حسن الوفاء وقبح الغدر


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

قال الله تبارك وتعالى: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:26-28] .

روى البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير رحمه الله قال: (جاءني رجل يهودي فسألني: أي الأجلين قضى موسى عليه السلام؟ فقلت له: لا -أي: لا أجيبك- حتى آتي حبر العرب -ابن عباس رضي الله عنه- قال: فجئت ابن عباس فسألته عن أي الأجلين قضى موسى؟ فقال: أفضلهما وأطيبهما، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل) (رسول الله) أي: موسى عليه السلام، أو هو اسم علم لكل الرسل، أي: أن أي رسول لله تبارك وتعالى إذا قال فعل، وهذا لأنه في محل الأسوة والقدوة، وقبيح جداً أن يكون الرأس كذاباً، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] لأنه يقول ويفعل، قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ [الممتحنة:4]؛ ولذلك فإن القلوب والأفئدة تهوي إلى كلام الله ورسوله؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87] فالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته العامرة بالوفاء والأمانة ضرب المثل الأعلى للناس.

ولذلك نقول للذين يسنون القوانين: اطمئنوا.. ليس لقوانينكم قداسة في النفوس؛ لأننا نعلم أنكم أول من يخالفها، وهذا داء قديم لا حديث.

جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: ثنتين منها في ذات الله، وواحدة في سارة).

وذلك أن إبراهيم عليه السلام دخل بلداً فيها جبار، وكان هذا الجبار له عيون يرسلها في أنحاء البلد، إذا وجدوا امرأة جميلة يأتون بها إليه، وكان هذا الجبار الذي وضع القانون يستثني الأخوات، فيأخذ امرأة الرجل وأمه، وخالته وعمته، لكنه لا يأخذ أخته، وكان إبراهيم عليه السلام على علم بهذا القانون، فقال إبراهيم عليه السلام لـسارة: إذا جاءك هذا الجبار فقولي: أنت أختي في الإسلام، فوالله ما أعلم أحداً على الإسلام غيري وغيرك. وكانت سارة جميلة جداً، فلما رآها هذا الجاسوس ذهب إلى الملك، وقال له: إن امرأة بأرضك لا تصلح أن تكون إلا لك، فجيء بها، وبالرغم أنها قالت: إنها أخت إبراهيم، إلا أنه خالف مذهبه وأراد أن يقربها، فدعت عليه فشل، كما في الحديث المعروف.

فهؤلاء يصنعون القوانين ثم يخالفونها لأهوائهم، لذلك لا تجد قانوناً محترماً إذا سنه البشر؛ لأنهم يسنون القانون لعلة ثم يلغونه لعلة أيضاً، وما العلة إلا الهوى؛ لكن رسول الله إذا قال فعل؛ لذلك تمت الأسوة بهم، قال تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37] (وفى) من الوفاء، وهو أنه كمل العبادة لله.

لما ألقي في النار جاءه جبريل عليه السلام، وما أدراك ما جبريل؟!! خلق عظيم، له ستمائة جناح، قلب قرى قوم لوط بريشة من جناحه! قال عليه الصلاة والسلام: (رأيت جبريل على رقرقٍ -أي: على كرسي- يملأ ما بين السماء والأرض).

عندما أتى جبريل إلى إبراهيم عليه السلام قال له: (هل لك إليَّ حاجة؟ قال: أما إليك فلا) لأنه عبد يفتقر إلى شيء معين وهو رب العالمين، فإذا كان رب العالمين يمكنك أن تصل إليه بلا حاجز، فلماذا تتخذ حاجزاً وتطيل المسافة على نفسك؟! قال: (أما إليك فلا) وهو في النار، وقد كاد له العالمون جميعاً، لكنه وفى العبودية حقها، ولم يلجأ إلا إلى رب العالمين تبارك وتعالى.. وهنا محل الوفاء.

