Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

الحيل


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

قال الله عز وجل: وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:11-13].

لما وقع موسى عليه السلام في يد فرعون، وهو كما وصفه الله عز وجل: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ [طه:39]، وطار لب أم موسى لما علمت بذلك، فأرسلت أخته لتتبع أثره، وهذا معنى قوله تعالى: قُصِّيهِ ، وأصل القصص هو تتبع الأحداث، قال تعالى في قصة موسى والخضر: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64]، أي: انثنيا راجعين على طريقهما الذي جاءا منه مرةً أخرى يقصان الخطا حتى يرجعا إلى الخضر؛ لأن ذلك بغيتهما.

فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أي: أبصرته من بعدٍ وهي تتابعه،وأهل فرعون لا يشعرون أنها أخته.

وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص:12]، (مراضع): جمع مرضع، مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56].

فَقَالَتْ أي: أخته التي تقص أخباره: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12]، احتج بهذه الآية بعض من رخص في الحيل؛ وذلك أن أخت موسى عليه السلام احتالت ولم تظهر شخصيتها في هذا الموقف، بل قالت: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12]؛ كأنها لا تعرفه، فرخصوا في الحيل، وذكروا في ذلك جملةً من الأدلة منها هذا الدليل.

فاعلم أيها المستغفر: أنه لا يخادع الله أحد إلا خدعه الله، كما قال عبد الله بن عمر : من يخدع الله يخدعه، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [البقرة:9] على الحقيقة.

الحيل: جمع حيلة وهي القدرة على التصرف، والحيل تنقسم إلى قسمين: حيلة مذمومة، وحيلة محمودة.

أما الحيلة المذمومة لأنها من جنس حيل اليهود، أن يحتال الشخص إلى ما يريد، إما بطريق مباحٍ إلى محرم، وإما بطريق محرم إلى محرم، فهذا كله حرام، وتشتد الحرمة إذا أخطأ الطريق إلى المراد، فكل من تحيل حيلةً ليحل ما حرم الله عز وجل فهو من أتباع اليهود في ذلك، وقد ذكر الله عز وجل ضرباً من حيل اليهود، فقال تبارك وتعالى في سورة الأعراف، وهو يقص علينا قصة بني إسرائيل مع الحيتان؛ وذلك أن الله عز وجل لما حرم على بني إسرائيل صيد الحيتان يوم السبت -كما قال السدي وغيره- جاءوا إلى النهر العظيم وحفروا حفراً، وهذه الحفر فيها ماءٌ قليل بينها وبين النهر قناةٌ صغيرة، فكانت الحيتان تأتي يوم السبت بكثرة، حتى أنها كانت ترفع رءوسها من الماء، فإذا جاء يوم الأحد لزمت الحيتان قاع البحر، ولم يظهر حوتٌ واحد، فتحيلوا، فبدأ رجلٌ واحد منهم فحفر حفرة، وجعل بين الحفرة والنهر الكبير مسرباً، فإذا كان يوم السبت جاءت الحيتان فدخلت الحفرة، فإذا أرادت أن ترجع إلى النهر مرةً أخرى عجزت لقلة الماء في الحفرة، فيأتي يوم الأحد ويأخذ الحيتان.

وفي روايةٍ أخرى: أن رجلاً من هؤلاء ذهب يوم السبت إلى حوت وختمه بخيط وربطه في وتد، فإذا جاء يوم الأحد لم يستطع هذا الحوت المختوم أن يفر، وأخذه ودخل بيته وشواه سراً، فظهرت رائحة الشواء، فشم الرائحة جاره فسأله ماذا فعلت؟ قال: فعلت كذا، فذهب فصنع مثل صنيعه، حتى فشت فيهم تلك الحيلة في صيد الحيتان.

