جانب من حياة الصحابة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.

روى الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لم أزل حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]حتى حج فحججت، وعدل فعدلت فقضى حاجته، فصببت عليه من الإناء وهو يتوضأ.

فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان اللتان قال الله فيهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ٌ التحريم:4] فقال: وا عجباً لك يا ابن عباس إنهما عائشة وحفصة ، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه قال: كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجارٌ لي من الأنصار، ينزل يوماً فيأتي بخبر الوحي، وما يكون من العلم فإذا نزلت أنا فعلت مثل ذلك، وكنا معشر قريشٍ قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا الأنصار إذا بالقوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فطفقت علي امرأتي ذات يوم فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني.

قبل هذه الفقرة قال عمر رضي الله عنه: فأنكرتُ أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يهجرنه اليوم حتى الليل؛ فأفزعني ذلك ونزلت إلى حفصة فقلت: أي بنيتي أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم وتهجره اليوم إلى الليل، قالت: نعم، فقلت لها: ومن يؤمنك أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي، لا تسأليه شيئاً ولا تستكثريه وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك -يعني عائشة رضي الله عنها- أوضأ منك، وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فجاءني صاحبي عشاءً فطرق الباب طرقاً شديداً، وقال: أثمّ هو؟ قالوا: نعم، فخرجت أجر ردائي، قلت: مالك، أجاء غسان؟ قال: لا، بل ما هو أهول من ذلك وأعظم، طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، قال عمر : فنزلت إلى حفصة فوجدتها تبكي فقلت لها: لم تبكين؟ أو لم أكن حذرتك -وفي بعض الروايات خارج الصحيحين قال عمر: والله لولاي لطلقك، ثم صلى عمر الغداة ثم دخل المسجد فإذا رهط حول المنبر يبكي بعضهم، قال: فجئت مشربة -المشربة مثل الحجرة لها باب على المسجد- وغلام للنبي صلى الله عليه وسلم واقف على باب الحجرة يمنع أي أحد من الدخول، قال: فجئت فقلت للغلام. استأذن لـعمر، فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، قال: فذهبت عند المنبر، فجلست لكن غلبني ما أجد، فقمت، فقلت للغلام: استأذن لـعمر، فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، فذهبت إلى المنبر فجلست فغلبني ما أجد، فقلت للغلام: استأذن لـعمر، فدخل ثم خرج قال: ذكرتك له فصمت، قال: فانتظرت، فبينما أنا عند الباب إذ ناداني، فقال لي: قد أذن لك، فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثر الحصير في جنبه، فقلت: لا أجلس حتى يتبسم، أو قال: حتى أستأنس.

قال: فقلت: يا رسول الله، لو رأيتنا معاشر قريش قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله، لو رأيتني وأنا أقول لـحفصة : لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منك، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فقال: فجلست، وجعل عمر رضي الله عنه يدير عينيه في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فلم أر شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاث -ثلاثة جلود- فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، وكان متكئاً فجلس، وقال: أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة ، وكان قد أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن، فلما دخل عليها، قالت: يا رسول الله، إنك حلفت ألا تدخل علينا شهراً، وقد مضى تسع وعشرون أعدُّها عداً، فقال عليه الصلاة والسلام: الشهر تسع وعشرون، -وفي رواية قالت عائشة : فكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين.

هذا الحديث يبين لك جانباً من حياة الصحابة وحياة النبي عليه الصلاة والسلام، الصحابة ليس لهم نظير أبداً، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله نظر في قلوب العالمين فاختار قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له).

لم يرزق نبي قط بأصحاب مثل نبينا، ولا جرم! فهو سيدهم، فالمناسب أن يرزقه أيضاً بأصحاب يناسب سيادته.

نحن نعرف كثيراً من الأنبياء، ونخص منهم أولي العزم: نوحاً، وإبراهيم، وموسى، وعيسى صلوات الله عليهم أجمعين، تعرفون شيئاً عنهم أكثر من رسالاتهم؟ لا تكاد تسمع عنهم شيئاً، بخلاف نبينا عليه الصلاة والسلام، نقلوا كل شيء حتى أدق المسائل.

كانوا ينظرون إليه مثل الكاميرات المسجلة، وباعث ذلك هو شدة الحب.

أحد الصحابة يقول: لأرقبن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم اليوم، يريد أن ينظر إليه وهو يصلي، ماذا يفعل؟ حتى الشيء اليسير في الصلاة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فقرأ بسورة المؤمنين، فلما بلغ ذكر موسى وهارون أصابته سعلة فركع.

حتى مثل هذا ينقلونه، وكانوا يقولون: كنا نعرف قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر باضطراب لحيته، عندما كان يسجد، كانوا ينظرون إلى أصابع اليدين والرجلين.

فنقلوا عنه كل حركاته وسكناته، ولم ينقل عن بقية الأنبياء عشر معشار ما نقل عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فهذا الحديث إطلال على حياة الصحابة مع النبي عليه الصلاة والسلام.

أيها الإخوة الكرام.. المؤذن يرفع الأذان كل يوم خمس مرات، وأنت تردد خلفه ومن جملة ما يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وسُنّ لنا أن نقول مثلما يقول المؤذن، فأنت أيضاً قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. ..... ..... الشهادة لم يحققها إلا الصحابة وأقل القليل من الذين جاءوا بعدهم.

ومعنى (أشهد) أي: أرى بعيني، فأنت عندما تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، كأنك تقول: أنا أرضى وأشهد شهادة حضور وهي ضد الغيب كما قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:73]، ثم إنه لا يجوز لك أن تشهد إلا بما استيقنته، كما قال الله تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86].

إذاً: ركنا الشهادة: العلم والفهم، وأنت عندما تقول: أشهد أن لا إله إلا الله كأنك تقول: أنا أراه وأشهده، فإذا كنت تعتقد أنك تراه أيقوم قلبك على شهود العصيان؟ لا يقوى قلبك على ذلك لو كنت تحقق كلمة (أشهد)، فإذا عجزت فعلاً أن تراه فاعلم أنه يراك وبذلك نزلت درجة، وهذا النزول من قمة الدين الذي هو الإحسان.

الدين: إسلام، وإيمان، وإحسان، وتعريف الإحسان كما عرفه النبي عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه السلام قال: (أن تعبد الله كأنك تراه..)، هذا معنى الإحسان (..فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فهل حققنا كلمة (أشهد) التي نحن نقولها خمس مرات في اليوم والليلة وعرفنا معناها؟.

الركن الثاني من الشهادة: أشهد أنّ محمداً رسول الله، أي: إذا بلغك عنه حديث فتوهَّم أنك تراه، نحن أحياناً نعرض الأحاديث على بعض الناس فيردونها، ولا يمتثلون لها، فأنا أقول لهذا الضرب من الناس: تخيل أنك لست واقفاً أمامي بل أمام النبي عليه الصلاة والسلام، وقال لك: افعل كذا، هل تستطيع أن تعارض؟ تقول: لا أفعل؟ أنا أجزم أن كل الجلوس ستكون إجاباتهم: لا نستطيع أن نعارض. وقد اتفق العلماء على أن الرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وإلى سنته بعد مماته؟

فما هو الفرق يا ترى بين وجوده عليه الصلاة والسلام، وبين بلوغ كلامه لك؟ الفرق: (أشهد). (هذا هو الفرق) لو كنت تعتقد أنك تشهد أنّ محمداً رسول الله؛ ما عصيته أبداً، ولذلك تقي الدين السبكي -رحمه الله- طرح سؤالاً في جزء له اسمه: (بيان قول الإمام المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي)، -والإمام المطلبي هو الإمام الشافعي رحمه الله-.