فقوله: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [القصص:27] أي: أنكحك إحدى ابنتي على أن تخدمني ثماني سنين فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا [القصص:27] إن أكملتها عشراً فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:27] فهو تطوع وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ [القصص:27] لن أجبرك على أن تخدم العشرة سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص:27] أي: إذا عاشرتني، وعلمت كريم أخلاقي ستتم العشرة قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ [القصص:28] هذا هو عقل الوفاء أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ [القصص:28] إن أخذت بالحد الأدنى الذي شرطته عليَّ وقضيت إلى سبيلي فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ [القصص:28]، أي: لا تشق عليَّ بأن تلزمني بالخدمة وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:28].

روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم -وعند ابن حبان وابن خزيمة : ومن كنت خصمه خصمته-: رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حراً وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) مع أن الله عز وجل خصم للظالمين جميعاً إلا أنه نبه على هؤلاء الثلاثة.

معنى قوله: من أعطي بي ثم غدر

قوله: (من أعطي بي ثم غدر) كأن تقول لرجل: أعطني هذه الأمانة، والله على ما أقول وكيل، أو الله شهيد على ما نقول، أو أعطني هذه بالله، فيغتر الرجل بكلامك ويعطيك، يظنك معظماً لله عز وجل، فإذا أكل الآكل هذه العطية فإن الله عز وجل خصمه، ومن كان الله عز وجل خصماً له فقد خصمه -أي: غلبه- قال تعالى: يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون:88] فإذا دخلت في حمى الملك لا يستطيع أحد أن يصل إليك، وإذا أرادك هو فلا يحميك أحد منه قط، وهذا هو معنى: يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون:88] عز جاره، فلا يغلب ولا يؤذى من كان الله عز وجل جاراً له.

فقوله: (من أعطي بي ثم غدر) لأنه لم يقدر الله حق قدره، إذ لو علم قدر ربه لخاف، ولعظم أن يحنث في اسمه، أما الذي يوفي فإن الله عز وجل يسخر له من أسباب الكون ما لا يخطر لأحدٍ على بال، هذا هو جزاء الوفاء.

من وفى لله وفى الله له، وبقدر ما تبذل لربك يبذل الله عز وجل لك من أسباب الفوز، وقد جاء في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن رجلاً من بني إسرائيل استلف من رجل ألف دينار، فقال صاحب المال للذي يريد أن يقترض منه: ائتني بوزير -وفي رواية: بكفيل- قال: كفى بالله كفيلاً. قال: ائتني بشهيد. قال: كفى بالله شهيداً. قال: صدقت، وأعطاه الألف دينار -بلا مستند- فأخذ الرجل المال وانطلق به يتاجر في البحر، فلما حان موعد الوفاء التمس الرجل المدين مركباً يؤدي الدين في الموعد المعلوم، فلم يجد مركباً وهدأ البحر -توقفت حركة الملاحة- والرجل الآخر على الشاطئ الآخر ينتظر مركباً ليأتي صاحبه -وعند ابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة-: أن الرجل صاحب المال جعل يسأل عن صاحبه الذي اقترض منه المال، فقالوا له: إنه في مكان كذا وكذا. قال: رب! إني أعطيت المال بك فاخلف عليَّ. -كأنه ظن أن الرجل غدر به وأكل المال؛ لأنه موجود، سأل عنه فقيل: في المكان الفلاني.. طيب لماذا لم يأت؟- قال: رب إني أعطيت بك فاخلف عليَّ. والرجل ينتظر مركباً ولا يجد، فلما يئس نظر إلى السماء، وقال: رب! أنت وكيلي -يعني: ماذا أفعل وقد أخذت المال بك؟ وماذا يقول الرجل عني؟ يظن أني غدرت، حنثت، كذبت، جعلتك جنة حتى أخذت المال بك.

هناك بعض الناس -والعياذ بالله- الله تبارك وتعالى عندهم رخيص، فتجده يحلق بأغلظ الأيمان لدرهم واحد وهو كاذب، يحلف بالأيمان الغلاظ التي تدخل أمة كاملة في جهنم، اليمين الغموس هو أحد الكبائر والموبقات الذي يجعل الديار بلاقع، الرجل يبذل يميناً يقتطع بها حق امرئ مسلم، فما أهون الله عند هؤلاء!