فانتصب أهل العلم لهم، ونهوهم أشد النهي عن ذلك، فقالوا لهم: إننا اصطدنا السمك يوم الأحد، فقالوا لهم: لا، لقد صدتموه يوم حفرتم له الحفر، فلما قام أهل العلم بوعظهم، ولم يمتثل هؤلاء لهم، قالوا: لا نساكنكم في قريةٍ واحدة، فإنه إذا نزل أمر الله عز وجل أخذنا جميعاً، فبنوا جداراً في القرية بينهم، فصار المعتدون بالصيد المحرم في ناحية، وأهل الورع والمؤمنون في ناحيةٍ أخرى، وصار لكل ناحيةٍ باب، وفي يوم من الأيام فتح المؤمنون بابهم وخرجوا ولم يفتح الكافرون بابهم، وطالت المدة، فقال المؤمنون لبعضهم: إن لهذا شأناً فتسوروا الجدار، فإذا هم جميعاً قردة ينزو بعضهم على بعض، ففتحوا لهم الباب، فخروا في الأرض فلا يعرفون لهم سبيلا: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:166].

لنتأمل أيها الإخوة الكرام حقيقة هذه الحيلة التي احتالوها: إن حفر الحفرة أمرٌ مباح، لكنهم توصلوا بهذا الأمر المباح إلى تحليل ما حرم الله، لذلك يقول علماؤنا: الوسائل لها أحكام المقاصد، فإذا كان المقصد مباحاً، فلا بد أن تكون الوسيلة إليه مباحة أيضاً.

رجلٌ أراد الغنى وهذا أمر مباح، فقطع الطريق على الناس؛ فهذه الوسيلة لجمع المال محرمة، إن الغاية عندنا معاشر المسلمين لا تبرر الوسيلة، فإن الوسائل لها أحكام المقاصد، فالمعتدون بالصيد المحرم تحيلوا بشيءٍ مباحٍ لتحليل ما حرم الله عز وجل عليهم، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فأذابوها وجملوها وباعوها، وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه)، والنبي عليه الصلاة والسلام حرم ثمن الكلب، وحرم عسب الفحل، وحرم حلوان الكاهن، فلا يحل تعاطي هذه الأموال على الإطلاق؛ لكن اليهود لهم شأنٌ آخر، حرم الله عليهم الشحوم، فأذابوها، وجملوها، وباعوها واشتروا بأثمانها فاكهةً ولحماً حلالاً، وقالوا: إنا نأكل اللحم والفاكهة الحلال! فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه).

ومن جنس المحرمات التي لا يحل للمسلم تعاطيها والمعاملة بها: عسب الفحل -وهذا الفعل مشهور في الأرياف- رجل عنده فحل ذكر، ورجل آخر عنده أنثى يريد أن ينكحها، فيذهب بها إليه فينزو الفحل عليها، فمن أخذ على ذلك أجراً فهو حرام، بهذا النص: (نهى عن عسب الفحل، وعن ثمن الكلب)، ولا يحل لمسلمٍ أن يبيع كلباً أو يشتري كلباً إلا ما رُخِصَ فيه من كلب الحراسة ومن كلب الصيد، ولو أن رجلاً تحيل وأخذ حلوان الكاهن مثلاً واشترى به طعاماً حلالاً فأهل العلم يحكمون بحرمة هذا الطعام.

وفي الصحيح: (أن غلاماً دعا أبا بكر رضي الله عنه إلى طعام، فلما أكل أبو بكر قال له الغلام: أو تدري من أين هذا المال؟ قال: لا. قال: إني كنت تكهنت في الجاهلية لفلان فأعطاني هذا المال؛ فأدخل أبو بكر رضي الله عنه إصبعه فيه فمه وتقيأ ما أكل) من الحرام، فالله عز وجل إذا حرم شيئاً حرم ثمنه.

كذلك من يسلك الطريق المباح من أجل ارتكاب المحرم؛ مثل السفر لقطع الطريق أو لشرب الخمر أو للزنا، فالسفر في ذاته حلال، لكن المقصد حرام فالسفر حرام؛ لأن هذا سيكون من جنس الحيل.