سئل الإمام تقي الدين السبكي عن رجل قرأ عليه حديثاً للنبي عليه الصلاة والسلام وهناك فتوى تخالفه من أي عالم، فقال: (وليتوهم أحدكم نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أمره بذلك، فهل يحل له أن يخالف؟) في هذا المجلس قد يكون من بعض الجلوس أحد ابتلي بلبس دبلة ذهب، أو خاتم من الذهب، وكل هذا لا يحل، ولا يجوز للرجال، فالآن هو لابس الدبلة وقد لا يكون عالماً بالحكم، فأنا لو قلت الآن: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك الذهب في يد والحرير في يد وقال: (هاذان حرام على ذكور أمتي).

أيها الأخ الذي يلبس الذهب ولا يعلم بالحكم! هل مجرد أن سمعت الحديث مباشرة الآن خلعت الذهب؟ هل امتثلت وخلعته فوراً، أم تباطأت حتى أُنهي الكلام، ثم تعود إلى البيت، وتعمل جلسة طارئة تحدث فيها نفسك وأنت متردد، هل أخلع الدبلة أم لا؟ هذا هو الفرق.

في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يلبس خاتم ذهب، فنزعه من يديه نزعاً شديداً وطرحه، فلما أراد الرجل أن يقوم وينصرف، تاركاً خاتمه، قال بعض الجلوس: خذ خاتمك وانتفع به، فقال لهم الصحابي: (ما كنت لآخذه وقد طرحه رسول الله) طالما رماه على الأرض، أنا فلن تمتد يدي إليه، هذا هو تصرف الصحابة.

والذين جاءوا من بعدهم، وامتثلوا لمثل هذا النداء العظيم، أشهدُ أن محمداً رسول الله، فحقق معنى الشهادة التي يكررها في اليوم خمس مرات، فالصحابة حققوا هذا أتم تحقيق، وضربوا المثل الأعلى لمن يأتي بعدهم للاتباع، وهذا الحديث شاهد صدق على ذلك.

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (فلم أزل حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]، ونقل عنه أيضاً في كتاب التفسير قال: ظللت سنة أريد أن أسأل أمير المؤمنين عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]، حتى حج وحججت معه.

و(عدل) أي: ترك الطريق ليقضي حاجته، وعدلت، فقضى حاجته ثم جاء.

ففي هذا دليل على استحباب أن يلتمس التلميذ خلوات العالم ليسأله.

وهذا أدب ينبغي أن يتحلى به طالب العلم، وليس كلما ظهر له سؤال جاء وسأله، فهذا ليس من الأدب، إنما ينبغي عليه أن ينظر إلى خلواته، فإذا رآه وحده، أو رآه منبسطاً، أقبل عليه وسأله، وهذا الذي فعله ابن عباس ، لبث سنة كاملة يريد أن يتحين فرصة يختلي بـعمر ليسأله هذا السؤال: لأن الهجوم المستمر على الشيخ يضجِّره من التلميذ، فهذا الذي يظهر به التلميذ كثيراً، لماذا؟ لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها.

فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يلتمس خلوات العالم، فيسأله، ولا مانع حتى يرقق قلبه عليه أن يخدمه بشيء يسير خدمة بين يدي السؤال، مثلما فعل ابن عباس حديث حمل الإبريق لـعمر ومشى خلفه، وانتظر حتى قضى حاجته، ثم سأله السؤال، قال: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أسألك منذ سنة، فأمتنع تهيباً منك أن أسألك، قال: يا ابن أخي، إذا علمت عندي علماً فسلني، فمهابة العالم لا تصدك عن أن تسال سؤالك.. فإنه لا يتعلم اثنان، كما قال مجاهد فيما رواه أبو نعيم في كتاب الحلية عنه بسند ضعيف، وعلقه البخاري في صحيحه قال: (لا يتعلم اثنان)، يظلون جهلاء طوال عمرهم (مستح ومستكبر) المستحيي يمنعه الحياء والهيبة وما إلى ذلك أن يسأل السؤال. ابن عباس سأله قال: لا، (إذا علمت أن عندي علماً فسلني) فقال ابن عباس من المرأتان اللتان قال الله فيهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]، فقال: (واعجباً لك يا بن عباس ) (إنهما عائشة وحفصة ، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه) بدأ يحكي القصة، وسر عجب عمر من ابن عباس قد يكون لما عُهد من ابن عباس من معرفة التفسير والبحث عن ضوابطه، وهذا من التفسير فكيف خفي عليه، أو لعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعجب من فطنة ابن عباس وذكائه الوقاد أن يسأل هذا السؤال وتخفى عليه هذه الواقعة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه له رأي حسن في ابن عباس وكان يحبه.

فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن ابن عباس قال: (كان عمر يدخلني مع شيوخ بدر): وهم الثلة المضيئة في جبين المسلمين، فهم كل من شهد غزوة بدر، ولذلك ينسب إليها من شهدها لشرفها، ولا ينسب إلى أي غزوة أخرى، فيقال مثلاً: فلان البدري، ولا يقال: فلان الأُحدي ولا الخندقي ولا أي نسبة لغزوة أخرى، إنما ينسب إليها فقط، فينسب شاهدها إليها من باب الفضل.

فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أراد أن يستشير أو يعقد مجلساً، كان يحضر شيوخ بدر، ثم يستدعي ابن عباس فيدخله معهم، فغضب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وقال لـعمر: (تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله)، فأسرها عمر في نفسه، فلما جمعهم بادر عمر فطرح سؤالاً، قال: ما تقولون في قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، قال أحدهم: إنه أمر من الله عز وجل أنه إذا دخل الناس في دين الله أفواجاً بأن يسبحوه ويستغفروه، وقال آخر: لا أعلم إلا ما قاله، ووافق الجميع على ذلك، فقال: وما تقول فيها يا ابن عباس ؟ قال: أرى أنه أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى إليه.

فقال عمر : والله يا ابن أخي ما أعلم منها إلا ما تقول. قال ابن عباس : (وكنت أرى أنه أراد أن يريهم ما عندي)، وفي هذا دلالة على استحباب اصطحاب الصغار إلى مجالس الكبار؛ ليتعلموا، فالولد الصغير عندما يصاحب الكبير يستفيد من خبرته وتتوسع مداركه، ولذلك كانت سنة الآباء قبل ذلك أنهم إذا حضروا مجالس العلم أن يصطحبوا الصغار.

كان سفيان بن عيينة -رحمه الله- يلقي درساً لأصحابه، فدخل صبي صغير ومعه ورق وقلم ومحبرة، فبمجرد أن دخل الصغير وكلهم طلبة كبار -تلاميذ سفيان بن عيينة - فمجرد أن ضحكوا فتلا سفيان : كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء:94]، ثم التفت إلى أحمد بن نضر راوي الحكاية عن أبيه قال: يا نضر لو رأيتني وطولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، أكنافي قصار، وسيفي بمقدار، ونعلي كآذان الفأر، أختلف إلى علماء الأمصار، كـالزهري وعمرو بن دينار ، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، ومقلمتي كاللوزة، فإذا دخلت قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير.

