخر في قوله تعالى: لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]، هل أحد يستطيع أن يحصي نعم الله عليه؟ لا يستطيع، قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، فانظر أنت، وأنت تتحدث عن أي نوع من أنواع النعيم، وتأتي بهذه الآية: لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]، وتحكي نفس النعمة التي يعيشها الإنسان، فحينئذ يكون لها أثر كبير جداً عليه، وأنت تقرؤها وتنظر إلى ما أنعم الله عليه به، أنعم عليك بكذا، وبكذا وبكذا، ولا شك أن لها أثراً أيضاً على نفسك، فيحصل عندك من الشعور بمعنى الآية أكثر مما كان لو كنت غافلاً عما أنعم الله عليك، والدليل على هذا أن نبينا صلى الله عليه وسلم استدل بهذه الآية وهو يخاطب الصاحبين لما خرجوا كلهم جياعاً يتلمسون أكلاً، وهم أفضل البشر في ذلك الوقت وأفضل ممن جاء بعدهم على الأرض، فالرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر ثم عمر ، خرجوا يطلبون الأكل، حتى حصل لهم ما حصل، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لتسألن عن هذا النعيم )، وهو من تأولات الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ?[التكاثر:8].

فانظر كيف فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذه الآية مما يعطينا هذه الفكرة التي نتكلم عنها في قضية التدبر، وقضية توظيف هذا التدبر في حال إلقاء الموعظة، وفي حال إلقاء الدرس، وكيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم استغل هذا الحدث وذكرهم بهذه الآية قال: ( لتسألن عن هذا النعيم )، بعد أن شبعوا وأكلوا.

وهذا مثال من أمثلة توظيف هذه الآيات في قضية الوعظ والتدريس، أو حتى في قضية التدبر الذاتي.

اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى

نأتي الآن إلى اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى.

قلنا: إن اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، إما أن تحتمل الآية المعاني، وإما أن لا تحتملها، واحتمال الآية المعاني يمكن لنا أن نوظف فيه أداة (أو) للدلالة على التنويع، أو (الواو).

مثلاً قوله سبحانه وتعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، ما هو البيت العتيق؟ جاء في آية أخرى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ [البقرة:125]، إذاً البيت العتيق المراد به مكة، الذي هو الكعبة، وهناك من يقول: وهو البيت المعمور على قول، وهنا فائدة: إذا صرت تفسر القرآن والآية فيها أكثر من احتمال، والاحتمالات صحيحة فاحرص جداً إذا اخترت أحد الأقوال أن تقول: على قول، على وجه؛ لكي تنبه السامع إلى أن هناك معاني أخرى وهي فيها قوة واحتمالية صحة.

وقوله: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، قيل العتيق: القديم، وقيل العتيق: المعتق من الجبابرة، ولا زال لفظ العتيق يستخدم حتى في الألفاظ العامة، فتجد العتيق بمعنى القديم، والعتيق بمعنى المعتق من الجبابرة أيضاً لا زال يسمى به؛ ولهذا إذا أعتق رجل مثلاً من الرق يقولون: فلان العتيق، أو عتيق بني فلان أو يسمى بعد عتقه عتيقاً، حتى يكون اسماً له.

الآن ننظر في المعنى، هل البيت قديم، أو البيت معتق من الجبابرة؟ يعني حماه الله سبحانه وتعالى. وهذا المعتق من الجبابرة ما الذي يدل عليه من الآيات؟

الذي يدل عليه قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1]، وقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا [العنكبوت:67]، فوصفه بالأمان، وأيضاً قصة أصحاب الفيل تدل على هذا القول: أن العتيق هو المعتق من الجبابرة.