والإمام البخاري رحمه الله عقد كتاباً في صحيحه، أسماه (كتاب الحيل)، رد فيه على الذين أجازوا الحيل من الأحناف، ومعروف أن مذهب الأحناف هو أكثر المذاهب ترخصاً في الحيل، والعلماء الكبار عندهم لم يكونوا يرخصون في الحرام؛ لكن جاء من بعدهم من المتأخرين فتوسعوا غاية التوسع، فعقد الإمام البخاري هذا الكتاب، ورد به على بعض الأحناف ممن أجاز الحيلة في ذلك، فبدأ الكتاب بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فبوب عليه فقال: ( باب ترك الحيل ). مع أنه ليس في الحديث ترك، ولكن هذا من فقه الإمام البخاري رحمه الله: الأعمال بالنيات، أي: لك ما نويت، وهذا هو جماع الكتاب كله، ولذلك بدأ به، ثم قال: (بابٌ في الصلاة) وأورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إن الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حدثاً حتى يتوضأ)، فإن الوضوء أمانة، والذي يقوم لرب العالمين في الصف ولم يتوضأ لا يعرف الناس أنه لم يتوضأ، فإن الوضوء شيء خفي لا يدرك، فالذي يقف بين يدي الله عز وجل وهو غير متوضئ بغير عذرٍ فقد أعظم في الخيانة.

لقد رأيت في بعض مذكرات السفراء والدبلوماسيين، قال: لما دخل الرئيس السابق الكنيسة، وأراد أن يصلي تأسياً بـعمر ، وكان معه الوزراء والدبلوماسيون والسفراء، فأمر بإقامة الصلاة، فقام هؤلاء الفاسدون الدبلوماسيون يصلون بغير وضوء، ويعتذرون بقولهم: فوجئنا بالموضوع، وكنا في مكان قريب من الرئيس، ولا يوجد وقت حتى نذهب ونتوضأ ثم نعود، واستحيينا فصلينا بغير وضوء.

هل اكتشف أحد أن هذا الواقف لم يتوضأ؟ لا. فالخيانة تدخل هنا، لذلك بدأ البخاري رحمه الله بهذا الحديث أي: أن الحيلة في إسقاط الوضوء لا تنفع صاحبها.

وقال البخاري أيضاً: (باب في الزكاة)، وأورد فيه كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى أنس بن مالك وفي هذا الكتاب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جمع المتفرق وتفريق المجتمع خشية الصدقة) رجلٌ عنده رأس مال قد بلغ النصاب وزيادة، فأراد أن يفر من دفع الزكاة، فيقسم الأموال على أولاده، بحيث لا يصل نصيب كل ولد إلى النصاب، فهذا إنما فرق المال ليفر من الصدقة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاقب فاعل ذلك بأن أحل عقوبته وأخذ شطر ماله عزمةً من عزمات ربنا.

فلا يحل أن يتحيل المسلم لتفريق ماله حتى يفر من أداء الزكاة الواجبة عليه، كذلك الرجل الذي عنده أراضٍ، فقبل أن يحول الحول يعرض الأراضي للبيع، وقد انطوى في ضميره أن يفر من الصدقة، فهذا لا يبارك له أبداً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

وقال البخاري : (باب في النكاح)، وذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار)، قيل لـنافع راوي الحديث، (ما الشغار؟ قال: أن ينكح الرجل ابنته لرجلٍ وينكح هو ابنته بلا صداق بينهما)، فمثلاً: رجلٌ ورجل آخر، لكل منهما بنت أو أخت أو امرأة هو وليها، فقال كل منهما للآخر: زوجني ابنتك وأنا أزوجك ابنتي بلا صداق، فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن هذا النكاح، وسماه شغاراً، يقال: شغر الكلب إذا رفع ساقه ليبول، وإنما سماه شغاراً؛ لأن الرجل رفع الصداق عن المرأة وحرمها من الصداق، وهذا لا يحل، وإذا تم النكاح بهذه الصورة فالعلماء يقولون: يبطل النكاح، ويكون للمرأة مهر المثل.