وتبسم سفيان وضحك، وتبسم نضر وضحك، وتبسم أحمد راوي هذا عن نضر وضحك، وضللوا يضحكون حتى وصلوا إلى الحافظ راوي الحكاية، وكلهم يضحكون، وهذا من الأمانة في أداء الرواية، واسم هذا النوع من الرواية المسلسل بالضحك، وهناك أحاديث اسمها المسلسلات، وهي: أي أداء الحديث على وصف معين وهيئة معينة، والتشبيك قال: حدثني فلان وشبّك يده في يدي، قال: حدثني فلان وشبّك يده في يدي، قال: حدثني علان وشبك يده في يدي، والكل شبكوا في أيدي بعض، أو المسلسل بالأولية، وهو مشهور وهو حديث: (الراحمون يرحمهم الرحمن)، يقول: حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثني علان وهو أول حديث سمعته منه.. وهكذا.

كان الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله يأخذه أباه إلى مجالس الحافظ ابن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري شرح صحيح البخاري، وهو ابن ثلاث سنين، وكان السيوطي يفتخر جداً بأن عمر ابنه كان ثلاث سنين، وجالس في مجلس الحافظ ابن حجر ، فأدخل أولادك الصغار في مجالس الكبار، سيأخذون من عقولهم ومن تجربتهم، ابن عباس اكتسب خبرة من مجالسة أشياخ بدر، فكأن سيدنا عمر رضي الله عنه تعجب من خفاء تفسير قوله تعالى: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ [التحريم:4] الآية، مع شهرة على ابن عباس وعلمه بالتفسير.

ثم استقبل عمر الحديث يسرده، فبدأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجملة يريد أن يقول فيها: إن هذا الأمر هو سبب الإشكال كله، فقال: (كنا معشر قريش قومٌ نغلب نساءنا، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم) فلم يكن للمرأة قيمة في المجتمع القرشي، إنما هي للولادة والخدمة فقط، فلما هاجروا من مكة إلى المدينة، والمجتمع المدني مجتمع حضاري، كالفرق الآن ما بين القاهرة الكبرى وما بين أي ريف من الأرياف، فأي رجل من الأرياف يدخل متجراً لكي يشتري، يلقى الرجل من المدينة يشاور المرأة في شراء شيء معين، تقول له: لا تعجبني هذه، فيقول لها: أتعجبك هذه؟ فتقول له مثلاً: لنذهب إلى متجر آخر، فيرد عليها: حاضر حاضر أما هذا فاعتاد طوال عمره أنه لا رأي للمرأة، فهو صاحب الرأي الأول والأخير في الموضوع، إنما المدينة مختلفة، المرأة لها كلمة، والرجل يشاور، فلما خرجت النساء من مجتمع مكة، (أم القرى)، وذهبوا إلى المدينة رأين شيئاً جديداً، رأين الشيء الذي ذكرته الآن كمثال.

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كنا معشر قريش قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا) هذا هو الأدب، هو مُغضب من تصرف إخوانه في المدينة، حيث لم يعجبه، ومع ذلك قدم بكلمة (إخواننا) حتى لا تظنوا أنه يطعن أو يعيب أو يسب أو يعير، وذكر لفظ (الأخوة) فيه معنى جميل، فالأخ أغلى من الابن، فربنا سبحانه وتعالى في معْرِض الانتصار يقول: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة:178]، لم يقل: مِن قاتلِهِ، ولا ممن اعتدى عليه، فلما ذكر الحق ذكر الأخوة، لكي يعفو فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178].

قال الله عز وجل: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [عبس:34]، فبدأ بذكر الأخ، كأنه برغم الآصرة القوية وأن الأخ يفتدي أخاه، إلا أنه في هذا الموضع يفر منه، وقدمه على سائر الأصحاب، حتى على أبيه وأمه، فـعمر رضي الله عنه قدم بلفظة (إخواننا) حتى لا تستشعر أنه يسب أو يعير، قال: فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار إذا بالقوم تغلبهم نساؤهم.

قال: (فصخبت على امرأتي ذات يوم فراجعتني)، وفي خارج الصحيحين: (قال: فتناولت قضيباً فضربتها)، وانظر إلى لفظ: (فصخبت) حيث اعتبر أن مجرد المراجعة صخب، (فتناولت قضيباً فضربتها)، قالت: (أو في هذا أنت يا بن الخطاب، ها هم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يهجرنه الليل حتى الصبح) أي: أنا لست أقل منهن، ولا أفضل منه، قال: فأفزعني ذلك، وقلت: أو تفعل حفصة ذلك، ما قال عائشة ولا صفية ولا زينب بل سأل عن ابنته قال: وتفعل حفصة ذلك، ونزل إلى حفصة مباشرة قال: أي بنيتي! أتراجع إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم وتهجره اليوم حتى الليل، قالت: نعم، قال: (وما يؤمنك أن يغضب الله لغضب رسوله) أي: ما الذي أعطاك صكاً بالأمان، أنك تنشزي عليه فيغضب عليك لغضبه، فالله يغضب عليك؟ لماذا كان هذا الموقف من نسائه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن من رحمة الله عز وجل أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يعاملنه كزوج، لا سيما عائشة رضي الله عنها كما ألمح عمر بن الخطاب ، وذكر الحقيقة الشهيرة، التي كانوا يعرفونها جميعاً، وهي أن عائشة كانت أفضل أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت أحبهن إليه عليه الصلاة والسلام.

فيقول لها: (لا يغرنك أن كانت جارتك) وهذا من حسن الكلام والتعبير، ولم يقل لها: لا يغرنك أن كانت ضرتك.. لماذا؟ لأن الألفاظ قوالب المعاني، وضرتُك مأخوذة من الضر، والنحاة العرب والصحابة كان لديهم ذوق عالٍ حيث لم يكونوا يستخدمون اللفظ الذي فيه إهانة لفظاً قبيحاً أو شاذاً.

قال: المأمون مرة لأحد علماء الدولة الكبار: ما الأمر من السواك؟ عندما تقول لشخص استخدم السواك ماذا تقول له؟ قال له: استك يا أمير المؤمنين، قال: بئس ما قلت. مع أن كلامه صحيح، ثم قال لآخر: وأنت يا فلان ما تقول؟ قال: سك يا أمير المؤمنين، قال: أحسنت. مع أن إجابة الأول صحيحة، والثاني خطأ، لكن كان عندهم ذوق، فـعمر بن الخطاب تنكب لفظة ضرّتُك؛ لأنها مشتقة من الضُّر، هذا هو منهج الرسول عليه الصلاة والسلام حيث كان يغير الأسماء، على مقتضى المعاني الجميلة، مثال: لما قال لـبريدة بن الحصيب : ما اسمك؟ قال: اسمي بريدة فالتفت إلى أبي بكر وقال: برد أمرنا وخمد، وقال لآخرين: الجماعة من أين؟ قالوا: من غِفار. فقال: غفر الله لها، ثم قال: وأنتم؟ قالوا: من أسلم. فقال: سالمها الله، فيأخذ المعنى من باب الاسم.

ولذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام بتغيير الأسماء، وجعلها على معنى جميل؛ لأجل هذا، حتى أن النبي عليه الصلاة والسلام لما نهى عن بعض الأسماء مثل: رباح ويسار ونجاح ونجيح وفلاح، قال: لا يسمين أحدكم غلامه رباحاً ولا نجاحاً ولا فلاحاً أو نجيحاً أو يساراً، لماذا؟ مع أن يسار خير.. من اليسر، ورباح خير.. من الربح.. ونجاح خير.. من النجاح، وفلاح من الفلاح أيضاً، فلماذا نهى عن هذه الأسماء الجميلة، قال: (حتى إذا قيل: أثم هو فيقال: لا)، مع أن المتكلم والسامع لا يخطر على باله هذا المعنى، فإذاً: العلة هي ما يقع في سمع السامع وأنه لا فلاح ولا نجاح ولا يسار لما يقول له: غير موجود، لا فلاح ولا نجاح وما إليه.

