نظرات في سورة الأنفال[2]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فلا زلنا -أيها الإخوة- نلقي بعض النظر على ما جاء في سورة الأنفال، ونربط بين هذه المعاني وبين واقعنا الأليم، ونستخرج أوجه الشبه بين ما كان عليه الصحابة في غزوة بدر، وبين ما نحن عليه الآن.

قال الله عز وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1]، ثم ذكر خمس صفات للمؤمنين في مطلع السورة، وقد ذكرنا في الجمعة الماضية أن استهلال السورة بهذه الصفات له أكبر الأثر في انتصار القلة المؤمنة، وقد ذكر الله عز وجل في هذه السورة صفات للكافرين الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، وقد ذكر في مقابل الصفات الخمس صفات أخرى ولكن بالذم.

قال تعالى: إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1] ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2-4]، فقد ذكر خمس صفات لهم.

وقلنا: إن الوجل هنا ليس هو الخوف المحض كما في قوله تعالى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ [الحجر:51-52] (وجلون): أي خائفون منزعجون، فهذا هو الخوف المحض، فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ [هود:70]، إذاً: الوجل المذكور في آية الحجر هو الخوف والفزع، (قَالُوا لا تَخَف) هذا هو الخوف المحض، أما الخوف في سورة الأنفال فهو الخوف المشوب بالمحبة، إذا سمعت ذكر من تحب فإن قلبك ينبض بشدة، وتشعر بشوق مختلط، وهذا الشوق مختلط برعدة تتسلل إلى الجسد، هذا هو الوجل المقصود من الآية.

إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61]، فهذا هو الوجل المختلط بالمحبة، وتلك هي مقدمات ذكر الله، فأول ما يذكر العبدُ ربَ العالمين يشعر بالوجل، ثم سرعان ما يتبدد هذا الوجل إلى طمأنينة، الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] فليس هناك منافاة بين أن يوجل القلب عند ذكر الله وبين أن يطمئن، فإن الوجل هو مقدمة الذكر، والطمأنينة بالذكر الخاتمة.

فربنا تبارك وتعالى يذكر صفات المؤمنين، كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر:23] هذا مقدمة الذكر، قال: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23] (تلين): هذه هي الطمأنينة، وهي آخر درجات الذكر.

أول الدرجات أن يوجل القلب، وهي أول الصفات التي ذكرها الله تبارك وتعالى للمؤمنين، وفي مقابل هذا قال الله عز وجل: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:22-23]، هذا وصف للكافرين في مقابل وصف المؤمنين فذكر الله عز وجل فقد الكافرين لأعظم حاستين من الحواس وأجل طريقين إلى الفهم، ونحن نعلم أن مستقر العقل هو القلب، وأن عقل المرء في قلبه.

ولهذا العقل طرق، أجل هذه الطرق: السمع والكلام، فقال تبارك وتعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال:22-23] عنده الجارحة -وهي الأذن- سليمة ولا إشكال فيها، فهو سمع سمع إدراك -أي: سمع حاسة- ولكنه لم يسمع سمع فهم، بل يسمع فيزداد طغياناً، يسمع فتنقلب عليه المعاني؛ لأن الفهم منحة من الله تبارك وتعالى، كما قال عز وجل: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ الأنبياء:78-79].

فالفهم منحة من الله عز وجل يختص الله عز وجل بها من يشاء من عباده، فهؤلاء سمعوا سمع حاسة، ولكنهم لم يفهموا عن الله تبارك وتعالى، ولم يستفيدوا بهذا البيان الذي سمعوه وهم معرضون، وهنا تجد التباين ما بين الفئة المؤمنة وما بين الفئة الكافرة.

إننا نذكر هذا التباين لنستفيد منه في هذا الواقع المر، إن كثيراً ممن ينتسبون إلى الإسلام الآن يصنعون صنيع المشركين: يسمعون آيات الله عز وجل فيخرون عليها صماً وعمياناً.

وعندما تطالع الصحف والمجلات والكتب المنشورة، لا تتصور أننا في بلد يحكمه الإسلام، ففي كل يوم تظهر صور جديدة للردة عن الدين! ويخرج هذا باسم حرية الفكر، وأنه لا حجر على الفكر، وأن المتضرر يلجأ إلى القضاء، والقضاء لسان حاله: (مت يا حمار) فحتى يفصلوا في هذه القضية سيأخذون سنين عدداً، والاستشكالات تخرج من مكامنها.