إذاً: ما هي الحيلة في نكاح الشغار؟ الحيلة كالآتي: رجل موسر رغب أن يتزوج ابنة رجلٍ فقير، فرفض الفقير، فأغراه الغني وقال له: وأنا أنكحك ابنتي، فحينئذٍ سيوافق الفقير؛ لأنه سينكح ابنة هذا الغني، وبعد أن يتم العقد يقال للفقير: إن نكاح الشغار لا يحل، ويجب حينئذٍ صداق المثل، فهل الفقير يستطيع أن يدفع صداق المثل؟ -ومعنى صداق المثل: أن كل امرأة تقدر بقدرها، بنت الغني مهرها عالٍ، وبنت الفقير مهرها قليل، فلو أننا في وسط فقراء، وامرأة نُكحت نكاح شغار، فأردنا أن نمهرها بالمثل، فننظر إلى بنت عمها أو بنت خالها أو جارتها، أو ما هو مثيل بها من الطبقة ومن البيئة ومن الغنى والفقر- فعندما يعقد ويقال للفقير: إن هذا النكاح لا يحل، فيقول: ما الحل؟ فيقولون: أن تدفع مهر المثل، فيقول: لكن هذه بنت غني ومهرها كثير وأنا لا أستطيع أن أدفعه، أما الغني فيقول: أنا به زعيم؛ لأنها امرأة فقيرة وهو موسر، فيدفع مهر المثل ويأخذها بحيلة نكاح الشغار، وهذا لا يجوز، فكل حيلة تفضي إلى إسقاط ما أوجبه الله عز وجل أو إلى تحليل ما حرمه الله عز وجل؛ فإنها حيلة محرمة.

الضرب الثاني من الحيل والذي احتج به أهل الحيل على حيلهم: ما يسميه أهل العلم بالمعاريض، واحتجوا فيه بقصة إبراهيم عليه السلام لما قال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، واحتجوا أيضاً بقصة يوسف عليه السلام لما وضع صواع الملك في رحل أخيه، واحتجوا بقصة الملكين لما تسورا المحراب على داود وقالا: خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ [ص:22] ولم يكونا خصمين إنما تحيلا بذلك.

فالجواب: أننا لا ننكر مثل هذا النوع من المعاريض والحيل، وإنما ننكر النوع الأول، يقول أهل العلم: إذا تحيل بحيلةٍ ليدفع عن نفسه ضراً، أو ليجلب لها نفعاً بغير أن يرتكب إثماً فهذا جائز مشروع، وقد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً.

فمن الواجب مثلاً: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصته الطويلة لما تخلف عن غزوة تبوك، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورّى بغيرها)، أي: إذا كان سيسلك هذا الطريق يقول: سأسلك طريقاً آخر، والحرب خدعة، فهذا واجب.

أما قصة إبراهيم عليه السلام لما: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89]، فإنه توصل بهذا إلى تفريقهم حتى ينفرد بآلهتهم، ولما قطع رءوس الأصنام، قال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء:63]، قال صلى الله عليه وسلم عن هذا الذي فعله إبراهيم عليه السلام: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في الله)، فخرج من ذلك أن يكون من الكذب الذي حرمه الله عز وجل، وإنما سماه كذباً؛ لأن ظاهره يخالف باطنه ولم يأخذ حكم الكذب، وهذا الذي يسميه أهل العلم بالمعاريض.

كذلك في قصة يوسف عليه السلام، قال تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76] أي أن الله عز وجل هو الذي أرشده إلى أن يفعل مثل ذلك، فهذه حيلة محمودة، ولو تأملت الألفاظ التي وردت في السورة لعلمت أنه بعيدٌ كل البعد عن الكذب، لما أمر يوسف عليه السلام أن يوضع صواع الملك في رحل أخيه، نادوا وهم منصرفون: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70]، هل حدد المسروق، هل قال: إنكم لسارقون؟ لما ذكر السرقة أطلق ولم ينسب، ولما ذكر الفقد نسبه، قالوا: قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ [يوسف:71-72]، فعبروا بالفقدان، لكن لو قالوا: سرقوا صواع الملك لكان كذباً؛ لأنهم ما سرقوا، لذلك قالوا: نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ [يوسف:72]، ولما ذكر السرقة، لم يقل: إنكم لسارقو صواع الملك.

وأصل مسألة المعاريض والحيل كلها مبنية على حسن استعمال الألفاظ، فمن أحسن استخدام اللفظ نجا من الحيلة المحرمة ومن الكذب، وفي بعض الأحاديث التي يحسنها بعض أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن لفي المعاريض مندوحة عن الكذب)، أي: من أحسن استخدام المعاريض لم يقع في الكذب.

وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم (لما خرج فاراً من المشركين من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر رضي الله عنه -وكان أبو بكر رجلاً نساباً تاجراً معروفاً- فكان أبو بكر خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما قابلهما جماعةٌ من المشركين، يقولون: يا أبا بكر من هذا الذي معك؟ فيقول: هادٍ يهديني) فالنبي صلى الله عليه وسلم هادٍ يهديه إلى طريق الصلاح والاستقامة؛ ولكن ظن المشركون السائلون: أنه هادٍ يهديه في الصحراء، اصطحبه معه ليدله على طرق الصحراء.

ومثله ما ورد في بعض الأحاديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في غزوة بدر هو وأبو بكر ...، قابله جماعةٌ فقالوا: ممن أنتما؟ فقال: نحن من ماء -ويقصد: من ماء مهين- فقال بعضهم لبعض: أحياء اليمن كثيرة -ماء: اسم حي من أحياء اليمن - ونحن لا نعرف كل أحياء اليمن).

ولما (قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجلٍ يمزح معه: إنا حاملوك على ولد ناقة -ولد الناقة صغير جداً- فقال الرجل: وما أفعل بولد ناقة؟ -يعني: أول ما يركبه سيبرك على الأرض- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق).

وكذلك لما (قال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأةٍ: لا تدخل الجنة عجوز، فبكت المرأة وظنت أنها لا تدخل الجنة، فأعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن من يدخل الجنة لا يهرم، ولا يدركه الكبر، إنما كما قال الله عز وجل: عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:37])، أي في سن واحدة، وقد ورد في بعض الأحاديث المتكلَّم فيها: (أن أسنان أهل الجنة تكون على ثلاث وثلاثين سنة).. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من أهلها.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

فالمعاريض مبنية على حسن اختيار اللفظ، واحتجوا أيضاً بقصة أيوب عليه السلام لما قال الله عز وجل له: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا [ص:44]، فقد ذكر العلماء أسباباً لحلف أيوب عليه السلام، فمن قائل: إن الشيطان تزيّ بزي طبيب، فقابلته امرأة أيوب عليه السلام وهي لا تدري أنه الشيطان، فدعته إلى علاجه، فقال: نعم أعالجه لكن يقول كلمةً واحدة، وهي: أنني شفيته، قالت: نعم، فلما جاء أيوب عليه السلام وعرفه أقسم أن يجلد امرأته مائة جلدة.

ومن قائلٍ: إن امرأته باعت ضفائرها لحاجتها إلى النفقة، وكان أيوب عليه السلام إذا أراد أن يقوم أخذ بضفائرها.. ويستعين بها، فأقسم إن عافاه الله أن يجلدها مائة جلدة.

ومن قائلٍ: إن الشيطان قال لها: اذبحي غنمة صغيرة يعافيه الله، ففعلت فأقسم أن يضربها.. إلى آخر تلك الأقوال التي ذكرها أهل التفسير.

لكن على فرض ثبوت أي واحدٍ منها، فإن المرأة كانت محسنةً مجدةً في الإحسان، فإذا سلمنا للتفسير الأول: فالشيطان تزيَّ بزي طبيب، فهي لم تقصد إلا علاج زوجها، والتفسير الثاني: أن الشيطان قال لها: اذبحي غنمة، فهي ما قصدت إلا علاج زوجها.

والتفسير الثالث: أنها باعت ضفائرها وهذا أبلغ في الإحسان، فهي ما قصدت إلا الإحسان على أي حال وهو الحصول على مال للنفقة، فكانت المرأة محسنة على أي حال: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، لماذا تعاقب هذه المرأة الوفية التي ظلت مثابرةً مع زوجها بعد أن انفض عنه كل الناس غير رجلين كما في الحديث الصحيح الذي رواه ابن حبان وغيره، كانا يترددان عليه، ومعلوم أن المرأة أكثر الناس تأذياً إذا كان زوجها مريضاَ؛ لأنها تحمله وتساعده وتعاونه، فهي تحمل معه المرض والمشقة، وقد لبث أيوب عليه السلام في مرضه ثمان عشرة سنة، وقد ورد في بعض القصص الإسرائيليات أن الدود كان يسري في بدنه، وهذه رواية إسرائيلية، فنحن لا نثبتها ولا نحتج بها؛ لكن مجموع القصص يدل على عظم البلاء الذي وقع فيه أيوب عليه السلام، فكذلك يقع البلاء عظيماً على المرافق الدائم له وهي زوجه، فإذا أخطأت في طلب وسيلة للعلاج أتضرب؟ لا. لذلك أمره الله عز وجل، فقال: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا [ص:44]، حزمة صغيرة من عيدان الحشائش عددها مائة، ويضربها بتلك الحزمة مرة واحدة.