الرجل حزين واقع في كرب حائر تأكله الهواجس، فلما قال: رب! أنت وكيلي، أخذت المال بك، فأوصل هذا المال إلى صاحبه، ونقر الخشبة ووضع الكيس فيها مع رسالة من صاحبه، وقذف بها في البحر فابتلعها الموج، وكان الرجل على الشاطئ الآخر ينتظر، فلما يئس أن يأتي صاحبه وجد خشبة تروح وتجيء أمامه -ومعنى حركة الملاحة متوقفة، أي: أن البحر هائج وهناك رياح عاصفة وأمطار غزيرة وبرد- فقال: آخذ هذه الخشبة أستدفئ بها، فأخذها، فلما ذهب إلى الدار ألقاها إلى امرأته، وقال: أوقدي بها، فكسرت المرأة الخشبة فنزل منها الكيس، فقرأ الرسالة في الكيس وعد المال، وكان الرجل الآخر ينتظر مركباً حتى وجد أول مركب، فركب وأخذ ألف دينار أخرى وذهب إلى صاحبه؛ فقال: هذا أول مركب. قال: هل أرسلت إليَّ شيئاً؟ قال: أقول لك هذا أول مركب. قال: ارجع راشداً فقد أدى عنك وكيلك) .

وفي صحيح ابن حبان : قال أبو هريرة : (فلقد رأيتنا يكثر لغطنا ومراؤنا عند النبي عليه الصلاة والسلام أيهما آمن من صاحبه -من أشد إيماناً من الآخر- الذي أعطى المال بالله بلا مستند، أم الذي رمى بالمال في البحر وهو لا يضمن أن يصل هذا المال إلى صاحبه).

فإذا جعلت الله وكيلك كان أفضل منك، وكان أرعى للأمانة منك، كما يقول بعض العلماء: إذا دعوت لأخيك بظهر الغيب كان لك من الحظ أفضل منه، فقيل له: لم؟ قال: لأنك إذا دعوت لأخيك بظهر الغيب قيض الله لك ملكاً يقول: ولك بمثل ذلك، ودعاء الملك أثقل من دعاء العبد بنفسه، ملك، مسخر، مطيع، لا يعصي ربه أبداً، فإذا قلت: اللهم اغفر لأخي، وارزقه، وارحمه؛ قيض الله لك ملكاً يقول: ولك بمثله. فدعاء الملك لك أثقل من دعائك لأخيك.

معنى قوله: ورجل باع حراً فأكل ثمنه

فهؤلاء الثلاثة الذين يخصمهم رب العالمين أولهم: (من أعطي بي فغدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه) كأن يكون عنده عبد فيعتقه، ويقول له: أنت حر لوجه الله، ويكتم نبأ العتق، ثم يقع في ضائقة فيأخذ هذا العبد ويبيعه في الأسواق على أنه عبد، مع أن الله عز وجل أنجاه من ربقة العبودية بالحرية، فهذا الرجل خصمه رب العالمين.

وإن أكبر مشكلة ومصيبة يتعرض لها المرء في حياته أن يكون عبداً مسترقاً، لأنه لا يملك من أمر نفسه شيئاً، حتى لو أراد أن يتزوج لا يستطيع إلا إذا أذن له سيده، حتى وإن بلغت به العزوبية غاية المشقة فلا يجرؤ ولا يستطيع الزواج.

قال صلى الله عليه وسلم: (أيما عبد تزوج بغير أذن مواليه فهو عاهر) أي: فاجر.

يحتاج أن يتزوج، ولكن سيده تعنت، قال له: لا زواج؛ فلا يستطيع الزواج.