نصر أبو زيد حتى الآن قضت المحكمة السورية بردته، تغير القاضي وجاء قاض آخر فنسخ هذا الحكم، وهذا رجل كافر، وكفره واضح مثل الشمس في رابعة النهار، ومثله ألوف مؤلفة، فكيف ينصر قوم يُسب الله عز وجل في ديارهم؟!

إن الله عز وجل لما ذكر أنه عاقب المشركين قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:13] (شاقوا الله ورسوله) يعني: كانوا في شق، والله رسوله في الشق المقابل، تخلوا عن الله ورسوله وتركوا جانبه، وكانوا مع الذين يظاهرون عليه وعلى رسوله وعلى دينه.

فهذه مشاقة لله ورسوله: أن ينشر الكفر باسم حرية الرأي؛ ولذلك نحن في أمس الحاجة إلى أن نضع أيدينا على مواطن النصر، إن الفئة المؤمنة كانوا في وضع لا يحسدون عليه، وضع من جهة الموقع، ومن جهة الإمكانات كانوا في غاية الضعف، قال تعالى وهو يصور ذلك: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال:42].

ما معنى (العدوة الدنيا والعدوة القصوى)؟ (العدوة الدنيا) أي: المكان القريب من المدينة، حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والفئة المؤمنة.

(وهم بالعدوة القصوى) أي: جهة مكة.

جوانب الضعف المادي عند المسلمين في بدر

الذي يدرس تضاريس الأرض يرى أن العدوة الدنيا كانت رمالاً رخوة، تسيخ الأقدام فيها ولا تثبت الأرجل عليها، بخلاف العدوة القصوى فإنها صخر، الواقف عليها متمكن يستطيع أن يكر ويفر ويرجع ويقدم، بخلاف العدوة الدنيا التي هي عبارة عن أرض رملية لا يستطيع المرء أن يجري فيها ولا يكر ولا يفر.

ثم هناك عامل آخر يدعو أهل مكة إلى الثبات: وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأنفال:42] ذلك أن أبا سفيان لما علم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه أخذ ساحل البحر هارباً.

(الركب أسفل منكم) أي: أنه خلف ظهور المكيين القرشيين الذين خرجوا بطراً، وهذا حافز لأن يقاتلوا أشد القتال دفاعاً عن التجارة والأموال التي خلف ظهورهم.

وكان من عادة العرب أنهم يأخذون النساء ويأخذون الأموال حال الحرب؛ ليكون ذلك باعثاً على ثباتهم، فيقاتل الواحد منهم دون امرأته أو دون أخته أو دون أمه، ويفضل أن يقتل ولا ينال أمه ولا أخته ولا امرأته ولا ابنته ولا إحدى حريمه سوء، إذاً: كان هناك حافز لأن يثبتوا، ذلك أن الركب - وهي العير- كانت خلف ظهورهم، وهم إنما خرجوا نجدة للعير، فلا يتصور أن يتركوها.

فانظر إلى هذا الذي تسمعه، وذكره رب العالمين تبارك وتعالى من تباين الأرض التي يقفون عليها! ولذلك امتن الله عز وجل على المؤمنين وهو يقول لهم: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11]، لما نزل المطر جعل هذا الرمل الرخو صلباً تحت الأقدام؛ لأن الله عز وجل هو الذي تولاهم بلطفه وعنايته، قال تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:10] عزيز لا يغلب، حكيم في نصر الفئة المؤمنة برغم قلة الإمكانات.

خرجوا من ديارهم ثلاثمائة وتسعة عشر نفراً كما رواه مسلم في صحيحه، وخرجوا -كما تعلمون- لا لقتال، ولم يكن معهم غير فرسين اثنين، وقرابة أربعين أو خمسين بعيراً، كان الثلاثة يعتقبون البعير الواحد، في حين أن قريشاً خرجت تريد القتال، وقد استعدت وأخذت أهبة استعدادها، والأرض في صالحهم، والكثرة في صالحهم، والعتاد في صالحهم، لكن الذي رجح كفة الفئة المؤمنة هو التضرع لله والتذلل، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة السابع عشر من شهر رمضان، لم يغمض له جفن، ظل طول الليل يدعو الله تبارك وتعالى، ويمرغ خديه على عتبة عبوديته، وهو يقول: (اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم أنجزني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)، وقضى ليلته يمرغ خديه على عتبة عبوديته تبارك وتعالى، فقال الله عز وجل: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [الأنفال:12]، لأنه لا قيمة لجهد الملائكة ولا لجهد البشر ما لم يكن مكللاً بعناية الله عز وجل.