وقد احتج الإمام الشافعي رحمه الله بهذه الآية على أنه لو زنى رجل غير محصنٍ وهو لا يتحمل أن يجلد مائة جلدة فيجمع له مائة شمراخ ويضرب بها مرةً واحدة، واستدل بحديث رواه أبو داود في سننه بسند متكلم فيه عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان هناك رجل مريض وكان جلداً على عظم، فدخلت عليه جارية أحد الناس، فهشت إليه فوقع عليها، فدخل عليه أصحابه فأخبرهم، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وقالوا: يا رسول الله، والله لو حملناه لتفتقت عظامه هو جلدٌ على عظم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمائة عثكول أو شمراخ وأمر أن يضرب ضربةً واحدة).

فاحتج الشافعي رحمه الله بهذا الحديث وهذه الآية على ضرب الزاني غير المحصن، إذا كان لا يطيق الجلد، وأبى الإمام مالك ذلك، وقال: لا يكون الضرب إلا الضرب المؤلم، لاسيما إذا كان في الحدود؛ لأن الحدود جوابر، وزواجر أيضاً، ولهم في ذلك تفاصيل؛ لكن الله عز وجل هو الذي أفتى أيوب عليه السلام، فأين فعل أيوب عليه السلام من فعل الحيل المحرمة؟!

ينبغي أن نفرق بين الحيل المحرمة، التي يتحيل بها الناس إلى إسقاط الواجبات أو إلى تحليل المحرمات وبين المعاريض التي أباحها النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك مبني على حسن استخدام الألفاظ.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

رأس الموضوع بالنسبة للحيل المباحة، هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحرب خدعة)، دفع المظلمة أو تحصيل الحق فيه نوع من الحرب؛ دليل أن فيه خصومات، كلٌ يدفع بعضه بعضاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: (الحرب خدعة)، بكسر الخاء وفتحها -وخَدعة أفصح كما يقول العلماء- أن المرء سيحتال ويقول قولاً غير الذي يبطنه، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حين أذن لبعض أصحابه بذلك.

قصة مقتل كعب بن الأشرف

ومن ذلك ما رواه الإمام البخاري وغيره من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من لـكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله).

وضع الإمام البخاري هذا الحديث في (كتاب الجهاد)، وبوب عليه بقوله: (باب الكذب في الحرب)، ورواه بسياق أطول في (كتاب المغازي)، فقال عليه الصلاة والسلام: (من لـكعب بن الأشرف ؛ فإنه قد آذى الله ورسوله، فقال محمد بن مسلمة : أنا له. وكذلك قال أبو نائلة ). فـمحمد بن مسلمة ابن أخت كعب ، وورد في نفس الحديث في البخاري : أن كعب بن الأشرف قال: أهذا أخي أبو نائلة ، وهو أخوه من الرضاعة.

إذاً: اللذان كذبا من أجل قتل كعب بن الأشرف ، أقرب الناس إليه، ابن أخته وأخوه من الرضاعة، فقال محمد بن مسلمة : أتأذن أن نقول له شيئاً، فكلمة (شيئاً) المقصود به الكذب، قال: نعم، قال: أتأذن أن نقول له: كذا وكذا.. ورد في بعض الطرق، أن نقدح في رأيك وفيما ذهبت إليه؟ قال: نعم.