وكذا إذا شق عليه سيده بالخدمة فلا يستطيع أن يفر بجلده أبداً، ولابد أن يضل مكانه؛ لأن العبد كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أبق من سيده لا تقبل له صلاة ولا زكاة ولا صيام حتى يرجع).

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤدي ولد حق والده إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه) هذه هي التي يستطيع الولد أن يقول لأبيه: أنا معك رأس برأس إنما غير ذلك، فلا يستطيع أن يؤدي حق والده أبداً.

فهذا الرجل عندما يعطي هذا المملوك حريته، ويكتمها ويبيعه بعد أن صار حراً يكون الله خصيمه يوم القيامة.

فهذا الرجل الذي باع الحر وأكل ثمنه الله عز وجل خصمه.

معنى قوله: ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه -أي: العمل المطلوب- ولم يعطه أجره) يأتي به لقضاء عمل معين على أجرة معلومة، وما أكثر الذين يرتكبون هذا، كأن يذهب الشخص بعقد عمل إلى أي بلد من البلدان وبأجرة معلومة فعندما يصل يقول له صاحب العمل: أعطيك تسعمائة ريال فقط، فيجد هذا الرجل نفسه مضطراً إلى أن يعمل بهذا المبلغ؛ لأنه اقترض ثمن التذكرة وثمن عقد العمل -الفيزة- ولا يستطيع أن يرجع، فالله خصم لهذا الرجل.

قوله: (من أعطي بي ثم غدر) كأن تقول لرجل: أعطني هذه الأمانة، والله على ما أقول وكيل، أو الله شهيد على ما نقول، أو أعطني هذه بالله، فيغتر الرجل بكلامك ويعطيك، يظنك معظماً لله عز وجل، فإذا أكل الآكل هذه العطية فإن الله عز وجل خصمه، ومن كان الله عز وجل خصماً له فقد خصمه -أي: غلبه- قال تعالى: يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون:88] فإذا دخلت في حمى الملك لا يستطيع أحد أن يصل إليك، وإذا أرادك هو فلا يحميك أحد منه قط، وهذا هو معنى: يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون:88] عز جاره، فلا يغلب ولا يؤذى من كان الله عز وجل جاراً له.

فقوله: (من أعطي بي ثم غدر) لأنه لم يقدر الله حق قدره، إذ لو علم قدر ربه لخاف، ولعظم أن يحنث في اسمه، أما الذي يوفي فإن الله عز وجل يسخر له من أسباب الكون ما لا يخطر لأحدٍ على بال، هذا هو جزاء الوفاء.

من وفى لله وفى الله له، وبقدر ما تبذل لربك يبذل الله عز وجل لك من أسباب الفوز، وقد جاء في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن رجلاً من بني إسرائيل استلف من رجل ألف دينار، فقال صاحب المال للذي يريد أن يقترض منه: ائتني بوزير -وفي رواية: بكفيل- قال: كفى بالله كفيلاً. قال: ائتني بشهيد. قال: كفى بالله شهيداً. قال: صدقت، وأعطاه الألف دينار -بلا مستند- فأخذ الرجل المال وانطلق به يتاجر في البحر، فلما حان موعد الوفاء التمس الرجل المدين مركباً يؤدي الدين في الموعد المعلوم، فلم يجد مركباً وهدأ البحر -توقفت حركة الملاحة- والرجل الآخر على الشاطئ الآخر ينتظر مركباً ليأتي صاحبه -وعند ابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة-: أن الرجل صاحب المال جعل يسأل عن صاحبه الذي اقترض منه المال، فقالوا له: إنه في مكان كذا وكذا. قال: رب! إني أعطيت المال بك فاخلف عليَّ. -كأنه ظن أن الرجل غدر به وأكل المال؛ لأنه موجود، سأل عنه فقيل: في المكان الفلاني.. طيب لماذا لم يأت؟- قال: رب إني أعطيت بك فاخلف عليَّ. والرجل ينتظر مركباً ولا يجد، فلما يئس نظر إلى السماء، وقال: رب! أنت وكيلي -يعني: ماذا أفعل وقد أخذت المال بك؟ وماذا يقول الرجل عني؟ يظن أني غدرت، حنثت، كذبت، جعلتك جنة حتى أخذت المال بك.