فانظر أخي: هل يهزم طائفة فيها هؤلاء المؤمنون، وفيها هؤلاء الملائكة، ويظاهرهم رب العالمين تبارك وتعالى؟! لا يهزمون أبداً، فئة مؤمنة تحققت فيها صفات خمسة قضى الله عز وجل أن هؤلاء هم المؤمنون حقاً.

جوانب القوة الروحية عند المؤمنين في بدر

محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة، والخوف، والرجاء؛ والمحبة أعظمها على الإطلاق.

هذه الثلاثة هي الحادي الذي يحدو القلوب في سيرها إلى الله عز وجل: إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، وهذا الوجل له أثر عملي، وهو أن ينساب الدمع من العين، وهو أهم مظاهر الوجل المختلط بالمحبة، قال تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:83] وكان هذا هو شأن الصحابة جميعاً، وما كان أحدهم إذا سمع القرآن يسقط مغشياً عليه، وقد قيل لـابن عمر رضي الله عنهما: ( إن جماعة يسمعون القرآن فيصعقون -أي: من خشية الله- قال ابن عمر : والله إنا لنسمع القرآن ونخشى الله ولا نصعق )، لأن سماعهم كان أتم، وكانت قلوبهم في غاية الاستعداد لسماع قرع الموعظة.

أما الذي نزل في عباد البصرة، فكانت قلوبهم ضعيفة مع قوة آيات الذكر فلم يتحملوا، فالصادقون منهم كان يغشى عليهم، لكن جملة الصحابة كانوا ينكرون هذا، قيل لـعائشة رضي الله عنها في ذلك، قالت: ( إن القرآن أكرم من أن تنزف عنه عقول الرجال، ولكنه كما قال الله عز وجل: مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23] ) وكذلك كان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول.

أثر الوجل نزول الدمع، واقشعرار الجلد، وهي رعدة تحس بها في جسمك وفي قلبك، قال تعالى: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، هذا نصيب الطائفة المؤمنة.

أما الكافرون فقال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:31-32]، هذه هي محصلة سماع الذكر، أول ما يسمع الذكر يقول: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) لا يقول: فاهدنا إليه، إنما يقول: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة) إذاً سماع الذكر زادهم طغياناً، بخلاف الذين آمنوا: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

التوكل: هو اعتماد القلب على الله، ليس التوكل كما ظن بعض الغالطين أنه ترك الأسباب بالكلية، فإن السبب جزء من التوكل، والذي يترك السبب بدعوى التوكل أحمق ضعيف العقل، فقد اتفق العلماء جميعاً، وتؤيده مئات النصوص من الكتاب والسنة: على أن السبب جزء من التوكل.

كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج من مكة إلى المدينة اختفى في الغار، ولو شاء لمشى، ولكنه اختفى حتى يبين أن الاختفاء عن الأعداء ليس قدحاً في توكله على الله عز وجل، ولما قال له أبو بكر رضي الله عنه: (لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا. قال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، فإن الله عز وجل الذي خلق عباده وهو عالم بهم قادر على أن يعطل السبب إذا أراد: وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [الأعراف:198] استخدم حاسة النظر نعم، ولكن نزع الله عز وجل منه هذه الخاصية خاصية إدراك الأجسام بالنظر، فالله عز وجل نزعها لأنه مالكهم، وهو ربهم وخالقهم، ولا يكون شيء في هذا الكون إلا عن إرادته.

نموذج إيماني بدري

فانظر إلى هذه الطائفة تتلى عليهم آيات الله، فيزدادون بها إيماناً، وقد ظهر هذا الإيمان في جزئيات من غزوة بدر حفظتها لنا كتب السنة.

في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أول ما بدأت الحرب: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض. فقال: عمير بن الحمام : يا رسول الله! عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم. فقال عمير : بخ.. بخ -يعني: أنعم وأكرم-! فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: ما يحملك على قولك بخ.. بخ! قال: لا -والله- يا رسول الله! إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها. فقام عمير وأخرج من قرنه تمرات، وجعل يأكلها، فلما تذكر هذا الوعد وأنه من أهلها، وهي جنة عرضها السماوات والأرض قال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات) يعني: الذي يحجزني عن دخول الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض هي أن أموت (فألقى التمرات من يده وقاتل حتى قتل، فكان أول قتيل في غزوة بدر).

يقول: بخ.. بخ، هذا الذي يتمنى أن يموت، ترى هل تمنى أن يرجع إلى أهله، أو إلى داره أو إلى ماله، أو إلى جيرانه وعشيرته؟ لا، خرج لا يلوي على شيء إلا أن يقتل: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52]: النصر أو الشهادة.

المؤمن عزيز، يظل في الدنيا غالباً لا مغلوباً، وهو عندما يتحرك لقتال أعداء الله يقول في نفسه: إما أن أعيش سيداً منصوراً تدين لي الآفاق، وإما أن أموت شهيداً سليماً ولا أبقى على الأرض ذليلاً.

المسلمون في الأندلس مروا بواقع أليم، فكل واحد من الأمراء أخذ مقاطعة وقال: هذه دولتي، وجعل يحارب بعضهم بعضاً للاستيلاء على أملاك الغير، الأسبان كانوا في الشمال والمسلمون كانوا في الصعيد -وجنوب أي بلد هو صعيد البلد- كان المسلمون في جنوب الأندلس والإسلام في شمال الأندلس، تصور أن طليطلة -إحدى مدن المسلمين في أسبانيا- ظل الأسبان يحاصرونها سبع سنوات كاملة، ومع ذلك لم ينجدها أحد. وطلنكية ظل الأسبان يحاصرونها عشرين شهراً حتى أكلوا الجيف وأكلوا الفئران، بل وكانوا يأكلون الذي يموت منهم، إذا مات رجل أو امرأة كانوا يأكلون هذا الرجل أو المرأة، وبعد عشرين شهراً سقطت أيضاً؛ لأنهم انغمسوا في الشهوات والنساء والقيان، بل طاوعوا ملوك الأسبان، وأغروا ملوك الأسبان بأن يدخلوا إلى البلد؛ فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم ضربهم بهذه الهزيمة، وليس على الله بعزيز أن يذل أمثال هؤلاء.

يا أيها الإخوة: إن عوامل النصر في غاية الوضوح، إنه لا نصر لنا على الإطلاق على اليهود إلا إذا حققنا هذه الصفات الخمس التي كانت في أهل بدر، مع قلتهم ومع ذلهم ومع فقرهم انتصروا، وكما قلت في مطلع الكلام: الأرض لم تكن تساعد هؤلاء على الكر والفر، لكن الله عز وجل يعطي من أسباب الفوز للطائفة المؤمنة ما يجل عن الحصر وما لا يخطر على البال.

قال تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، في مقابل هذا بطر وعناد: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنفال:31] فهذا الإيمان الذي كان عند الطائفة المؤمنة ظهرت مفرداته في القتال يوم بدر.

الذي يدرس تضاريس الأرض يرى أن العدوة الدنيا كانت رمالاً رخوة، تسيخ الأقدام فيها ولا تثبت الأرجل عليها، بخلاف العدوة القصوى فإنها صخر، الواقف عليها متمكن يستطيع أن يكر ويفر ويرجع ويقدم، بخلاف العدوة الدنيا التي هي عبارة عن أرض رملية لا يستطيع المرء أن يجري فيها ولا يكر ولا يفر.

ثم هناك عامل آخر يدعو أهل مكة إلى الثبات: وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأنفال:42] ذلك أن أبا سفيان لما علم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه أخذ ساحل البحر هارباً.

(الركب أسفل منكم) أي: أنه خلف ظهور المكيين القرشيين الذين خرجوا بطراً، وهذا حافز لأن يقاتلوا أشد القتال دفاعاً عن التجارة والأموال التي خلف ظهورهم.

وكان من عادة العرب أنهم يأخذون النساء ويأخذون الأموال حال الحرب؛ ليكون ذلك باعثاً على ثباتهم، فيقاتل الواحد منهم دون امرأته أو دون أخته أو دون أمه، ويفضل أن يقتل ولا ينال أمه ولا أخته ولا امرأته ولا ابنته ولا إحدى حريمه سوء، إذاً: كان هناك حافز لأن يثبتوا، ذلك أن الركب - وهي العير- كانت خلف ظهورهم، وهم إنما خرجوا نجدة للعير، فلا يتصور أن يتركوها.