لذلك حين تختار اسماً، فاختر إما اسماً له دليل كمريم وفاطمة، وعائشة، وخديجة، أو اسماً له معنى جميل، مثل ميمون، فميمون من اليُمن، ولاحظ المصيبة، شخص أراد أن يسمي ابنه (ميمون)، فقالت أمه: نسميه على اسم القرد؟ من الذي قال: إن القرد اسمه ميمون، والقردة اسمها ميمونة؟ من قال هذا؟

أو مثل معاذ، أي: أن الله أعاذه، وأنس من الأنس، وهكذا.

فاختيار اللفظ مسألة مهمة: عمر بن الخطاب تنكب أن يقول: ضرّتك، ومحمد بن سيرين كان يسمع يقال من يقول عن المرأة الثانية أنها ضرّة، فكان يقول: إنها لا تضر ولا تنفع ولا تذهب برزق إلا بكتاب،، إنما يقال جارة من الجوار، والجار له حق على الجار، ليس فيه معنى قبيح.

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا يغرنكِ أن كانت جارتكِ أوضأ منك)، أي: أجمل وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أنت ليس لك تلك المكانة، فلماذا تقلدينها؟ وعائشة رضي الله عنها كان النبي عليه الصلاة والسلام فعلاً يحتمل منها ما لا يحتمل من غيرها.

وفي بعض الأحاديث أن صفية رضي الله عنها تقريباً.. غضب عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت إلى عائشة ووهبت لها ليلتها نظير أن تتوسط وتصلح بينها وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، قالت لها: وأعطيك الليلة الخاصة بي، بشرط أن تقومي بدور الوسيط وتجعليه يرضى عني، قالت عائشة : (فجئت إلى خماري فبللته ففاح عطره، وجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلست بجانبه) ولم تكن ليلتها، كانت ليلة صفية ، فقال: (إليك عني يا عائشة)، أي: ابتعدي عني، قالت: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) هذا رزق جاء من السماء لـعائشة رضي الله عنها.

نقول هذا الكلام لإخواننا الذين يعيشون في المدينة بعقلية القرويين، صحيح أنهم من أهل المدينة لكنهم يتعاملون بالبداوة، فنقول له: تأسَّ بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأرجوك عندما تكلم امرأتك.. هدأ نفسك، وحكم عقلك، واتق الله فيها، قد يكون كلامها صحيحاً، فأرضها وطيب خاطرها، طالما أنه ليس فيه معصية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.

كان يقول لـعائشة رضي الله عنها: (إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى)، قالت عائشة: فقلت من أين تعرف ذلك؟ فقال: (أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلتِ: لا ورب إبراهيم)، هل يضره غضبها؟ لا. لكن غضبه يضرها، ومع ذلك لاحظ التلطُّف، قالت: فقلتُ: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله ما أهجر إلا اسمك) فيحتمل هذا منها عليه الصلاة والسلام ولا يعاقبها، ولا يغضب عليها، فكان لـعائشة حظوة أيما حظوة، فكان هذا معلوم للكل.

فـعمر بن الخطاب يوصي ابنته ويقول لها: لا تقلدي عائشة ؛ لأنه ليس لك من الحظوة ولا من الجمال ما لها.

وجاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألنه العدل في ابنة أبي قحافة ، لأن الناس كانوا يتحرون في هداياهم ليلة عائشة ، يتوددون إلى النبي في بيت أحب نسائه.

فالصحابة يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب عائشة ، ويريدون أن يتقربوا إليه، فعندما يأتي بهدية يحبسها عنده حتى ليلة عائشة ويرسل الهدية، فتجمع عند عائشة رضي الله عنها هدايا كثيرة، فأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يرين هدايا من كل شكل ليس عندهم شيء منها، فيردن من الناس القسمة على جميع نسائه، فأرسلن فاطمة رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تخبره عن نسائه أنهن يردن أن يقسموا، تقول عائشة رضي الله عنها: (فدخلت فاطمة لا تخطئ مشيتها مشية النبي صلى الله عليه وسلم)، تمشي مثله (والنبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة في لحاف واحد، فقال: أهلاً بابنتي، فأجلسها، ثم قال لها: إن أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة -التي هي عائشة - قال: (أي بنية! ألست تحبين ما أحب؟ قالت: أجل قال: فأحبي هذه)، أي: أنهي الموضوع ولا تراجعيني، كان أزواج النبي مجتمعات في بيت إحداهن، بانتظار الرد.

فجاءت فاطمة فدخلت، فقالت: (والله لا أراجعه فيها أبداً)، فلم ييئسن وأرسلن زينب ، أغلى واحدة من أزواجه بعد عائشة تقول: (إن زينب هي التي كانت تساميني في المنزلة عند النبي صلى الله عليه وسلم)، فجاءت زينب ، فدخلت تقول: -وهو في لحافي- فتكلمت بكلام شديد وأضجعت، أي: قالت كلاماً شديداً، والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت، قالت عائشة رضي الله عنها: (فنظرت إليه هل يكره أن أنتصر؟) انظر إلى وفاء الزوجة، ليست من ذلك النوع الذي إذا علمت أن زوجها يغضب من شيء، فتأتي ذلك الشيء، لماذا هكذا، تغضبيه وتتعبيه وتفعلي الشيء الذي يغضبه؟ هذا ليس من الوفاء. فـعائشة تستطيع أن ترد مباشرة، لكن نظرت في وجهه أولاً، هل أسارير وجهه تنطق بعدم الرضا لو تكلمت أو بالرضا؟ فهمت من العشرة أنه لا يكره أن ترد عليها، قالت: فقلت لها فأفحمتها، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنها ابنة أبي بكر، وضحك وتبسّم، وانتهى الموضوع.

فقال عمر بن الخطاب لابنته حفصة: (لا تسألي النبي صلى الله عليه وسلم ولا تستكثريه، وسليني ما بدا لك)، والإمام البخاري رحمه الله بوب في كتاب النكاح بهذه الجملة على الحديث كله، فقال: (باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها).

نحن نوصي الآباء بأن يحذوا حذو عمر ، لا أن يقوم خصام بين ابنته وبين زوجها فيمسك زوجها ويخاصمه لماذا؟ يا أخي! حافظ على قوامة الرجل.. إذا أردت أن تعاتبه فاختل به، وقل له: يا فلان هذا لا يجوز، أنت أخذت ابنتي بكلمة الله، واستحللتها بأمانة الله، فلا يحل لك أن تفعل كذا وكذا وكذا؛ أما أن تأتي وتعاتب الرجل أمام المرأة فهذا ليس من الحكمة في شيء، لماذا؟ لأن هذا يضعف من قوامة الرجل على المرأة، فينبغي على الرجل أن يعين ابنته على البر بزوجها، وعلى طاعة زوجها.

