خطب ومحاضرات
كتاب ضد الإسلام
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن إحدى القواعد التي يعلمها المتصفح للتاريخ أن قوة المسلمين وضعفهم تقاس بقوة النفاق أو الكفر، فحيثما رأيت الكفر يعلو؛ فاعلم أن المسلمين ضعاف، وحيثما رأيت النفاق هو الغالب فاعلم أن دولة المسلمين هي الأقوى. لقد كانت الدور في مكة تعج بالكافرين مع قلة المؤمنين آنذاك، فلما صار للمسلمين دولة في المدينة ظهر النفاق لأول مرة، ولم يكن قبل ذلك إلا الكفر المحض، رجل لا يستطيع أن يكفر في ظل دولة قوية، فاضطر أن ينافق ليحفظ ماله ودمه؛ لأنه لو جهر بالكفر إما أن يقتل وإما أن تضرب عليه الجزية، لو كان من أهل الكتابين وظل على كفره تضرب عليه الجزية والصغار والذلة، فظهر المنافقون في المدينة لما صار للمسلمين دولة، بخلاف مكة لم يكن إلا الكفر المحض في مقابل الإسلام الضعيف.
وأنت إذا اعتبرت هذه القاعدة -وهي ثابتة في كل الأزمان- حتى تصل بتصفحك إلى زماننا ترى أن الكفر هو الغالب؛ لضعف المسلمين وهوانهم على غيرهم، وما هانوا على غيرهم إلا بعد أن هانوا على أنفسهم، نبينا صلى الله عليه وسلم يشتم مرتين علناً، وليس له في الأرض نصيب، ليست هناك دولة في الأرض تتبنى هذا الرسول، كتاب: آيات شيطانية، ما تحرك إلا الخميني الرافضي، ومعروف ماذا فعلت بريطانيا، سحبت السفير، وقطعت العلاقات بمجرد التهديد بقتل مواطن، يزعمون أنه مواطن، والدولة يجب أن تدافع عن مواطنيها، مع أننا نعلم أنه منذ قامت هذه الثورة في إيران ، وقد قتلوا من الإنجليز وفجروا في داخل بريطانيا كثيراً، ومات أناس كثيرون وما فكروا في قطع العلاقات، كأن الذين ماتوا في الانفجارات ليسوا مواطنين.
ما صار سلمان رشدي مواطناً إلا بعد أن سب نبي الإسلام! ومنذ شهرين في جريدة العربي في لندن أيضاً يخرج رجل يصف النبي صلى الله عليه وسلم -قطع الله لسانه، وشلت يده- بأنه سيد الحمقى، وأجرى هذا الحكم على بعض أصحابه كـأبي ذر ، وعلى سبطه الحسين ، يوصف رسولنا عليه الصلاة والسلام بهذا وليست هناك دولة تقطع العلاقات الدبلوماسية ذراً للرماد في العيون وانتصاراً لهذا النبي، كأنه ليس هناك أحد على دينه في الأرض!
ومما يدل على ضعف هوان المسلمين أن الكاتب يكتب اسمه بمنتهى الصراحة؛ لأنه يعلم أنه لن يعاقب.
قديماً كان الذي يريد أن يشتم حاكماً أو يشتم طريقةً، أو يسب مذهباً كان يكتب اسماً مستعاراً، كما تعلمون في بعض الكتب كغاية الأماني في الرد على النبهاني للشيخ محمود شكري الألوسي -وهو من أنفع الكتب- كتب اسمه على الكتاب أول مرة باسم مستعار؛ لأن السلطان عبد الحميد آنذاك كان يقرب الصوفية ، ومنهم النبهاني المغضوب عليه، فلو أنه كتب اسمه لقتل، ولو أن المطبعة التي طبعت الكتاب كتبت اسمها لأغلقت، فاضطر أن يكتب على لوحة الكتاب اسماً مستعاراً حتى لا يقع تحت طائلة العقاب، لكن هذا يكتب اسمه صريحاً، والجريدة معروفة، ومقر الجريدة معروف، وعنوانها.
ثم يكتب هذه المقالة التي هي عظيمة ولا يتحرك المسلمون! ولا تكتب الجرائد الرسمية استنكاراً بالعناوين الكبيرة..! هوان وضعف! يجعل الحر ذليلاً يتجرع الذل، أمرّ شيء على نفس الحر هو أن يظلم ولا يستطيع أن ينتصر، كما أنه أمر شيء أن يظلم رجل وهو بريء، ولا يستطيع أن يثبت أنه بريء، ومن كان بريئاً فظلم؛ سلوه عن المرارة التي يجدها في حلقه.
ولكن لا عليكم.. إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40] نزلت هذه الآية بعد ثمان سنوات من الهجرة، لما ظهرت بوادر من بعض المسلمين بالتخاذل عن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، فبكتهم الله تبارك وتعالى، قال: إن لم تنصروه في هذا الموضع فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة:40] ما نحتاج إليكم، ولم يكن واحد منكم موجوداً آنذاك وانتصر وهو ثاني اثنين، هذا إن لم تنصروه، فنحن نعلم أن ضعف المسلمين بسبب الكفر الذي مد عنقه ويده، وهو مطمئن أنه لن يقطع له عنق، ولن تبتر له يد.
هذا على المستوى العام الدولي، أما على مستوى المسلمين في خاصة أنفسهم فيوجد كُتَّاب الفتنة، ودعاة الضلال، الذين يوهنون عرى هذه الأمة، وكثير منهم لا أقول: منفسخ، لكن صلته بدينه ضعيفة، أي شبهة تنقله عن الحق الذي كان يعتقده؟!
وصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ قال في وصيته النافعة لـكميل بن زياد : (ورجل تابع لأهل الحق ليس له بصيرة في إحيائه، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض).
هناك من الناس من يمشي مع كتيبة أهل الحق، لكن لا يعلمون هذا الحق علم اليقين، ولم تتذوقه قلوبهم، فإذا قابلت الواحد منهم أية شبهة ترك كتيبة أهل الحق وزاغ، لذلك كان واجب العلماء الربانيين أن يذودوا عن حمى الإسلام لأجل هؤلاء العوام، وأن يحوطوهم ويدفعوا شبه أهل الضلال والزيغ؛ حفظاً للذين يمشون مع أهل الحق لكن لا بصيرة لهم بهذا الحق، فيزيغ عن طريق الحق لأية شبهة مهما كانت سقيمة.
الشبهة الأولى: سلوك سبيل الأدب راجح على امتثال أمر الله
هذه المقالة التي نتجوز في تسميتها شبهة؛ لأنها أضعف من ذلك، لكن هذه كفيلة بنقل جماهير كبيرة من العوام؛ لأن ظاهرها يدل على ما قال هذا المخذول، كأن الرجل عندما كتب ما علم أن في الزوايا خبايا، وأن في الناس بقايا، والله الذي لا إله غيره ما وقف أحد لأهل الحق إلا كسروا قرنه، فقرع من ندم سنه، ولا صافحهم أحد ولو كان من خطباء إياد إلا فضحوه، ولا قاتلهم مقاتل ولو كان من بقية قوم عاد إلا أكبوه على وجهه وبطحوه؛ لما لهم من الحجج البالغات، والأدلة النيرات، حق موجود مع أهله، والحق له قوة كامنة في ذاته كما قال تبارك وتعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الأنبياء:18] الحق قذيفة، قوته، في كونه حقاً، مهما صرح به ضعيف.
قد تجد أهل الباطل والضلال عندهم جميع الإمكانات التي ينشرون بها ضلالهم، وتجد أهل الحق ضعافاً لا يملكون شيئاً، ومع ذلك يصل الحق إلى الناس ولا يصل الباطل بالرغم من الإمكانات؛ لأن قوة الحق في كونه حقاً، (بل نقذف) كأن الحق قذيفة، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الأنبياء:18] وأصل الدمغ: هو شد الرأس حتى الدماغ، فإذا وصل الشج حتى الدماغ مات المشجوج أو هلك أو فني أو تلف، فإذا ما سلط الحق على الباطل زهق الباطل كما قال تبارك وتعالى: فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء:18] زاهق: أي تالف.
ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أرسل جيشه يقاتل، فجاءه الرسول بعد انقضاء النهار بالبشرى -بشرى الفتح- فقال له عمر : (متى بدأتم القتال؟ قال -مثلاً-: بدأناه في نحو الظهيرة. ومتى فتح لكم؟ قال -مثلاً-: فتحنا بعد العشاء. فبكى، وقال: باطل يقف أمام الحق هذه المدة! ما هذا إلا شيء أحدثته أو أحدثتموه) لأن الباطل زاهق، ليس له نفس؛ لأنه لا يملك مقومات الحياة، فكيف يقف باطل أمام حق نصف نهار، هذه عقوبة بشيء أحدثته أو أحدثتموه.
يقول الصوفي: (سلوك سبيل الأدب راجح على امتثال أمر الله). هذه مقالة كافرة، يعني: أيها المريب إذا أمرك الله بأمر فرأيت الأدب على خلاف ما أمرك الله؛ خالف الأمر واسلك سبيل الأدب، أستغفر الله.. فإن ناقل الكفر ليس بكافر، كأن أمر الله خال من الأدب، كأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه أدب، ثم يحتج لهذه -ونحن نزهق باطله أيضاً- بفعل أبي بكر ، ولكن نسوق الواقعتين لتروا الفرق بينهما، ولا يساوي بينهما إلا من طمس الله على بصيرته فأعماه.
الواقعة التي احتج بها رواها الشيخان من حديث سهل بن سعد : (أنه كان خلاف أو قتال في بني عمرو بن عوف، فذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع بعض أصحابه إليهم، فأذن
هذه هي الواقعة، نحن نزهق باطل هذا الكاتب بواقعة أخرى لـأبي بكر رضي الله عنه رواها الشيخان أيضاً: (أن النبي عليه الصلاة والسلام في مرض موته أمر
لو جاز أن نقول: ناسخ ومنسوخ؛ لقلنا: إن هذه الرواية ناسخة للأولى، لأن هذه كانت في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت أبو بكر وصلى إماماً، لكن ليس في المسألة ناسخ ولا منسوخ؛ لكن ما الذي جعل أبا بكر في المرة الأولى يرجع، وجعله في المرة الثانية يثبت ولا يرجع؟
في المرة الأولى لم يكن صلى شيئاً من الصلاة، فاستساغ أن يرجع، لكن في المرة الثانية كان قد أتى بركعة، فلم ير لنفسه جواز أن يرجع، إذ أنه قضى شطر الصلاة، هناك فرق بين الحالتين، بين هذه وتلك. ثم إن الصحابي قد يفعل الشيء على خلاف ما يأمره به، ربما يكون في الأمر شيء أو أمر أو نحو ذلك، وهذا قاله الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ، قال: فلذلك لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رجع ولم يمتثل الأمر.
كان أبو بكر يظن في ذلك الوقت -مثلاً- أنه لا يجوز لأحد أن يؤم النبي صلى الله عليه وسلم فرأى أن يرجع، فلهذا الظن لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم، أو ربما كانت الأحكام لم تكن قد استقرت أو استقر كثير منها، يرى أن يرجع، ولم يكن عنده علم بأنه يجب أن يثبت، أو يستحب أن يثبت أو نحو ذلك؛ لذلك لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم.
استمر الكاتب -وهو قد وضع هذه القاعدة ليتفلت من الإسلام كله؛ لأن الإسلام تكاليف، وأهل الزيغ والضلال لا يقدرون على تكاليف الإسلام، فيريد أن يفعل ما يمليه عليه هواه فيثبت هذه القاعدة- يقول: وعلى مقتضى القاعدة كذا. نحن لم نسلم لك القاعدة أولاً، بل هدمناها، فلا تناقشني في الفرع فإن الأصل أعوج.
الرد على استحباب المبتدعة تسييد النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان والإقامة
إذا أمرك الرسول بأمر ورأيت الأدب في خلاف ما أمر، اسلك سبيل الأدب، مع أنه يدحض باطله أيضاً -وهم جهلة بالسنة وبالأصول- يدحضه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي محذورة الصحيح الذي رواه النسائي وأبو داود وغيرهما (: الآذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة) فلو زدت (سيدنا) زاد عدد الأذان عن تسع عشرة كلمة، ومعلوم عند جماهير أهل الأصول أن الأرقام قطعية الدلالة، وليست ظنية؛ لأنه لا خلاف في مدلول الرقم.
فإذا سمعت قوله تبارك وتعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2] لا تقل: هو يقصد تسعين جلدة، أو يقصد مائة وعشرين جلدة، أو يقصد ما تقوم به العقوبة قل أو كثر؛ لأن لفظ مائة عدد، ولا يختلف أحد من العباد في تأويله، وهذا يدل على أنه قطعي الدلالة، إذ لا يجوز الخلاف على مدلوله، بخلاف بعض الألفاظ التي تحتمل قولاً أو أكثر فتكون ظنية الدلالة، كقوله تبارك وتعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] فالمساجد هنا ظنية الدلالة؛ لأن معنى مسجد واقع بين معنيين كلاهما تحتمله أصول اللغة، فمن قال أن معنى المساجد هي مواضع الصلاة، يكون معنى (وأن المساجد) هنا جمع مسجد، ومن قال بأن المساجد هي أعضاء السجود؛ يكون المعنى أن هذه الأعضاء لا تسجد لغير الله، وأن السجود لغير الله لا يجوز.
وعلى ذلك تكون الألفاظ ظنية الدلالة لا تقطع بقول فيها وتخطئ الآخر، بخلاف الأعداد إذ لا خلاف بين أحد على تأويل العدد، فيكون قطعي الدلالة، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأذان تسع عشرة كلمة) فلو قلت: (سيدنا) زاد العدد عن تسعة عشرة، وهذا لا يجوز؛ لأنه مخالف لمقطوع به دلالة، وليس في أذان بلال ولا في غيره، ولا استحب أحد من الذين تدور عليهم الفتيا بين المسلمين أن يقول الرجل: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله، وإن كان هو سيد ولد آدم ولا فخر.
لكن ما علاقة هذا بذاك؟
يقول: (من أذن فسلك سبيل الأولين في الأذان؛ لا مانع، لكن لا يجوز له أن ينكر على من زاد سيدنا في الأذان لأنه سلك سلوك الأدب).. هذه شبهة إبليسية، تعلمون من أين أخذها هذا الرجل؟ وصدق الله العظيم حيث يقول: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام:121] فما من شبهة وضعت في الأرض إلا أوحى بها إبليس.
بعض المجلات التي هي على لسان حال بعض الطرق الصوفية كتب زعيم الطريقة الأولى مقالاً وافتتح به المجلة بعنوان (أيها القرنيون! هل فهمتم؟) والقرنيون نسبة إلى القرن، أي: أيها البهائم! أيها العجول! أيها الخرفان! هل فهمتم؟ ثم كتب عنواناً أصغر منه يقول فيه -فض الله فاه-: سلوك سبيل الأدب راجح على امتثال أمر الله ثم قال: (إن العلماء المحققين يقولون: إن سلوك الأدب راجح على امتثال أمر الله، وحجتهم في ذلك هو فعل الصديق الأكبر رضي الله عنه لما كان يصلي بالمسلمين (فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فصفق الصحابة؛ فنظر
هذه المقالة التي نتجوز في تسميتها شبهة؛ لأنها أضعف من ذلك، لكن هذه كفيلة بنقل جماهير كبيرة من العوام؛ لأن ظاهرها يدل على ما قال هذا المخذول، كأن الرجل عندما كتب ما علم أن في الزوايا خبايا، وأن في الناس بقايا، والله الذي لا إله غيره ما وقف أحد لأهل الحق إلا كسروا قرنه، فقرع من ندم سنه، ولا صافحهم أحد ولو كان من خطباء إياد إلا فضحوه، ولا قاتلهم مقاتل ولو كان من بقية قوم عاد إلا أكبوه على وجهه وبطحوه؛ لما لهم من الحجج البالغات، والأدلة النيرات، حق موجود مع أهله، والحق له قوة كامنة في ذاته كما قال تبارك وتعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الأنبياء:18] الحق قذيفة، قوته، في كونه حقاً، مهما صرح به ضعيف.
قد تجد أهل الباطل والضلال عندهم جميع الإمكانات التي ينشرون بها ضلالهم، وتجد أهل الحق ضعافاً لا يملكون شيئاً، ومع ذلك يصل الحق إلى الناس ولا يصل الباطل بالرغم من الإمكانات؛ لأن قوة الحق في كونه حقاً، (بل نقذف) كأن الحق قذيفة، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الأنبياء:18] وأصل الدمغ: هو شد الرأس حتى الدماغ، فإذا وصل الشج حتى الدماغ مات المشجوج أو هلك أو فني أو تلف، فإذا ما سلط الحق على الباطل زهق الباطل كما قال تبارك وتعالى: فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء:18] زاهق: أي تالف.
ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أرسل جيشه يقاتل، فجاءه الرسول بعد انقضاء النهار بالبشرى -بشرى الفتح- فقال له عمر : (متى بدأتم القتال؟ قال -مثلاً-: بدأناه في نحو الظهيرة. ومتى فتح لكم؟ قال -مثلاً-: فتحنا بعد العشاء. فبكى، وقال: باطل يقف أمام الحق هذه المدة! ما هذا إلا شيء أحدثته أو أحدثتموه) لأن الباطل زاهق، ليس له نفس؛ لأنه لا يملك مقومات الحياة، فكيف يقف باطل أمام حق نصف نهار، هذه عقوبة بشيء أحدثته أو أحدثتموه.
يقول الصوفي: (سلوك سبيل الأدب راجح على امتثال أمر الله). هذه مقالة كافرة، يعني: أيها المريب إذا أمرك الله بأمر فرأيت الأدب على خلاف ما أمرك الله؛ خالف الأمر واسلك سبيل الأدب، أستغفر الله.. فإن ناقل الكفر ليس بكافر، كأن أمر الله خال من الأدب، كأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه أدب، ثم يحتج لهذه -ونحن نزهق باطله أيضاً- بفعل أبي بكر ، ولكن نسوق الواقعتين لتروا الفرق بينهما، ولا يساوي بينهما إلا من طمس الله على بصيرته فأعماه.
الواقعة التي احتج بها رواها الشيخان من حديث سهل بن سعد : (أنه كان خلاف أو قتال في بني عمرو بن عوف، فذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع بعض أصحابه إليهم، فأذن
هذه هي الواقعة، نحن نزهق باطل هذا الكاتب بواقعة أخرى لـأبي بكر رضي الله عنه رواها الشيخان أيضاً: (أن النبي عليه الصلاة والسلام في مرض موته أمر
لو جاز أن نقول: ناسخ ومنسوخ؛ لقلنا: إن هذه الرواية ناسخة للأولى، لأن هذه كانت في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت أبو بكر وصلى إماماً، لكن ليس في المسألة ناسخ ولا منسوخ؛ لكن ما الذي جعل أبا بكر في المرة الأولى يرجع، وجعله في المرة الثانية يثبت ولا يرجع؟
في المرة الأولى لم يكن صلى شيئاً من الصلاة، فاستساغ أن يرجع، لكن في المرة الثانية كان قد أتى بركعة، فلم ير لنفسه جواز أن يرجع، إذ أنه قضى شطر الصلاة، هناك فرق بين الحالتين، بين هذه وتلك. ثم إن الصحابي قد يفعل الشيء على خلاف ما يأمره به، ربما يكون في الأمر شيء أو أمر أو نحو ذلك، وهذا قاله الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ، قال: فلذلك لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رجع ولم يمتثل الأمر.
كان أبو بكر يظن في ذلك الوقت -مثلاً- أنه لا يجوز لأحد أن يؤم النبي صلى الله عليه وسلم فرأى أن يرجع، فلهذا الظن لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم، أو ربما كانت الأحكام لم تكن قد استقرت أو استقر كثير منها، يرى أن يرجع، ولم يكن عنده علم بأنه يجب أن يثبت، أو يستحب أن يثبت أو نحو ذلك؛ لذلك لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم.
استمر الكاتب -وهو قد وضع هذه القاعدة ليتفلت من الإسلام كله؛ لأن الإسلام تكاليف، وأهل الزيغ والضلال لا يقدرون على تكاليف الإسلام، فيريد أن يفعل ما يمليه عليه هواه فيثبت هذه القاعدة- يقول: وعلى مقتضى القاعدة كذا. نحن لم نسلم لك القاعدة أولاً، بل هدمناها، فلا تناقشني في الفرع فإن الأصل أعوج.
يقول: (ومضى جمهور المحققين) هكذا، من هم جمهور المحققين؟ هو وأمثاله (على أنه يستحب أن يسيد النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان والإقامة والتشهد خلافاً لثالوث التكفير ابن تيمية : وابن القيم وابن عبد الوهاب ..) هكذا بالنص، يعني: وأنت ترفع الأذان تقول: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله؛ لأن تسييده أدب، وترك تسييده قلة أدب، ووضع صورته على عنوان المقال، صورة رجل حليق، كأنه يرى أنه من الأدب -وهذا على أصله الفاسد الذي قعده- أن يخالف.
إذا أمرك الرسول بأمر ورأيت الأدب في خلاف ما أمر، اسلك سبيل الأدب، مع أنه يدحض باطله أيضاً -وهم جهلة بالسنة وبالأصول- يدحضه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي محذورة الصحيح الذي رواه النسائي وأبو داود وغيرهما (: الآذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة) فلو زدت (سيدنا) زاد عدد الأذان عن تسع عشرة كلمة، ومعلوم عند جماهير أهل الأصول أن الأرقام قطعية الدلالة، وليست ظنية؛ لأنه لا خلاف في مدلول الرقم.
فإذا سمعت قوله تبارك وتعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2] لا تقل: هو يقصد تسعين جلدة، أو يقصد مائة وعشرين جلدة، أو يقصد ما تقوم به العقوبة قل أو كثر؛ لأن لفظ مائة عدد، ولا يختلف أحد من العباد في تأويله، وهذا يدل على أنه قطعي الدلالة، إذ لا يجوز الخلاف على مدلوله، بخلاف بعض الألفاظ التي تحتمل قولاً أو أكثر فتكون ظنية الدلالة، كقوله تبارك وتعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] فالمساجد هنا ظنية الدلالة؛ لأن معنى مسجد واقع بين معنيين كلاهما تحتمله أصول اللغة، فمن قال أن معنى المساجد هي مواضع الصلاة، يكون معنى (وأن المساجد) هنا جمع مسجد، ومن قال بأن المساجد هي أعضاء السجود؛ يكون المعنى أن هذه الأعضاء لا تسجد لغير الله، وأن السجود لغير الله لا يجوز.
وعلى ذلك تكون الألفاظ ظنية الدلالة لا تقطع بقول فيها وتخطئ الآخر، بخلاف الأعداد إذ لا خلاف بين أحد على تأويل العدد، فيكون قطعي الدلالة، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأذان تسع عشرة كلمة) فلو قلت: (سيدنا) زاد العدد عن تسعة عشرة، وهذا لا يجوز؛ لأنه مخالف لمقطوع به دلالة، وليس في أذان بلال ولا في غيره، ولا استحب أحد من الذين تدور عليهم الفتيا بين المسلمين أن يقول الرجل: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله، وإن كان هو سيد ولد آدم ولا فخر.
لكن ما علاقة هذا بذاك؟
يقول: (من أذن فسلك سبيل الأولين في الأذان؛ لا مانع، لكن لا يجوز له أن ينكر على من زاد سيدنا في الأذان لأنه سلك سلوك الأدب).. هذه شبهة إبليسية، تعلمون من أين أخذها هذا الرجل؟ وصدق الله العظيم حيث يقول: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام:121] فما من شبهة وضعت في الأرض إلا أوحى بها إبليس.
يعزون في بعض الكتب مناظرة لإبليس، رد عليها ابن القيم وغيره، أن إبليس قال: لم يعذبني ربي وأنا الذي وحدته؟ إن الملائكة أشركوا؛ لأنني أبيت أن أسجد إلا له -أمره أن يسجد لآدم، قال: أنا لا أسجد لآدم، أنا لا أسجد إلا لك- فأنا الذي وحدته، وهم سجدوا لآدم فأشركوا.
وإبليس أمر، فرأى أن الأدب في مخالفة الأمر، فكيف يعاقب؟ كأنه على مقتضى أصول هؤلاء إبليس بريء، وهذا ما يدندن به أصحاب الجبر، الذين ينسبون للقضاء والقدر كل الذنوب، زنا.. الله كتب علي ذلك، وكيف أفر مما كتب علي، وهذا مدندن حتى وصل إلى الأدباء الذين لا علاقة بينهم وبين دينهم.
كاتب عجوز كان قد ذهب إلى فرنسا وعمره آنذاك (83) عاماً، فلما رجع -وهذا نشر في جريدة الأهرام وقتها- سئل: ما الذي لفت نظرك في فرنسا ؟ قال: الزواج الجماعي.
يا عجوز! يا ابن الثمانين.. الزواج الجماعي! ما أعجبك (الميراج) أو (البيجوه) أو أعجبك التقدم، إنما أعجبك الزواج الجماعي! عشرة رجال بنسوتهم، كل رجل يطوف على امرأة، وكل امرأة تطوف على رجل.. هذا هو الذي أعجبك!
ثم ختم حياته بحوار مع الله على صفحات صحيفة الأهرام، كتب قصة بعنوان (الشهيد) -يقصد إبليس- قال: أراد إبليس يوماً أن يتوب، فذهب إلى شيخ الأزهر وقال: أريد أن أتوب.
فقال له شيخ الأزهر: حسناً، هذا شيء جميل، ولكن..
قال: ولكن ماذا؟
فحك شيخ الأزهر في لحيته، ثم قال في نفسه: ولكن إذا تاب هذا مم يستعيذ المؤمنون؟ يقولون: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا يوجد شيطان! الآيات التي تسب الشيطان وتلعنه ماذا نفعل بها؟ إذاً توبة الشيطان يترتب عليها حذف بعض آيات القرآن الكريم.. لا.
قال له: هذا الأمر ليس من اختصاصي، هناك جهات عليا.
فقال له: قد أمرت أن آتي رجال الدين، وأنت أكبر رأس موجود.
قال له: الأمر ليس من اختصاصي، أنا اختصاصي إعلاء مجد الأزهر.
فخرج إبليس يائساً، وصعد إلى فوق، فقابل جبريل عليه السلام.
انظر إلى الكذب والافتراء والقبح عندما يصوغ كلاماً على لسان جبريل عليه السلام!
فيقول جبريل: ما نستطيع؛ لأنك إذا تبت هذه الأساطير التي يرددها الناس ماذا نفعل بها؟
فوصف ما قاله الله في قرآنه بلعن الشيطان بأنه أساطير!
فلما حاور جبريل عليه السلام يئس من التوبة فنزل، وصرخ صرخةً وقال: إني شهيد. فتجاوبت له المجرات والفلك والأشجار والبحار، ورددت صدى صوته، فكأن هذه الأجرام تعلم أن إبليس بريء.
فصور إبليس أنه بريء أراد أن يتوب فقالوا له: لا. لقد لعناك، ومعنى أن ترجع في توبتك أن نرجع في لعننا.. لا. فصور الله على أنه ظالم، وإبليس بريء أراد أن يتوب فأبوا أن يقبلوا توبته..!
كيف ينشر مثل هذا الكلام على مستوى المسلمين في بلدانهم وفي حياتهم، حتى على مستوى الأسرة؟!
ما أخذوا هذه الشبهة إلا من إبليس (سلوك سبيل الأدب راجح على امتثال أمر الله) بل نقول كما قال العلماء المحققون: الامتثال هو الأدب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أسئلة وأجوبة[1] | 2879 استماع |
التقرب بالنوافل | 2827 استماع |
حديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده | 2769 استماع |
لماذا نتزوج | 2706 استماع |
انتبه أيها السالك | 2697 استماع |
سلي صيامك | 2670 استماع |
منزلة المحاسبه الدرس الاول | 2656 استماع |
إياكم والغلو | 2632 استماع |
تأملات فى سورة الدخان | 2619 استماع |
أمريكا التي رأيت | 2601 استماع |