لا حسد إلا في اثنتين


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أخرج الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس).

فهذا الحديث يرشدنا إلى فضل العلم وفضل المال، وهو نص باهر في التدليل على فضل العلم؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا حسد إلا في اثنتين) فإما أن يحمل الحسد هنا على الحسد الحقيقي فيقال: إن كان يجوز الحسد فإنما يجوز في حالتين، وهذا أحد المعاني.

والمعنى الثاني والذي عليه أكثر العلماء: أن الحسد هنا بمعنى الغبطة، ومن هؤلاء العلماء الإمام البخاري رحمه الله، حيث بوب على هذا الحديث في صحيحة في كتاب العلم فقال: (باب الاغتباط في العلم والحكمة).

والفرق بين الغبطة وبين الحسد:

أن الغبطة: أن تتمنى مثل ما لغيرك من الخير، من غير أن يزول هذا الخير عن غيرك.

بخلاف الحسد: وهو تمني زوال النعمة عن الغير.

فإذا كان الحسد بمعنى الغبطة فيشير إليه قوله تبارك وتعالى: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61]، فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، هذا هو التنافس المحمود الذي هو بمعنى الغبطة.

فإن كان في المعاصي أو كان بالمعنى الذي لا يجوز فهو يندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنافسوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً)، فهنا لا تنافسوا، أي: في الحسد المذموم، وهو أن تتمنى أن يزيل الله النعمة عن أخيك وأن يؤتيكها، بخلاف الغبطة والتي هي أن تتمنى مثل ما لغيرك من الخير.

يقول النبي عليه الصلاة والسلام : (لا حسد إلا في اثنتين) فهذا يفيد أنه لا يحسد المرء إلا على حالتين فقط: (رجل آتاه الله الحكمة -وفي رواية- آتاه الله القرآن -وفي رواية- آتاه الله العلم -وكلها بمعنى واحد- فهو يقضي بها ويعلمها الناس، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) (سلطه) أي: سلطه الله على إهلاك المال، انظر التفاني في بذل المال يصل إلى حد أن صاحب المال يسلط على هذا المال فيهلكه.

ثم ذكر قيداً آخر مهماً: (في الحق)، حتى يخرج عن حيز المبذرين؛ لأن إهلاك المال أو إتلافه وإنفاقه بشراهة في غير الحق مذمة، ولذلك كان هذا القيد مهماً، وكل القيود التي تدخل على هذه الإطلاقات يجب اعتبارها؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (فسلطه على هلكته في الحق) فتخلص هذا الرجل من شح نفسه، فلم ينفق ماله ديناراً ديناراً إنما تسلط عليه، فتستشعر من لفظة (سلط) هذه التي وردت في الحديث أن الرجل عنده نهمٌ شديدٌ في الإنفاق، واستخدم أيضاً الإهلاك بديلاً عن الإنفاق ليدلك على مدى الشراهة في إنفاق المال.

ولكن القاعدة التي يرتكز عليها من أراد أن يفلح في إنفاقه للمال لابد أن يكون عنده علم، وهذا واضح جداً في قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه عند الترمذي وابن ماجة وأحمد قال: (إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله علماً ومالاً، فهو يتقي الله فيه ويعلم أن لله فيه حقاً، فهذا بأعلى المنازل، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاًً، فيقول: لو أن عندي مثل ما عند فلان لفعلت مثل ما فعل، فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط به لا يرعى لله فيه حقاً ولا يؤدي ما عليه، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً فهو يتمنى أن يكون مثله، فهما في الوزر سواء).

ما الذي فرَّق بين المنزلتين؟

العلم، فالرجل الأول: آتاه الله مالاً وعلماً فهذا بأعلى المنازل.

والرجل الثاني: آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهذا في ثاني المنازل.

أما الثالث: فرجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط.

والذي دونه يتمنى أن يكون كالثالث فهما في الوزر سواء، فالذي فرق بين هؤلاء الرجال هو العلم وليس المال.

لأن الرجل العالم إذا رزقه الله تعالى المال علم أين يضع هذا المال، بخلاف الجاهل إذا آتاه الله المال يخبط ليس عنده نور، ما فلا يضعه فيما يريده الله، فلو فرضنا أنه صرفه في شيء مباح فقد يكون هناك مصرف أولى من هذا المصرف الذي وضع فيه المال.