هناك بعض الناس -والعياذ بالله- الله تبارك وتعالى عندهم رخيص، فتجده يحلق بأغلظ الأيمان لدرهم واحد وهو كاذب، يحلف بالأيمان الغلاظ التي تدخل أمة كاملة في جهنم، اليمين الغموس هو أحد الكبائر والموبقات الذي يجعل الديار بلاقع، الرجل يبذل يميناً يقتطع بها حق امرئ مسلم، فما أهون الله عند هؤلاء!

الرجل حزين واقع في كرب حائر تأكله الهواجس، فلما قال: رب! أنت وكيلي، أخذت المال بك، فأوصل هذا المال إلى صاحبه، ونقر الخشبة ووضع الكيس فيها مع رسالة من صاحبه، وقذف بها في البحر فابتلعها الموج، وكان الرجل على الشاطئ الآخر ينتظر، فلما يئس أن يأتي صاحبه وجد خشبة تروح وتجيء أمامه -ومعنى حركة الملاحة متوقفة، أي: أن البحر هائج وهناك رياح عاصفة وأمطار غزيرة وبرد- فقال: آخذ هذه الخشبة أستدفئ بها، فأخذها، فلما ذهب إلى الدار ألقاها إلى امرأته، وقال: أوقدي بها، فكسرت المرأة الخشبة فنزل منها الكيس، فقرأ الرسالة في الكيس وعد المال، وكان الرجل الآخر ينتظر مركباً حتى وجد أول مركب، فركب وأخذ ألف دينار أخرى وذهب إلى صاحبه؛ فقال: هذا أول مركب. قال: هل أرسلت إليَّ شيئاً؟ قال: أقول لك هذا أول مركب. قال: ارجع راشداً فقد أدى عنك وكيلك) .

وفي صحيح ابن حبان : قال أبو هريرة : (فلقد رأيتنا يكثر لغطنا ومراؤنا عند النبي عليه الصلاة والسلام أيهما آمن من صاحبه -من أشد إيماناً من الآخر- الذي أعطى المال بالله بلا مستند، أم الذي رمى بالمال في البحر وهو لا يضمن أن يصل هذا المال إلى صاحبه).

فإذا جعلت الله وكيلك كان أفضل منك، وكان أرعى للأمانة منك، كما يقول بعض العلماء: إذا دعوت لأخيك بظهر الغيب كان لك من الحظ أفضل منه، فقيل له: لم؟ قال: لأنك إذا دعوت لأخيك بظهر الغيب قيض الله لك ملكاً يقول: ولك بمثل ذلك، ودعاء الملك أثقل من دعاء العبد بنفسه، ملك، مسخر، مطيع، لا يعصي ربه أبداً، فإذا قلت: اللهم اغفر لأخي، وارزقه، وارحمه؛ قيض الله لك ملكاً يقول: ولك بمثله. فدعاء الملك لك أثقل من دعائك لأخيك.

فهؤلاء الثلاثة الذين يخصمهم رب العالمين أولهم: (من أعطي بي فغدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه) كأن يكون عنده عبد فيعتقه، ويقول له: أنت حر لوجه الله، ويكتم نبأ العتق، ثم يقع في ضائقة فيأخذ هذا العبد ويبيعه في الأسواق على أنه عبد، مع أن الله عز وجل أنجاه من ربقة العبودية بالحرية، فهذا الرجل خصمه رب العالمين.

وإن أكبر مشكلة ومصيبة يتعرض لها المرء في حياته أن يكون عبداً مسترقاً، لأنه لا يملك من أمر نفسه شيئاً، حتى لو أراد أن يتزوج لا يستطيع إلا إذا أذن له سيده، حتى وإن بلغت به العزوبية غاية المشقة فلا يجرؤ ولا يستطيع الزواج.