كما فعل عمر رضي الله عنه قال: (يا بنيتي! لا تسأليه شيئاً، ولا تستكثريه، وسليني ما بدا لك)، قال عمر رضي الله عنه: (وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا) لاحظ الكناية الجميلة هذه، (تنعل الخيل)، تلبس الخيل حذاء، ومعناها: أنها تستعد، كما أن الشخص يلبس حذاءه ليمشي، (فتنعل الخيل لغزونا) أي: تعد الخيل لغزو المدينة، وكان ملك غسان هو آخر ملك من ملوك الروم يهدد المدينة، فكان الصحابة على أهبة الاستعداد.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أول الكلام أنه كان وصاحب له يتناوبان النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يستطيع أن يترك حياته ولا معيشته؛ لأن هناك نفقة واجبة عليه، لأن النفقة على الأولاد وعلى الزوجة واجبة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عن من يملك قوته)، كما في صحيح مسلم، وكما في حديث بسند ضعيف (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)، كفى إثماً به أن يضيع امرأته وعياله، فكان لا بد أن يعمل ليسقط هذا الواجب عنه، وفي نفس الوقت لا يريد أن يفوته علم ولا خير من النبي صلى الله عليه وسلم، فاتفق هو وجاره من الأنصار أن ينزل يوماً عند النبي عليه الصلاة والسلام وعمر يشتغل في تجارته أو زراعته، واليوم الثاني ينزل عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويذهب الأنصاري هذا اليوم إلى تجارته، وكل يوم في الليل الذي عليه الدور يذهب لصاحبه في البيت ويقول له: نزل من الوحي كذا وكذا، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بكذا وتحدث بكذا، ويحكي له وقائع ذلك اليوم.

فـعمر بن الخطاب يقول: (وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فجاءني صاحبي عشاءً، وطرق الباب طرقاً شديداً) أي: على غير العادة، (وقال: أثم هو) أي: أهو موجود؟ وفي الرواية الثانية: (أنائم هو؟) فسمع عمر بن الخطاب صوته (فخرج يجر رداءه، ثم قال له: ماذا جرى! أجاء غسان؟) أي: الملك هجم على المدينة، قال له: (لا، بل حدث ما هو أهول من ذلك وأعظم، طلّق النبي نساءه) لاحظ تعبير الصحابي، يعتبر أن تطليق النبي عليه الصلاة والسلام لزوجاته وتكدر خاطره أعظم من اجتياح العدو المدينة، وكانوا يراعون النبي عليه الصلاة والسلام، مراعاة ليس لها حدود، حتى أن عمر بن الخطاب لما دخل المسجد وجد حول المنبر رهطاً يبكي بعضهم، ليس لأجل النساء، حتى لو كانت ابنته أو أخته، بل لأجل النبي صلى الله عليه وسلم لأنه معتزل في المشربة، وقد تكدر خاطره، لأنهم كانوا يحبونه غاية الحب، ومن عرفه أحبّه ولم يخالفه أبداً، فالذي يعرف النبي صلى الله عليه وسلم، ويدمن النظر في سيرته، لا يستطيع أن يخالفه أبداً ؛ فكيف بمن شاهده وسمع كلامه، ورأى حنوه عليهم، عليه الصلاة والسلام.

نريد أن نعلم الزوجات ترك الاعتراض على الزوج وتكدير خاطر الزوج؛ لأن نهاية هذه المعاملة دمار البيت.

نحن نتكلم كثيراً عن جيل التمكين، فإذا البيت يدمر فقد عندنا أي رصيد لجيل التمكين، فعلى الأم والأب أن يتعاونا معاً لأجل الوصول إلى هذه الغاية، قد تخفى الأم على الأب خبر أن الولد يشرب سجاير، لمصلحته كما تزعم، والأب ليس عنده أي علم بذلك، فهذه خيانة، لابد من عرض هذه المسألة على الأب.

فترك الاعتراض وعدم الاعتراض في حق الرجل يوجب الغضب على المرأة يقول عمر رضي الله عنه: (كنت أعلم أن ذلك يوشك أن يكون)، فكل هذا الذي يحدث ما هو؟ فنزل إلى حفصة فوجدها تبكي قال: (لم تبكين؟ أولم أكن حذرتك؟ أطلّقكن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ما أدري).

دخل المسجد ووجد رهطاً عند المنبر فجلس عندهم، ثم أتى غلام فقال: (استأذن لـعمر )، وفي هذا دليل على جواز أن يتخذ الحاكم حاجباً أو بواباً، وأقول: جواز، وإلا لو رأى الحاكم أو الأمير أو الرجل الكبير، حتى ولو لم يكن له منصب رسمي، لكن له منصب في الناس، خاصة إذا رأى أنه لا يستقيم الحال إلا بحاجب حتى تضبط الأمور، ولا يقال له: أنت مفرط ولا مقصر، هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لـأبي لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبة ، اصنع لي رحى، قال له: أنا سأعمل لك رحى، والله أعلم أن عمر بن الخطاب كأنه فهم كلامه يتحدث بها أهل المشرق والمغرب.

فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلق على هذه المقولة فقال: توعدني العبد، هذا أمير المؤمنين وهذا عبد، قال: توعدني العبد، يهددني ومع ذلك لم يتخذ قراراً إجرائياً، ولم يتخذ حاجباً، حيث ترك القضية هكذا برغم أنه قال: توعدني العبد، فلم لم تتخذ حاجباً طالماً توعدك؟ إذاً: اتخاذ الحاجب على الباب فيه دلالة على جوازه، فللأمير أو الحاكم أن يتخذ حاجباً أو بواباً إذا لزم الأمر، وإلا فله أن يترك ذلك.

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأة وهي تبكي، فقال: (اتق الله واصبري) قالت: إليك عني إنك لم تصب بمصيبتي، ثم تولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُخبرت المرأة أنه رسول الله، فانطلقت تسأل عنه، فجاءت فلم تجد حاجباً ولا بواباً ؛ فدخلت إليه، فقالت: إنها لم تعرفه، فقال لها: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).

يقول العلماء: الأحمق يجزع في المصيبة ويرتكب المخالفات، وبعد شهر تقول له: عظم الله أجرك، يقول لك: الحمد لله، بعد شهر يرضى بقضاء الله، لذلك لا يقال للذي استسلم للمقادير بعد الاعتراض: إنه صابر، لأنه استوعب المصيبة وما معه إلى الرضا فليس بصابر، إنما الصابر حقاً من إذا قرعته المصيبة فصبر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).

فقلت للغلام: (استأذن لـعمر )، وفي هذا دليل على استحباب أن يسمي المرء اسمه عند الاستئذان، وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه، قال: (جئت النبي صلى الله عليه وسلم فطرقت الباب، فقال: من هذا؟ قلت: أنا، قال: فسمعته من خلف الباب يقول: أنا أنا)، كأنما كرهها، فأنت حين تطرق الباب، فيقال: من؟ قل: فلان، لكن تقول: أنا أنا؟ ومن أنت؟ إن ابن الجوزي لما شرح هذا الحديث، أثبت فيه كراهة الحبيب صلى الله عليه وسلم لقول: أنا، قال: كأنه يقول: أنا الذي يُعرف نسبي، ولا أحتاج إلى ذكر اسمي، وتخيل كم في الدنيا من الناس لو قال كل واحد منهم: أنا، هل سيعرف من في الباب؟ كـالفضل بن دكين رحمه الله، كان له طلبة وامتنع أن يحدث، لأنهم ضجّروه، فأحب أن يعاقبهم فامتنع عن تعليمهم فجاء شخص وطرق عليه الباب فقال: من؟ قال: رجل من بني آدم، ففتح الباب وأخذه بالأحضان، قال: ما كنت أظن أن هذا الجنس بقي منه أحد.

