حائية ابن أبي داود [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:

[وقل إن خير الناس بعد محمد وزيراه قدماً ثم عثمان أرجح

ورابعهم خير البرية بعدهم علي حليف الخير بالخير منجح ].

تقدم الكلام على فضل الخلفاء الراشدين بالإجمال، وهنا يذكر المصنف عليه رحمة الله تعالى ترتيب الصحابة من جهة الفضل، وذكر أن أفضلهم هو أبو بكر وعمر، ولذلك هنا قيد الأفضلية بما بعد محمد صلى الله عليه وسلم من أمته، وذلك أنهم خير البرية بعد الأنبياء والمرسلين، ولذا قال: [ إن خير الناس بعد محمد وزيراه ] أي: أبو بكر وعمر، والوزير: هو ما يشد به الأزر، وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام فضلهما في أحاديث كثيرة على غيرهما من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما من نبي إلا وله وزيران من أهل السماء والأرض، ووزيراي جبرائيل وميكائيل من أهل السماء، ومن أهل الأرض أبو بكر وعمر ) .

وقد ثبت أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى كانوا يفضلون في زمن النبي عليه الصلاة والسلام أبا بكر وعمر على غيرهم من الصحابة، ولذلك يقول عبد الله بن عمر كما في الصحيح: كنا زمن النبي عليه الصلاة والسلام نفضل فنقول: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نمسك، وقد جاء ذلك من وجه آخر عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى عند ابن سعد وأبي نعيم في كتابه الحلية، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد ولا يقول شيئاً، وهذا يدل على فضلهما ومكانتهما؛ وذلك أنهما من السابقين الداخلين في الإسلام، وممن آزر النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته.

فضل أبي بكر وعمر على غيرهم من الصحابة

وهذا هو أصل عام: أن السابقين أفضل من اللاحقين، وكلهم في فضل الصحبة يشتركون، وأن الله عز وجل قد رضي عنهم ورضوا عنه، إلا أن أبا بكر وعمر قد اشتركا في مؤازرة النبي عليه الصلاة والسلام والسبق في الصحبة، فاستحقا الفضل والمزية على غيرهم من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى.

وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام فضل أبي بكر وفضل عمر بن الخطاب عليهما رضوان الله تعالى صريحاً على غيرهم، كما جاء في الصحيح من حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل أي الناس أفضل أو أحب إليك؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: عائشة، قيل: من الرجال؟ قال: أبوها، قيل: ثم من؟ قال: عمر )، وهذا وصف في فضلهم على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد تقدم أن منهج أهل السنة والجماعة في بيان الفضل- أي: فضل الصحابة- أن السابقين أفضل ممن جاء بعدهم، وأفضل السابقين أهل بيعة الشجرة، ثم من شهد الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفضلهم العشرة المبشرون بالجنة، وأفضل العشرة الخلفاء الراشدون الأربعة، وأفضلهم أبو بكر وعمر، وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة: أنهم لا يقدمون أحداً من الصحابة على أبي بكر وعمر، ومن قدم أحداً من الصحابة على أبي بكر وعمر فقد ضل وتزندق، ولذلك إذا كان هذا في حق الصحابة أن يقدم أحدهم على أبي بكر وعمر، فكيف بغيرهم من أولياء الله سبحانه وتعالى، فكيف بغيرهم من خلق الله عز وجل من يقدم الضالين وغيرهم على الصحابة، لا شك أن ذلك ضلال وزندقة.

ولذلك يقول الإمام أحمد عليه رحمة الله: من قدم علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى على أبي بكر وعمر في الفضل لا في النسب، فهو رافضي زنديق، هذا فيمن قدم علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر، فكيف بمن قدم غير علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى ممن هو دونه في المنزلة، بل إن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى هو بنفسه يقدم أبا بكر وعمر على نفسه، ولذلك قد جاء في الصحيح من حديث محمد بن الحنفية وهو: ابن علي بن أبي طالب أنه سأل علي بن أبي طالب عن أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أبو بكر، قيل: ثم ماذا؟ قال: عمر، قال: فخشيت أن يقول: عثمان، فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا واحد من المسلمين.

فتقديم عثمان بن عفان على علي بن أبي طالب هو الذي عليه عامة أهل السنة، وذهب بعضهم وهم قلة من أهل السنة، وهذا ينسب لبعض السلف كـسفيان الثوري وغيره بتقديم علي بن أبي طالب على عثمان، ومن قدم علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى على عثمان فقد خالف.

وهذا هو أصل عام: أن السابقين أفضل من اللاحقين، وكلهم في فضل الصحبة يشتركون، وأن الله عز وجل قد رضي عنهم ورضوا عنه، إلا أن أبا بكر وعمر قد اشتركا في مؤازرة النبي عليه الصلاة والسلام والسبق في الصحبة، فاستحقا الفضل والمزية على غيرهم من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى.

وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام فضل أبي بكر وفضل عمر بن الخطاب عليهما رضوان الله تعالى صريحاً على غيرهم، كما جاء في الصحيح من حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل أي الناس أفضل أو أحب إليك؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: عائشة، قيل: من الرجال؟ قال: أبوها، قيل: ثم من؟ قال: عمر )، وهذا وصف في فضلهم على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد تقدم أن منهج أهل السنة والجماعة في بيان الفضل- أي: فضل الصحابة- أن السابقين أفضل ممن جاء بعدهم، وأفضل السابقين أهل بيعة الشجرة، ثم من شهد الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفضلهم العشرة المبشرون بالجنة، وأفضل العشرة الخلفاء الراشدون الأربعة، وأفضلهم أبو بكر وعمر، وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة: أنهم لا يقدمون أحداً من الصحابة على أبي بكر وعمر، ومن قدم أحداً من الصحابة على أبي بكر وعمر فقد ضل وتزندق، ولذلك إذا كان هذا في حق الصحابة أن يقدم أحدهم على أبي بكر وعمر، فكيف بغيرهم من أولياء الله سبحانه وتعالى، فكيف بغيرهم من خلق الله عز وجل من يقدم الضالين وغيرهم على الصحابة، لا شك أن ذلك ضلال وزندقة.

ولذلك يقول الإمام أحمد عليه رحمة الله: من قدم علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى على أبي بكر وعمر في الفضل لا في النسب، فهو رافضي زنديق، هذا فيمن قدم علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر، فكيف بمن قدم غير علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى ممن هو دونه في المنزلة، بل إن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى هو بنفسه يقدم أبا بكر وعمر على نفسه، ولذلك قد جاء في الصحيح من حديث محمد بن الحنفية وهو: ابن علي بن أبي طالب أنه سأل علي بن أبي طالب عن أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أبو بكر، قيل: ثم ماذا؟ قال: عمر، قال: فخشيت أن يقول: عثمان، فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا واحد من المسلمين.

فتقديم عثمان بن عفان على علي بن أبي طالب هو الذي عليه عامة أهل السنة، وذهب بعضهم وهم قلة من أهل السنة، وهذا ينسب لبعض السلف كـسفيان الثوري وغيره بتقديم علي بن أبي طالب على عثمان، ومن قدم علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى على عثمان فقد خالف.

ولذلك يقول العلماء: أن التشيع عند الأوائل إذا وصفوا أحداً من التابعين بالتشيع، فمرادهم بذلك أنه يقدم علي بن أبي طالب على عثمان، وأن الغلو في التشيع لم ينتشر ويشتهر إلا بعد ذلك من تقديم علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر، وكذلك تأليه علي بن أبي طالب إنما غلا فيه الرافضة بعد ذلك.

ثم قال: [ ورابعهم خير البرية بعدهم ] : والبرية: هي الخلق، ولذلك الله سبحانه وتعالى هو الذي برأها أي: خلقها، فخير البرية بعد محمد صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر، ثم عثمان، ثم علي بن أبي طالب، عليه رضوان الله تعالى.

قال: [ حليف الخير بالخير منجح ] : وهو: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج بنته فاطمة عليها رضوان الله تعالى، وأبو السبطين الحسن والحسين، وهم من أقرب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن السابقين إلى الإسلام، وهو في الفضل بعد عثمان بن عفان عليه رضوان الله تعالى، والذي عليه عامة أهل السنة بل إجماعهم: أن فضل الخلفاء الراشدين بحسب ترتيبهم في الخلافة، ومن قدم علي بن أبي طالب على عثمان فهو مخالف في ذلك إلا أنه لا يبدع ويضلل، ولكنه يوصف بالمخالفة لما عليه السلف، فإذا حفظ لـعثمان حقه وللصحابة بالإجمال حقهم، فإنه يقال: أنه على منهج أهل السنة والجماعة إلا أنه خالف في ذلك في تقديم علي بن أبي طالب على عثمان .

ولذلك إذا وصف العلماء أحداً من التابعين وجملة من أتباع التابعين بالتشيع، فالغالب أن المراد به تقديمهم علي بن أبي طالب على عثمان، ولا يريدون بذلك التشيع المعروف في عصرنا، وإذا أطلق التشيع عند المتأخرين فمرادهم بذلك تقديم علي بن أبي طالب على الخلفاء الراشدين كلهم، والطعن في جملة من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى كـأبي بكر وعمر، فمن تنقص أحداً من الخلفاء الراشدين، فقد ابتدع وضل وتزندق، ومن طعن في الصحابة بالإجمال، فقد كفر بالله سبحانه وتعالى، وحكى الإجماع على كفره غير واحد من العلماء، كالقاضي عياض، وكذلك ابن عساكر، وابن كثير، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والقرطبي، وابن حزم الأندلسي، وغيرهم من أئمة الإسلام.

وذلك أن الطاعن في الصحابة عليهم رضوان الله تعالى يريد طعناً بصحبتهم لا بهم، وذلك أنه لا يجمل الطعن في أحد من الصحابة أحد إلا ويريد الصحبة، ولو أراد الطعن بأحد منهم بأفرادهم كأن يتهم أحداً منهم بالجبن، أو البخل، أو البغاء، أو السذاجة، أو الدروشة، ونحو ذلك فذاك ضال، ولكنه ليس بكافر، أما من طعن بهم بالجملة فأجمل الطعن والسب فقد كفر بالله سبحانه وتعالى، لأن الصحابة ما اشتركوا بشيء من المذمة أو سوء الخلق الذي يزعمه أهل البدع أبداً، ولكنهم اشتركوا بمزية وفضل وهو الصحبة، فمن طعن بهم في الإجمال فقد طعن في صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

والطعن في الصحابة بالإجمال أو بأفرادهم هي بذرة يهودية؛ وذلك أنهم يريدون الطعن في الشريعة، فلما كان لا يسلم لهم أحد الطعن بالشريعة وبالإسلام والكتاب والسنة أرادوا الطعن بالحملة، ولذلك نشأ الطعن ببعض الصحابة كـأبي هريرة عليه رضوان الله تعالى واتهم بالكذب، وهم ما أرادوا في الحقيقة أبا هريرة، ولكنهم أرادوا ما حمله من السنة، فإذا طعن في أبي هريرة - ويظن البعض أن المقصود أبو هريرة نفسه - فإنه يترتب على ذلك أن الأحاديث أو جملة آلاف من الأحاديث يرويها أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام ويتفرد بها، يريدون رد الشريعة والتنقص منها، وأن يقع في النفوس شيئاً من ذلك.

كما وقع هذا في جملة من العقلانيين من المتأخرين ممن طعنوا بالصحابة عليهم رضوان الله تعالى، لأنهم لا يستطيعون أن يطعنوا في الشريعة مباشرة، وهذا من طرائق اليهود: أن يطعنوا في الحملة لا أن يطعنوا في المحمول، وهذه حيلة خبيثة في هدم الإسلام ومعالمه: أن يطعنوا في أهل العلم والفضل، أو الصحابة وأئمة الإسلام، ولا يريدون في ظاهر أمرهم ما يحملونه، ولكنهم يريدون أشخاصه حتى يتمكن تصديقهم في القلوب، فحينئذ تسقط آراؤهم بسقوط أصحابها.

[ وإنهم للرهط لا ريب فيهم على نجب الفردوس بالنور تسرح ].

هنا يشير إلى أنهم من أهل الجنة وقطع عليهم بذلك؛ لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول: [ وإنهم للرهط ] : والرهط في لغة العرب: هو ما دون العشرة، ويقال: بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل ما هو أكثر من ذلك، قال: [ لا ريب فيهم ]، أي : بلا شك أن ذلك الاعتقاد حق لا ريب فيه، [ على نجب الفردوس بالنور تسرح ] : والمراد بالنجب: هي الإبل والنوق الكرام، وجمعها: ناجبات ونجب، وأنهم يكونون على هذه النوق يوم القيامة في الفردوس يسرحون، والفردوس: هو أعلى منازل الجنة، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح: ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنه أوسط الجنة وأعلاها، وفوقه عرش الشمس، ومنه تنسدل أنهار الجنة )، وهو أعلى منازلها.

والصحابة عليهم رضوان الله تعالى من الخلفاء الراشدين وغيرهم هم من أهل الفردوس، ولذلك قطع لهم هنا بأنهم من أهل الفردوس على نجب، أي: على نوق يسرحون فيها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد لهم في أحاديث كثيرة كما في حديث أبي هريرة، وكما في حديث يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( اسكن أحد )، وفي حديث أيضاً عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد في المسند والسنن: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام شهد للعشرة المبشرين بالجنة بها )، ولذلك اشتهروا بهذا الوصف: العشرة المبشرين بالجنة.

وأهل السنة والجماعة لا يشهدون لأحد من أهل الإسلام بالجنة بعينه، وإنما يقولون: يرجى له الجنة، وذلك لغياب شيء من أركان الإيمان، وهو ما يقع في قلب الإنسان، وقد أنكر النبي عليه الصلاة والسلام على أصحابه حينما شهدوا لأحدهم بالجنة حينما قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقصة في ذلك مشهورة، فلا يشهد لأحد ممن هو في دائرة الإسلام في ظاهره أنه من أهل الجنة إلا من شهد له النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يشهد لأحد بالنار بعينه ما لم يتيقن موته على ذلك، أو شهد له النبي عليه الصلاة والسلام بالنار، أو جاء في كتاب الله عز وجل، كـفرعون، وأبي لهب، وأمية بن خلف، وقارون، وهامان، وغيرهم ممن شهد لهم النبي عليه الصلاة والسلام أنهم في النار، أما ما عداهم فيقال: أنه من أهل النار إن مات على ما هو عليه، وأهل الإيمان يرجى لهم الجنة، وإن تيقن أنه مات وهلك على كفر، فإنه يشهد له بالنار بعينه وهذا نادر، لكنه يقال بالإجمال: أن الكفار خالدون في النار، وأن اليهود والنصارى وغيرهم ممن خرج عن دين محمد صلى الله عليه وسلم من أهل النار خالدون فيها، فمن مات منهم على ملته فهو من أهل النار، ولا يشهد لأحد بعينه إلا من شهد له النبي عليه الصلاة والسلام.

[ سعيد وسعد وابن عوف وطلحة وعامر فهر والزبير الممدح ].