قال صلى الله عليه وسلم: (أيما عبد تزوج بغير أذن مواليه فهو عاهر) أي: فاجر.

يحتاج أن يتزوج، ولكن سيده تعنت، قال له: لا زواج؛ فلا يستطيع الزواج.

وكذا إذا شق عليه سيده بالخدمة فلا يستطيع أن يفر بجلده أبداً، ولابد أن يضل مكانه؛ لأن العبد كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أبق من سيده لا تقبل له صلاة ولا زكاة ولا صيام حتى يرجع).

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤدي ولد حق والده إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه) هذه هي التي يستطيع الولد أن يقول لأبيه: أنا معك رأس برأس إنما غير ذلك، فلا يستطيع أن يؤدي حق والده أبداً.

فهذا الرجل عندما يعطي هذا المملوك حريته، ويكتمها ويبيعه بعد أن صار حراً يكون الله خصيمه يوم القيامة.

فهذا الرجل الذي باع الحر وأكل ثمنه الله عز وجل خصمه.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه -أي: العمل المطلوب- ولم يعطه أجره) يأتي به لقضاء عمل معين على أجرة معلومة، وما أكثر الذين يرتكبون هذا، كأن يذهب الشخص بعقد عمل إلى أي بلد من البلدان وبأجرة معلومة فعندما يصل يقول له صاحب العمل: أعطيك تسعمائة ريال فقط، فيجد هذا الرجل نفسه مضطراً إلى أن يعمل بهذا المبلغ؛ لأنه اقترض ثمن التذكرة وثمن عقد العمل -الفيزة- ولا يستطيع أن يرجع، فالله خصم لهذا الرجل.

الوفاء من شيمة الأنبياء، كما روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس ، في الحديث الطويل لما حدثت مناظرة بين هرقل وأبي سفيان في أمر النبي عليه الصلاة والسلام، (فقال هرقل لـأبي سفيان : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال له: لا. قال: فهل يغدر؟ قال له: لا. قال: فبم يأمركم؟ قال: يأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة) .

سبحان الله! أفمثل هذا يقاتل، إنهم -أي: العرب- فعلوا مثل ما قال قوم لوط: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [النمل:56] لماذا؟ ما ذنبهم؟ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل:56] (فقال لـأبي سفيان : ما كان ليذر الكذب على الناس ثم يكذب على الله .. -ولما جاء على الغدر- قال: وكذلك الأنبياء والرسل لا يغدرون).

وفي كتاب الشهادات طرف من هذا الحديث عند البخاري أيضاً: قال هرقل لما قال له أبو سفيان : (إنه يأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبي) أي: أنه لا يفعل مثل هذا إلا نبي.

قصة حذيفة بن اليمان وأبيه مع كفار مكة

لقد ضرب نبينا صلى الله عليه وسلم المثل الأروع في الوفاء وترك الغدر، حتى مع أعدائه، ولذلك احترموه؛ وكانوا يهابونه ويوقرونه، وكثير من الذين دخلوا الإسلام كان بسبب ما رأوا من شمائله، وقبل أن يعرفوا شيئاً من أحكام الإسلام، وكذلك الرأس، فكثير من الناس لا يفرق بين الدعوة والداعية، فإذا رأوا داعية كذاباً ممارياً ممارئاً مماطلاً ظنوا أن الدعوة كذلك؛ لأنهم لا يفرقون، وإذا رأوه وفياً كريماً سخياً اعتقدوا صحة هذه الدعوة.

وأناس كثيرون دخلوا الدعوة لما نظروا إلى شمائل النبي عليه الصلاة والسلام، فقد جاء في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: (خرجت أنا وأبي فلقينا كفار قريش، قالوا: إلى أين؟ قلنا: إلى المدينة. فقالوا: لا. إنكم تريدون محمداً. قلنا: لا نريد إلا المدينة. قال: فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه ألا نقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال حذيفة : فجئت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له ذلك، فقال: نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم).