فمثلاً: عرض عليه رجل يحتاج إلى أكل وإلا مات، ومسجد يحتاج فرشاً، فتراه لجهله يتبرع أو يخرج المال للمسجد ويترك أخاه يموت من الجوع، فأنا أضرب الآن المثل بطاعتين يتقرب إلى الله عز وجل بهما: تنظيف المساجد، وإطعام الطعام، أيهما أعظم عند الله؟

بطبيعة الحال فإن الحفاظ على حياة المسلم أولى وأحب إلى الله، لكنه لأنه جاهل ظن أنه لو وضع ماله في أي مكان استوى كل ذلك، فالعلم هو الذي يميز في هذه المسائل، إنك لا تستطيع أن تبذل مالك لجميع الناس فتوخى به أهل الحق، ومصادر الحق.

فالذي آتاه الله تبارك وتعالى المال بجانب العلم كركيزة رئيسية هذا هو السعيد، وهذا هو الذي تَبوَّأ أعلى المنازل، والرجل الثاني الذي آتاه الله تبارك وتعالى العلم دون المال، فيقول: لو أن عندي مثل ما عند فلان لفعلت مثل ما فعل فهما في الأجر سواء.

ففائدة العلم هنا أنه صحح له النية، وتعلم من هذا العلم كيف يعقد النية؛ لذلك أصاب الأجر بغير أن يكون عنده مال، إنما الآخر جاهل؛ لأن الركيزة الأساسية التي يجب أن يرتكز عليها غير موجودة وهي العلم، فلا يستطيع أن يعقد النية، بخلاف العالم فيعقد النية فيأخذ الأجر، حتى بغير أن يتمكن من الإنفاق الذي غبط صاحبه لأجله.

ويرد هنا سؤال وهو: كيف نوفق بين هذا الحديث، وبين قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي الذي رواه البخاري من حديث ابن عباس : (إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها فاكتبوها حسنة كاملة، فإن عملها فاكتبوها عشراً، وإن هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة كاملة، فإن عملها فاكتبوها سيئة واحدة)، فالرجل الرابع لم يؤته الله عز وجل مالاً ولا علماً، لكنه تمنى أن يكون بمنزلة الثالث فهما في الوزر سواء برغم أنه لم يعمل شيئاً، مجرد لكنه هَمَّ ولم يفعل، وتمنى أن يكون له مثل مال هذا الرجل فهما في الوزر سواء، إذاً كيف يستقيم هذا مع قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (وإذا هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة له) كيف هذا؟

هنا مسألة مهمة جداً وهي التي تخرجنا من هذا الإشكال وهي: أن عقد القلب عمل، فالبعض يتصور أن الفعل لا يكون إلا بالجوارح كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به).

فدل على أن العمل يكون باللسان أو بالجوارح، ولذلك يغفر الله تبارك وتعالى للعبد الهواجس التي تدور في صدره، كما في صحيح البخاري ومسلم أو في صحيح مسلم (أنهم قالوا: يا رسول الله! إن الرجل يدور في صدره الكلمة لئن يخر من السماء أحب إليه من أن يتلفظ بها) أي: أشياء تتعلق بذات الله تبارك وتعالى، وفي الصحيحين: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: هذا الله خلق الخلق! فمن خلق الله؟!) أي: خلق الله كذا.. كذا.. وخلق السماوات وخلق الأرض وخلق الإنسان.. فيلقي الشيطان اللعين في نفوسهم -بعد هذا- فمن خلق الله؟!

فبعض الناس قد يتردد في صدره أشياء لو تلفظ بها لأن يخر من السماء على أم رأسه أهون عليه من أن يتكلم بها، فقالوا هذا للنبي عليه الصلاة والسلام فقال: (أوقد وجدتموه، ذاك صريح الإيمان) أي أن هذا يدل على الإيمان؛ لأن الذي حجزك أن تتلفظ بهذا اللفظ إنما هو الإيمان، وفي بعض طرق هذا الحديث قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) فأنت لم تتكلم به إنما رد كيده إلى الوسوسة.

فمثل هذه الهواجس التي قد تتوارد في صدر العبد بقتل إنسان أو بفعل فاحشة أو نحو ذلك -مجرد أنها تدور فقط في الصدر- من رحمة الله تبارك وتعالى أنه تجاوز لهذه الأمة عنها، فلا يؤاخذ العبد بها إلا إذا تكلم بها أو فعل إما بلسان أو بجارحة.