أما الآية التي تدل على أنه قديم فقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96]، فهذا القول له وجه، ودلالة من القرآن، وهذا القول له وجه ودلالة من القرآن. فعندما أجمع بين القولين أقول: وَلْيَطَّوَّفُوا [الحج:29]، أي: بالبيت القديم، والمعتق من الجبابرة، فيمكن جمعها مع بعض، فهو قديم ومعتق من الجبابرة؛ لأنه فيه هذا وفيه هذا معاً، يعني: الآية تحتملهما معاً من دون تنويع، يعني: هذا وهذا.

نأخذ مثالاً للثاني، في اختلاف التنوع في سورة الطور، وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ المَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [الطور:1-5] السقف واحد الذي هو السماء، أو الكعبة أو البيت الذي في السماء، فإذا قلنا: البيت المعمور وأردنا أن نحكي الخلاف نقول: البيت المعمور الذي في السماء أو الكعبة، يعني: هذا بدلالة أو، وهذا محتمل وهذا محتمل، ونحن في مثل هذا لا نرجح، لكن نقول: هذا داخل ضمن احتمال التنوع.

مثال آخر قوله تعالى: وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ [الطور:6]، المسجور بمعنى الممتلئ، أو المحبوس، أو الموقد، أو الفارغ يعني الأقوال متنوعة.

مثال آخر قوله تعالى: وَالطُّورِ [الطور:1]، الطور هو مطلق الجبل أو طور سيناء.

إذاً عندنا أمثلة كثيرة جداً لقضية (أو) هذه، التي على سبيل التنويع، ولاحظوا الفرق بين ما يمكن جمعه وما لا يمكن جمعه على سبيل التنويع، الفرق بينهما أنه في الأول ممكن صياغة الجملة، وأن الآية تحتملها معاً في آن واحد، إذا كانت بالواو، أما إذا كانت بــ (أو) فإنها تحتمل هذه المعاني، لكن على سبيل التنويع، يعني هذا أو هذا.

على سبيل المثال: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، لو كنت تتكلم عن تاريخ مكة، وقدم مكة، تختار القول الأول: أن العتيق بمعنى القديم، ولو كنت تتكلم عن الأمن في مكة، تختار القول الثاني، فإذاً أنت وظفت الآية والمعاني الواردة فيها في أكثر من موضوع.

كذلك عندما نأتي إلى (أو)، صحيح أننا نستطيع أن نجمع بينهما، لكن هنا الأصح استخدامك للمعاني الواردة على سبيل التنويع أو بعد أن يثبت عندك أن هذا اختلاف على سبيل التنويع، وهي نفس القضية أن تستخدم المعاني الواردة في الاختلاف في الأماكن المناسبة لها، لكن يحسن دائماً أن تبين أنها على وجه من التفسير للإشارة إلى وجود وجه آخر صحيح.

اختلاف التضاد في التفسير

أما عند اختلاف التضاد الذي هو إما وإما، فليس فيه اختيار، فلا بد من الترجيح، ففي اختلاف التضاد لا بد من الترجيح، وفي اختلاف التنوع يرجع إلى أكثر من معنى ولا يلزم الترجيح، وإن رجحنا فهو من باب تقديم القول الأولى عندي والأقرب عندي فقط، ولا يعني أن غيره ليس بصواب مطلقاً، بل هناك صواب، لكن هذا أقوى منه.