فـ(أنا) فيها نوع من الاعتزاز بالنفس، وأنت إذا نظرت إلى إبليس وجدت أنه دخل النار لما قال: أنا، وقارون أهلكه الله لما قال: أنا، وصاحب الجنتين لما قال: أنا أزال الله النعمة عنه، فاحفظ هذا يقول إبليس: : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف:12]، ويقول قارون : إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] المال هذا حصلت عليه بعبقريتي وذكائي وحساباتي الجيدة، والرجل الثالث قال: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف:34]، وهو يحقره بالكلمة هذه، حيث استخدم أنا وهو يريد الكبر والأنفة، فقال له الضعيف: إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا [الكهف:39]، ولنا أن نقول: هناك فرق بين أنا التي جاءت على لسان الغني المتكبر، وأنا التي جاءت على لسان الآخر.

إن المؤمن حينما يقول: أنا، لا يقصد أن يتكبر بها ويفاخر، بخلاف غير المؤمن، والفرق: أن المؤمن قال: أنا، للمشاكلة فقط، لم يرد بها التفاخر كالآخر.

فيسن للمستأذن إذا سئل: مَن؟ أن يقول: فلان، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: (قلت: استأذن لـعمر)، (فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت)، والسكوت: علامة الرضا، فلماذا عمر لم يدخل؟! إذاً: المسألة فيها تفصيل، السكوت أحياناً يكون علامة عن الرضا، وأحياناً يكون علامة عن الغضب، فالسكوت علامة الرضا في الزواج مثلاً، وفي القعود؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (تُستأمر البكر، قالوا: يا رسول الله، إن البكر تستحيي، قال: إذنها سكوتها)، إذا سكتت فقد رضيت؛ فالسكوت علامة الرضا.

أما السكوت في هذا الحديث فليس علامة الرضا، وكيف عرف ذلك بالقرائن، والرسول عليه الصلاة والسلام مغضب وهجر نساءه، هذه قرائن، فالقرائن هنا تدل على أن السكوت ليس علامة الرضا، إذا نحن نعتبر القرائن في فهم الكلام من السياق، والعلماء يقولون: السياق من المقيدات.

عندما تقرأ قوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، ستظن بأنه لا عزيز ولا كريم، أليس كذلك؟ لأن السياق يدل على الإهانة، والتنقص ليس في النار عزة، كما قال تعالى: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192]، فلا خزي أكثر من هذا، مع أن كلمة عزيز وكريم لو وضعتها في سياق آخر تؤدي نفس كلمة عزيز وكريم، لكن في هذه الآية أدّت العكس.

إذاً: السياق من المقيدات، وهذه مسألة مهمة جداً. وبعض الذين احتجوا على نجاسة الدماء كلها، احتجوا بحديث أسماء ، لمّا سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدم قال: (واغسلي عنك الدم).

بينما هي لما سألته عن الدم، سألته عن الاستحاضة، وليس غيره، فلا يأتي شخص ويقول: الدم كله نجس، والدليل الحديث السابق، ولفظ (الدم) يفيد العموم، نقول له: لا، الكلام جاء في سياق الكلام عن دم الاستحاضة، والسياق من المقيدات، فلما جاءت لتسأله، إنما جاءت لتسأله عن دم الاستحاضة، لكن إن أردت دليلاً على نجاسة الدم مطلقاً فابحث عن حديث آخر يدل على نجاسة الدماء، أو أدلة أخرى، لكن لا تحتج بهذا الحديث على نجاسة الدماء؛ لأن اللفظ وإن خرج مخرج العموم إلا أنه خاص بدم الاستحاضة بدلالة السياق.

لما قال عمر : استأذن لي ثم استأذن له، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وذهب إلى المنبر فجلس، قال (ثم غلبني ما أجد) أي: تعب، قال: فقمت، فقلت: استأذن لـعمر ، فدخل ثم خرج قال: ذكرتك له فصمت، فجلست عند المنبر، فغلبني ما أجد.. قلت: استأذن لـعمر، فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فخرج من الباب، وهو عند الباب ناداه، وقال: قد أُذن لك.

(فدخل عمر بن الخطاب ). وحين تدخل على شخص حزين لا تقل له: ما الحكاية من أولها؟ فيبدأ يحكي لك الموضوع ويبكي وما إليه، أنت لابد أن تنسيه الموضوع أولاً ثم تسمع منه، فعمر بن الخطاب أول ما دخل قال: (فأردت أن أستأنس) أي: أطلب الأنس، ليس هذا وقت إعادة الحكاية من أولها، صحيح أنك تريد أن تسمع القصة، ولكن لا تبدأ بالحزن، بل قدم بين يدي القصة ابتسامة أو استأنس، ونحن ننصح الزوجة بأن تكون عندها فطنة وذكاء، فإذا كان بينها وبين زوجها إشكال في موضوع معين، فلا تباشره من أول دخوله بقولها: تعال نكمل الموضوع. لا، المفترض أنه عند وصول الرجل تحوِّل الموضوع كله، وتغيره بمقدمة، ثم لا بأس بإكمال الموضوع، هذا هو معنى قول عمر (استأنس).

فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (فأردت أن أستأنس، فقال: يا رسول الله، لو رأيتنا معشر قريش قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم) أليس هذا الذي حصل؟

فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد فهم قصد عمر. فقال عمر: (يا رسول الله لو رأيتني وأنا أقول لـحفصة لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم) فهو .. يهضم حق ابنته، ويقول لها: لا يغرنك أن كانت عائشة أجمل منك وأحسن، وأنت لست مثلها، فهو حط من قدر ابنته، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى عمر بن الخطاب أنه تبسم مرتين، شعر عمر أنه أدى ما عليه من الأنس، فجلس، فلما جلس نظر في البيت إلى الجدران.

(قال عمر: لم أر شيئاً يرد البصر) أي: يملأ العين، قال: (فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يوسع على أمتك، فإنه وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله) أنت رسول الله وأنت أحق من قيصر وكسرى، قال عمر : (وكان متكئاً فجلس) وهكذا الرسول صلى الله عليه وسلم حين يكون الأمر خطر والخطب عظيم، ويريد أن ينبه المستمع إلى أهمية ما سيقول فإنه يجلس، (وكان متكئاً فجلس).

دخل الكسائي على هارون الرشيد ، فقال له هارون : اجلس، قال له: بل اقعد يا أمير المؤمنين. وكان العلماء يؤدبون الخلفاء، وكان الخلفاء يقربون العلماء ليتعلموا منهم، لما يكون هناك ولي العهد، لا يذهب ليلعب ويركب الخيل، بل هذا إنسان سيقود أمة، فيها من هو أفضل منه بكثير، فلذلك لا بد له أن يعيش بين العلماء فيتعلم الحكمة والعلم.

أمير من أمراء بني أمية كان يعلم ابنه ليكون ولياً للعهد من بعده، فأظن أن معلمه كان الأصمعي أو غيره من العلماء، كان يتحدث إلى هذا العالم حتى يلقِّن أولاده العلم، وجعل على هذا العالم والأولاد جاسوساً، لكي ينقل هذا الجاسوس كل كبيرة وصغيرة تدور في المجلس لأمير المؤمنين، فقد يكون المعلم غير كفؤ مثلاً أو صاحب مصلحة، أو يضيع الوقت بما لا فائدة فيه، فبمجرد أن يلاحظ هذا يقرِّر أن يحضر آخر، فكان المقصود بالعين أو الجاسوس أن ينقل ما يجري بين المعلم وبين التلامذة.