فجاء محمد بن مسلمة وأبو نائلة ، فنادوا كعباً، فقالوا له: إن هذا الرجل قد أتعبنا، وإنه يطلب منا صدقة، فقال كعب : والله لتملنه -أي: إن هذا أول شيء يفعله وسيأخذ منكم زكاة كل مرة- وفي رواية خارج الصحيح فقال لهم: فما حملكم أن تتبعوه، فقالا له: حتى نعلم إلى ما يئول أمره، وقد جئناك نستلف وسقاً أو سقين من الشعير، فقال: ارهنوني نساءكم -انظر اللؤم يريد امرأة مقابل وسق!- كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟! فاغتر الرجل وقال: ارهنوني أبناءكم، قالوا: نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق من شعير هذا عارٌ علينا، ولكن نرهنك اللأمة، وهي درع الحرب، وهذا هو الذكاء، فبادروه حتى لا يعرض عليهم عرض آخر، فيقول: ارهنوني آباءكم، وعرضوا عليه اللأمة حتى لا يساوره الشك فيقول: لماذا أحضروا معهم السلاح؟ فهم بهذا العرض يزيلون الشك الذي في نفسه وكأنهم يقولون: إنما أتينا بالسلاح لنرهنه- ثم ناداهُ أبو نائلة ، وقال: يا كعب انزل وكان حديث عهد بعرس، فلما سمعت امرأة كعب صوت أبي نائلة قالت: إني أسمع صوتاً يقطر منه الدم، فقال كعب : إنه محمد بن مسلمة ، ورضيعي أبو نائلة وإن الكريم إذا دُعي إلى طعنةٍ بليلٍ أجاب، فنزل والطيب ينفح منه، فقال محمد بن مسلمة : ما رأيت مثل هذا الطيب، فقال: عندي أجمل العرب وأعطرها، فقال محمد بن مسلمة : أتأذن لي أن أشم رأسك؟ فأذن له، فأمسك رأسه، ولما استمكن منه قال: دونكم عدو الله فاقتلوه، فقتلوه ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لهم، وهذا إنما أخذوه بالحيلة.

قصة مقتل أبي رافع

روى البخاري أيضاً في كتاب المغازي، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، أن أبا رافع كان يقع في النبي صلى الله عليه وسلم ويشبب به، ويشبب بنساء المسلمين، ومعنى يشبب: أي يصف العورات ويتغزل فيهن، فانتدب له النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك مع نفرٍ من أصحابه.

وفي بعض طرق الحديث خارج البخاري قال: فشيعهم إلى بقيع الغرقد، وقال: اللهم انصرهم، وكان أبو رافع أكبر تاجر في الحجاز كلها، وكان عنده جماعة يسمرون معه، ففقدوا حماراً لهم، فقام العبيد يبحثون عن الحمار، قال: عبد الله بن عتيك : فتقنعتُ بردائي كأني أريق الماء، فرآه البواب، فقال: أيها الرجل إن كنت تريد أن تدخل فادخل الآن وإلا أغلقنا الباب -وكان يظن أنه من الحاشية الذين ذهبوا يبحثون عن الحمار- قال: فدخلت واختبأت، حتى إذا وضعوا المغاليق على وتد وانصرفوا أخذت المغاليق وصعدت، فإذا أبو رافع يسمر وعنده جماعة من التجار، حتى إذا خرجوا أغلقت عليه الباب -حتى إذا استغاث أبو رافع لا يغاث- قال: فدخلت فإذا البيت مُظلم، ولا أدري أين الرجل، فقلت: يا أبا رافع ! قال: من، فاتجهت إلى الصوت فعاجلته بضربة لكنها لم تقض عليه، ثم أظهرت كأنني أغيثه، فقلت: مالك يا أبا رافع ؟ قال: ويلٌ لأمك، ضربني رجل بالسيف، فجعلت السيف في بطنه ولم أتركه حتى سمعت صوت عظم الظهر، قال: فعلمت أنني قتلته، قال: وجعلت أخرج حتى وصلت إلى درج فنزلت على ساقي فكسرت فعصبتها بعمامة، وقفزت من على السور، وقلت لأصحابي: النجاة النجاة، ثم قلت: والله لا أمضي حتى أسمع الناعي، فلما صاح الديك قام الناعي، وقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز، قال: فذهبنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ساقي فكأنني ما اشتكيتها قط.

فالرسول عليه الصلاة والسلام أباح لهم أن يستخدموا الحيلة في القتال والحرب، والكذب في الحرب واجب، وهو نوع من الحيلة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من الكذب لا نعدهن كذباً: كذب الرجل على امرأته، وكذب الرجل يصلح بين المتخاصمين، وكذب الرجل في الحرب).

