خطب ومحاضرات
أين الخلل
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
أيها الإخوة الكرام: درسنا في هذا المساء بعنوان: أين الخلل؟! وأعرض فيه للجنس الثاني من الكلام على هذا الموضوع الخطير، وهو وإن كان الجزء الثاني؛ إلا أنه مستقل بذاته.
الناس في هذه الدنيا يتنافسون على الوظائف، ويُعرف شرف المرء وهمته بوظيفته، وأشرف الوظائف في الدنيا هي وظيفة الدعوة إلى الله عز وجل، إذ هي وظيفة الرسل، فهذه هي أشرف الوظائف على الإطلاق، فالدعوة إلى الله تبارك وتعالى لها ثلاثة أركان: الدعوة، والداعيةُ، والمدعو، ودرسنا هذا المساء يتعلق بالداعية وما ينبغي أن يتحلى به، فهو يبلغ رسالات الله عز وجل.
جرت عادة الدول أنها إذا أرسلت سفيراً لها في الخارج فإنها لا ترسل رجلاً جلفاً غبياً غليظاً، إنما ترسل رجلاً ذا لسانٍ عذب.. ذكياً.. صاحب بديهة، إذا وقع في محنة فلا يورط نفسه ولا دولته، وتسمع كثيراً عن الإجابات الدبلوماسية.
معنى إجابة دبلوماسية يعني لا تحل ولا تربط، لا تستطيع أن تدين بها المتكلم؛ لأنه لما تكلم ترك لنفسه أكثر من مهرب، فإذا قلت له: أنت تقصد كذا؟ قال لك: لا. أنا لم أصرح بذلك، وإذا قلت: تقصد كذا؟ يقول: لا. أنا لم أجب بذلك، هذه هي الإجابات الدبلوماسية، أي أنك لا تستطيع أن تدين القائل، ولا تستطيع أن تقيم عليه حجة، بينما أي سفير غبي يورط دولته، ومعلومٌ أن الرئيس إذا أرسل رجلاً يتكلم باسمه حمل عهدته، وأنت إذا وكّلت رجلاً عنك بتوكيل رسمي صار توقيعه محلك، يبيع مالك، وأملاكك، ويشتري مكانك، بتوقيعه هو نيابةً عنك، ويمضي بيعه وشراءه، لماذا؟ لأن هذا التوكيل قائم مقام الشرع.
فالمتكلم عن الله تبارك وتعالى في الدنيا هم الرسل وأتباع الرسل، فالعلماء هم الذين يوقعون عن الله في الأرض، فيجيء المستفتي إلى العالم فيقول: إني عقدت صفقة كذا وكذا وفيها ربح وفير، أفأمضيها؟ فيقول له: لا. فيتجنبها الرجل ويخسر بذلك الصفقة والمال والربح، بمجرد إمضائك وتوقيعك، يأتيك يقول لك: أنا طلقت امرأتي وقلت لها كذا وكذا.. مرتين أو ثلاثاً تقول له: هذه ليست امرأتك! فتفصلها عنه، ويشرد الأولاد بقولك، ولا يستطيع أن يخالفك؛ لأنك توقع عن الله عز وجل في الأرض.
ومن أعظم الجرائم أن تزيف التوقيع في الدنيا، فلو اكتشف رئيسٌ أو مدير أن رجلاً زيّف توقيعه أدخله السجن مباشرة، وذلك لو اكتشفوه، فكيف لو جاء رجلٌ ليس بأهلاً لأن يوقع عن الله في الأرض ووقع؟! إذاً هذا توقيع مزيف! فإذا كان في الدنيا يتعرض للعقوبة فكيف لا يتعرض للعقوبة في الآخرة؟ بل سيتعرض لأشد العقوبات؛ لأن توقيعه توقيع مزيف.
لهذا كان لابد للداعية أن يتحلى بالعلم، قال الله عز وجل: الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان:59]، لا تسأل عن الرحمن جاهلاً، إنما إذا أردت أن تسأل عن الرحمن فاسأل خبيراً به تبارك وتعالى، وبصفاته، وبما أنزله من العلم على رسله، فأول شيء ينبغي أن يتحلى به الداعية إلى الله عز وجل هو العلم، ولا يحل له أن يفتي إلا عن علم، لذلك كانت حاجة طالب العلم للعالم فوق كل حاجة، وموت العالم من أعظم المصائب التي تصيب طالب العلم، وحاجة طالب العلم إلى الكتاب مثل حاجته إلى الطعام والشراب.
وأذكر واقعة ذكرها ابن خلكان في كتاب وفيات الأعيان في ترجمة الشريف المرتضى ، قال: ذكر أبو زكريا الخطيب التبريزي رحمه الله، صاحب كتاب مشكاة المصابيح .. الأديب اللغوي: أن أبا الحسن علي بن أحمد بن علي الفالي كان له نسخة عزيزة نفيسه من كتاب جمهرة اللغة لـابن دريد ، فاضطرته الحاجة إلى بيعها، فباعها بستين ديناراً، واشترى هذه النسخة الشريف المرتضى صاحب الترجمة التي ذكر فيها ابن خلكان هذه القصة، فلما تصفح الشريف الكتاب وجد هذه الأبيات التي كتبها أبو الحسن الفالي ، ويقول فيها:
أنست بها عشرين حولاً وبعتها لقد طال شوقي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقـارٍ وصبيةٍ صغارٍ عليهم تستهل شجوني
فقلت ولم أملك سوابق عبرةٍ مقالة مكوي الفؤاد حزيني
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنيني
فلما قرأ الشريف هذه الأبيات أرجعها إلى أبي الحسن وترك له الدنانير، فانظر إلى حزنه على نسخته من كتاب الجمهرة، والبيت الأخير من هذه الأبيات: تضمين، والتضمين في الشعر معناه: أن يأتي الشاعر إلى بيتٍ لشاعرٍ آخر سبقه فينظم القصيدة على وزن البيت وقافيته، وقد ضمن أبو الحسن الفالي آخر بيت في قصيدته حيث قال:
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنيني
فهذا البيت قاله رجلٌ أعرابي فيما رواه الزبير بن بكار رحمه الله، قال: اشترى حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام .. جملاً من رجلٍ أعرابي، وكان الأعرابي شديد الحفاوة بالجمل لكن اضطر إلى بيعه، فلما اشترى حمزة الجمل وأعطى الأعرابي خمسين ديناراً، واستاق حمزة الجمل نظر الأعرابي إلى الجمل وهو يبكي لفراقه، وقال:
وقد تخرج الحاجات يا أم مالكٍ كرائم من رب بهن ضنيني
أم مالك هي امرأة الأعرابي، يقول: يا أم مالك : إن الحاجة تضطر الإنسان أن يبيع شيئاً كريماً ضنيناً به، لا يستجيز لنفسه أن يبيعه لكن الحاجة اضطرته إلى بيعه رغم أنه عزيز عليه:
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنيني
فلما سمع حمزة بيت الأعرابي أعطاه الجمل وترك له الدنانير، وكان أبو الحسن الفالي رحمه الله مشهوراً بتضمين الشعر، وهو صاحب الأبيات الرائقة المشهورة التي صارت على كل لسان، يقول فيها:
تصدر للتدريس كـل مهوس بليدٍ تسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلـوا ببيت قديمٍ شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالهـا فلاها وحتى سامها كل مفلس
هذا البيت الأخير أيضاً ضمنه أبو الحسن الفالي هذه الأبيات.