وفي يوم من الأيام، وبعد انتهاء الدرس، قام الولدين وليا العهد، ليقدما للأستاذ نعله، فأحدهم سبق أخوه وأخذ النعل ويريد أن يضعه أمام الأستاذ كي يلبس، فقال له أخوه الثاني: لا يمكن، وبعد نقاش، اتفقوا أن كل واحد يعطي له فردة واحدة من النعل، فلا يمكن أن ينال أحدهما الشرف دون الآخر.

فالجاسوس نقل هذا الكلام إلى أمير المؤمنين، بأن ولديه يلبسان المعلم النعال!!

فقال له: يا غلام، من أعز الناس، فقال له: أمير المؤمنين، قال له: لا، بل أعز الناس من تسابق وليا العهد لإلباسه النعل.

فالقائد لا يصلح قائداً إلا إذا مارس الجندية، وأنا اشتغلت ذات مرة في متجر، وكان معي عامل وهذا العامل كان يحب بنتاً، فكان يزيد لها في المكيال، ويرخص في الثمن، غير أن صاحب المتجر لأنه محنك ويعرف العمل تماماً كشفه وكشف أعماله المحرمة.

فالقائد لا يكون ناجحاً إلا إذا مارس الجندية، فكانوا قديماً يستجلبون العلماء ليعلموهم ويؤدبوهم.

فـعلي بن حمزة الكسائي وهو داخل على هارون الرشيد، يقول له: اجلس، قال له: بل اقعد يا أمير المؤمنين. أي لا تقل لي: اجلس، ولكن قل: اقعد، فقال له: وما الفرق؟ قال له: القعود يكون من قيام، والجلوس يكون من اتكاء، ففرق بينهما، مع أنه يمكن أن تستخدم هذه مكان الأخرى، لكن أغلب علماء العربية، يقولون: القعود من قيام، فاقعد.. يدل على أنه واقف، ولذلك مثلاً تجد في كتب الأحاديث (وكان متكئاً فجلس)، لا يقول: فقعد، (وكان متكئاً فجلس).

فجلوس النبي صلى الله عليه وسلم فيه دلالة على الاهتمام، وقال: (أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا)، أي: هل مثلك وفي علمك يقول مثل هذا الكلام، وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:35].

نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن سعة العيش في الدنيا ليست دلالة على الرضا، فالذين ما زالوا يظنون بالله ظن الجاهلية؛ أن ربنا أنعم عليهم وأعطاهم مالاً وأولاداً ومناصب لأنه يحبهم، ولو كان يكرههم ما أعطاهم شيئاً، هذا من جنس ظن أهل الجاهلية بالله عز وجل وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ:35]، فربنا سبحانه وتعالى رد عليهم، قال: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ [سبأ:37]، وربنا سبحانه وتعالى يقول: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا [الفجر:15-17]، ليس الإعطاء دليل كرامة، ولا المنع دليل إهانة. فنفى القضية كلها، وقال: كَلَّا [الفجر:17]، إذاً: السعة والبسط في العيش ليس دليل الرضا؛ لأن من الناس من يفعل مقارنات ما بين سعة الغرب والحضارة الموجودة، وبين تخلف المسلمين، ويعتقد أن تخلف المسلمين سببه أنهم متمسكون بدينهم حتى الآن، وأن هذا سبب تخلفهم، فنقول: هذا ليس صحيحاً، اليابانيون يعبدون الأصنام، وهم أول دولة صناعية في العالم.

قال النبي عليه الصلاة والسلام : (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا).

قالت عائشة رضي الله عنها: (فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا، فلما دخل وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً، فقلت: يا رسول الله، إنك دخلت علي من تسع وعشرين أعدها عداً، وقد أقسمت أن لا تدخل شهراً والشهر ثلاثون يوماً، فقال عليه الصلاة والسلام: (الشهر تسع وعشرون).

فهذا الإطلاق ظنه عبد الله بن عمر رضي الله عنه حكماً، وكان يقول: (الشهر تسع وعشرون)، فـعائشة رضي الله عنها سمعته -كما في الحديث الصحيح- يقول ذلك، فقالت: (يرحم الله أبا عبد الرحمن إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشهر قد يكون تسعاً وعشرين)، وقال صلى الله عليه وسلم: (الشهر هكذا وهكذا) أي: مرة كامل ومرة ناقص، قالت عائشة : (وكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين).

فيؤخذ من هذا أنه يستحب أن يُذَكّر المرء إذا نذر أو حلف فخالف؛ لاحتمال أن يكون نسي، قال (ما أنا بداخل عليهن شهراً)، فـعائشة تذكِّره.. أنت قلت: شهراً، ودخلت في تسع وعشرين يوماً، فإذا نذر الرجل نذراً أو حلف أن لا يدخل شهراً أو نحو ذلك، وخالف المعهود فلا بد أن يُذكَّر بذلك كما فعلت عائشة رضي الله عنها.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

كتاب عمر أمة الإسلام

السؤال: جاءتني أسئلة عن كتاب (عمر أمة الإسلام)، وأن هذا الكتاب عمل ضجة ونحو ذلك، ويظنون أن مؤلفه أتى بالأدلة على ذلك؟

الجواب: الحقيقة.. الكتاب تناولته منذ يومين فقط، ونظرت فيه نظرة عجلى، ولذلك لا أستطيع الحكم عليه إلا بعد أن أقرأه، لكن أقول كلاماً عاماً:

هذا الكتاب من سلبياته أنه يوهم الدعاة كأنه يقول لهم: كفوا عن دعوتكم فلا فائدة من ذلك، لماذا تُرجعون الناس إلى الله وما بقي إلا سبعون أو عشرون سنة وانتهت الدنيا، ولا يوجد حديث صحيح مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والآثار فيها كلام كثير، وقد سبق السيوطي مؤلف الكتاب إلى مثل هذا الكلام، ومرت الأيام وقال برأي السيوطي ، وكان هو يحدث الناس كم سنة على قيام القيامة ومضت الألف عام، وهذا شيء من الغيب، فنحن نرجو من المسلمين أن ينظروا إلى قضاياهم العظيمة، ولعلي أستطيع إن شاء الله أن أجيب عما ورد في هذا الكتاب، إن كان فيه حق أحققناه، وإن كان فيه من خطأ صوبناه بما عندنا من العلم، والله أعلم.

حكم العقد على المرأة الحامل

السؤال: شاب زنا بفتاة وسافر، فعلم الأهل أنها حامل، فقام والد الشاب بالعقد على هذه الفتاة حتى يرجع ولده، وبعد رجوع الولد طلقها الأب وتزوجها الابن؟

الجواب: هذا لا يجوز، سبحان الله! هذا يعني أنهم في جاهلية جهلاء، أولاً: لا يجوز العقد على الحامل، ولا الدخول بها حتى تضع حملها، حتى لو كان من زنا فمن المشاكل الحادثة الآن.. ولد يزني بفتاة وتحمل منه، فيزوجونهم لبعضهم، لماذا؟! يقول ربنا سبحانه وتعالى : وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، فأولات الأحمال مطلقاً، ليس أُولات الأحمال من حلال فقط، فالكلام مطلق، ولذلك لا يحل هذا العقد أبداً، ولا يحل طبعاً الدخول بها، وهذه الصورة جائرة جداً، شاب زنى بفتاة وسافر فعلم الأهل أنها حامل فقام والد الشاب الزاني بالعقد عليها، فلما رجع الولد طلقها الأب وتزوجها الابن.. كأننا في جاهلية جهلاء، كله لا يجوز.