فإن قال قائل: من أين لك أن الكذب في الحرب واجب ولفظ الحديث بمفرده لا يدل على الوجوب؟ مع إن غاية ما في الحديث أنه ليس بكذب فقط؟

فيقال: يستدل على الوجوب بثبوت الحرام في الجهة المقابلة، فلو أسر رجلٌ في بلاد الحرب وكان عنده معلومات لو علمها العدو من شأنه أن يجهد المسلمين ويهلكهم لحرم عليه ذلك، فإذا حرم عليه ذلك وجب عليه الكتمان، ويستدل على صيغة الوجوب بثبوت الحرام في الجهة المقابلة، إذا علمنا أن هذا حرام يكون عكسه واجب.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

ومن ذلك ما رواه الإمام البخاري وغيره من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من لـكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله).

وضع الإمام البخاري هذا الحديث في (كتاب الجهاد)، وبوب عليه بقوله: (باب الكذب في الحرب)، ورواه بسياق أطول في (كتاب المغازي)، فقال عليه الصلاة والسلام: (من لـكعب بن الأشرف ؛ فإنه قد آذى الله ورسوله، فقال محمد بن مسلمة : أنا له. وكذلك قال أبو نائلة ). فـمحمد بن مسلمة ابن أخت كعب ، وورد في نفس الحديث في البخاري : أن كعب بن الأشرف قال: أهذا أخي أبو نائلة ، وهو أخوه من الرضاعة.

إذاً: اللذان كذبا من أجل قتل كعب بن الأشرف ، أقرب الناس إليه، ابن أخته وأخوه من الرضاعة، فقال محمد بن مسلمة : أتأذن أن نقول له شيئاً، فكلمة (شيئاً) المقصود به الكذب، قال: نعم، قال: أتأذن أن نقول له: كذا وكذا.. ورد في بعض الطرق، أن نقدح في رأيك وفيما ذهبت إليه؟ قال: نعم.

فجاء محمد بن مسلمة وأبو نائلة ، فنادوا كعباً، فقالوا له: إن هذا الرجل قد أتعبنا، وإنه يطلب منا صدقة، فقال كعب : والله لتملنه -أي: إن هذا أول شيء يفعله وسيأخذ منكم زكاة كل مرة- وفي رواية خارج الصحيح فقال لهم: فما حملكم أن تتبعوه، فقالا له: حتى نعلم إلى ما يئول أمره، وقد جئناك نستلف وسقاً أو سقين من الشعير، فقال: ارهنوني نساءكم -انظر اللؤم يريد امرأة مقابل وسق!- كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟! فاغتر الرجل وقال: ارهنوني أبناءكم، قالوا: نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق من شعير هذا عارٌ علينا، ولكن نرهنك اللأمة، وهي درع الحرب، وهذا هو الذكاء، فبادروه حتى لا يعرض عليهم عرض آخر، فيقول: ارهنوني آباءكم، وعرضوا عليه اللأمة حتى لا يساوره الشك فيقول: لماذا أحضروا معهم السلاح؟ فهم بهذا العرض يزيلون الشك الذي في نفسه وكأنهم يقولون: إنما أتينا بالسلاح لنرهنه- ثم ناداهُ أبو نائلة ، وقال: يا كعب انزل وكان حديث عهد بعرس، فلما سمعت امرأة كعب صوت أبي نائلة قالت: إني أسمع صوتاً يقطر منه الدم، فقال كعب : إنه محمد بن مسلمة ، ورضيعي أبو نائلة وإن الكريم إذا دُعي إلى طعنةٍ بليلٍ أجاب، فنزل والطيب ينفح منه، فقال محمد بن مسلمة : ما رأيت مثل هذا الطيب، فقال: عندي أجمل العرب وأعطرها، فقال محمد بن مسلمة : أتأذن لي أن أشم رأسك؟ فأذن له، فأمسك رأسه، ولما استمكن منه قال: دونكم عدو الله فاقتلوه، فقتلوه ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لهم، وهذا إنما أخذوه بالحيلة.