فانظر إلى هذا الذي تسمعه، وذكره رب العالمين تبارك وتعالى من تباين الأرض التي يقفون عليها! ولذلك امتن الله عز وجل على المؤمنين وهو يقول لهم: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11]، لما نزل المطر جعل هذا الرمل الرخو صلباً تحت الأقدام؛ لأن الله عز وجل هو الذي تولاهم بلطفه وعنايته، قال تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:10] عزيز لا يغلب، حكيم في نصر الفئة المؤمنة برغم قلة الإمكانات.

خرجوا من ديارهم ثلاثمائة وتسعة عشر نفراً كما رواه مسلم في صحيحه، وخرجوا -كما تعلمون- لا لقتال، ولم يكن معهم غير فرسين اثنين، وقرابة أربعين أو خمسين بعيراً، كان الثلاثة يعتقبون البعير الواحد، في حين أن قريشاً خرجت تريد القتال، وقد استعدت وأخذت أهبة استعدادها، والأرض في صالحهم، والكثرة في صالحهم، والعتاد في صالحهم، لكن الذي رجح كفة الفئة المؤمنة هو التضرع لله والتذلل، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة السابع عشر من شهر رمضان، لم يغمض له جفن، ظل طول الليل يدعو الله تبارك وتعالى، ويمرغ خديه على عتبة عبوديته، وهو يقول: (اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم أنجزني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)، وقضى ليلته يمرغ خديه على عتبة عبوديته تبارك وتعالى، فقال الله عز وجل: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [الأنفال:12]، لأنه لا قيمة لجهد الملائكة ولا لجهد البشر ما لم يكن مكللاً بعناية الله عز وجل.

فانظر أخي: هل يهزم طائفة فيها هؤلاء المؤمنون، وفيها هؤلاء الملائكة، ويظاهرهم رب العالمين تبارك وتعالى؟! لا يهزمون أبداً، فئة مؤمنة تحققت فيها صفات خمسة قضى الله عز وجل أن هؤلاء هم المؤمنون حقاً.

محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة، والخوف، والرجاء؛ والمحبة أعظمها على الإطلاق.

هذه الثلاثة هي الحادي الذي يحدو القلوب في سيرها إلى الله عز وجل: إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، وهذا الوجل له أثر عملي، وهو أن ينساب الدمع من العين، وهو أهم مظاهر الوجل المختلط بالمحبة، قال تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:83] وكان هذا هو شأن الصحابة جميعاً، وما كان أحدهم إذا سمع القرآن يسقط مغشياً عليه، وقد قيل لـابن عمر رضي الله عنهما: ( إن جماعة يسمعون القرآن فيصعقون -أي: من خشية الله- قال ابن عمر : والله إنا لنسمع القرآن ونخشى الله ولا نصعق )، لأن سماعهم كان أتم، وكانت قلوبهم في غاية الاستعداد لسماع قرع الموعظة.

أما الذي نزل في عباد البصرة، فكانت قلوبهم ضعيفة مع قوة آيات الذكر فلم يتحملوا، فالصادقون منهم كان يغشى عليهم، لكن جملة الصحابة كانوا ينكرون هذا، قيل لـعائشة رضي الله عنها في ذلك، قالت: ( إن القرآن أكرم من أن تنزف عنه عقول الرجال، ولكنه كما قال الله عز وجل: مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23] ) وكذلك كان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول.

أثر الوجل نزول الدمع، واقشعرار الجلد، وهي رعدة تحس بها في جسمك وفي قلبك، قال تعالى: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، هذا نصيب الطائفة المؤمنة.

أما الكافرون فقال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:31-32]، هذه هي محصلة سماع الذكر، أول ما يسمع الذكر يقول: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) لا يقول: فاهدنا إليه، إنما يقول: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة) إذاً سماع الذكر زادهم طغياناً، بخلاف الذين آمنوا: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

التوكل: هو اعتماد القلب على الله، ليس التوكل كما ظن بعض الغالطين أنه ترك الأسباب بالكلية، فإن السبب جزء من التوكل، والذي يترك السبب بدعوى التوكل أحمق ضعيف العقل، فقد اتفق العلماء جميعاً، وتؤيده مئات النصوص من الكتاب والسنة: على أن السبب جزء من التوكل.

كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج من مكة إلى المدينة اختفى في الغار، ولو شاء لمشى، ولكنه اختفى حتى يبين أن الاختفاء عن الأعداء ليس قدحاً في توكله على الله عز وجل، ولما قال له أبو بكر رضي الله عنه: (لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا. قال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، فإن الله عز وجل الذي خلق عباده وهو عالم بهم قادر على أن يعطل السبب إذا أراد: وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [الأعراف:198] استخدم حاسة النظر نعم، ولكن نزع الله عز وجل منه هذه الخاصية خاصية إدراك الأجسام بالنظر، فالله عز وجل نزعها لأنه مالكهم، وهو ربهم وخالقهم، ولا يكون شيء في هذا الكون إلا عن إرادته.

فانظر إلى هذه الطائفة تتلى عليهم آيات الله، فيزدادون بها إيماناً، وقد ظهر هذا الإيمان في جزئيات من غزوة بدر حفظتها لنا كتب السنة.

في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أول ما بدأت الحرب: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض. فقال: عمير بن الحمام : يا رسول الله! عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم. فقال عمير : بخ.. بخ -يعني: أنعم وأكرم-! فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: ما يحملك على قولك بخ.. بخ! قال: لا -والله- يا رسول الله! إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها. فقام عمير وأخرج من قرنه تمرات، وجعل يأكلها، فلما تذكر هذا الوعد وأنه من أهلها، وهي جنة عرضها السماوات والأرض قال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات) يعني: الذي يحجزني عن دخول الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض هي أن أموت (فألقى التمرات من يده وقاتل حتى قتل، فكان أول قتيل في غزوة بدر).

يقول: بخ.. بخ، هذا الذي يتمنى أن يموت، ترى هل تمنى أن يرجع إلى أهله، أو إلى داره أو إلى ماله، أو إلى جيرانه وعشيرته؟ لا، خرج لا يلوي على شيء إلا أن يقتل: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52]: النصر أو الشهادة.

المؤمن عزيز، يظل في الدنيا غالباً لا مغلوباً، وهو عندما يتحرك لقتال أعداء الله يقول في نفسه: إما أن أعيش سيداً منصوراً تدين لي الآفاق، وإما أن أموت شهيداً سليماً ولا أبقى على الأرض ذليلاً.

المسلمون في الأندلس مروا بواقع أليم، فكل واحد من الأمراء أخذ مقاطعة وقال: هذه دولتي، وجعل يحارب بعضهم بعضاً للاستيلاء على أملاك الغير، الأسبان كانوا في الشمال والمسلمون كانوا في الصعيد -وجنوب أي بلد هو صعيد البلد- كان المسلمون في جنوب الأندلس والإسلام في شمال الأندلس، تصور أن طليطلة -إحدى مدن المسلمين في أسبانيا- ظل الأسبان يحاصرونها سبع سنوات كاملة، ومع ذلك لم ينجدها أحد. وطلنكية ظل الأسبان يحاصرونها عشرين شهراً حتى أكلوا الجيف وأكلوا الفئران، بل وكانوا يأكلون الذي يموت منهم، إذا مات رجل أو امرأة كانوا يأكلون هذا الرجل أو المرأة، وبعد عشرين شهراً سقطت أيضاً؛ لأنهم انغمسوا في الشهوات والنساء والقيان، بل طاوعوا ملوك الأسبان، وأغروا ملوك الأسبان بأن يدخلوا إلى البلد؛ فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم ضربهم بهذه الهزيمة، وليس على الله بعزيز أن يذل أمثال هؤلاء.

يا أيها الإخوة: إن عوامل النصر في غاية الوضوح، إنه لا نصر لنا على الإطلاق على اليهود إلا إذا حققنا هذه الصفات الخمس التي كانت في أهل بدر، مع قلتهم ومع ذلهم ومع فقرهم انتصروا، وكما قلت في مطلع الكلام: الأرض لم تكن تساعد هؤلاء على الكر والفر، لكن الله عز وجل يعطي من أسباب الفوز للطائفة المؤمنة ما يجل عن الحصر وما لا يخطر على البال.

قال تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، في مقابل هذا بطر وعناد: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنفال:31] فهذا الإيمان الذي كان عند الطائفة المؤمنة ظهرت مفرداته في القتال يوم بدر.