وهؤلاء أعداء لكنهم أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه، فلا يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من يضع أمر الله تبارك وتعالى، فيقول: هؤلاء أعداء، قال: (نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم) لذلك قال حذيفة : (فشهدنا بدراً ولم نقاتل) كانوا حاضرين في القتال، وهذا من تعظيم الوفاء بالعهد.

قصة المغيرة بن شعبة والنفر الذين قتلهم وسلب أموالهم

جاء في الصحيحين من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه في حديث صلح الحديبية ، قال في هذا الحديث: (وجاء عروة بن مسعود الثقفي فأتى المغيرة بن شعبة -وفي رواية: أنه تلثم-) وضع لثاماً على وجهه لما وجد أن عمه قادم -وهو عروة - وجاء بالسيف يظن أن عروة يريد شيئاً أو يؤذي النبي عليه الصلاة والسلام، فجاء بالسيف، ووقف على رأس النبي عليه الصلاة والسلام، فكان عروة يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام، فيمد يده فيمس لحية النبي عليه الصلاة والسلام فيضربه المغيرة بظهر السيف، فينظر عروة فلا يعرفه -أي: لا يستطيع أن يميزه لأنه ملثم- ثم يعود عروة فيمس لحية النبي عليه الصلاة والسلام فيضربه المغيرة ، حتى إذا تكرر ذلك أكثر من مرة قال عروة للنبي صلى الله عليه وسلم: (من هذا الذي أزعجني وضرب يدي؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا ابن أخيك، هذا المغيرة بن شعبة ، فقال عروة للمغيرة : أي: غدر! -أي: يا أيها الغادر- لا زلت تسعى في غدرتك، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس).

وكان من خبر المغيرة -وهذا هو الشاهد- أنه صحب ثلاثة عشر نفراً من قريش قبل أن يسلم، فشربوا الخمر جميعاً، فقام عليهم المغيرة فقتلهم وسلب أموالهم، وفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، وقص عليه ذلك. فقال له عليه الصلاة والسلام: (أما الإسلام فأقبله منك، وأما المال فلست منه في شيء، إنه أخذ غدراً) ورد المال عليه ولم يأخذه، حتى يترفع عن الدنايا، وأنت تعلم أن الأنبياء أكمل الناس مروءة، فلا يفعلون شيئاً يشينهم عند العوام حتى لو كان مباحاً.

موسى عليه السلام كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان بنو إسرائيل يغتسلون عرايا، وكان موسى عليه السلام رجلاً حيياً يستحيي أن يُرى شيء من جلده، فكان يغتسل في مكان بعيد، فقالوا: ما الذي يجعله أن يغتسل بعيداً عنا. إنه آدر) آدر: يعني: لديه عيب في الخصية؛ ولذلك هو لا يريد أن ينكشف أمامنا، فكونهم يغتسلون عرايا ولا ينكر عليهم موسى عليه السلام دل على أن هذا كان مباحاً عندهم، ولكنه ليس من المكارم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حييٌ ستير، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر)، ولما قال له بعض الصحابة: (إنني أكون وحدي فأكشف عن فخذي، قال: إن الله أحق أن تستحيي منه) فهذا وإن كان مباحاً لكنه ليس من مكارم الأخلاق، لذلك عافه موسى عليه السلام ولم يفعله، وكان يغتسل وحده بعيداً حتى اتهموه بهذه الفرية.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فوضع موسى عليه السلام ثوبه يوماً على حجر ونزل يغتسل كالعادة، فأخذ الحجر ثوبه وفر، فلما رأى موسى عليه السلام أن الحجر أخذ ملابسه، انطلق يجري خلف الحجر وهو ينادي عليه يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر -أي: هات ثوبي أيها الحجر- فمر موسى عارياً يجري خلف الحجر، فمر على بني إسرائيل وهم يغتسلون عرايا فرأوه، فقالوا: ما بالرجل من بأس -أي: هذا الذي رميناه به ليس فيه-) وقد ذكر الله ذلك فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.