حكم استخدام وسائل منع الحمل

السؤال: هل وسائل منع الحمل ومنها الحبوب، حلال أم حرام، مع العلم أن الاستخدام بنية التنظيم لا بنية المنع؟

الجواب: كل وسيلة تؤدي إلى العزل، فهي جائزة ما لم يثبت ضررها، فمثلاً: حبوب منع الحمل، قال الأطباء فيها: إن هذه الحبوب لها آثار وخيمة على المرأة، أنها تشوه الأجنة، وتسبب سرطان عنق الرحم، ولها مشاكل وأضرار كثيرة تؤثر على المرأة التي تتعاطاها.

فشأن وسائل منع الحمل شأن العزل، إذا كانت الوسيلة ليس فيها ضرر فهي جائزة، والله أعلم.

من كان عنده حق للناس لا بد من إيصاله بأي طريقة

السؤال: أنا كنت أشتغل في متجر، ثم أخذت منه مالاً من غير علم صاحب المحل، فماذا أفعل؟

الجواب: لابد من إرجاع المال إلى صاحب المتجر، وليس بالضرورة أن ترجع المال إلى صاحب المحل وتقول له: أنا اختلست هذا المال، لكن يمكن أنك تضع هذا المال في ظرف، وشخص يوصل هذا المال لصاحب المتجر، ويقول له: إن هناك رجلاً قال: إنه استدان منك ديناً، وبلّغني أن أعطيك هذا الدين، فيكون الدين وصل إلى الرجل من غير أن تفضح نفسك. والله أعلم.

حكم العمل في محلات الحلاقة

السؤال: ما حكم الكسب في محلات الحلاقة؟

الجواب: حلاقة اللحية حرام، فلذلك لا يجوز للحلاق أن يتكسب من مهنة حلاقة اللحية، وقد أجمع العلماء على حرمة شيئين: حلق اللحية وحلاقة القزع التي فيها تشبه بالكفار، والله نحن في زمن العجائب!

فحلق اللحية حرام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب) وقال: (خالفوا اليهود والنصارى

صحة حديث: (الساكت عن الحق شيطان أخرس)

السؤال: يقول: الساكت عن الحق شيطان أخرس. هل هذا حديث صحيح أم لا؟

الجواب: نقول: لا، هذا ليس بصحيح.

حكم جهاد الدفع والفرق بينه وبين جهاد الطلب

السؤال: أود أن أعرف ما الذي يجب على كل عربي في حالة قيام حرب مع إسرائيل حتى لا نصاب بالفزع حيالهم؟

الجواب: أيحتاج هذا السؤال إلى جواب؟ رجل داهمك، أليس هناك شيء اسمه جهاد الدفع؟ إذا عجزت عن جهاد الطلب.. أليس هناك شيء اسمه جهاد الدفع، فجهاد الطلب: أن تخرج من بيتك وتذهب إلى الكفرة في بلادهم، وتقول لهم شيئاً من اثنين: إما أن تدفعوا الجزية وأنتم صاغرون، وإما تتركونا ننشر الإسلام، وإذا منعنونا من الدخول نحاربهم، فهذا هو جهاد الطلب.. وهناك شيء اسمه جهاد الدفع: وهو أنك تكون جالساً في بيتك فتجد واحداً دخل عليك، فإذا دخل عليك أو هاجمك، هل هناك شخص يمكن أن يتوقف ويقول: هل يجوز لي أن أدفع هذا اليهودي أم لا؟

التكفير حكم مخرج من الملة فلابد من ضبط الأحكام الشرعية وعدم التعجل

السؤال: ما تقول في شخص كان ملتزماً ومطيعاً لله ومؤمناً، وفجأة انقلب حاله وأصبح مشركاً؟

الجواب: أنا لا أدري هذا السؤال من التوقف أو من التكفير أو من ماذا؟ لأنه يقول: (أصبح مشركاً) لماذا، ماذا فعل؟ السؤال هنا مجمل، ونحن نحتاج أن نعرف ما هو مظهر الشرك الذي أظهره هذا الرجل الذي كان ملتزماً مؤمناً، أنا أخشى أن يكون فيه تخليط في الأحكام الإيمانية، إنما كاتب السؤال يقول: إنه يتخبط في ظلمات الشرك والضلال، فماذا يفعل هذا الشخص إذا أراد أن يعود إلى الإيمان؟

الجواب: الكفر هو الخروج من الإيمان إلى الكفر، والحل أن يرجع إلى الله.

إذا كان السؤال ماذا يفعل؟ نقول: يرجع إلى الله عز وجل مسلماً كما كان أولاً، لكن في الحقيقة: أنا مرتاب من هذا السؤال.. وأشعر أن شيئاً من الشدة، كأنه مثلاً اشتغل في التجارة، فيقول له صاحبه: إنه عبد المال من دون الله، فيعتبر أن هذا مشرك، وهكذا، إذا كانت المسألة كذلك، فينبغي أن يعدّل السؤال ويكتب بصورة أفضل من هذا؟

حكم حفظ القرآن عند أهل البدع

السؤال: هل يجوز أن أحفظ القرآن على رجل صوفي علماً بأن هذا الرجل من حفظة القرآن، والعارفين بأحكامه، وما الحكم لو حفظت منه بعض الشيء؟

الجواب: يمكن أن نصوغه بصورة مختلفة، والسؤال هو: هل يجوز أخذ العلم على يد المبتدع أياً كانت بدعته؟.. علماء الحديث لما ردوا رواية المبتدع الغالي في البدعة، ردوها لأن هذا المبتدع لم ينفرد بأصل ليس عند أهل السنة، لذلك ردوا عليه حديثه، فلو أن مبتدعاً لم ينفرد بعلم تخصص فيه دون غيره من أهل السنة، فلا يجوز أخذ العلم عنه، إنما متى يرخّص في أخذ العلم على يد مبتدع؟.. إذا كان متفرداً بهذا العلم، وكان المتلقي عالماً ببدعته، وهذا شرط، أما إذا كان لا يعرف شيئاً عن بدعته؛ فهذا لا يحل له أن يتعلم عليه؛ لاحتمال أن يلقنه البدعة.

أحد أئمة الحديث لقبه الجرجاني، كان الجرجاني رحمه الله -وهو من مشايخ النسائي - كان ناصبياً، إذا وقع بمتشيّع لا يبقي ولا يذر، فـالنواصب الذين يبغضون علي بن أبي طالب ، والشيعة : الذين غلوا في علي رضي الله عنه، فـالجرجاني كان ناصبياً، والناصبي ضد الشيعي تماماً، فبمجرد أن يمر به راوٍ متشيع يقول: زائغ عن القصد، مائل عن الجادة، هالك، زائغ، وهكذا.. كل هذه عباراته في الشيعة.

قال: (ومنهم) يعني: من المبتدعة (من تفرد بسنة لا تُعلم إلا عندهم، فمصلحة حفظ السنة مقدمة على مصلحة العلم) لماذا العلماء قديماً لم يأخذوا العلم من المبتدعة؟ لأنه كان هناك ألف واحد أفضل منهم وعندهم نفس العلم الذي عندهم.

فيقول السائل: إن هذا الرجل مجوّد لأحكام القرآن، ورجل ضليع، فنحن نقول: الحمد لله.. يوجد في أهل السنة من هو أضلع منه.

فلذلك لا تأخذ العلم على مبتدع إلا إذا كان المبتدع متفرداً بهذا العلم، ثم أنت على علم كامل ببدعته، حتى لا يلبّس عليك.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم..