خطر اليهود


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد..

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

إن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بتوطيد العلاقة بين أفراد هذه الأمة وبين الله عز وجل ببناء المسجد، ثم وطد العلاقة بين أفرادها بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ثم بيَّن علاقة المسلمين بالذين لا يدينون دين الحق من أهل الكتاب ومن أهل الأوثان.

فعندما ظهر الإسلام في مكة لم يكن هناك إلا عدو واحد ظاهر، وهم: أهل الأوثان فقط، وكانت عداوتهم ظاهرة سافرة، فلما هاجر المسلمون إلى المدينة المنورة ظهر صنف ثانٍ لم يكن إذ ذاك بمكة وهم: المنافقون.

ولم يكن في مكة نفاق، وإنما ظهر النفاق في المدينة، وكان لظهوره عدة أسباب، وظهر في المدينة المنورة عدو قديم وهم اليهود، فصار الإسلام محاطاً في المدينة المنورة بثلاثة من أعدائه: المشركون الذين كانوا يسكنون أصلاً في مكة ولهم أذيال في المدينة، ثم اليهود، ثم هذا الصنف الجديد وهم المنافقون.

وسورة البقرة سورة مدنية فضحت اليهود والمنافقين، ففي مطلع هذه السورة المباركة تجد أوصاف هؤلاء الثلاثة: المؤمنين، والكافرين، والمنافقين، فوصف الله عز وجل المؤمنين في أربع آيات، ووصف الكافرين في آيتين، ووصف المنافقين في ثلاث عشرة آية؛ لأنه صنف جديد، شديد الدهاء والمكر، واعلم أنك لا تؤتى من عدوك بقدر ما تؤتى ممن يدعي أنه صديقك وهو ليس كذلك.

إن النفاق أمرّ وأمضى من السيف على رقاب الأمم، وإذا نظرت إلى هلاك أية أمة تجد أن النفاق لعب دوراً كبيراً في هلاكها، وقد حكم الله عز وجل أن المنافقين ليسوا بمؤمنين: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:8-9].

فالعجب أن بعض المسلمين يقول: إن المنافقين مؤمنون، والمنافقون الذين حكم الله عز وجل بكفرهم هم الذين كانوا ينافقون نفاق عقيدة، وهم الذين قال الله عز وجل فيهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ النساء:145].

النفاق قسمان: نفاق عمل، ونفاق علم واعتقاد.

القسم الأول: نفاق الاعتقاد

فالذي ينافق نفاق اعتقاد كافر، بل هو أشر من الكافر، وهو الذي قال الله عز وجل فيه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145] أي: دون الكفرة بدركة أو بدركتين إلى ما شاء الله عز وجل، والذي ينافق نفاق اعتقاد بخلاف الذي ينافق نفاق العمل، فالذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا ينافقون نفاق اعتقاد.

ما سبب هذه الفئة الجديدة؟

معلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام أول ما دخل المدينة وادع كل من كان حولها ومن كان فيها -أي: سالمهم- لأنه لا قبل له بهم، وادعهم حتى موقعة بدر، فبدأ النفاق يظهر؛ لأن القوة الإسلامية بدأت تظهر.

فما ظهر النفاق إلا لقوة الدولة الإسلامية بعد موقعة بدر؛ لأن موقعة بدر فصلت الأمور فصلاً تاماً، ورفعت المسلمين رفعاً عظيماً ما كانوا يتوقعونه، فبدأ المنافقون -وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول- يوادعون وينافقون ويظهرون خلاف ما يبطنون، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعرف ذلك منهم، لكنه أعلم الناس أن الحكم إنما يكون بالظاهر، وحتى لا يفتات الناس على الله عز وجل، فيحكموا على العباد بما يظنونه في قلوبهم.

والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم المنافقين، لاسيما بعد غزوة تبوك التي تخلف فيها أكثر من ثمانين من المنافقين وصاروا يعتذرون بشتى الاعتذارات كي لا يخرجوا في هذه الغزوة، بسبب شدة الحر، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك، جاءه المعذرون يعتذرون إليه؛ برغم أنه كان يعلم نفاقهم وكذبهم، إلا أنه قبل منهم علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل.

ومما يدلنا على معرفته بالمنافقين: أنه لما جاء كعب بن مالك وقال: (يا رسول الله! والله ما كان لي من عذر، وما جمعت قط بين راحلتين كما جمعتهما في هذه الغزوة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: أما هذا فصدق) ما معنى هذا الكلام؟

معناه: أن الثمانين الذين اعتذروا قبل ذلك كذبوا عليه، ومع ذلك قبل علانيتهم واستغفر لهم: (وأما هذا فصدق، فقم حتى يحكم الله فيك)، فكان يعرفهم؛ لكنه لا يستطيع أن يقول لرجل جاء وقال: أنا آمنت، أن يقول له: لا أنت كاذب، أنت تضمر خلاف ما تقول، فإن هذا يجرئ العباد بعده على أن يحكموا على ما في قلوب العباد، وهذا خطير جداً، ولو أن هذا الباب فتح، لفتح به شر مستطير لا يعلمه إلا الله.

ولذلك لا يجوز للقاضي أو للحاكم أن يحكم بخلاف ما يسمع من لسان المتهم إلا إن كان عنده قرينة قوية تدل على كذبه، أما أن يحكم على ما في قلبه أو يقول: لا. أنت تضمر خلاف ما تقول بغير حجة ناهضة؛ فهذا لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وجميع أنبياء الله عز وجل إنما يحكمون بالظاهر.

ألم تر إلى أسامة بن زيد لما كان في غزوة من الغزوات -كما روى البخاري في صحيحه - إذا به يرى رجلاً من المشركين أمامه، فعلاه بسيفه؛ فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله، فما تركه أسامة حتى قتله، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ذلك؛ قال عليه الصلاة والسلام مستنكراً عليه: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟! قال: يا رسول الله! قالها تقية، قالها خوفاً من القتل، قال: هلا شققت عن قلبه! أقتلته بعد أن قالها؟! قال أسامة : فما زال يكررها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا حين ذاك).

في موقف ترجح لـأسامة أن هذا الرجل كاذب، وهو في موقف قتال ضد المسلمين، فلما علاه بالسيف قال: لا إله إلا الله، فترجح لدى أسامة أن هذا الرجل كاذب، وأنه يريد أن ينجو من القتل بهذه الكلمة، فلم يعذره، وقد يكون أسامة معذوراً؛ لأن الظروف والملابسات المحيطة بهذا الرجل أدته إلى هذا الفعل، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام شدد عليه جداً، وهو يقول له: (أقتلته بعد أن قالها؟!) وهذا يدلنا على أن الأصل هو الحكم بالظاهر، وأننا نقبل علانية الرجل وإن كان كاذباً في الباطن، حتى نعلم علماً يقينياً أنه كاذب، فإن دماء بني آدم معصومة لا تهدر إلا بيقين.

ولذلك لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ادرأوا الحدود بالشبهات) كان يرشد إلى أنه لو اشتبهت بأن هذا الرجل لابس الحد أو لم يلابسه، فاعتبر أنه لم يلابس الحد؛ فإذا وقعت للقاضي شبهة، فلا يحل دم المسلم بالشبهة، وإنما يهدر دمه بيقين، فلذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يعلم أن المنافقين كاذبون، ومع ذلك ما أحل دماءهم؛ حتى لا يتجرأ من يأتي بعده، مع كونه عليه الصلاة والسلام المكلم من السماء.

فهذا الصنف الذي ظهر في المدينة المنورة ظهر بسبب قوة الدولة وشوكتها، ولكم عانى المسلمون الأمرين من جراء هذا الصنف ... أما الصنف الآخر الذي ينافق نفاق عمل فهو كثير جداً، وهو الذي ابتلي المسلمون به، لاسيما في زماننا هذا ومع ذلك -والله أعلم- قد يكون هناك الذين ينافقون نفاق الكفر، ولكن ما أمرنا أن نشق عن بطن أحد.

القسم الثاني: نفاق العمل

نفاق العمل مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) والحديث الآخر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً -وفي رواية: من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها- إذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان).

هذا النفاق نفاق العمل دركات، وكما أن الإيمان يزيد وينقص، والكفر أيضاً دركات، فكذلك النفاق دركات؛ فالذي يحدِّث ويكذب مرة أو مرتين لا يعتبر داخلاً تحت هذا الحديث، لأن كلمة (إذا): تدل على الاستمرار، هذا دأبه: وأنه كلما حدث كذب، فإذا هنا بمعنى: كلما، أي أن هذا صار شعاراً له؛ كلما حدث كذب، وكلما وعد أخلف، وكلما اؤتمن خان، وكلما خاصم فجر، وكلما عاهد غدر، هذا هو الذي يطلق عليه اسم المنافق، أما الذي يكذب مرة أو مرتين، أو يخلف مرة أو مرتين، ولم يكن ذلك له بخلق، فهذا لا يدخل تحت الحديث.

ويدل على ذلك أن في بعض طرق الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام علق هذا الوصف بالذي ينوي أن يكذب إذا حدث، وينوي أن يخلف إذا وعد، أما إذا وعد، ثم جاء أمر خارج عن إرادته وقدرته، فهذا لا يدخل تحت نفاق العمل.

فهؤلاء المنافقون الذين ملئوا الدولة الإسلامية في المدينة المنورة كان لهم شأن عظيم جداً -كما ستعلمون- لاسيما في الغزوات، وقد قال الله عز وجل في بعضهم: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47]، في هذه الغزوة الله تبارك وتعالى ثبط أولئك عن الخروج؛ لأن خروجهم كان فيه مضرة عظيمة. لماذا وصف الله عز وجل الكافرين في آيتين فقط من مطلع سورة البقرة، ووصف المنافقين بثلاث عشرة آية؟

إن الله لما بدأ بالمؤمنين ثنَّى بالكافرين، وإنما يذكر الشيء ثم يذكر ضده، ثم ألحق المنافقين بالكافرين، ولو لاحظت الترتيب في السورة ستراه بدأ بالمؤمنين؛ لأنهم أهل أن يبدأ بهم، ثم ثنى بالكافرين الذين لا اختلاف عند المؤمنين بكفرهم، ثم ثلث بالذين يتصور بعض المسلمين أنهم من المؤمنين، فألحقهم بالكافرين، فهذا الصنف الذي يتردد فيه النظر أهو مسلم أم هو كافر؟ ذكره بعد الكافرين وألحقه بهم ترجيحاً لكفرهم.

فالذي ينافق نفاق اعتقاد كافر، بل هو أشر من الكافر، وهو الذي قال الله عز وجل فيه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145] أي: دون الكفرة بدركة أو بدركتين إلى ما شاء الله عز وجل، والذي ينافق نفاق اعتقاد بخلاف الذي ينافق نفاق العمل، فالذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا ينافقون نفاق اعتقاد.

ما سبب هذه الفئة الجديدة؟

معلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام أول ما دخل المدينة وادع كل من كان حولها ومن كان فيها -أي: سالمهم- لأنه لا قبل له بهم، وادعهم حتى موقعة بدر، فبدأ النفاق يظهر؛ لأن القوة الإسلامية بدأت تظهر.

فما ظهر النفاق إلا لقوة الدولة الإسلامية بعد موقعة بدر؛ لأن موقعة بدر فصلت الأمور فصلاً تاماً، ورفعت المسلمين رفعاً عظيماً ما كانوا يتوقعونه، فبدأ المنافقون -وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول- يوادعون وينافقون ويظهرون خلاف ما يبطنون، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعرف ذلك منهم، لكنه أعلم الناس أن الحكم إنما يكون بالظاهر، وحتى لا يفتات الناس على الله عز وجل، فيحكموا على العباد بما يظنونه في قلوبهم.

والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم المنافقين، لاسيما بعد غزوة تبوك التي تخلف فيها أكثر من ثمانين من المنافقين وصاروا يعتذرون بشتى الاعتذارات كي لا يخرجوا في هذه الغزوة، بسبب شدة الحر، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك، جاءه المعذرون يعتذرون إليه؛ برغم أنه كان يعلم نفاقهم وكذبهم، إلا أنه قبل منهم علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل.

ومما يدلنا على معرفته بالمنافقين: أنه لما جاء كعب بن مالك وقال: (يا رسول الله! والله ما كان لي من عذر، وما جمعت قط بين راحلتين كما جمعتهما في هذه الغزوة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: أما هذا فصدق) ما معنى هذا الكلام؟

معناه: أن الثمانين الذين اعتذروا قبل ذلك كذبوا عليه، ومع ذلك قبل علانيتهم واستغفر لهم: (وأما هذا فصدق، فقم حتى يحكم الله فيك)، فكان يعرفهم؛ لكنه لا يستطيع أن يقول لرجل جاء وقال: أنا آمنت، أن يقول له: لا أنت كاذب، أنت تضمر خلاف ما تقول، فإن هذا يجرئ العباد بعده على أن يحكموا على ما في قلوب العباد، وهذا خطير جداً، ولو أن هذا الباب فتح، لفتح به شر مستطير لا يعلمه إلا الله.

ولذلك لا يجوز للقاضي أو للحاكم أن يحكم بخلاف ما يسمع من لسان المتهم إلا إن كان عنده قرينة قوية تدل على كذبه، أما أن يحكم على ما في قلبه أو يقول: لا. أنت تضمر خلاف ما تقول بغير حجة ناهضة؛ فهذا لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وجميع أنبياء الله عز وجل إنما يحكمون بالظاهر.

ألم تر إلى أسامة بن زيد لما كان في غزوة من الغزوات -كما روى البخاري في صحيحه - إذا به يرى رجلاً من المشركين أمامه، فعلاه بسيفه؛ فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله، فما تركه أسامة حتى قتله، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ذلك؛ قال عليه الصلاة والسلام مستنكراً عليه: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟! قال: يا رسول الله! قالها تقية، قالها خوفاً من القتل، قال: هلا شققت عن قلبه! أقتلته بعد أن قالها؟! قال أسامة : فما زال يكررها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا حين ذاك).

في موقف ترجح لـأسامة أن هذا الرجل كاذب، وهو في موقف قتال ضد المسلمين، فلما علاه بالسيف قال: لا إله إلا الله، فترجح لدى أسامة أن هذا الرجل كاذب، وأنه يريد أن ينجو من القتل بهذه الكلمة، فلم يعذره، وقد يكون أسامة معذوراً؛ لأن الظروف والملابسات المحيطة بهذا الرجل أدته إلى هذا الفعل، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام شدد عليه جداً، وهو يقول له: (أقتلته بعد أن قالها؟!) وهذا يدلنا على أن الأصل هو الحكم بالظاهر، وأننا نقبل علانية الرجل وإن كان كاذباً في الباطن، حتى نعلم علماً يقينياً أنه كاذب، فإن دماء بني آدم معصومة لا تهدر إلا بيقين.

ولذلك لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ادرأوا الحدود بالشبهات) كان يرشد إلى أنه لو اشتبهت بأن هذا الرجل لابس الحد أو لم يلابسه، فاعتبر أنه لم يلابس الحد؛ فإذا وقعت للقاضي شبهة، فلا يحل دم المسلم بالشبهة، وإنما يهدر دمه بيقين، فلذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يعلم أن المنافقين كاذبون، ومع ذلك ما أحل دماءهم؛ حتى لا يتجرأ من يأتي بعده، مع كونه عليه الصلاة والسلام المكلم من السماء.

فهذا الصنف الذي ظهر في المدينة المنورة ظهر بسبب قوة الدولة وشوكتها، ولكم عانى المسلمون الأمرين من جراء هذا الصنف ... أما الصنف الآخر الذي ينافق نفاق عمل فهو كثير جداً، وهو الذي ابتلي المسلمون به، لاسيما في زماننا هذا ومع ذلك -والله أعلم- قد يكون هناك الذين ينافقون نفاق الكفر، ولكن ما أمرنا أن نشق عن بطن أحد.

نفاق العمل مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) والحديث الآخر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً -وفي رواية: من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها- إذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان).

هذا النفاق نفاق العمل دركات، وكما أن الإيمان يزيد وينقص، والكفر أيضاً دركات، فكذلك النفاق دركات؛ فالذي يحدِّث ويكذب مرة أو مرتين لا يعتبر داخلاً تحت هذا الحديث، لأن كلمة (إذا): تدل على الاستمرار، هذا دأبه: وأنه كلما حدث كذب، فإذا هنا بمعنى: كلما، أي أن هذا صار شعاراً له؛ كلما حدث كذب، وكلما وعد أخلف، وكلما اؤتمن خان، وكلما خاصم فجر، وكلما عاهد غدر، هذا هو الذي يطلق عليه اسم المنافق، أما الذي يكذب مرة أو مرتين، أو يخلف مرة أو مرتين، ولم يكن ذلك له بخلق، فهذا لا يدخل تحت الحديث.

ويدل على ذلك أن في بعض طرق الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام علق هذا الوصف بالذي ينوي أن يكذب إذا حدث، وينوي أن يخلف إذا وعد، أما إذا وعد، ثم جاء أمر خارج عن إرادته وقدرته، فهذا لا يدخل تحت نفاق العمل.

فهؤلاء المنافقون الذين ملئوا الدولة الإسلامية في المدينة المنورة كان لهم شأن عظيم جداً -كما ستعلمون- لاسيما في الغزوات، وقد قال الله عز وجل في بعضهم: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47]، في هذه الغزوة الله تبارك وتعالى ثبط أولئك عن الخروج؛ لأن خروجهم كان فيه مضرة عظيمة. لماذا وصف الله عز وجل الكافرين في آيتين فقط من مطلع سورة البقرة، ووصف المنافقين بثلاث عشرة آية؟

إن الله لما بدأ بالمؤمنين ثنَّى بالكافرين، وإنما يذكر الشيء ثم يذكر ضده، ثم ألحق المنافقين بالكافرين، ولو لاحظت الترتيب في السورة ستراه بدأ بالمؤمنين؛ لأنهم أهل أن يبدأ بهم، ثم ثنى بالكافرين الذين لا اختلاف عند المؤمنين بكفرهم، ثم ثلث بالذين يتصور بعض المسلمين أنهم من المؤمنين، فألحقهم بالكافرين، فهذا الصنف الذي يتردد فيه النظر أهو مسلم أم هو كافر؟ ذكره بعد الكافرين وألحقه بهم ترجيحاً لكفرهم.

كان أكثر هؤلاء الذين ينافقون نفاق الاعتقاد من اليهود؛ لأنهم حسدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبغوا عليه وكذبوا عليه، ولا أدل على ذلك من أول واقعة حدثت قبل أن يبني النبي صلى الله عليه وسلم المسجد.

إن الأنصار كانوا يخرجون كل يوم إلى طرقات المدينة ينتظرون مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه من مكة، فكانوا كل يوم ينتظرون حتى الظهيرة ثم ينقلبون إلى بيوتهم، فأول من رأى الرسول عليه الصلاة السلام قادماً رجل من اليهود، حبر من أحبارهم، فلما رآه عليه الصلاة والسلام يزول به السراب؛ لأنه كان يلبس لباساً أبيض؛ صرخ بأعلى صوته وقال: هذا جدكم أيها العرب! فخرج المسلمون إليه بالسلاح.

وأول موقف حدث بعدما وطئت أقدام النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مع هؤلاء اليهود يقصه لنا عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وكان حبر اليهود الأكبر، يقول: (إذ سمعت بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام، قال: فجئته فأول ما نظرت إلى وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فسألته عن مسائل، فأجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها، فأسلم عبد الله بن سلام ، وقال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت -أي يكذبون ويفترون- وإنهم إذا علموا بإسلامي بهتوني ما ليس فيَّ، فادعهم وسلهم عني وأنا مختبئ في هذه الدار، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليهود، فلما دخلوا عليه قال: يا معشر يهود! اتقوا الله؛ فإنكم تعلمون أني رسول الله حقاً.

قالوا: ما نعلمك (ثلاثاً).

فقال لهم: ما عبد الله بن سلام فيكم -أي ما منزلته-؟

قالوا: هذا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا.

فقال لهم: أرأيتم إن أسلم؟

قالوا: حاشا لله أن يسلم! -وفي رواية قالوا: معاذ الله أن يفعل ذلك!!-

فقال: اخرج يا عبد الله ، فخرج من وراء الحائط وهو يقول لهم: اتقوا الله! فإنكم تعلمون أنه رسول الله حقاً.

قالوا له: كذبت. فأنت شرنا وابن شرنا، ثم خرجوا).

كان هذا أول موقف لليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبل أن يبني المسجد، يكذبون ويفترون.. (اتقوا الله يا معشر يهود فإنكم تعلمون أني رسول الله حقاً) يقولون: ما نعلمك!! وهم يكذبون؛ لأن الله عز وجل قال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] أي: ليس هناك رجل يجهل ولده، فكما أنهم يعرفون أبناءهم، فهم يعرفون صفته عليه الصلاة والسلام، ولكنهم جحدوه، فكان لهم معه أمر عظيمٌ جداً، ونكل بهم بعد ذلك أشد التنكيل، كيف لا ينكل بهم الذين افتروا حتى على رب العزة، وتاريخهم مع نبيهم بل مع أنبيائهم جميعاً تاريخ معروف حافل بالغدر والخديعة؟!