المهم: أن الكتاب من أنفس ما يقتنيه طالب العلم، مثل السلاح بالنسبة للمقاتل، إذا فقد المقاتل سلاحه غلبه عدوه، وبذلك لا يتصور طالب علمٍ ينهض بغير مكتبة عامرة بالكتب، وبغير المراجع الأصلية، كان العز بن عبد السلام رحمه الله يقول: ما استطبت الفتيا إلا بعد أن صار عندي نسخةٌ من كتاب المغني لـابن قدامة ، والمحلى لـابن حزم ، والعز بن عبد السلام من أذكياء العالم، ومع ذلك يقول: ما استطبت الفتيا إلا بعد أن حصّل هذين الكتابين.
فجلوس طالب العلم بين يدي شيخه والتعلم من هديه وسمته ولحظه قبل لفظه أمر في غاية الأهمية، وإذا لم يلحظ طالب العلم أدب شيخه لم ينتفع بمقاله، والسلف كانوا يتعلمون الأدب قبل العلم، فإذا أحرز الأدب نَبُلَ في العلم، وإذا لم يحرز الأدب لم يزده علمه إلا خسةً ونزولاً؛ فإذا جلس في مجلس ملأه، فإذاً اللحظ قبل اللفظ، وإذا عجز أن يكون مؤدباً فإنه لا ينبل بعلمه أبداً.
قبل طلب العلم هناك ركيزةٌ أساسية ينبغي أن يتحلى بها الداعية إلى الله عز وجل، وهذه الركيزةٌ البدهية هي الإخلاص لله تبارك وتعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ [البينة:5]، فقدم الإخلاص قبل العمل، إذ إن العمل لا قيمة له بغير الإخلاص: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر:14]، وقال تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3]، وكلمة خالص تعني: نقي لم يخالطه شيء.
فقول الله عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، حصر دينه كله في الإخلاص له، وتحقيق الإخلاص عزيز لكنه ممكن، فالإخلاص إما أن يكون ركناً أو شرطاً، أو واجباً، على ثلاثة أقوال للعلماء، واتفقوا جميعاً أن العمل بغير الإخلاص لا قيمة له، كما قال الله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، لخلوه من الإخلاص، فلابد من الإخلاص في العمل، وهو إذا كان ركناً أو شرطاً أو واجباً فلابد أن يكون يسيراً، إذ لو كان عسيراً لما فرضه الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وأعظم أمر في الدين هو الإخلاص، فإذا أوجبه الله على عباده ناسب للطفه عز وجل وبره بعباده ألا يعكر عليهم طريق تحقيق أعظم شيء في الأعمال وهو الإخلاص.
أما المقالة التي قالها رويم بن أحمد ، وذكر هذه المقالة الخطيب البغدادي في ترجمته من تاريخ بغداد: (من لحظ في إخلاصه الإخلاص فإن إخلاصه يحتاج إلى إخلاص).
فنحن لو سلكنا هذه المقالة وقبلناها على مضض فمعناها: من تفاخر على الناس بأنه مخلصٌ واستعلى عليهم بذلك فإن إخلاصه يذهب سدى لهذا العجب وهذا الكبر، لا يقال له: إخلاصك صدق فأعد الكرة مرةً أخرى بالإخلاص، هذا إذا سلكنا هذه المقالة، وإلا فالصوفية لها أقوالٌ تعجيزية في باب الإخلاص، كمثل قول رويم بن أحمد أيضاً: (الإخلاص ألا تنتظر على عملك عوضاً في الدارين ولا حظاً من الملكين) من الذي يستطيع هذا في الدنيا؟! من الذي يعمل العمل ولا ينتظر عليه عوضاً لا في الدنيا ولا في الآخرة؟!
وسئل عن الإخلاص فقال: (أن يستوي عندك المدح والذم)، وهذا مستحيل! أن يشتمك الرجل وأن يمدحك سواء، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب إذا شُتِم أو ذُم، والله تبارك وتعالى يرضى إذا مُدِح ويغضب على العبد إذا انتقصه.
جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا محمد! إن مدحي زين وذمي شينٌ -أي من مدحته فذلك المرفوع، ومن ذممته فذلك المخفوض- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك الله عز وجل)، لست أنت ولا غيرك، ذاك الله عز وجل فمن مدحه الله رفع ومن ذمه أهين: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18].
قطرةٌ من فيض جودك تملأ الأرض ريا
ونظرةٌ بعين رضـاك تجعل الكافر وليا
هذا هو الله تبارك وتعالى، فلا يستوي عند رجلٍ المدح والذم، وإلا لماذا يغضب الناس من الذم، بل كان أولياء الله المتقون من الصحابة يزعجهم ويغضبهم الذم، وتتلون وجوههم، وها هو أجل وليٍ لله عز وجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر رضي الله عنه وقع فيه رجل فغضب أبو بكر واحمر وجهه، فقال قائلٌ: يا خليفة رسول الله! ألا أقتله؟ فهدأ أبو بكر وقال له: أكنت فاعلاً؟ قال: نعم. فقال أبو بكر رضي الله عنه: (ما كانت هذه لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي أن الذي يغضب النبي صلى الله عليه وسلم ويذمه ويقع فيه حده القتل.
فإذا قال قائلٌ الإخلاص: أن يستوي عندك المدح والذم، فقد كلف الناس ما لا يطيقون، بل المدح يتهلل الناس له، والذم ينزعجون منه، وكذلك لما سُئل أحدهم -وكل هؤلاء من الصوفية - عن الصبر، قال: أن تستوي عندك النعمة والنقمة، سبحان الله! ومن الذي يطيق ذلك في العالمين؟!
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سُر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، ولما مات ولده حزن عليه ودمعت عينه، بل لما قتل عمه حمزة وجد عليه وجداً شديداً، وأقسم ليمثلن بالمشركين، ولم يكن هذا من عادته ولكن لشدة وجده على مقتل عمه، وهل يستوي عنده مقتل عمه صلى الله عليه وسلم وانتصاره في يوم بدر -مثلاً- أو عند المؤمنين؟
ولذلك بسبب مثل هذا التعريف الخاطئ مات لبعض المتزهدة ولد فجعل يضحك، فقالوا له: أتضحك وقد مات ولدك؟ قال: إني أردت أن أظهر الرضا بقضاء الله عز وجل، فلما أراد أن يظهر الرضا لقضاء الله ضحك في موطن الفتنة والبلاء والحزن، فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد استشكل بعض القارئين هذه الحكاية، فقالوا: كيف يضحك هذا الرجل لما مات ولده بينما يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الناس يقيناً؟! لو كان الضحك في المصيبة منقبة لفعلها النبي عليه الصلاة والسلام، فكيف يبكي النبي عليه الصلاة والسلام والدموع علامة الجزع ويضحك هذا العابد والضحك علامة الرضا والانبساط؟
فلما حصل استشكال هذا المعنى، عُرضَ هذا على شيخ الإسلام رحمه الله، فقال: فعل نبينا صلى الله عليه وسلم أكمل من فعل هذا العبد الزاهد؛ لأن لله عز وجل في كل شيء عبودية، وعبودية الله على العباد في وقت المصيبة أن يظهروا الاستكانة والتضرع لقضائه، قال تبارك وتعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43]، يعني: لما وقع البأس عليهم هلا تضرعوا وبكوا واستكانوا، هلا فعلوا ذلك لنرفع عنهم؟ فعبودية المحن الانكسار بين يدي الله، والمحنة من طبيعتها أنها تسخن النفس، فالسخونة تفرز الدمع مباشرةً، والنفس الباردة لا يمكن أن تبكي، ولذلك إذا تحسست الدموع وجدتها ساخنة؛ لا تجد دمعاً باردة.
فالرسول عليه الصلاة والسلام أدى عبودية المحنة، وأدى عبودية الرضا بقضاء الله عز وجل، فقال: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، ولا نقول ما يغضب الرب، وإنا لفراقك يا
فالصوفية لها خرافات لم يأت بها الشرع، وهي تكليفٌ بما لا يطاق، ومعروف أن التكليف بما لا يطاق ليس من مذهب أهل السنة، بل من مذهب أهل البدع من المعتزلة وغيرهم فهم يجوزون على الله أن يظلم، ويقولون: فعال لما يريد، إذا ظلم جاز له ذلك!! كيف والله عز وجل قال في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي)؟ وقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40]، ويجوزون التكليف بما لا يطاق، مثلاً: يقولون: يجوز أن يكلف الله عز وجل العبد بحمل جبل أحد على كتفيه، هم يقولون: يجوز، وأهل السنة قالوا: مستحيل! إن الله لا يكلف ما لا يطاق، قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وقال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، فأنت تعارض الأدلة القطعية.
وبعد ذلك كل الرخص نزلت في حالة إذا عجز العبد عن العزيمة أخذ بالرخصة: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، ما معنى هذا التنزل؟
لو جاز أن يكلفك بما لا تطيق لما رخص للعبد أن يتكلم بكلمة الكفر وقال له: لا تتكلم واصبر على أذى الظلمة، حتى لو ذبحوك اصبر ولا تتكلم بكلمة الكفر، لكن لماذا رخص له أن يتكلم بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئاً بالإيمان؟ هذا كله ينافي القول بتكليف ما لا يطاق.
فعندهم بعض الإطلاقات والتسويات بين الأضداد، وهذا يخالف الحنيفية السمحة، ورويد بن أحمد هذا الصوفي المشهور الذي يقول: (الإخلاص ألا تنتظر على عملك عوضاً في الدارين ولا حظاً من الملكين) كان يدعو الله بأن يبتليه، وأنه سوف يصبر على البلاء، فابتلاه الله عز وجل فحبس فيه البول، فكان يتقلب ويدعو الله عز وجل أن يرفع عنه، وأنه لا يطيق، وأنه لا يتحمل، وظل يجأر إلى الله عز وجل حتى عافاه الله عز وجل، فلما عافاه الله عز وجل جعل رويد بن أحمد يطوف على صبيان الكتاتيب ويقول لهم: استغفروا الله لعمكم الكذاب! عمكم الكذاب الذي زعم أن الله إن ابتلاه فسوف يراه في مسلاخ رجل صابر.
الرسول عليه الصلاة والسلام لما دخل على عمه العباس رضي الله عنه وكان مريضاً سمع العباس يدعو ويقول: (اللهم إن كنت مؤاخذي بشيء في الآخرة فشدد علي في الدنيا)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا
تحقيق الإخلاص عزيز؛ فالشيطان يريد أن يعكر عليك هذا الركن؛ لأن بفساده فساد العمل كله، فبدل أن يأتي يعكر عليك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو صلاة، أو زكاة، أو صدقة، مفردات كثيرة.. يعكر عليك الإخلاص، وإذا عكر عليك الإخلاص فقد عكر عليك كل العمل، فبدلاً من أن يدخل عليك في كل عمل ويتعب نفسه يعكر عليك النية والقصد.
فلذلك الشيطان ينازع العبد في الإخلاص، فالعبد يقبل على العمل وهو مخلصٌ لله عز وجل من كل قلبه، فيأتي الشيطان يقول له : أتظن بذلك أنك أخلصت؟ لا. هذا ليس بإخلاص، فالعبد من خوفه على الإخلاص يظن أنه لم يخلص، فيشك.
فإذا آتى الله العبد العلم فإن وسوسة الشيطان تزيده إخلاصاً على إخلاصه، أما من كان علمه قليلاً ضئيلاً يئس، وكلما زاد في العمل ووصل إلى أقصى ما يستطيع قال له الشيطان: هل هذا إخلاص؟ هل هذا عمل؟ وهو لا يستطيع أن يعمل أكثر من ذلك، فكلما عمل عملاً عكره عليه، فتكون النهاية أن يعمل وهو يظن أنه ليس بمخلص، فيتطرق إليه الرياء واليأس من قبول العمل من هذه الجهة إذا كان قليل العلم، أما إذا كان عالماً فإنه إذا جاءه الشيطان فوسوس له: إنك لن تزيد. فهذا يحثه على أن يزيد، فلا يزال يزيد بما عنده من العلم حتى يصل إلى قمة الإخلاص، والفارق بين الرجلين العلم.
المتحصن بالعلم ليس كالجاهل، فأول ما ينبغي أن يتحلى به الداعية: الإخلاص؛ ثم الثقة في وعد الله عز وجل إذا جاءه من طريق قطعي لا يتطرق إلا ثبوته شك فلا يحل له أن يتوقف -مثل القرآن- بل عليه أن يثق أن الله ناصره مهما خذله الناس، ومهما كان وحيداً فريداً، فإذا قرأ في القرآن : كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21]، فليعلم أنه غالب ما استقام على أمر الله عز وجل، فإذا قرأ قول الله عز وجل: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]، فليعلم أنه متى استقام على أمره غلب ولو بعد حين، ولو كان وحيداً فريداً.
أحد مشايخ الصحوة سجن سنة (1981م) حين أصدر أنور السادات أمراً بالاعتقالات الجماعية، وهذا الداعية ناله الحظ الأوفر من شتائم رئيس الجمهورية آنذاك، ووصفه في الخطاب الرسمي بأنه كالكلب ملقى في الزنزانة، والذي دخل السجن يعرف أن رتبة مأمور السجن كله عقيد، لكن وزارة الداخلية آنذاك عينت على زنزانة هذا الداعية عميداً، وهذا كله من قبيل التشديد على هذا الداعية وإذلاله، يريدون أن يقطعوا عنه كل شيء، هذا العميد الذي عُين كان من المعجبين بهذا الداعية، فكان كل يوم وهو آتٍ لهذا الداعية يجلب معه دجاجة مشوية ويدخلها له ليأكلها، هل تتصور هذا الكلام، انتخبوه وهو رجل قاسٍ، لا يجامل، لا يداهن.. لكن الأمر كما قال الله عز وجل: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56]، سخر الله ذلك العميد لهذا الداعية، وأوقفه في ذلك المكان.
فلما سئل الداعية عن أيام الحبس الانفرادي قال: كانت كنار إبراهيم: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، الرجل لم ينعم في حياته إلا في تلك الأيام، كان يأكل دجاجاً مشوياً كل يوم، ومن الذي يدخل له هذه الدجاجة المشوية؟ إنه الرجل الذي جلبوه ليؤدبه.
مثل موسى عليه السلام: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص:8]، هم ما اتخذوه ليكون عدواً وحزنا إنما اتخذوه ليكون قرة عين، فكان لهم عدواً وحزناً، قال تعالى: وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [القصص:9]، وهم لا يشعرون أنه لهم عدو وحزن كأن تقول: فلان تزوج في الدنيا ليشقى، وهل هناك أحد يتزوج ليشقى؟! نعم، قد يبتليه الله بامرأة ناشز فيشقى بها، إذاً: الكلام فيه محذوف، تزوج فلانٌ ينشد السعادة فشقي، وهذا مثل قول القائل:
لدوا للموت وابنوا للخراب
فكل امرأةٍ تلد إنما تلد للموت، وكل بانٍ يبني إنما يبني للخراب، إذاً: هل المرأة حملت وأرضعت وولدت ليموت أم ليعيش فمات؟ ليعيش فمات. ولذلك تحزن المرأة جداً إذا حملت وتعبت وولدت الولد ميتاً، فيقال: حملت وولدت ليموت!
فالرجل إذا تصدر الدعوة إلى الله عز وجل وكان مستقيماً على أمر الله فليثق يقيناً بنصر الله عز وجل، ومن تمام ثقته بنصر الله عز وجل: ألا يعتمد قلبه إلا على الله، وييئس من نصر الجماهير له، ولا يزعجه قلة الأتباع إذا كان ذا منهجٍ مستقيم، وأنا أركز دائماً على المنهج المستقيم؛ لأن الجماعة المبتدعة مثل جماعة الهجرة والتكفير حتى الآن وأتباعهم قلة، يقول لك: يا أخي! الرسل كان أتباعهم قلة، وأي شخص مبتدع حوله خمسة أو ستة يقول لك: الكثرة ليست مهمة، فالرسل كان أتباعهم قلة، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم المعروف في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرهط -من الثلاثة إلى العشرة- ويأتي النبي ومعه الرجل، ويأتي النبي ومعه الرجلان، ويأتي النبي وليس معه أحد)، النبي الذي ليس معه أحد، ظل طيلة حياته يدعو وخرج من الدنيا صفر اليدين من الأتباع، ولكن لا يعني ذلك أنه كان مخطئاً في دعوته، فالجماعة المبتدعة يحتجون بهذا الحديث، يقولون: هؤلاء الأنبياء يأتون وليس معهم أحد فنحن هكذا، والنبي صلى الله عليه وسلم لما دعا المسلمين في قريش ما كان حوله إلا ثلة.. (لا يزال الإسلام غريباً) (لا تزال طائفةٌ من أمتي) ويستدلون بهذه الأحاديث.
نقول له: لا. الغربة غربتان، غربةٌ محمودةٌ وغربة مذمومة، أما الغربة المحمودة كأن يكون مستقيماً على أمر الله ولا يضره كثرة الأتباع من قلتهم، أما إذا كان منحرف المنهج وتخلى الناس عنه كأن يبقى معه واحد أو اثنان أو ثلاثة فهذه غربة مذمومة، فالفيصل ما بين صاحب الغربة المذمومة وصاحب الغربة المحمودة هو الاستقامة على المنهج الحق.
إذاً: متى استقام الداعية على أمره تبارك وتعالى نصره، ويجب عليه ألا يشك لحظة في هذه الثقة بالله تبارك وتعالى.
إذا تسلح الداعية إلى الله عز وجل بهذين السلاحين الماضيين وضم إليهما العلم فقد أحرز كل عدة.
إذاً: الإخلاص هو أول عدة الداعي إلى الله عز وجل.
ثانياً: الثقة في وعد الله عز وجل بالنصر.
ثالثاً: العلم.
رابعاً: الصبر: إن الداعية سيقابل أخلاقاً شتى: يقابل المبتدع، والزنديق، والكافر، والموالي له، ويقابل الولي والعاصي، سيقابل كل هذه الأنماط، ولا يجوز له أن يسوي بينها جميعاً في المعاملة، فمعاملة العاصي بخلاف معاملة الطائع، ومعاملة الزنديق والحاسد تختلف، إذا كان الداعية ضيق العطن لا يستطيع أن يعامل الناس كلٌ بنمطه سيفشل في دعوته، فقد تجد أناساً يرمون عليك الكلام، وأنت تفهم أنه يعنيك، ويقصدك بالكلام، فإياك أن تظهر له أنك ذكيٌ فاهم، فإنك إذا بينت له أنك فهمت ضيعت على نفسك سلاحك، كما أن رأس مال التاجر المال، فرأس مال الداعية الناس.
يعني مثلاً: لو أن هناك تاجراً خدعه أناس وأعطوه نقوداً مزيفة، وكانت النقود كثيرة، مائة ألف أو مائتي ألف أو ثلاثمائة ألف.. ثم اكتشف أن هذا المال مزيف، ماذا يعمل؟
يقوم بتصريفها أيضاً على آخرين؛ لأنه سيقول لك: لا، أنا سأخسر رأس مالي -وهذا لا يعني أني أقره على فعله- إنما أخبرك بما يفعله الناس، فهو مثلما خدع فإنه يخدع غيره من الناس، ويجد لنفسه عذراً في ذلك.
التغافل في بعض الظروف والأوقات يعتبر أحد الأسلحة الناجحة، فإياك أن تسوي بين الناس جميعاً في المعاملة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، كان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: (كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل العاقل من البادية يسأله ونحن نستمع).
إذاً: لو سأل أنس رضي الله عنه النبي عليه الصلاة والسلام فإنه يغضب؛ لأنه نهاه؛ لكن إذا جاءه رجلٌ من البادية لم يسمع النهي فسأله فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعامل صاحب البادية معاملة المقيم في الحضر، ومن الظلم أن يسوى بينهم، كان يتجاوز لأهل البادية إذا خالفوا، ولا يتجاوز لأهل الحضر.
رجلٌ أعرابي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام معه قعوداً -والقعود هو الجمل الصغير- فاستملحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال للأعرابي: تبيعني هذا الجمل؟ قال: بكم تشتريه؟ قال بكذا، قال: اشتريته منك وسأنقدك ثمنه إذا رجعنا إلى المدينة، فجاء رجلٌ آخر من المسلمين لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى الجمل، فقال للأعرابي تبيعني الجمل؟ قال: بكم تشتريه؟ قال بكذا. وزاد الأعرابي في ثمن الجمل على الثمن الذي اشتراه به النبي عليه الصلاة والسلام، فقال الأعرابي صاحب الجمل: بعتك! ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إما إن تعطيني ثمن الجمل الآن وإما سأبيعه، قال: أولم تبعني الجمل يا أعرابي؟ قال: ما بعتك شيئاً! قال: بلى بعتني! قال: ما بعتك شيئاً، هلم شهيداً يشهد أنني بعتك، يبيع للنبي الجمل ثم يقول له: ما بعتك وأت بشاهد، هذا كُفر، لأنه تكذيب للنبي عليه الصلاة والسلام، والمسلمون يلوذون بالنبي عليه الصلاة والسلام ويقولون للأعرابي: ويحك! إنما يقول رسول الله صلى الله عليه حقاً، وهو لا يزال يقول: هلم شهيداً! حتى جاء خزيمة من مكان بعيد، فوجد اجتماع الناس وضوضاء، فسأل عن الأمر فأُخبر بالقصة، فدخل مباشرة على الأعرابي وقال: أنا أشهد أنك بعته الجمل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بم تشهد يا خزيمة ؟ قال: أشهد بتصديقك، نحن نصدقك في خبر السماء أفلا نصدقك على بعير.
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين، في حين أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يقبل من الصحابة القريبين منه أدنى من ذلك يرى مثلاً عبد الله بن عمرو بن العاص يلبس ثياباً حمراء وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن لبس الثوب الأحمر القاني -أي: الحمراء، الأحمر البحت الذي لم يخالطه لون آخر- هذا ممنوع أن يلبسه الرجال، ويدخل في أزياء النساء، فلما جاء عبد الله بن عمرو بن العاص وهو يلبس ثياباً حمراء سلَّم على النبي عليه الصلاة والسلام فأعرض عنه ولم يرد عليه، فـعبد الله بن عمرو فطن إلى هذا، فذهب إلى داره فوجد أهله وقد سجروا التنور؛ فخلع القميص ورمى به داخل التنور؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهه، وبدَّل ثيابه ورجع، فسلم فرد عليه وقال له: ما فعلت بثيابك؟ قال: سجرت بها التنور! قال: فهلا أعطيتها بعض أهلك، إنه لا بأس بها للنساء.
طبعاً هذا الحديث لا يعارض الحديث الصحيح الآخر أظنه حديث البراء أو حديث سمرة بن جندب أو جابر بن سمرة : أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أجمل الناس وعليه حلةٌ حمراء؛ فيحمل هذا الحديث على أن الأحمر لم يكن بحتاً إنما خالطه لونٌ آخر لكن اللون الأحمر كان هو الغالب، وإذا كان لون لباس هو الغالب نسب اللون إليه، فمثلاً: إذا كان هذا ثوباً أبيض وفيه بعض ألوان أخرى مثل الأخضر أو الأزرق أو الأصفر أو نحو ذلك لكن الغالب عليه البياض، فأنت تقول: ثوبٌ أبيض، لماذا؟ لأن هذا هو الغالب عليه، أو يحمل أن هذا كان قبل نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن لبس الأحمر.
المقصود أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يسوي بين الناس في المعاملة، فالداعية ينبغي أن يكون عنده بدائل، فيكون عنده للعاصي طريقة، وللمبتدع طريقة، وللذي يرميه ويؤذيه بالكلام ويستهزئ به طريقة أيضاً؛ وهو أن يستخدم معه لغة التغافل، وألا يظهر له أنه فهم؛ لأنك لو أظهرت له أنك فهمته فقد ضيعت على نفسك الطريق الذي ستسلكه إلى قلب هذا الرجل.
الرسول عليه الصلاة والسلام قال كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: (وكانت قريش تسب النبي عليه الصلاة والسلام، لكن قبل أن تسبه كانت تقلب اسمه، فهو محمد فيقولون له: يا مذمم!) مثل شخص اسمه منصور فيقول له شخص: يا منخور، فيقلب اسمه، فالرسول عليه الصلاة والسلام اسمه محمد وهم يريدون شتمه، فلكي يغيظوه أكثر بدلاً من أن يقولوا: لعن الله محمداً قالوا: نخلف اسمه ونشتمه، وهكذا نكون قد ذممناه مرتين: مرة بقلب اسمه إلى الضد، ومرة بشتمه، فهو محمد وهم يقولون له: يا مذمم! ثم يشتمون مذمماً: لعن الله مذمماً! قتل الله مذمماً! قبح الله مذمماً! فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي هريرة : (انظر كيف يصرف الله عني شتم قريش، إنهم يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً وأنا محمد)، مع أنه صلى الله عليه وسلم يعلم يقيناً أنهم يقصدونه بالشتم، وأنهم يوجهون الشتم إليه، لكن طالما شتموا اسم رجل آخر إذاً فلا يلحقه الشتم: (انظر كيف يصرف الله عني شتم قريش، إنهم يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً وأنا محمد).
فطرق التعامل مع المدعوين لابد أن تختلف: العاصي لا تعامله معاملة المبتدع؛ لأن المبتدع شرٌ من العاصي، المبتدع يتقرب ببدعته إلى الله يظنها ديناً، لكن العاصي يعلم أنه عاصٍ لله لكن غلبه هواه، وأنت عملك عمل طبيب رفيق، رجلٌ غلبه هواه ماذا تعمل معه، تقتله أم تعينه على أن يتخلص من هواه؟ تعينه على أن يتخلص من هواه. يعني رجل يقرأ في كتب أهل البدع ورجل يقرأ في كتب الجنس والغرام، أيهما أشر؟ الأشر هو الذي يقرأ في كتب أهل البدع، لماذا؟
لأن هذا الرجل الذي يقرأ في كتب الجنس والغرام، والذي يقتني المجلات الجنسية الفاضحة ليتفرج عليها، إنما يتفرج عليها بعدما يقفل الباب، وبعدما يكمل يخفيها عن الأنظار، لماذا؟ لأنه يعلم يقيناً أن هذا منكر، ولا يستطيع أبداً بأي حالٍ من الأحوال أن يقول أو يقنع أحداً أن هذا من المعروف، والرسول عليه الصلاة والسلام عرف الإثم تعريفاً جامعاً، لا تشذ عنه حالةٌ واحدة، قال: (الإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه الناس)، هل يمكن لأحد أن يعرف الإثم بهذا التعريف الجامع المانع إذاً الإثم هو ما فعلته وأنت مستتر مختفٍ من أعين الناس، كل شيء يدخل تحت هذا التعريف فهو داخل في كلمة الإثم دق أو جلَّ.
لكن المبتدع، يقرأ في كتب البدع ويظن البدعة ديناً يتقرب بها إلى الله، فمهما قلت له: هذه بدعة، يقول لك: هذا دينٌ! يتقرب إلى الله بذلك، إذاً كيف تصده وتردعه، وتثنيه عن بدعته؟ ولذلك العاصي أخف من المبتدع، قال سفيان الثوري رحمه الله: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها، واعتبروا بقصة الجعد بن درهم المذكورة في كتب التاريخ، وهو رجلٌ عارض الله عز وجل فقال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فلما جيء به ليقتل لم يتبرأ من مقالته وصبر على القتل، مع أنه كان من الممكن أن يقول: أنا تبت وينجي نفسه من القتل؛ لكنه كان يعتقد أن البدعة التي هو عليها دينٌ يدين الله به، كما لو جئنا لرجلٍ من أهل السنة والجماعة -مثلاً- وقلنا له: اكفر بالله! فيقول لك: لا، أقتل ولا أكفر بالله، ويرضى أن يقتل ولا يكفر بالله، لماذا؟ لأنه يتخذ القرآن والسنة ديناً، كذلك المبتدع.
فعندما تعامل العاصي فتعلمه أولاً، وتتلطف به، وتعينه على الخروج من هواه، لا تعطه أمراً وأنت تضع رِجْلاً على الأخرى وتهدده: تاب أو لم يتب فليذهب (في ستين داهية) وأنه لن يقبل منه عمل، وأنت حرٌ، هذا ليس من شأن الداعية، الداعية صبور حليم، إذا شتم لا يرد، كانت العرب تقول: لا تجار السفه بسفهٍ مثله فإنك إن جاريته بسفهٍ مثله فهذا يعني أنك رضيت فعله فحذوت حذوه! أنت غضبت لأنه سفيه، إذاً فلا ينبغي أن تكون سفيهاً عليه، ما كان ينبغي لك أن تفعل فعلاً أنكرته عليه.
النبي عليه الصلاة والسلام يأتيه سائل من الأعراب يطلب مالاً، يعني لو أتاك سائل يقول: أعطني فتعطيه ربع جنيه، فيقول لك: هذا لا يغطي حتى ضريبة المبيعات!! وأين غلاء المعيشة؟! أو تعطيه ربع جنيه فيقول: أريد ربع جنيه فضة!! فكون هذا الشخص متسولاً فعليه أن يرضى بالقليل دون أن يتكبر أو يسخر.
فهذا أعرابي جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يريد مالاً فجذبه من حاشية الثوب حتى أثر في رقبته وهزه هزاً عنيفاً، وقال له: أعطني من مال الله فليس مالك ولا مال أبيك ولا مال أمك! -إذا كنت تطلب فاطلب بإحسان- فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: (يرحم الله أخي موسى أوذي بأكثر من هذا فصبر)، فتستفيد من هذا الحديث أمرين:
الأمر الأول: أن تتأسى بفعل من سبقك من إخوانك العلماء، ولهذا عليك أن تفهم الحكاية التي ذكرها صالح ابن الإمام أحمد في ترجمة أبيه، قال: لما مرض أبي قال لي: ائتني بحديث ليث بن أبي سليم فجاء بحديث ليث بن أبي سليم ، فقال له: ائتني بحديث ليث عن مجاهد فجاء به من كتاب باب: ليث عن مجاهد فقال: اقرأ علي، فقرأ عليه بسنده إلى ليث بن أبي سليم أن مجاهداً كان يكره الأنين في المرض، قال صالح : فما أنّ أبي!
وهل قول مجاهد حجة؟! مجاهد تابعي، ومعروف أن أقوال التابعين ليست بحجة، وإنما قول النبي عليه الصلاة والسلام ثم قول الصحابة، وإذا اختلف الصحابة في قول لم يكن قول بعضهم حجة على الآخر، فكيف بقول التابعين؟! لكن الإمام أحمد مع أنه يعرف أن مجاهداً كان يكره الأنين، وهو يحفظه، لكن أحب أن يسمعه: اقرأ يا بني! فقال: إن مجاهداً كان يكره الأنين، فما أنَّ إلى أن مات.
(يرحم الله أخي موسى) فعليك أن تستحضر سيرة الدعاة إلى الله من قبلك، وكيف أنهم أوذوا فصبروا، ولست فريد الطريقة، ولست وحدك في هذا السبيل الطويل، بل ابتلى الله من هم أجل منك فصبروا، ولو كان يرفع البلاء عن جليل لرفع عمن سبقك، فلست أجل منهم، ولو قلنا يعاقب المرء بسيئاته لكان المرء المتأخر أولى أن يعاقب من المتقدم لكثرة سيئاته.
فـ(يرحم الله أخي موسى) دعوة للتأسي، والنبي عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم وأفضل من موسى الكليم، فهذا من تواضعه، وهو يمتثل قول الله عز وجل: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، اقتد بهدى من هداهم الله قبلك من الأنبياء، فجمع الله لنبينا صلى الله عليه وسلم ما تفرق في الأنبياء : أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، فجمع له كل الكمالات الموجودة في الأنبياء، لذلك كان سيدهم صلى الله عليه وسلم. (يرحم الله أخي موسى أوذي بأكثر من هذا فصبر)، وهل موسى عليه الصلاة والسلام أوذي أكثر من النبي عليه الصلاة والسلام؟ كيف هذا والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل يبتلى المرء على قدر دينه)، فإذا كان الأنبياء هم أشد الناس بلاءً، وكلٌ يبتلى على قدر دينه، ونبينا عليه الصلاة والسلام هو أفضل الأنبياء، إذاً هو أول من يكون أشد بلاءً، فكيف يفسر قوله: (أوذي بأكثر من هذا فصبر)، وهذا من جنس الإشارة: (أوذي بأكثر من هذا) يعني: أوذي بأكثر من شد الرداء، أوذي موسى بأكثر مما أوذيت به الآن فصبر، يعني المسألة ليست مطلقة، إنما المسألة مقيدة.
لو تسافه عليك رجل فاصبر، وإياك أن تنتصر لنفسك فتذم، حتى ولو كان الحق لك، مثلاً: لو كنت ماشياً في الشارع فلقيت طفلاً صغيراً فقال لك: يا سني! وقذفك بحجر، فجريت وراءه -الولد هو المخطئ، وأنت جريت وراءه لتأدبه- من سيخطئ الناس؟ سيخطئونك أنت على الرغم من أنك مظلوم والحق معك، لماذا؟ لأنهم لم ينزلوا عقله على عقلك، إنما عاملوك بقدرك وعاملوا الولد بقدره، يقولون لك: هذا طفل لا يؤاخذ على كلامه، يعني أنزلوك على عقلك، ولو ساووا عقلك على عقل الصبي لكان هذا ذماً في حقك.
إذاً: أنت رجل عالم، وهذا رجل سفيه وجاهل وتحامق عليك وتسافه أتعامله بعقله؟ لا. لأن الناس وزنوك بعقلك وعلمك ووزنوه بجهله وسفاهته، إذاً: عليك تقدير نفسك وعلمك وعقلك، ولا تنزل إلى مستوى من هو دونك، ذكر الذهبي في كتاب سير أعلام النبلاء في ترجمة وكيع بن الجراح رحمه الله قال: سب رجلٌ وكيعاً فدخل وكيع داره وعفر وجهه بالتراب، وخرج على سابه فقال له: زد وكيعاً بذنبه فلولاه ما سلطت علي، ولو أني أطعت ربي لعصمني منك، أراد أن يقول له هذا المعنى، فكأنه يقول: أنا المخطئ، ولذلك عفر وجهه بالتراب وخرج ليقول: سبني مرةً فلولا هذا الذنب الذي صرت أسيراً له لما تعرضت إلى هذا السب.
رأيت الذنوب تميت القلـوب وقد يورث الذل إدمانها
فترك الذنوب حياة القلـوب وخير لنفسك عصيانها
إذاً: أخطر شيء يهدد الإنسان هو الذنب، ووكيع تصرف بعلمه، ورجع إلى نفسه فذمها.
وأيضاً: ذكر الذهبي رحمه الله في ترجمة وكيع -ووكيع هو الإمام الضخم العلم الجبل، شيخ الإمام أحمد رحمه الله- قال: سب رجلٌ وكيعاً فقيل له: ألا ترد عليه؟ فقال وكيع : ولماذا تعلمنا العلم إذاً؟! يعني: هذا رجل جاهل أنا متفضلٌ لتعليمه، ولذلك لا يصح أن يعاقر الطبيب الداء الذي يداوي منه.
فقبيح مِن مَن تفضل بالوعظ أن يجعل الدين غرضاً لنيل مآربه، وقبيح من مَن يتظاهر بالعفة أن يذل نفسه على أبواب السلاطين والأغنياء، فيجعل الدين مطية للحصول على الدنيا، قال بعض السلف: مثل الذي يحصل الدنيا بدينه كمثل رجلٍ رأى وسخاً في أسفل نعله فمسحه بخده، وكان يجدر به أن يشرف هذا الخد ولا يهينه.
فالعلماء كانوا أعزة، فهذا عفان بن مسلم شيخ الإمام أحمد رحمة الله عليهم جميعاً استدعاه الخليفة ليسأله عن مسألة خلق القرآن -التي تعرفونها- هل هو مخلوق أم لا؟ قال له: ولماذا تسألني؟ قال: إن أمير المؤمنين أمرني أن أسألك وحدك! لماذا؟ لأن عفان بن مسلم شامة العلماء في بلده فقال: نسأل هذا العالم الكبير، وقال: إنك إذا أجبت وقلت: إنه غير مخلوق سنقطع راتبك من بيت المال، فقال: وكيف يجوز لي أن أجيب بغير ما أعتقد؟! قال: إن أجبت بما تعتقد قطعنا عنك راتبك، فهل القرآن مخلوق أم لا؟ قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، قال: إذاً سنقطع عنك راتبك! فقام عفان من بين يديه وهو يقول: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22]، وكان عفان بن مسلم يعول أربعين إنساناً في داره، من سينفق عليهم؟ كان متزوجاً بأربع، ولديه ستة وثلاثون ولداً، فكان الصف الأول في المسجد لأولاده، هذا هو العلم!
فلما دخل الدار قالوا له: ماذا عملت؟ فقال لهم: أمروني أن أقول بخلق القرآن وإلا فسيقطعون عني الألف درهم التي كانوا يعطونني إياها من بيت المال، فجعلوا يلومونه ويقولون: من أين سنأكل، من أين سنشرب؟ ومن هذا الكلام الذي يقال في هذه المناسبات، في الليل أو في العصر جاء الإمامان الكبيران -ومن يقرأ هذه الحكايات يحس بالغربة- أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وكانا من تلاميذ عفان بن مسلم ، وجاءا من أجل أن يطمئنا ما الذي قاله عفان ، فلما دخلا سألاه عما قال: فقال: قلت لهم: القرآن كلام الله غير مخلوق فمنعوا عني راتبي: فقلت: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22]، قال: فرأيت وجه أحمد يتهلل فرحاً؛ لأنه ضحى بالمال من أجل دينه ومبدئه، نعم يضحون بالمال ولا يكفرون بالله.
قال: وفي عشية هذا اليوم جاء رجل إلى باب دار عفان بن مسلم ، وقال: هذه دار عفان ؟ قال عفان : نعم فقال: أين عفان ؟ قال: أنا عفان ، قال: هذه صرةٌ بألف درهم ولك في كل شهرٍ مثلها! -وهذه صحيحة- وهو لا يعرف الرجل ولا يعرف من الذي أرسل الرجل، ومن الذي أعطاه الألف درهم: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56].
فالقصد أن الداعية إلى الله عز وجل ينبغي أن يضع الحكمة في موضعها، وألا ينزل في تعامله مع الناس إلى مستواهم، لو عامل الناس بمستواهم لتلون في اليوم ستين لوناً، مرة يصير لئيماً ومرة سافلاً، ومرة قبيحاً، ومرة طفيلياً.. فهذا لا يليق بالداعية أبداً، كيف سيعلم؟! فعامل الناس بمستواك وبما يليق بك ولا تنزل إلى مستواهم؛ فإن الله عز وجل جمع لك السلطان عليهم بأن جعل الدواء في يديك.
قيل لأهل البصرة: بم فاز فيكم الحسن البصري؟ ولماذا أصبح ذكره على كل لسان؟ فقالوا: استغنى عن دنيانا واحتجنا لعلمه.
إذاً: عليك أن تبعد عن الملوك والرؤساء وأصحاب الأموال وكل هؤلاء، وتعامل الآخرين بما يليق بمكانتك.
إن الملوك بلاءٌ حيثما حلـوا فلا يكن لك في أكنافهم ظل
ماذا تأمل من قوم إذا غضبوا جاروا عليك وإن أرضيتهم ملوا
فاستغن بالله عن دنياهم أبـداً إن الوقوف على أبوابهم ذل
اعرف مكانة العلم الذي بين جنبيك يرفعك الله تبارك وتعالى، وخلاصة الأمر: عامل الناس بقدر ما عندك من العلم، ولا تتحامق، ولا تجهل عليهم، فليكن عندك الصبر والذكاء والتغافل، وإنزال كلّ رجلٍ منزلته، لا توقر أهل الفسق ولكن أرشدهم، ووقر أهل الكرم ولا تزاحمهم، ولا تجادلهم فيمقتوك، كثرة المراء تورث الحقد والغل والبغضاء في الصدور، وعدم قبول الحق، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من ترك المراء وإن كان محقاً بني له بيتٌ في ربض الجنة)، ولو كان محقاً في المراء فعليه أن يتجنبه حتى لا يطول الكلام، وحتى لا يجر المراء إلى خلاف أو إلى شتم أو إلى تغير القلوب؛ لأن المراء لا يكون من ورائه خير أبداً ولو كان بدايته حقاً، فإن عاقبته لا تئول إلى الحق أبداً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك المراء ولو كان محقاً)، فكيف بمن يماري وهو مبطل؟
ولذلك الداعية إلى الله عز وجل يحمل على كاهله عبء الأمة كلها، وينبغي أن يكون شفوقاً، وصاحب نظرة واسعة لوضع المسلمين، ما يراه من هموم الدعوة خارج أقطار بلده ينبغي أن يؤرقه، وينبغي أن ينظر إلى الحل، ويراسل إخوانه من الدعاة، ويمد الجسور بينه وبين إخوانه من الدعاة إلى الله عز وجل، وليكن استماعه إليهم أكثر من كلامه معهم.
جرب أن تعطي أذنك وقلبك لمحدثك تجد أنك لن تعدم فائدةً تخرج بها، وكنت قضيت فترةً في صدر شبابي وقبل أن أطعن في الكهولة لا أكاد أسمع من غيري، والسبب لأنني تعودت أن أكون متكلماً، من تعود أن يكون متكلماً يشق عليه كثيراً أن يسمع، فلو نظرت مثلاً إلى ضابط جيش أحيل للتقاعد وعمل شركة تجارية مع شخص آخر فسترى أن ضابط الجيش يريد أن ينفذ كل شيء بالأمر، فلو قال له: نأتي بكذا، يقول: لا، هكذا أفضل، تعود أن يقول افعل فيقال له: تمام يا فندم! من يوم أن كان ملازماً وحتى أصبح ضابطاً كبيراً وهو يأمر فيطاع، كل شيء (تمام يا فندم)! فلو أتى شخص يأمره تصبح ثقيلة جداً عليه.
فالذي يتعود طوال عمره أن يتكلم قد يشق عليه أن يكون في محل المستمع، مثلاً شخص لم يخطب الجمعة في حياته وكان ملتحياً، فدخل مسجداً -وكان الخطيب فيه غائباً- وصعد المنبر وخطب، فقالوا له: لماذا تخطب؟ فقال: كوني أسمع نفسي أحسن من آخر يعكر عليَّ، وفي نهاية الأمر أنا الذي أتكلم، وهل هناك أحد ينزعج من نفسه، أو يقبح كلامه حتى ولو كان في غاية القبح؟ فهذه فلسفة شخص لا متكلم ولا شيء، فما بالك لو كان المتكلم متعوداً أن يرتقي أعواد المنابر؟! فيكون قد تعود أنه يتكلم والناس يسمعون.
فمن داوم على قراءة سير العلماء -وهذا هو في الحقيقة الباب العظيم لتهذيب النفس- يحتقر نفسه، والله يا إخواننا كثيراً ما فكرت أن أعتزل الدعوة العلنية وأعتزل الفتوى، فكلما قرأت تراجم العلماء أصاب بهم وغم، فأتصل بمن أثق برأيهم من إخواني وأعرض عليهم محنتي وأقول: أنا لست بأهل، وكم مرة أعظم بلائي لأجل أن يقول لي أحد الذين أثق برأيهم: يجوز لك أن تعتذر، فما كنت أرى منهم ذلك أبداً، وكانوا يقولون: أنت آثم لو فعلت! فأرجع بخفي حنين وأنا حزين.
عندما أقرأ تراجم العلماء، وأقرأ في صبرهم، وأقرأ في جدهم وعبادتهم، وأقرأ في سعة علمهم فأنظر إلى حالنا الذي يعيش المرأ فيه مع ضحالة العلم وقلة التحصيل وقلة الصبر مع ضيق العطن فأقول: أنا غير أهل أبداً!!
فقراءتك في كتب العلماء وسيرهم يهذب من طبعك، فكان مما تعلمته من تراجم العلماء: أن أجرب أن كون مستمعاً، فكنت مثلاً أدخل أصلي الجمعة في أي مسجد، صحيح الخطيب لم يك شيئاً، لكن أعطيه أذني وقلبي، وأصوب النظر إليه، ففي الجمعة الماضية مثلاً وأنا مسافر عرجنا على مسجد في الطريق لكي نصلي، والخطيب لم يكن شيئاً، يعني خطبة ولدت ميتة، أتعرف ماذا استفدت منه في هذه الخطبة؟ شكل الرجل؛ لأنه رجل كبير في السن وكان يتكلم بانفعال، وله لحية بيضاء، وكان يلبس عمامة لطيفة، فكل الذي استفدته من الخطبة شكل الرجل وسمته والحرارة التي يتكلم بها، وخرجت وأنا أرى أني استفدت، لن تعدم فائدة تخرج بها إذا أعطيت أذنك وقلبك لغيرك من أهل الخير.
إذا جئت تحاضر في مسجد مثل هذا وتأتي لتحضر درساً لواحد من إخوانك الدعاة فتجد الناس فوق بعضهم والشوارع ممتلئة فتجد في نفسك غيظاً، وتقول في نفسك: إن هذا الرجل مشهور وأحسن مني ويحضر له أناس أكثر مني، ثم تسمع كلام المادحين: جزاه الله خيراً ولا فض الله فاه، وأكثر الله من أمثاله وغير ذلك من المديح، فتقول: لدي تنبيه خفيف لطيف، لا يعكر طبعاً على ما قال، في الواقع يغالط في المكان الفلاني والمكان العلاني وهذا غفر الله له، يعني هذا لا يضر إن شاء الله وغير ذلك من الكلام، ويقعد يتكلم في أخيه بدعوى الورع وغير ذلك.
لا. إياك أن تحسد أخاك، ربما كان النفع بك أعظم من النفع به، وانظر إلى الدعاة الوعاظ الذين كان يصلي وراءهم أربعون وخمسون وستون ألفاً، هل لهم تلاميذ ورثوا هذا المنهج؟ لا، لكن تجد العالم الذي يعلم عشرين شخصاً سيخرج من ورائه خمسة عشر عالماً على الأقل.
إذاً: صار النفع بهذا العالم مع العشرين أكبر من الرجل الذي كان يحاضر في أربعين أو خمسين ألفاً: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124].
استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أسئلة وأجوبة[1] | 2879 استماع |
التقرب بالنوافل | 2827 استماع |
حديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده | 2769 استماع |
لماذا نتزوج | 2706 استماع |
انتبه أيها السالك | 2697 استماع |
سلي صيامك | 2670 استماع |
منزلة المحاسبه الدرس الاول | 2656 استماع |
إياكم والغلو | 2632 استماع |
تأملات فى سورة الدخان | 2619 استماع |
أمريكا التي رأيت | 2602 استماع |