وهؤلاء هم تتمة العشرة المبشرين بالجنة: [ سعيد ] : هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ابن عم عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، [ وسعد ] : هو سعد بن أبي وقاص من بني زهرة، وعبد الرحمن بن عوف من بني زهرة أيضاً، وطلحة بن عبيد الله، قال: [ وعامر فهر ] : هو عامر أبو عبيدة بن الجراح الفهري القرشي، قال: [ الزبير ] : هو ابن العوام، قال: [ الممدح ]، أي: الموصوف بالممادح؛ وذلك لمناقبه الكثيرة، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام الشهادة لهؤلاء العشرة بالجنة، كما جاء في سنن الترمذي، وكذلك في مسند الإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن عوف عليه رضوان الله تعالى: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وسعيد في الجنة وسعد في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وطلحة في الجنة وعامر في الجنة والزبير في الجنة )، فيقال في هؤلاء العشرة: أنهم من أهل الجنة قطعاً لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهل من شهد لهم النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة هؤلاء فحسب؟ لا، بل قد شهد النبي عليه الصلاة والسلام لغيرهم من أصحابه: كـبلال وعكاشة بن محصن وأبي هريرة وعائشة وفاطمة والحسن والحسين، والأصل في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كلهم في الجنة، واعتقاد أهل السنة فيهم: أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى بالإجمال في الجنة، ولا يشهد لأحد بعينه ممن لم يشهد له النبي عليه الصلاة والسلام أنه من أهل الجنة، ولكن يطلق بالإجمال: أن الصحابة في الجنة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا ليذادن يوم القيامة أناس عن حوضي من أصحابي، فأقول: يا رب! هؤلاء أصحابي، فيقول الله سبحانه وتعالى: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك )، فقال بعض العلماء: أن هؤلاء ندرة ممن ارتد من الصحابة عليه رضوان الله تعالى وعلمت ردته، وقيل: أنهم ممن كان ظواهرهم الإيمان وبواطنهم النفاق، ولم يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيروا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا لا يعمم، ولا يؤثر في فضل الصحابة، بل يقال: إن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في الجنة، ولكن لا يقال لأحد منهم ممن لم يشهد له النبي عليه الصلاة والسلام أنه في الجنة، وإنما يقال بالعموم: أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى فضلهم الله بالمنزلة الرفيعة والمكانة العالية، ولا يطعن بأحد منهم، ويجزم أنهم في الجنة، وأن الله سبحانه وتعالى رضي عنهم ورضوا عنه، ولذلك يأتي ذكر المصنف عليه رحمة الله تعالى فيما يأتي في بيان فضلهم، ومنزلتهم في الكتاب والسنة.

[ وقل خير قول في الصحابة كلهم ولا تك طعانا تعيب وتجرح ].

وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة: أن الصحابة يمدحون كلهم بلا مثلبة ولا نقص، وأن ما وقع بين الصحابة من فتنة وفرقة وخلاف، فإنه وقع بين أهل فضل، فلا يحل الخصومة ممن هو دونهم، ولذلك وقع بين الصحابة عليهم رضوان الله تعالى من الخصومة والفتنة ما يعلم، وليس لمن جاء بعدهم ومن هو دونهم في المنزلة أن يقيم هؤلاء، لأنهم أصحاب السبق والفضل، ولذلك عمم المصنف عليه رحمة الله تعالى هنا بلزوم إطلاق الفضل لهم على العموم، قال: [ وقل خيراً في الصحابة كلهم ]، أي: جميعهم بلا استثناء، وأنهم من أهل الخير والفضل، فلا يعاب أحدهم ولا يثلب بشيء وقع فيه؛ وذلك لأنهم بتلك المنزلة.

وأما المنع من عيبهم والطعن فيهم؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى ذلك بالإجمال والإطلاق، فقال عليه الصلاة والسلام: ( لا تسبوا أصحابي )، وأصحابه تعريفهم: هم من لقي النبي عليه الصلاة والسلام على الإيمان ومات على ذلك، فمن كان هكذا وصفه فلا يطعن فيه ولا يثلب ولا يعير ولا يسب ولا يستهزأ به بشيء، وإن وصفه فيه أحد من أهل الفضل من الصحابة مثله، فإن الصحابة يقع بينهم من خصومة كغيرهم، لكنه لا يقيمه من جاء بعدهم ممن هو دونهم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة وهم في ذلك الفضل والجلالة أن يسبوا بعضاً: ( لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، ولذلك الإنسان المؤمن الموحد مأمور بأن يطلق الفضل للصحابة كلهم وألا يكون طعاناً، أي: فيهم، قال: [ ولا تك طعاناً تعيب وتجرح ].

يعتمد كثير من أهل الفرق الضالة ومن تبعهم بالطعن في الصحابة بشيء قد وقع بينهم، ووصف بعضهم بعضاً، كأن يقال: قال فلان من الصحابة في فلان كذا، فهو إذاً كذا لوصف فلان فيه، فيقال: فلان وصفه فمن أنت؟! فأنت حينما تصفه بهذا الوصف تطعن فيه وليس لك هذا، فهم بينهم على منزلة سوية في الفضل، فلا يطعن فيهم من جاء بعدهم.

ولذلك اتفق أهل السنة والعلماء عامة: على أن من طعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا وسبهم فقد كفر بالاتفاق، وهذا لا خلاف فيه، وأما من سب واحداً منهم كأن يصف فلاناً بالجبن أو البخل أو السذاجة أو أنه ليس بفقيه ليس بعالم ونحو ذلك ممن يطعن فيه، فهو مبتدع زائغ، كبعض الشيعة وبعض النواصب الذين طعنوا في آحاد الصحابة وبعضهم، ولم يطعنوا فيهم بالإجمال، وأما من أطلق القول، ولم يستثن إلا واحدا أو اثنين أو قلة قليلة كما يستثني الروافض آل البيت، ويطعنون في الصحابة عامة، فهؤلاء كفار خارجون عن الإسلام، وذلك لتكذيبهم الفضل الذي جعله الله عز وجل للصحابة، وما جعل الله سبحانه وتعالى لهم في المنزلة الرفيعة، فمن طعن في أبي بكر أو شهد له بالنار فقد كفر، وكذلك عمر لتكذيبه ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواتر عنه في فضل هؤلاء العشرة المبشرين بالجنة في أحاديث كثيرة..

ويشير هنا المصنف بقوله: [ لا تك طعاناً تعيب وتجرح ] : نشوء فرق الضلال في الطعن في الصحابة عليهم رضوان الله تعالى بدافع النصرة لصحابة آخرين، وحملهم على ذلك الغيرة، ونشأ في الطعن في الصحابة فرقتان قديمتان، ونشأت فرقة متأخرة بعدهم، أما الفرقتان: فأولهما الشيعة الذين طعنوا فيمن قدم غير علي على علي، وبلغ في غلاتهم أن طعنوا في الخلفاء الراشدين الأربعة سوى علي بن أبي طالب، وفي غلاتهم من طعن في سائر الصحابة إلا آل البيت، فسبوهم وذموهم وطعنوا في أمهات المؤمنين، فهؤلاء كفار، لأنهم قد طعنوا بحملة الوحي، الذين وصل إلينا سائر التشريع عن طريقهم، فإذا قلنا: أنهم كفار فلا شريعة حينئذ مسلمة، والله عز وجل قد تكفل بحفظ دينه، وهذا من أصول ما ينقض عقيدة الرافضة، ويبين كفرهم ووضوح انحرافهم عن الإيمان.

ثم الفرقة الثاني: وهم النواصب الذين نصبوا العداء لآل البيت، وذلك بسبب غلو الشيعة في آل البيت، وطعنهم في بعض الصحابة عليهم رضوان الله تعالى: كـمعاوية وعثمان بن عفان وغيرهم، فأرادوا نصرةً فوقعوا في المذمة، وهؤلاء من جملة المبتدعة.

والنواصب أخف من الروافض؛ وذلك أن النواصب لا يطلقون بالعموم تضليل الصحابة، بخلاف الروافض الذين يطلقون بالعموم ولا يستثنون إلا آل البيت وهم عدد قليل والصحابة بالآلاف، فيضللونهم بالإجمال، بخلاف النواصب، فإنهم يطعنون في الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة والخمسة من آل البيت عليهم رضوان الله تعالى.

والمؤمن الحق الموحد لا يطعن في أحد من الصحابة أبداً، لا بالإجمال ولا بالتفصيل، وما وقع بينهم من خلاف فإن ذلك سلم الله عز وجل منه الإنسان في زمنهم فليسلم منه لسانه، ولذلك سئل عمر بن عبد العزيز وكذلك غيره عما وقع بين الصحابة، فقال: تلك فتنة سلم الله منها سيوفنا، فلم لا يسلم الله منها ألسنتنا؟ والواجب على المؤمن أن يمسك عما وقع بين الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، فقد يصف أحد الصحابة نظيره بشيء بينهم، فيصفه بالغدر أو الكذب ونحو ذلك، فهؤلاء في مكانة ومنزلة سوية، وليس لأحد جاء بعدهم أن يقيم ويقول: ذلك مصيب وذلك مخطئ.