وهناك مثال على اختلاف التضاد، مثلاً قوله تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107]، افترض أنه طلب منك أن تتحدث عن أسرة يعقوب عليه السلام من خلال القرآن، أو قيل لك: تحدث عن إسحاق وأسرته من خلال القرآن، طبعاً يعقوب له جد، وله أب، وله جد تكلم عنهم، وله أبناء وتكلم عنهم، لكن الإشكال في الذبيح: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107]، فقوله: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107]، هل تدخلها في قصة إسحاق عليه السلام، مع أن جمهور السلف يقولون: إن الذبيح إسحاق، وجمهور آخر من السلف أيضاً يقولون: إن الذبيح إسماعيل ، بمعنى أن كثيراً من السلف قالوا هذا، وكثير من السلف قالوا هذا، وقضية الجمهور هذه أحياناً تكون نسبية، لكن كثير من السلف قالوا: إنه إسحاق ، وكثير من السلف قالوا: إنه إسماعيل، فأنت إذا ترجح عندك أنه إسماعيل، فمعنى ذلك وأنت تتحدث عن يعقوب عليه السلام، وعن أسرته وعن أبيه وعن جده، عندما تأتي إلى قوله سبحانه وتعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107]، فإنك لا تشير إلى هذا؛ لأنه ترجح عندك أن الذبيح ليس إسحاق؛ لأنه إما وأما، وعندما تتحدث عن إسماعيل عليه السلام، فإنك ستذكر وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ?[الصافات:107]، وتقول: هو إسماعيل وتأتي بما يتعلق بهذا الموضوع، مع الإشارة طبعاً إلى أنه قد قال قوم من السلف وغيرهم: أن الذبيح هو إسحاق، ولكنه قول غير صحيح، يعني مع جلالة من قال به، ابن عباس ورد عنده قول بهذا وقول بهذا، وليس هذا مجالاً لنناقش كيف نحرر هذا الخلاف؟

لكن على العموم، المقصد من هذا أنه كيف نستفيد من هذه الاختلافات إذا وردتنا.

من جهة أخرى فيما يتعلق بقضية الاختلاف، هناك شيء مهم في التعبير عن التفسير، هل هو تعبير بمثال، أو تعبير بلازم، أو تعبير بنتيجة، أو تعبير بمآل، أو تعبير بجزء من معنى .. إلخ؟ بحيث نستطيع أن نوظفه ونستفيد منه حال التفسير.

الاختلاف إذا جاءنا مثل: قال فلان، قال قتادة ، قال مجاهد ، قال ابن عباس ، قال ابن مسعود ، أنت أمام أقوال متعددة، إذا نظرت إليها، أول ما تسأل نفسك هذا السؤال: هل هذا الاختلاف يرجع إلى معنى أو إلى أكثر من معنى؟

ستفكك هذا الخلاف. وبقي عندنا إشكال ستقول لي: كيف أعرف أن هذا يرجع إلى معنى، وهذا يرجع إلى أكثر من معنى؟ الذي يرجع إلى معنى في الغالب يكون التعبير فيه عن اللفظ بمعانٍ متقاربة، أو يكون تعبيراً عن اللفظ بمثال له، أو يكون تعبيراً عن اللفظ بلازمه، أو يكون تعبيراً عن اللفظ بجزء من معناه، أو يكون تعبيراً عنه بنوع من أنواعه، وهذه كلها تدخل؛ لأنها ترجع إلى معنى واحد، وكل واحدة من هذه تحتاج إلى مثال، ولعلنا نكتفي ببعض الأمثلة لبعض هذه الأنواع التي ذكرناها.

النوع الأول: الذي يرجع إلى معنى واحد، والنوع الثاني يرجع إلى أكثر من معنى، فإذا رجع إلى أكثر من معنى تنظر فإن كانت المعاني معنيين، وهذا هو الغالب، فهل إذا قيل بأحدهما يبطل الآخر أو لا؟ فإذا بطل الآخر نسميه اختلاف تضاد، وإذا احتملت الآيات كل الأقوال نسميه اختلاف تنوع.

إذاً: إذا كان لها أكثر من معنى، فالتضاد لا يؤثر في الاختلاف، بمعنى: أنه قد نبطل أحد الأقوال ولا يؤثر، وتبقى الأقوال الأخرى محتملة.

فالمقصد من ذلك أننا ننظر إلى احتمال الآية للمعاني جميعاً، فقد تحتملها بصيغة الواو، وقد تحتملها بصيغة أو، وقد لا تحتملها فتكون بصيغة إما!

إذا كانت احتمالاتها بصيغة الواو، فيمكن جمع هذه الأقوال في معنى اللفظ، وإذا احتملتها لكن على صيغة أو، يعني هذا أو هذا، على سبيل التنويع، فهذا قسم ثاني من اختلاف التنوع.