سبل النجاة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غير ما حديثٍ أنه قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله! قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، فكان على العاقل أن يبحث عن هذا الطريق الوحيد للنجاة؛ طريق في وسط ثلاثٍ وسبعين طريقاً، فالأمر إذاً مشكل، ليت الأمر يتوقف على طريقين، أو ثلاثة، أو أربعة، فيمكن للإنسان عندها أن يميز، لكن أن تكون ثلاثاً وسبعين طريقاً والنجاة من طريقٍ واحد، فيكون الأمر مشكلاً جداً؛ هذا الطريق الواحد هو الذي تطلبه من الله عز وجل، سبع عشرة مرة في اليوم، اهدنا الصراط المستقيم، وهو الذي عناه الله تبارك وتعالى بقوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153]، فالطريق الوحيد سماه الله صراطاً، والطرق الكثيرة سماها سبلاً؛ لأن الصراط أقوم، ولفظة السبل يظهر منها أثر المنفعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (على كل سبيل شيطانٌ يدعو إليه)، فيمكن أن يحقق سبيل من هذه السبل، جاهاً، أو سلطاناً، أو مالاً، أو متعة؛ فهذه كلها سبل، لكنها قصيرة وهامشية لا قيمة لها، إنما طريق الله عز وجل طويل جداً لكنه مستقيم؛ فالطريق إذا كان متعرجاً تحتاج إلى علامات إرشاد، أن أمامك منحنى أو أنك ستتجه باتجاه اليمين، وبدون هذه الإشارات يضل الإنسان، أما لو كان الطريق مستقيماً فلو أن الماشي كان أعمى لا ينحرف عن مشيته فإنه يصل، فطريق الله عز وجل طويل نعم، لكنه مستقيم، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، فهذا الطريق الوحيد أليس أوْلى أن تبحث عنه أكثر من بحثك عن لقمة الخبز في بلاد الكفر، أليس هو أولى أن تسأل عنه الليل والنهار كل من تلقى من أهل العلم، ما النجاة؟ وأين هذا الطريق، وما علامته؟

اعلم أيها الكريم! أنك لست أذكى ممن ضل، ولست أشد عبادة منه؛ الخوارج الذين خرجوا على الصحابة، تُرى هل أنت أذكى منهم؟ الجواب: لا. بل هم أذكى بكثير؛ المعتزلة وسائر الفرق الثلاث والسبعين كان رءوسها من أذكياء العالم، هذا عمرو بن عبيد كان المأمون إذا رآه أنشد قائلاً:

كلكم طالب صيد كلكم يمشي رويد

غير عمرو بن عبيد

وذلك بسبب زهده، أما من سواه فأول ما يجيء أحدهم عند أمير المؤمنين يريد يصطاد صرة من المال، فيدخل يتكلم أي كلام فيه مداهنة.

كلكم طالب صيد كلكم يمشي رويد

رويد: هو المشي البطيء، وعادة لا يمشي مشيةً بطيئةً إلا رجل له مأرب، إنما الرجل الذي لا يلوي على شيء تجده جاداً وسريعاً في مشيته، إنما الذي يمشي رويداً ويتلفت يمنةً ويسرة فإنما له مآرب.

كلكم طالب صيد كلكم يمشي رويد

غير عمرو بن عبيد

وعمرو بن عبيد كان من أذكياء العالم، ومع ذلك ضل، فكيف ضل هذا وأنت اهتديت، ولست مثله في ذكائه، ولست مثله في عبادته، الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقسم غنائم حنين جاءه ذو الخويصرة وقال: (يا محمد اعدل فإنك لم تعدل، قال: ويلك! ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا؟! فأراد خالد بن الوليد أن يضرب عنقه، فقال: دعه فإن له أصحاباً..) وفي الرواية الأخرى قال: (دعه فإنه يخرج من ضئضئ هذا -أي: من أصله- أقوامٌ يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) تعرفون قتل عاد؟ لما أراد الله معاقبتهم استأصلهم فصاروا كجذع نخلٍ منقعر -أي: قتلهم قتلاً ذريعاً- ولم يرحمهم.

الرسول عليه الصلاة والسلام يصف وينعت هؤلاء الأقوام للعباد الزهاد، الأكابر السادة، لـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وأبي عبيدة بن الجراح ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن عمر ، وابن مسعود ، أليس هؤلاء هم الصحابة الذين يضرب بهم المثل في الجد في العبادة؟

عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (جمعت القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! افرضه عليَّ -افرض عليَّ أن أقوم بالقرآن كل ليلة- فأبى، قال: لعله أن تكون بك حياة) وقد طالت به حياة، وكان يقول: ( يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم )، لكنه كره أن يقل في العمل عما تركه عليه النبي عليه الصلاة والسلام.

وهذا عبد الله بن عمرو بن العاص قصته مشهورة؛ فقد تزوج امرأته وفي ليلة الزفاف تركها وأقام الليل، قال: لشدة ما كنت أجده من العبادة، فكان عنده حب لقيام الليل، وهذا الحب أفسد عليه ليلة الزفاف، وكان أبوه عمرو بن العاص يعلم منه هذه الخصلة، فتخوف أن يكون قام ليلته تلك وترك المرأة، فجاء في الصباح وسأل زوجة ابنه ماذا فعل عبد الله ؟ قالت: نعم العبد لربه لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً، قال: فجاءني أبي فعزمني وعضني بلسانه وقال: أنكحتك امرأة ذات حسب من قريش فأعضلتها، وجعل يقول له: كذا وكذا، وشكاه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان من قصته ما تعلمون.

إذاً: عندما يقوم عبد الله بن عمرو بن العاص الليل كله، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (يا عبد الله ! كيف تصوم النهار؟ يقول: أصوم الدهر كله)، يصوم كل يوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام كأنه يقول: يا عبد الله ! أنت ومن على شاكلتك سيأتي زمان ينبغ فيه رجال يصلون صلاةً، فتقوم أنت وتحتقر صلاتك أمام صلاتهم وتقول: هل أنا أصلي؟ إنما هذا لعب بجانب صلاة أولئك الناس، وحين ينظر إلى صيامه -رغم أنه يصوم كل يوم- يحتقر صيامه إلى صيام هؤلاء، وكل ليلة يصلي إلى الفجر ومع ذلك يحتقر صلاته إلى صلاة هؤلاء.

كيف تكون عبادتهم إذاً؟

منتهى الجد في الصلاة، ومنتهى الجد في الصيام، ومنتهى الجد في قراءة القرآن، ومع ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (يخرجون من الدين كما يخرج السهم..) ما نفعته صلاته في تثبيت أقدامه على الطريق الحق، ولا نفعه صيامه في تثبيت أقدامه على الطريق الحق، كلما رأى مبتدعاً يلوح برايةٍ تبعه، أفأنت أشد عبادةً من هؤلاء؟

إذاً لماذا ضلوا؟ قلت لك: إن الأمر شائك وصعب، وحري بك أن تبحث عنه في وسط ثلاث وسبعين طريقاً، تفتش عن هذا الطريق الوحيد للنجاة، المسلم العاقل لا يفتر الليل والنهار، يسأل: كيف النجاة؟ وهو أولى من زيادة الدخل، كل ما شئت؛ فما زاد عن حاجتك إلى المجاري، والبس ما شئت إلى بِلى، وهذا كل ما يبحث الناس عنه، وما قطعوا أرحامهم ولا سافروا إلى بلاد الكفر إلا من أجل المال، وإشباع شهوتي البطن والفرج، الرسول عليه الصلاة والسلام حين يقول: (افترقت الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) فصعب عليك المسألة.

والرسول عليه الصلاة والسلام لم يترك البيان، وما ترك لنا شيئاً مشكلاً ليس له حل، قال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها) ونحن لا نعلم أبداً طريقاً ليلها كنهارها إلا هذه الطريق.

إذاً لا تقل: أنا مشيت بالليل فضللت؛ لأن الليل كالنهار، قال أبو ذر وقد أبصر طائراً في السماء: ( ما من طائرٍ يقلب جناحيه في السماء إلا عندنا منه علم )، وقال الله عز وجل ممتناً: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] فمن أين أوتينا؟ أوتينا من الجهل، وقلة المبالاة بالبحث عن الطريق الوحيد وسط كل هذه الطرق، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا [الأنعام:153] هذا هو الطريق الوحيد، إن العبد لا يصدر إلا من طريقين: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50]، هذان هما الطريقان، إما هواه أو الهدى من الله وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا [الكهف:28]، هذا الطريق الأول، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف:28] وهذا الطريق الثاني، يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص:26] هذا الطريق الأول، وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى [ص:26] هذا الطريق الثاني، فإن لم يستجيبوا إلى هدي الوحي، فاعلم أنما يتبعون أهواءهم، وهذا الطريق الثاني.

إذن هذه الآيات كلها تدور على أن العبد يصدر إما عن وحيٍ وإما عن هوى، (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فإذا لم يتبع العبد الوحي فما ثم إلا الهوى، أهل البدع برغم ذكائهم وبرغم جدهم وعبادتهم ضلوا؛ لأنهم خالفوا أهل الحق في منهج التلقي وفي طريقة الاستدلال؛ هذا هو سبب ضلالهم، منهج التلقي كما في الآيات التي تلوناها: الوحي، فلا تصدر إلا عن وحي، عن قرآنٍ وسنة، هذا أعذر لك حتى لو زلت بك القدم وضاق عقلك عن فهم الآية عذرت، قلت يا ربِّ! اجتهدت في طلب الحق من هذه الآية فلم أصب، هذا بخلاف الذي يعبد على غير وحيٍ.

ولذلك العلماء قالوا بالنسبة للقانون الوضعي الذي تسير عليه الدولة الآن في المحاكم، وفي الجنايات، وفي العقوبات، وفي القصاص، كل القوانين التي في المحاكم الآن ضلال مبين، وهي على خلاف الشرع، ما بقي لنا من ديننا في المحاكم إلا قانون الأحوال الشخصية وقد بدلوه أو بدلوا أكثره، ففيما يتعلق بالمرأة يريدون الإجهاز على البقية الباقية من القانون، الذي هو في الأساس منتقى من مذهب أبي حنيفة ، وحتى لو كان ما في هذا القانون قولاً مرجوحاً في مذهب أبي حنيفة فهو خيرٌ من القانون الفرنسي، ومع ذلك فهم يزحفون على البقية الباقية من قانون الأحوال الشخصية.

فلو جاء رجلٌ فقضى بالقانون الوضعي في قضية ما، فأصاب حكم الله فهو مأزورٌ غير مأجور، ولو حكم بشرع الله وأخطأ فهو مأجورٌ غير مأزور، فما الفرق؟ الفرق أن هذا الرجل الأول اعتمد في الأصل على غير ما أنزل الله، أصاب الحق أو لم يصب لا قيمة لذلك، إنما من لطف الله بنا أن الرجل إذا أفرغ وسعه في طلب الحق واعتمد على الأدلة الشرعية وأخطأ فإنه يصيب أجراً واحداً كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجرٌ واحد، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران) أي: أجر الاجتهاد وأجر إصابة الحق، والأول له أجر الاجتهاد فقط، إذاً برغم أنه أخطأ إلا أنه يؤجر أجراً واحداً، أما الأول فبالرغم من أنه أصاب حكم الله عز وجل، لكنه مأزور؛ بسبب أنه لم يعتمد على الوحي قرآناً وسنة، وهذا هو الأصل؛ لأن الحكم ليس له إلا وجهان فقط: إما وحيٌ وإما هوى.

إن أول سبيل وأنت تفتش عن الطريق الحق وسط هذا الكم من الطرق أن تبحث عما كان عليه الأصحاب في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام عبادةً وعقيدة، كانوا أقل الناس تكلفاً، سمة التكلف غير موجودة فيهم أبداً، حتى الورع بالرغم من أنه يحمل العبد على التكلف بترك المباح، فترك المباح تكلف، فمثلاً لو افترضنا جدلاً أن رجلاً جاء يطعم عند رجل آخر فقال: هذا الدجاج أذبحته أنت بنفسك؟ قال: لا. لكنه مذبوح في بيتي، قال: من الذي ذبحه؟ وهل من ذبحه يصلي؟ الرجل يسأل كل هذه الأسئلة بقصد ألا يأكل لحماً ذبحه رجلٌ لا يصلي، فهذا ورع أو داخلٌ في جملة الورع، لا يريد أن يطعم شيئاً فيه شبهة، ومع ذلك يلوح عليه أثر التكلف؛ لأنه مخالف لسائر الأدلة التي تبين لنا أن الأصل في ديننا اليسر، وما لم يأتك لا تتعنى البحث عنه، فتضيق على نفسك.

شخص يدخل الأسواق -ومعلوم أن كثيراً من أموال الأسواق سرقة وغصب، وأن كثيراً من المحلات قائمة على قروض ربوية من البنوك- فلو دخل رجلٌ محلاً تجارياً فسأل صاحب المحل: أتقترض من البنوك؟ أتجري المبايعات على الحل، أو تقع في المبايعات المحرمة. كان ذلك تنطعاً، وهو يضيق على نفسه دائرة الحلال، إنما لو دخل واشترى فما على المحسنين من سبيل، ولا يقال له: لِمَ لم تسأل؟ لكن لو سأل وعرف، ثم احتاج بعد ذلك فاضطر إلى الشراء يلام، ويقال له: فتشت وتعنيت ولم يطلب منك، برغم أن التفتيش هذا داخل في دائرة الورع ولو في الجملة.

فالصحابة حتى في ورعهم لا يلوح عليهم هذا التكلف، وقلما وجدنا صحابياً يسأل مثل هذه الأسئلة، لكن ورعهم عليه نور وهالة، لأن هذا يتماشى مع فطرهم، ليس عندهم تكلف في الأصل.

فأنت في أول بحثك حتى لا تتوه اطلب سير الصحابة، واقرأ تراجمهم، وانظر كيف كانوا يركعون ويسجدون، كيف كانوا يذكرون الله عز وجل، ثم انظر في سير التابعين، وكيف تأسوا بهؤلاء الصحابة حتى تتدرج إلى العلماء المتبوعين، الأئمة الكبار كـأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه، كل هؤلاء السادة عندما تقرأ سيرهم وتمشي على طريقهم ولو تقلدهم في بعض ما تقرأ، لا تقرأ إزجاءً للفراغ، فمثلاً روي أن الإمام أحمد رحمه الله أصيب بوجع فدخل عليه بعض أصحابه، وهو يئن من المرض، فقال الإمام أحمد له: حدثنا -وأحمد هو أحمد والذي يحدثه لا يبلغ في علمه نصف أحمد- فقال: حدثنا فلان عن فلان، عن طاوس أنه كان يكره الأنين في المرض، قال: فما أنَّ أحمد بعدها، فـطاوس تابعي وأي حجة في كلام التابعي أو في فعل التابعي إنما الحجة في كلام الله ورسوله، والتأسي يكون بالصحابة، لكن الإمام أحمد بن حنبل لا يجهل قدر طاوس ، وكانوا إذا رأوا كلمة الحكمة تخرج من أي فمٍ وصادفت عندهم موضعاً يتبعونها، ولما سئل بعد ذلك عن أنين المريض قال: أكرهه؛ لأن طاوس كان يكرهه، فالإنسان يتأسى بمن سبقه من أهل العلم.

ذكر الإمام أحمد ما وقع له في المحنة فقال: وجلدت في يوم الإثنين وكنت صائماً ثلاثمائة جلدة حتى أغمي عليَّ عدة مرات -أي كان يفيق ويضرب ويغمى عليه- قال: فجاءني رجل لا أعرفه، وقال: يا أحمد ! اصبر، قال: فكلما جلدت ذكرت الرجل وكلمته وتجلدت. فمن هذا الرجل؟ وما قيمته؟ لا نعرف له رسماً ولا اسماً ومع ذلك صار إماماً لـأحمد ، قال: يا أحمد : اصبر، والأمر بالصبر، جاء في آيات وأحاديث كثيرة، لكن كان يتأسى.

فأول ما ينظر الإنسان إلى هدي الصحابة، وكيف كانوا يوجهون التابعين، يحاول أن ينفذ ولو جزءاً مما قرأ، فحين يسمع هذا الكلام يقول: أنا سأكون مثل الإمام أحمد ، إذا مرضت فلن أئن، فهو في هذه الحال قد تأسى.

ومن المرضى من يعد مريضاً متعباً، ومنهم من يعد مريضاً مريحاً، فالمريض المتعب، أول ما تدخل عليه يجأر بالشكوى، وقد أتي له بالأطباء، وبذل معه كل ما يستطيعه البشر، ومع ذلك فهو يئن، فلا يستطيع القائم عليه أن ينام هو الآخر، بسبب هذا المريض الذي يكثر من الشكوى، وهناك مريض مريح، إذا دخلت عليه قال: الحمد لله لا تشغل نفسك بي، ويقول هذا الكلام وهو يتوجع، فتصور لو أن هذا المريض ترك الأنين لأراح من حوله ولتمكنوا من الاشتغال بأعمالهم دون إشغال فكرهم بحال مريضهم.

فالإنسان إذا قرأ مثل هذا وتأسى يكون له في ذلك منافع، لكن أيضاً لابد من النظر فيمن يتأسى، فلا يتأسى إلا بمثل طاوس بن كيسان رحمه الله، فضلاً عن الصحابة الكبار، ومنهم الصحابي الكبير جرير بن عبد الله البجلي ، حين أرسل غلامه إلى السوق ليشتري فرساً وكان الغلام ذكياً وحاذقاً (والتجارة شطارة) واستطاع أن يشتري فرساً من رجل بثلاثمائة درهم وكانت فرساً قوية، وجاء جذلان فرحان، وجاء معه صاحب الفرس إلى جرير لينقده الثمن، فـجرير بن عبد الله نظر إلى الفرس وقال: بكم اشتريت هذا؟ قال: بثلاثمائة درهم، قال: يا صاحب الفرس إن فرسك تساوي أربعمائة، قال له الرجل: بعتك: قال: تساوي خمسمائة، ستمائة إلى أن وصل إلى ثمانمائة، وفي كل ذلك يقول الرجل: بعتك، فارتفع السعر من ثلاثمائة درهم.. إلى ثمانمائة درهم، يعني: بلغ الفرق خمسمائة درهم، وهو ما يساوي قيمة فرسين، وجرير بن عبد الله هو الذي سيدفع، فلما أعطاه الثمانمائة درهم وخرج الرجل -صاحب الفرس- بقي الغلام مذهولاً، قال لـجرير : ما هذا الذي صنعت، قال: ( إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم )، هذا هو النصح، فرسه تساوي ثمانمائة، لماذا تنقص في السعر؟ فانظر إلى حفظ العهد، ولذلك سادوا. أنت تنقص سعر السلعة وتكسب خمسمائة درهم وتذهب تصرفها عند الطبيب، آه لو قدرها العبد تقديراً صحيحاً، لأدرك أنه يخسر بهذه الطريقة، والدراهم التي يخسرها في المبايعات كلها بسبب الذنوب لو يدري، لو كان عاقلاً لدفع المال صدقة اتقاء المعصية وشؤمها، وهو الرابح على أية حال، لكنه قصير النظر، لا يدري ما تحت شراك نعله، لذلك خسارته متوالية وهو لا يدري، والعجيب أنه يخطئ في نفس الموضع أكثر من مرة ولا ينتبه؛ كأنه أعمى لا يرى، إنما الهدى هدى الله، لذلك قال جرير : ( بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح ) ولو دفعت خمسمائة درهم زيادة خير لك من أن تخسر ذمة الله ورسوله بثمنٍ بخس، فلا تنقض عهد المبايعة بخمسمائة درهم، بل أوف بالعهد، وأعط الخمسمائة درهم وأنت الرابح، هكذا كان التزام السلف، إذا سمعوا الأمر لم يتجاوزوه ولو كان مُراً.

أبو قتادة رضي الله عنه جلس مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعه يقول: (لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه) قال: فما مسست ذكري بيميني قط، وصحابي شهد بيعة الرضوان، قال: ( والله ما مسست ذكري بيمني مذ بايعت ) حتى تظل هذه اليد آخر عهدها بيعة الرضوان، وقد يشق عليه الأمر، وقد يكون في موضع يحتاج أن يمس ذكره بيمينه في الاستنجاء، ومع ذلك لا يفعل، وما ذاك إلا لحفظ العهد، وكل النصوص في القرآن والسنة عبارة عن عهود ومواثيق متروكة لك، فلا تخسر ذمة الله ورسوله، وعظِّم الأمر أن تتركه، وعظِّم النهي أن تأتيه؛ يكون أسلم لك، فهذه هي بداية الطريق، وشياطين الإنس والجن على جنباته يتقاذفونك حتى لا تضع قدميك على هذا الطريق.

الإعلام المضلل الآن، سواءً كان مرئياً أو مسموعاً أو مقروءاً، كل ذلك صد عن هذا الطريق الوحيد، الذي فيه النجاة، فأنت يا أخي ليس لك معين، وإن وجد المعينون على سلوك هذا الطريق فهم أقل من القليل.

وقد كانوا إذا عدوا قليـلاً فقد صاروا أقل من القليل

أما آن لك أن تدرك حجم المحنة التي تمر بها، أنت في محنةٍ فعلاً؛ محنة حقيقة، والأَمَر من عدم سلوك الطريق، عدم إحساس العبد بأنه مبتلى، وهذا أشد من البلاء، يعني لو أصيب الرجل بمرض يسير وكابر وقال: أنا لست بمريض، فقيل له: إن بوادر المرض ظاهرة عليك، فقال: لا. أنا صحيح معافى، وأبى أن يأخذ الدواء، أليس من الجائز أن يقتله هذا المرض اليسير (إذا كان عدوك نملة فلا تنم له). لا تنم لعدوك لو كان نملة، فمن الجائز أن يموت العبد بهذا المرض اليسير لأنه كابر، وقد يصاب العبد بمرضٍ عضال ويلتمس له العلاج ويبرأ.

إذاً عدم تسليم العبد بالمرض أشد عليه من المرض ولو كان فتاكاً، وعدم إحساس العبد أنه في محنة في وسط هذه التيارات، وعلى كل سبيل شيطانٌ يدعو إليه، وأهل البدع عندهم إمكانيات، ولهم دول، ولهم مجلات.

وعلى سبيل المثال فإن تقي الدين صاحب الفاكهة -يسمونه تقي الدين ، من باب تسمية الشيء بغير اسمه الحقيقي- هو رئيس المجلس الصوفي العالمي، عندما جاء إلى هنا آخر مرة قبل خمس سنوات أو ست سنوات قدم عدة ملايين، على صورة إعانة والقصد منها نشر الصوفية، فالفكر الصوفي هذا هو التنويم المغناطيسي، يجعل منك بطلاً مجاناً، لا تريق دماً ولا تقول كلمة حق، ولا تقوم الليل، ولا تصوم النهار وأنت في جنات عدنٍ، المطلوب منك أن تأكل الديك وبعدها تقوم تهضم، ويكون زاد الداعية الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمكذوبة، لا أعلم على وجه الأرض أكثر كذباً على الله ورسوله من هؤلاء الصوفية.

يأتي أحدهم ويقول لك: (الرسول عليه الصلاة والسلام أكل ثم جاء رجلٌ فأنشد: (لسعت حية الهوى كبدي)، فجعل يتمايل إلى أن سقط برده من على كتفيه)، يعني من كثرة الوجد والعشق تمايل حتى سقطت البردة من على كتفيه، هذا هو زاد الصوفية ، طبعاً الكلام هذا مختلط بقليل شرك، وزندقة -نسأل الله السلامة- فيؤتى بالملايين وتنفق لنشر مثل هذه العقائد، إن الصوفية هم الذين أدخلوا الحملة الفرنسية، والجبرتي الذي يعتبر مؤرخ العصر أرخ لهذه العملية، اقرأ تاريخ الجبرتي وانظر كيف دخل الفرنسيون إلى مصر، فالصوفية هي أفيون الشعوب ومع ذلك ينفق عليها الملايين ولو تساءلنا عن الجماعة التي تحج وتعتمر منهم كل سنة من أين يأتون بالمال، وأين رأس مالهم، فلا تكاد تجد إجابة. ومع ذلك لو جيء رجل من أهل الحق ووجد عنده بعض الكتب، لاتهم بأنه يتلقى تمويلاً خارجياً! ولو ركب سيارة لقيل له: من أين لك هذا؟! وإذا وجد عنده قطعة أرض قيل: الأموال آتية من إيران. رغم أننا أعداء إيران، ونحن لا نحبهم ونبغضهم ونقر أنهم مبتدعة، ومع ذلك نتهم بأن تمويلنا آتٍ من إيران، وهو من المفارقات العجيبة.

وذات مرة دخل عليَّ رجل ونظر في كتاب عندي -الكتاب مطبوع في بيروت ومن المعلوم أن لبنان تعد معقلاً للطباعة في الدنيا- وقال: وجاء لك هذا الكتاب من بيروت، ومع ذلك فالواقع يقول أنه ليس في أيدينا شيء، وليس عندنا إمكانات على الإطلاق إلا هذا الوهج من الحق الذي نقوله.

فأنت حين تبحث عن الطريق الوحيد اعلم أن أهل البدع معهم إمكانات كثيرة جداً، وأنت ليس عندك إمكانات، ويا ليتهم تركوك تمضي وحدك، إنما يجتالونك، ويضعون العراقيل في سبيلك، فأنت في محنةٍ حقاً، فلابد أن تقدر للأمر عدته؛ حتى لا تفاجأ وينصرف عزمك عن مواصلة السير على طريق الله الطويل المستقيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

إن الفرق انقسمت إلى ثلاث وسبعين فرقة واحدة فقط في الجنة، واثنتين وسبعين في النار، وهم أهل البدع، وهم يخالفوننا في منهج التلقي، ويخالفوننا في منهج الاستدلال، ولهم مخالفات أخرى جسيمة كثيرة، لكن هذان الأمران هما أبرز ما عندهم، وكل ما يجيء بعد ذلك، فرعٌ عنهما.

وقلنا: إن منهج التلقي لا يكون إلا من طريقٍ واحد، وهذا فيه رد صريح على الصوفية ؛ الذين يقولون: إن الطرق إلى الله بعدد أنفاس البشر، والرسول عليه الصلاة والسلام في خطبة الحاجة التي كان يخطبها دائماً، كان يقول: (وخير الهدي هدي محمد)، إذاً: فليس هناك إلا طريقٌ واحد، ومع ذلك يأتي من يقول لك: عدد الطرق بعدد أنفاس البشر، أنفاس البشر لا تحصى، مئات الملايين من الطرق، لذلك كلما هووا شيئاً جعلوه ديناً؛ بسبب هذه المقالة، حتى وصل الأمر ببعض رءوسهم أيام ابن الجوزي إلى ترك الصلاة، لماذا؟ لأنهم أيضاً يخالفوننا في منهج الاستدلال، القرآن لا يستطيع أحد اللعب فيه ولا إدخال ما ليس منه فيه، ولا إخراج شيء من القرآن؛ لأن القرآن محفوظ بحفظ الله عز وجل، ولو وكله إلينا لضيعناه، كما فعل اليهود والنصارى، لما جعل حفظ التوراة والإنجيل إليهم حرفوه، والنفس البشرية واحدة.

وهم الآن يلعبون بآيات الله عز وجل عن طريق تحريف المعاني، بعدما عجزوا عن تحريف اللفظ، ولو ترك الله عز وجل الحفظ لنا لحرفوه أيضاً بعدما هانت عليهم الآيات فحرفوا المعاني إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فاللفظ محفوظ، لكن من أولئك من يأتي ويلعب بالمعنى، فذكر ابن الجوزي رحمه الله قال: وبعض أكابرهم هنا لا يصلي، فلما سئل عن ذلك، قال: إن الله عز وجل يقول: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] وأنا قد جاءني اليقين. فمعنى الآية في فهم هذا المخذول: أي إذا وصلك اليقين كف عن عبادة ربك؛ لأن لفظ (حتى) حرفٌ لانتهاء الغاية.

كما لو قلت لك: ذاكر حتى تمل، أو صم حتى تضعف، أو كل حتى تشبع، (حتى) حرفٌ لانتهاء الغاية، فتكون وصلت إلى نهايتك في الشبع، وفي التعب، وفي الملل، فاعبد ربك حتى يأتيك اليقين، فإذا وصلك اليقين فكف عن عبادة ربك؛ لأن اليقين هو الغاية.

قال ابن الجوزي : ويقول: وصلت وصدق. إنما إلى سقر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أسدّ الناس طريقةً وأعظمهم يقيناً ما علمناه ترك الصلاة ولا ترك الصيام، فيكون هذا اتهام للرسول عليه الصلاة والسلام أنه مات ولم يصله اليقين.

والقائل بهذا حاله كالمستجير من الرمضاء بالنار، أراد أن يجد لنفسه عذراً سائغاً، فاتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يصله اليقين.

ومنهج التلقي هو قرآن وسنة، لكن لابد أن يكون بفهم السلف الصالح أصحاب هذا الطريق الوحيد، (ما أنا عليه اليوم وأصحابي).

وكما قال مالك رحمه الله: ما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً. هم أوْلى بالدين وعاينوه غضاً طرياً، وسألوا عنه صاحبه، وأدرى الناس بمراد الله ورسوله، فهم أولى بالاتباع.

فمنهج التلقي ينبغي أن يكون محصوراً في الطريق الواحد؛ طريق القرآن والسنة، وبما أن النص قد وصلنا فيبقى النظر في هذا النص وما دلالاته؟ وماذا يريد الله منا بهذا؟ فخالفنا أهل البدع أيضاً في منهج الاستدلال ومنهج الفهم من النصوص، مثلما خالفونا في الأول.

فـإبراهيم النظام وهو أحد أكابر المعتزلة ينكر حديث انشقاق القمر، اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، فهو يقول: القرآن حق وانشق القمر في القيامة، حين تصير السماء واهية وتنكدر النجوم وتصير الجبال كالعهن ينشق القمر، وينكر أن يكون القمر قد انشق في مكة، ويزعم قائلاً: إن القمر لا ينشق لـابن مسعود وحده.

فنقول لهذا الجاهل: ليس ابن مسعود فقط هو الذي روى هذا الحديث، رواه أمة من الصحابة. لكنه جاهل بالحديث، جاهل بطريقة نقل السنة؛ لأنه أخذ طريقاً من الثلاثة والسبعين غير الطريق المنجي، لذلك فهم جهله، لا يعرفون شيئاً عن هدي الصحابة ولا عن سمتهم ولا دلهم، فيقول: القمر آية من الآيات العظيمة فهل يعقل أن يكون الناس كلهم نائمين وابن مسعود رأى القمر وحده؟!! وهذه آية لو رآها أهل الشرك لضلت أعناقهم لها خاضعين، فكيف لم يسلموا؟ فينكر النصوص ويهدم بمعول الباطل نصوص الحق؛ لأنه جاهل ومعادٍ، وقد رأى انشقاق القمر الكثير من الناس، كالقوافل التي كانت تمشي بالليل، رأت القمر فلقتين، فلقة هنا، وفلقة هنا.

إن من المبايعات الربوية التي يرعاها اليهود ودخلت بلاد المسلمين عن طريق البنوك، أن يقال لك: أنت تأخذ قرضاً لخمسة وأربعين يوماً، في اليوم الأول بخمسة قروش، وفي الثاني بعشرة قروش، وفي الثالث بأحد عشر قرشاً، وفي الرابع بأحد عشر قرشاً ونصف، وفي الأسبوع الثاني بخمسة وعشرين، فإن سألت عن أساس هذه المعاملة قال لك: هذا هو شغلنا وهذا هو نظامنا. فتقول له: ولكنكم تعسرون على الخلق، وكثير منهم سيموتون تحت الأرجل، قال لك: هذا ليس مهماً، نحن نريد أن نسيطر على قرارات الدول المستضعفة التي تعيش على هامش الحياة، وندخل في ميزانيتها، فنأتي لمن يزرعون القمح ونقول لهم: لماذا تزرعون قمحاً وتتعبون، ازرعوا عنباً، ونحن سنأخذه منكم بالعملة الصعبة، يعني العنب في بلدنا -وهذا الكلام على لسان ذاك الأخرق- يقول لك: العنب في بلدنا مثلاً يعطي اثنين جنيه ونصف، أنت ازرع العنب وأنا سآخذه منك بعشرة جنيهات، فالغافل يفرح، ويقول: أنا أبيع العنب بعشرة جنيه، وأشتري القمح الرخيص واستفيد بهامش الربح، فإذا زرع الأرض عنباً وجوافة، وجعل كل المسطحات الزراعية جوافة وعنباً حتى يصير المكسب سهلاً، ولا يستطيع أحد أن يتنازل عن مستوى حياته الجديد، ولسان حاله يقول: إنه في آخر السنة بعد قضاء كل مستلزماتي يتبقى لي عشرة أو خمسة عشر ألف جنيه، أصلح بها من حالي، وأنا الآن غير مستعد أن أنزل عن هذا المستوى، فإذا وصلت إلى هذا المستوى، قيل لك: العنب كثر عندنا والقمح قل. فنقول: ما الحل أنا لا أستطيع الاستغناء عن رغيف الخبز، فيقال لك: إذاً لا داعي لأن تبعث لنا عنباً، وسنحاول أن نعطيك القمح بقدر المستطاع، فيبدأ عندها التنبه إلى خطورة ترك زراعة القمح، ولكن بعد أن تكون القوى الاقتصادية العالمية قد أطبقت قبضتها على اقتصاد البلد.

وإذا قلت لهذه القوى الاقتصادية: الناس في الصومال المسلمة يموتون من الجوع، وأنتم ترمون القمح والبر والشعير واللبن في المحيط، قالوا: حفاظاً على الأسعار، وهذا نظام اقتصادي عالمي.

أهل البدع فعلوا مثلما فعل هؤلاء، فيأتي أحدهم ويقول: إن أصحاب الحق عندهم سهام قوية جداً، وإلزامات خطيرة، وكي أهرب منهم وأتقي ضربتهم أقوم بوضع أصل مخترع من عندي، وحين يقول لي أحدهم: قال الله.. أقول له: أين المطلق؟ وأين المقيد؟ وأين الخاص؟ وأين العام؟ وأتوهه، وأقول له: لابد من فهم كذا، والمقدمة المنطقية الفلسفية وأتوهه، وإذا كثرت التفاصيل تاه الأصل والمراد.

ولذلك فإن قصص القرآن يجتنب الخوض في التفاصيل: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25]، كيف عاشوا وما حكايتهم، ولو جاءت التفاصيل: فقيل: وأشرقت الشمس، وهبت الريح، وغربت الشمس، ونبح الكلب، وعندما يصل إلى المهم في القصة يكون دماغك قد امتلأ بتفاصيل لا قيمة لها، ومن المعروف أنه إذا كثرت التفاصيل ضاع العقل وتاه، فهذا الذي صنعه أهل البدع، ولعلنا نبسط شيئاً يسيراً من ذلك بعد الصلاة.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

السلفيون لهم مِنَّة في أعناق جميع المسلمين؛ لأنهم أصحاب المواجهة ضد الثنتين والسبعين فرقة، في اثنتين وسبعين جبهة مفتوحة ضد الطائفة المنصورة ، صاحبة الطريق الوحيد، وقد ظهر ذلك في حياة الإمام أحمد بن حنبل ، وفي حياة شيخ الإسلام ابن تيمية .

لذلك فالتشغيب قائم على قدمٍ وساق ضد هذه الطائفة؛ لأنهم هم الذين يفضحون هؤلاء المبتدعة، ويغزونهم في عقر دارهم، ولا يجد المعتزلة لها عدواً مثل السلفيين، ولا يجد الأشاعرة لهم عدواً مثل السلفيين؛ لأن من عادة أهل البدع أنهم يداهنون أهل الباطل؛ ليسلكوا مذهبهم، لا مانع عند المبتدع أن يرى الرجل على طامة من الطامات فيدعه، يقول لك: دعه يهلك، المهم أننا نتخذه جسراً ونمر عليه.

أما أصحاب الطريق الواحد؛ الطريق الوحيد الذي تكلمنا عليه: (ما أنا عليه وأصحابي)، يرى أن هذا من الغش، لذلك فإن لهم في كل وادٍ معركة، وشيخ الإسلام ابن تيمية حامل لواء الدعوة السلفية المباركة في القرن الثامن الهجري، كتبه كلها عبارة عن جولات حربية مع المخالفين في الأصول وفي مسائل الإيمان، وفي التوحيد، والأسماء والصفات، بل وحتى مع المخالفين في المسائل الفقهية الجزئية مثل الطهارة والصلاة والزكاة والحدود والديات وغيرها.

كل هذا سببه ماذا؟ أننا نستقي من الوحي، وأن مصدر التلقي عندنا مخالف لمصدر التلقي عند المبتدعة، ومصدر الاستدلال عندنا مختلف عن مصادر الاستدلال عند المبتدعة.

نبتت نابتة في القرن الثالث الهجري في العراق أزرت على المحدثين وأظهرتهم في ثياب النقص والجهل وأنهم لا يعرفون الفقه، ولعلكم تعلمون أن الذي يغلب على طابع المحدثين هو التمذهب بمذهب السلف، وأسعد الناس بنهج هذا الطريق الوحيد هم المحدثون؛ لأن المحدث كل حياته: حدثنا فلان عن فلان عن فلان، فهو مثل القطار طريقه محدد لا يستطيع أن يخرج عنه، وكلما تسأله عن مسألة يقول لك: أخبرني فلان عن فلان عن فلان، ولابد أن يصل إلى صحابي أو إلى تابعي أو يصل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.

وهذا المعنى الذي عبر عنه سفيان الثوري رحمه الله حين قال: (الحديث درج والرأي مرج)، والمرج: مفرد مروج وهي السهول الواسعة الفيحاء، والدرج هو السُلَّم، قال: (الحديث درج والرأي مرج) أي: الحديث درج مثل سكة القطار، فإذا أردت الكلام في المسألة الفلانية لابد أن يكون عندك حديث للرسول صلى الله عليه وسلم، أو قول لصحابي، أو قول لتابعي، أو قول لعالم، المهم لابد أن ترجع إلى أحد، أما الرأي فهو مرج حيث تعمل عقلك في المسألة حتى تصل إلى رأي، فالمرج: هو المكان الواسع الفسيح، فإذا كنت على الدرج -أي كنت على السُلَّم- فاحذر أن تزل قدمك فتندق عنقك، لأن فلتة الرِجل عن السُلِّم ثمنها غال، فما معنى ذلك؟

معناه: إذا أفلت من الدليل فإن ذلك ثمنه غال، أما إذا كنت في المرج فسر حيث شئت، فالمحدثون أشهر من مشى على هذا الطريق وأبرزهم.

فطلعت نابتة في القرن الثالث الهجري يتهمون أهل الحديث بالجمود، وأن حياة المحدث محصورة في: حدثنا وأخبرنا، لكن أول ما يأتي الفقه يسكت، وفي أحد مجالس هؤلاء قال أحدهم: مساكين أصحاب الحديث، لا يعرفون شيئاً في الفقه، قال الحسن بن عمر الهسنجاني -راوي هذه الرواية-: وكانت بي علة وكنت في أواخر الناس فزحفت إليه... ثم قلت له: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الجراحات فماذا قال علي ، وماذا قال عمر ، وماذا قال ابن مسعود ؟ فسكت، قال له: واختلفوا في الأرش -دية الأصابع- فماذا قال عبد الله بن عمر ، وماذا قال ابن مسعود ، وماذا قال عثمان ؟ فسكت.

فجعل يعطيه مسائل من هذا النمط، واختلفوا في كذا، فماذا قال فلان، وماذا قال علان، والرجل صامت، ثم قال له: تعيب عليهم شيئاً لا يحسنونه بزعمك، وأنت لا تعرفه؟!

فحين تظهر مثل هذه النابتة، ويأتي من يتكلم في أصل الدين من أهل العلم، يقال له: أنت لا تفهم في الفقه، دع الفقه لأهله، ثم يدعوه للمناظرة ويقول: هيا بنا ندخل ميدان المبارزة، فإذا قال المحدث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، يرد عليه قائلاً: لا. هذا الحديث لابد أن نفهمه على ضوء الآية، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6]، فالرجل حر، يدين كما يشاء، وهذا دليل من القرآن وهذا دليل من السنة وإذا حصل تعارض يقدم القرآن على السنة، وبهذا يكون قد لبس في هذه المسألة، وبجانب هذه الكلمتين يرفع صوته بالصياح، ولا يترك لك مجالاً للكلام، وإذا به يخرج وهو ينفض يديه قائلاً: هؤلاء لا يفهمون شيئاً، وأغلب العوام ينطبق عليهم القول القائل: (أول سارٍ غره قمر) فالعوام لا تحقيق عندهم، ولا يسمعون إلا للصوت المرتفع، فهذه طبيعة عند العوام، ويظل ذاك الداعية الناصح يحاول عرض بضاعته في أي مكان، إلا أنه يلقى صدوداً من الناس، لماذا؟ لأنه لم يفهم شيئاً في الفقه -بزعمهم-.

فهذه من الأشياء التي تترس بها أهل البدع ضد ضربات أهل الحق، ولذلك لابد لصاحب الحق أن يكون طويل النفس.

سألني أحدهم مرة فقال: لماذا تزيد كراهة الناس للعالم المقاتل؟ وضرب مثالاً بالإمام عبد الله بن المبارك، والإمام أحمد بن حنبل .

عبد الله بن المبارك إمام مجاهد، زاهد عابد، هذا الرجل حين تقرأ سيرته تشعر أنه ليس في الدنيا مثله، فقد كان شامة في عصره .. كان جواداً، وكان تاجراً ناجحاً جداً، فكان عبد الله ينفق على ستة من أعلام عصره، وكان ينفق عليهم من حر ماله، وكان يقول: ( لولا هؤلاء ما اتجرت ) يعني: كان يتاجر خصيصاً حتى ينفق على هؤلاء الستة الذين لو بصق الرجل منهم بصقة فتقاسمناها لخرج كل من في المسجد علماء فكان عبد الله ينفق على سفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، وإسماعيل بن علية ، والفضيل بن عياض ، وكان يخصص لهم الرواتب أول كل شهر، ومرة جاءه رجل متسول، فأعطاه عشرة دراهم، فقال له رجل: إنه لا يأكل إلا الشوى -مثل ما نقول نحن: هذا الرجل معه فلوس وهو أغنى منك- أي كأنه يقول: يا إمام تعطيه عشرة دراهم، وهو لا يأكل اللحمة إلا مشوية على الفحم، قال: آلله؟ قال: آلله! قال: إذاً هو يحتاج إلى أكل، فلا تكفيه عشرة دراهم، فأرسل له بمائة درهم.

فكان يرى أن النفقة في الله، وليس عنده فرق أأخذها من يستحق أو من لا يستحق، بينما نحن عندنا شح في هذه المسألة، ونتذرع بحجة أن هذا لا يستحق، حتى وإن كان لا يستحق فأنت لا تعامله، يعني: ضع الصدقة في يدي ودعها تذهب إلى غير مكانها، ألست مأجوراً؟! ألست أنت تعامل الله عز وجل؟

فكان عبد الله بن المبارك لا فرق عنده فيمن يأخذ الصدقة أيأكل لحماً أو غير ذلك؛ لأنه رجل يضع الصدقة ويعلم أنه يعامل الله عز وجل.

ذهب ابن المبارك ذات مرة إلى الحج هو وغلامه وكان معهم أكل معفن فرموه في المزبلة، وبينما هو جالس إذ رأى بنتاً صغيرة ذهبت وأخذت الكيس الذي رموه في المزبلة ودخلت بيتها بسرعة، وجاء أخوها ووجد طائراً ميتاً فأخذه ودخل مسرعاً، فلفت نظره المنظر، فذهب وطرق الباب عليهم وقال: ما الحكاية؟ قالت البنت: والله ما لنا نفقة منذ ثلاثة أيام، وقد حلت لنا الميتة، فقال لغلامه: كم معك من المال، قال: معي أربعون ديناراً، قال: هات خمسة وثلاثين، وأعطاها للولد والبنت وقال: خمسة دراهم تكفينا للرجوع إلى البلد مرةً أخرى، هذا أفضل من حجنا هذا العام، فقد كان رجلاً فقيهاً، بالإضافة إلى أنه مجاهد، يضرب به المثل، أول ما يذكر المجاهدون إذا عبد الله بن المبارك على رأسهم، كأنه مرابط على الحدود، وكان في غزوة من الغزوات فأبلى فيها بلاءً عظيماً، ولما جاءوا يقسمون الغنائم تركهم وانصرف، فلما سئل عن ذلك أجاب بأنه لم يأت للمغانم وإنما جاء للجهاد أما الغنائم فيتركها للناس.

أما من ناحية الحديث والفقه فكان ثبتاً وإماماً كبيراً، -وأنا حين أتحدث عن عبد الله بن المبارك فإنما أتحدث عنه حديث المحب المتيم، فلو قرأت سيرة عبد الله بن المبارك لعذرتني، رغم تقصيري في حقه لأن الموضع ليس موضع شرح سيرة عبد الله، لكن الحديث ذو شجون، والواحد إذا أحب أحداً أطال الحديث عنه.

فصاحبنا يقول لي يوم أمس: لماذا عبد الله بن المبارك لم يكن له خصوم يكرهونه بخلاف أحمد بن حنبل ؟

قلت: لأن أحمد بن حنبل كان مقاتلاً يدك الحصون، وجاء وقت دك حصون المبتدعة، ونحن نسلم أنه لو كان عبد الله بن المبارك موجوداً في زمن أحمد بن حنبل لكان فعل مثلما فعل أحمد إن شاء الله، فالذي يهاجم ليس كالرجل الساكن، فالساكن لا خصوم له، إنما الرجل الذي يناوئ هذا ويناقش هذا ويدك معقل هذا المبتدع، لابد من أن تجد له خصوماً بصفة مستمرة، وكلما كثر خصوم الرجل في الحق دل ذلك على نباهته، وعلى علمه وذكائه، وهذا مستقى من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كذلك نحن معاشر الأنبياء نبتلى ثم تكون العاقبة لنا، وأشد الناس بلاءً الأنبياء، فالصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه) فأهل البدع لهم أصول يضعونها ليتخلصوا بها من دلالات النصوص، وعفا الله عن أبي الحسن الكرخي -أحد أصحاب أبي حنيفة رحمه الله- كان يقول: كل آيةٍ وحديثٍ يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ. يعني كلام أصحابه هو الأصل، وكلام الله ورسوله هو الفرع، أي: إذا حصل التعارض يكون كلام الله إما منسوخاً أو يحمل على غير ظاهره، فهل هذا من تعظيم النصوص؟! إن تعظيم النص أن يكون كلام الله ورسوله هو الأصل، كما قال سفيان بن عيينة : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر عليه يوزن الخلق )، وكل واحد لنعرف أنه محق أو مبطل، فإننا نأتي بكلامه ونزنه على هذا الميزان الذي عندنا؛ فإذا وافقه يكون حقاً، وإن خالفه يكون باطلاً، أما الكرخي فكلام أصحابه عنده هو الأصل، وكلام الله ورسوله نأتي به ونقيسه على كلام أصحابه؛ فإذا وافق كلام أصحابه فالحمد لله!! وإذا لم يوافق كلام أصحابه فإما أن يحمل على غير ظاهره وإما أن يعد منسوخاً .. والمنسوخ لابد له من ناسخ، فأين الناسخ؟

والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء

وأكثر أهل الأرض أدعياء، وأغلبهم يدعي الدعوى ولا يستطيع أن يقيم الدليل عليها، فجعل الصورة كما سمعتم.

إن الدعاوى التي يطلقها أهل البدع إنما يتخذون منها متاريس يضعونها كعراقيل، والأدهى والأمر أنهم وضعوا متاريس ضخمة جداً في مقابل نصوص الوحي في العقيدة، وكلٌ منهم يطلب التنزيه، لكنهم يطلبون ما لا يدرك بالعقل، فالقمر وهو مخلوق، لو قلت لك: صف لي سطح القمر، وصف لي حجارة القمر، وصف لي جسمه، وصف لي هذه الأجرام التي تدور بسرعةٍ مذهلة، وهي تعد بالمليارات، فلن تستطيع؛ لأن العقل لا يستطيع أن يصف إلا ما وقع تحت الحواس، التي تعد البوابات للعقل، فما غاب عن أي حاسة من الحواس الخمس لا يستطيع العقل وصفه، والرسول عليه الصلاة والسلام أشار إلى ذلك، لما ذكر الجنة فقال: (فيها ما لا عينٌ رأت -فتستطيع أن تصفه- ولا أذنٌ سمعت)، إن أكثر حاستين يعمل بهما الإنسان ويستخدمهما العقل السمع والبصر، وبعد ذلك قال لك حتى لا تبحث كثيراً: (ولا خطر على قلب بشر)، انظر إلى نفسك حين تجلس للتأمل وتطلق العنان لخيالك فإنك لا تستطيع أن تصف ما في الجنة وهي مخلوقة، فهل تستطيع أن تصف الله؟!! فأهل البدع وقعوا في هذا الأمر فقالوا: نحن نطلب تنزيه الله عز وجل عن النقص، وإذا قرأت عليه قوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، قال لك: لو كان لله يد لكانت مثل أيدينا، والله ليس كمثله أحد، إذاً ليس له يد، وأنا أنزه الله، فتقول له: ثبت أن الله له يد، فيقول: أنت مجسم، وأنت ضال؛ لأنك تثبت لله يداً، ومعنى أن له يداً أنك تشبه الله بخلقه، فأنا أولى بالحق منك؛ لأنني منزهٌ وأنت مجسم.

فإن قلنا له: إذا كان مطلبك إثبات التنزيه لله فما هو رأيك في الصحابة؟ ترى أنهم ماتوا وقد نزهوا الله، أو ضلوا عن التنزيه؟ فليس له عندها إلا أن يقول: إنهم نزهوا الله، فتقول: هلم ننظر إلى سيرتهم، وإلى فهمهم فما ثبت عنهم نعض عليه بالنواجذ، وما لم يثبت عنهم نرميه في البحر. وأي طالب للحق لن يرد هذا الكلام، ولا يتصور أن الصحابة الذين نقلوا لنا الدين ماتوا على ضلال ولم يعرفوا الله، والمتصور أن هؤلاء الذين نقلوا لنا هذه الأدلة التي نحتج بها الآن هم أفهم لها منا، أو على الأقل فهمهم كفهمنا فلماذا، لا نطلب طريقة هؤلاء الصحابة؟!!

وقد رد ابن قتيبة رحمه الله على هؤلاء برد جميل، يقول: أنتم نفيتم أن لله يداً، فما هي اليد عندكم؟ يقولون: اليد بمعنى النعمة، كما تقول: فلانٌ له عليَّ يدٌ وله عليَّ أيادٍ، فلان صاحب الأيادي البيضاء، ففلان له عليَّ يد أي: ليس بمعنى أنه يضع يده عليَّ، بل هي بمعنى: له عليَّ نعمة وجميل.

فـابن قتيبة رحمه الله رد عليهم بقوله: اليد التي هي بمعنى النعمة، تفرد في كلام العرب وتجمع، إلا أنها لا تثنى، فتقول: فلانٌ له عليَّ يد (بالمفرد) وله عليَّ أيادٍ (بالجمع)، ولا تقول فلانٌ له عليَّ يدان (بالمثنى).

وقد جاء في كتاب الله قوله عز وجل: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ [المائدة:64] فجاءت بالمثنى فدل على أن المقصود هنا اليد على الحقيقة، وليس المقصود بها النعمة، ولا المقصود بها القوة، كما في قوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، فهذا يكون بمعنى التأييد والقوة والعون وغيرها من هذه الأشياء.

فنقول: هل يضر ونحن نسلم أن الله عز وجل ليس كمثله شيء أن يكون له يدٌ ليس كمثلها شيء؟

الجواب: لا يضر، فلماذا لا تتبنى هذا القول، وفيه إثباتٌ للنص؟ إذا كان هناك قولان، قولٌ إذا تبنيته أهدرت النص وألغيته، وقولٌ إذا تبنيته أبقيت النص، فلا خلاف عند الكل أن القول الثاني أولى، لماذا؟ لأنك أبقيت النص وقلت قولاً لا يصادمه لاسيما وأنا معترفٌ أنا والخصم أن الله تبارك وتعالى له حياة، وأنا أيضاً لي حياة اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]، فهذه (حي) والأخرى: (الحي)، إذاً أنا حيٌ لأني أتكلم، وأحرك جوارحي، فهل تسلم أن لله حياة؟ نعم. وتسلم أن لي حياة؟ نعم. وهل حياتي كحياته؟ لا. فلماذا لم تنف الحياة عنه بما أنك أثبتها لي، فعندها لن يستطيع الرد.

ولو قلنا أنك أثبت له حياة تليق بجلاله، وأثبت لي حياة تليق بي، فلماذا لا تقول: وله يدٌ تليق بجلاله كحياته، وأنت لك يدٌ تليق بك كحياتك؟ ولماذا لا تقول: له إصبع وله قدم وتثبت سائر ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم له عز وجل في إطار لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]؟

فانظر ما أحلى هذا الكلام، مثل الماء لا يصادم فطرة ولا يتعب عقلاً، أما صاحب البدعة فإنه يدور بك في متاهات أقواله وفي النهاية ترى أنك ذاهب إلى سراب بقيعة، لكن الكلام الذي قلته الآن هو كلام الصحابة والتابعين، وهو الكلام الذي إذا سمعه أي إنسان فإنه لا يرده، فإننا نثبت ما أثبته الله عز وجل لنفسه وننفي عنه ما نفاه عن نفسه، فقد نفى عز وجل المثلية وأثبت الصفة، فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] في النفي وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] في الإثبات، فيكون نفى المثلية وأثبت السمع والبصر، فماذا نفهم من هذا؟ أنه (سميع) وليس كمثله سمعٌ، (بصير) وليس كمثله بصر، وكذلك له يدٌ ليس كمثلها شيء، وهكذا.

لكن يأتي من يرد هذا الكلام فيقول: مَنْ مِن الصحابة قال بهذا القول؟ نقول له: هذا البخاري ومسلم رويا حديث أبي سعيد الخدري : (يوم يكشف الله عن ساقه..)، يقول لك: هل روى هذا الحديث أحد غير أبي سعيد الخدري ؟ وفيه نسبة الساق إلى الله هكذا بالضمير الصريح؟ لا. أليس من الجائز أن يهم أبو سعيد ؟ نعم جائز. لكن التجويز العقلي لا ينبغي أن يعكر على الواقع الفعلي، فالذهن قد يتصور أشياء في الخارج لا وجود لها، مع إمكان حدوثها، أتسلم لي أن الله عز وجل قادرٌ على أن يخلق رجلاً بمائة ألف رأس، في كل رأس مائة ألف فم، في كل فم مائة ألف لسان، كل لسان يتكلم بمائة ألف لغة؟ فهل تنكر هذا؟ أما أن نقول: إن الله خلق واحداً من خلقه بهذه الصورة فهذا هو ما يخالف الواقع الفعلي.

فالتجويز العقلي شيء، والواقع الفعلي شيء آخر، أليس من الجائز أن يمشي رجلٌ على الماء، أليس من الجائز أن يسير رجلٌ في الهواء، لكن هل وقع أن رجلاً مشى في الهواء، لا. مع أن القدرة صالحة، فقدرة الله عز وجل ليس لها آخر، ولكن ما وقع.

فأنت تقول: هل الصحابي معصوم من الخطأ؟ أقول لك: لا. لكن أنا أقول لك: هو ليس معصوماً نعم، لكن هل أخطأ؟ فأثبت أنه أخطأ، فالتجويز العقلي ليس لنا اعتراض عليه، لكن لا ينبغي أن تهدر الدليل بالتجويز العقلي، أئمتك الذين تأخذ الهدى عنهم، هل يمكن أن يخطئوا؟ نعم يمكن ذلك. فلماذا أخذت عنهم الدين، وأخذت عنهم الكلام مع إمكان أن يخطئوا؟

فلذلك نقول: أبو سعيد الخدري رضي الله عنه روى الحديث، وأنت تسأل: هل أبو سعيد معصوم؟ أقول لك: لا. من الجائز أن يخطئ أبو سعيد الخدري لكن أقول لك بدوري: أثبت أنه أخطأ بإثبات واقعي. وذلك بأن تأتي بصحابي آخر روى ضد ما روى، فتقول: أنا استدل برواية عمر بن الخطاب على خطأ أبي سعيد الخدري ، حينئذٍ أنا أول القائلين بهذا ولا أنازعك، لكن كلامٌ ليس عليه دليلٌ أن صاحبه أخطأ، لماذا ترده؟ يقول: لأن الخبر الواحد لا تثبت به عقيدة، والعقيدة لا تثبت إلا بالتواتر.

فنقول: إن معاذ بن جبل أرسله الرسول عليه الصلاة والسلام إلى اليمن لوحده، وقال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، فهل هذه عقيدة أو لا؟

فلو أن أهل اليمن قالوا له: يا معاذ ! لن نؤمن لك، فماذا يكون الحكم الشرعي في حقهم؟ كفرة أم لا؟ بإجماع العلماء هم كفرة، فهل نكفرهم بواحد؟ إذا ثبت عليهم التكفير بخبر الواحد دل على أن خبر الواحد حجة ملزمة قطعية؛ لأن التكفير لا يكون إلا بالقطعي، كما أن إثبات الإيمان لا يكون إلا بالقطعي، فالتفسير لا يكون إلا بالقطعي.

وبما أنهم كفروا بخبر الواحد، فدل ذلك على أن خبر الواحد قطعي.

فلا يتمكن أهل البدع من رد هذه الأدلة.

وعلماء المسلمين مثل ابن القيم وغيره أفاضوا في مثل هذه المسألة في كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية المعطلة، وكان حين يناقش شبهاتهم يقول: كسر الصنم الأول، كناية عن أن الجهمية لهم أصنام، وهي عبارة عن المتاريس والشبهات التي يضعونها أمامنا، فجاء ابن القيم وكسر الصنم الأول من ثمانين وجهاً، 1، 2، 3، 4، 5، 6، إلى 80، حتى إذا ما أبطلوا وجهاً رد عليهم بالثاني، ثم الثالث والرابع، والخامس، حتى يأتي على بنيانهم من القواعد، وعندما تقرأ الصواعق المرسلة تعجب كثيراً من قدرة علماء المسلمين على نحت الأدلة من الصخر، وكيف اهتدوا إلى مثل هذه الاستدلالات التي هي من وراء وراء الكلمات.

ومن الأصنام التي يحتج بها المبتدعة (المجاز).

فالمقصود أن أهل البدع ما تركوا طريق أهل الحق سالماً إنما وضعوا المتاريس فيه، وفي نفس الوقت فتحوا الطريق إليهم على مصراعيها، فينظر الناظر إلى طريقهم فإذا به يظهر في منتهى السهولة، وحين ينظر إلى طريق أهل الحق يرى العوائق والصعوبات فيظن الخير في اتباع الطريق السهل.

وهذا يذكرنا بحال أصحاب الأحزاب الدينية الذين يقولون: نحن ندخل مجلس الشعب، وبعد أن ندخل يحلها حلال، وندخل مع حزب العمل مرة، وندخل مع حزب الأحرار مرة، وأول ما ندخل نلعب عليهم، فيدخل ويقول لك: الانتخابات واجبة، ويدخل في الانتخابات، فإذا قلت لهم: كيف تدخلون مع حزب الوفد، بينما شعاره يقول: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، أي: يقول: الدين في المساجد، وإنما أول ما تطلع خارج باب المسجد يحكمك القانون، لكن طول ما أنت في المسجد فسأترك لك البخاري ومسلم، وسأترك لك القرآن وتفاسيره، فإذا خرجت فسأمسكك بالقانون، وهذا معنى: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، فكيف بحزب علماني يقول بفصل الدين عن الدولة بمنتهى الصراحة، تذهب لتلتحق به وتعمل تحت مظلته؟ فيقول: أنا سأمسك المعارضة وأخليها إسلامية!! (مثل السمك المذبوح على الطريقة الإسلامية)!! فنقول له: ماذا تظن نفسك؟ ألا تعلم أنهم ما أجازوا التعددية الحزبية إلا بعدما أمنوا أنفسهم مائة في المائة؛ لأن من المعروف أن كل حزب يريد الحكم، فهل تتصور أن يترك لك خرم إبرة لكي تدخل منه للحكم، هذا بعيد عنك، لقد سد عليك كل الطرق، وسماها دستوراً، وسماها قرارات، ولجنة الأحزاب تعطي كل حزب يرغب في الانخراط في العمل السياسي لوائح معينة فإن وافق عليها أعطي تصريحاً بمزاولة العمل السياسي، ومتى ما خرج عن هذه اللوائح التي وافق عليها ابتداء، لوح له أولئك بهذه اللوائح، فإما أن يعود إليها وإما أن يسحب منه التصريح، فلا يكون أمامه إلا الانصياع والقبول بكل ما يملى عليه على أصل أن يأتي يوم من الأيام فيتمكن فيه من الإصلاح الذي يرجوه، فيبقى طول حياته ماشياً على الخط الذي هم عملوه، وهذا الخط يوصل إلى المحيط.

فهو يدخل في أهل البدع، لكن هل يا ترى إذا بقي على هذا المسلك إلى النهاية هل سيجد طريقاً؟ لن يجد إلا المحيطات، وقد يجد طريقاً جانبياً يفتحه له أهل البدع بعدما يكون قد تعبت أنفاسه، وبعد ذلك يغرونه بالمناصب والامتيازات، كما حصل في أول الصحوة، فالصحوة حين بدأت في الجامعات سنة (74 و75م)، كانت هذه الصحوة التي عمت الجامعات آنذاك سلفية، وكانت منشورات الجماعة الإسلامية آنذاك تحمل هذه السمة، فتجدها تنقل من كتب ابن القيم وابن تيمية والألباني ، والشيخ ابن باز ، فكانت صحوة سلفية مائة بالمائة، أما بعد سنة (77، 78م) بدأت الأحزاب السياسية تدخل وأخذوا الشباب، ووضعوهم في القمة، فقالوا لأحدهم: أنت تأتي رئيساً للكتلة الفلانية، وأنت تأتي رئيساً للكتلة العلانية، وكانت المؤتمرات في ذلك الزمان يحضرها ألوف مؤلفة، فتصور عندما يكون الشاب في سن العشرين ويجلس بجوار المجاهد الكبير فلان الفلاني، ويقال: وفضيلة الشيخ فلان الفلاني، الآن سيقدم لنا كلمة، وفلان الفلاني الذي كان بالأمس القريب يسمع مع الجماهير، إذا به اليوم من القادة، والكل يشير إليه، ولم يكن قد ظهر آنذاك الجماعات المختلطة كما هو حاصل اليوم، فتجد الجماعة الواحدة تحمل الفكر السلفي على التبليغي على غير ذلك، أما من قبل فلم يوجد إلا العاطفة الجياشة للإسلام.

فكل ما نحظى به الآن جماعات مشرذمة كانت فيما سبق تحمل رصيداً كبيراً من العمل الإسلامي، فكان الواحد من أولئك الشباب من واحد وعشرين سنة، لما يرى نفسه أصبح في هذا الموقع المبهر البراق لا يستطيع الرجوع، فخطفوهم بهذه الطريقة، حتى صار منهم من يعادي ما كان يعتقد أول مرة، وهذا بسبب الرياسة.

فأهل البدع لا تسلم لهم أبداً، فهم كالثعابين ناعمة الملمس لكن القضاء المبرم في لدغتها، ولذلك فإن الطريق الوحيد في وسط الثنتين والسبعين سبيلاً يحتاج منك إلى تفتيش، والأمر جد ليس بالهزل، هذا طريق ناح فيه نوح، وأضجع للذبح إسماعيل، وألقي في النيران إبراهيم، وزاد مقداراً على البكاء داود عليه السلام، ومشى وسار مع الوحي عيسى، وقاسى الضر أيوب، وعالج أنواع البلاء محمد صلى الله عليه وسلم، تزهو أنت باللهو واللعب؟!!

هذا طريق كله دماء وأشلاء، لذلك ينبغي أن تعد العدة حتى لا يصرفك عن مواصلة السير ما تجده من مصاعب هذا الطريق، لكن عاقبته الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).

أسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعنا وإياكم فيها، وأن يسددنا ويسدد أقوالنا، ويسدد أفعالنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. والحمد لله رب العالمين.