فبعض الناس يتصور أن العمل لا يكون إلا باللسان أو بالجوارح، ونسي أن عقد القلب عمل، بمعنى أنه إذا انعقد القلب على شيء صار كالعمل.

فأنتم ترون الكفر محله القلب، هل العبد لا يؤاخذ على الكفر؟ إنه لم يتكلم به ولم يفعل شيئاً بمقتضى هذا الكفر لكن انعقد قلبه عليه، فهل يقال: إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به، المقصود بالعمل يعني عمل الجوارح؟ لا. فليس هذا هو المقصود.

وفي هذا الحديث قوله: (ما لم تعمل به) دخل فيه عقد القلب؛ لأن الرياء والسمعة والعجب وهذه الصفات محلها القلب وقد لا يظهر مقتضاها على الجوارح أو اللسان.

لذلك لا نرى تعارضاً لهذا التفسير ما بين قوله: (فهما في الوزر سواء) في هذا الحديث ولا بين: (وإذا هم بسيئة ولم يعملها كتبت له حسنة) لأن هذا الحديث (ومن هم بسيئة فلم يعملها) دل على أنه يستطيع أن يعملها، والعبد قد يترك السيئة إما لخشية الله تبارك وتعالى، وقد ورد هذا صريحاً في بعض طرق الحديث عند أحمد قال: (وإذا هم عبدي بسيئة ولم يعملها فاكتبوها حسنة كاملة، فإنه تركها من أجلي) فدل على أنه تمكن من فعل السيئة ولكن تذكر الله تبارك وتعالى فخشيه ونزع عنها.

كقصة أصحاب الغار والرجل الذي قعد من المرأة مقعد الرجل من زوجته، وهمَّ بها، لكنها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام وهو قادر على أن يفعل ذلك، فهذا تكتب له حسنة كاملة.

فأنت تلاحظ هنا: (إذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها؛ فاكتبوها حسنة كاملة، وإذا هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة كاملة)رأيت المقارنة بين الفعلين: هذا همَّ بسيئة وذاك همَّ بحسنة، فهذا أخذ حسنة كاملة، وذاك أخذ حسنة كاملة، لأن الأول: الدافع له حسن، هم بحسنة، فالدافع الذي دفعه محمود فيجازى بجنس المحمود وإن لم يفعله، والثاني: الدافع الذي دفعه وهو دافع السيئة دافع شيطاني، لكن المانع الذي منعه مانع محمود متعلق بالخشية؛ لذلك قال الله عز وجل: (فاكتبوها له حسنة كاملة)، هذا الوجه الأول في ترك السيئة.

الوجه الثاني: لو أنه ترك السيئة؛ لأنه لم يقدر عليها، فهذا لا يكتب له شيء، ولا يكتب عليه شيء.

وبذلك نقول: الذي يدع السيئة لله تبارك وتعالى هذا يأخذ حسنة كاملة، كالذي يهم بالحسنة ولا يفعلها، فإن لم يفعلها لأنه لم يمكن من فعلها؛ فلا يكتب له شيء ولا يكتب عليه شيء؛ لأن الله تباك وتعالى لا يجازي العبد إلا بعد اقترافه السيئة.

وانظر إلى البديع في قوله تبارك وتعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ [الشورى:40] جزاء سيئة سيئة، مع أنه قد يتبادر إلى الذهن أن جزاء السيئة عقوبة، لكن الجزاء يكون من جنس العمل، جزاء سيئة سيئة، أي: إذا وقعت منه السيئة فجزاؤه سيئة السيئة التي اقترفها.

أما الذي تمنى في حديث أبي كبشة الأنماري : (ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله لا يتقي الله تبارك وتعالى فيه، ولا يؤدي الحق الذي عليه) ورجلٌ رابع لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فتمنى أن يكون له مثل هذا الذي يخبط فهما في الوزر سواء؛ لأن قلبه انعقد، والإرادة الجازمة إذا صادفت انعقاد القلب صارت كالعمل الفعلي، لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (هما في الوزر سواء) كما قال في سابقيه: (فهما في الأجر سواء)، وهذا من سماحة الشريعة.

ففي أحاديث كثيرة يحصل العبد بنيته مثل ما يحصله صاحب العلم أو صاحب المال، كقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب الله له من العمل ما كان يعمله مقيماً صحيحاً) وهذا من أجمل الأحاديث ومن أكثرها بشرى.

فلو كنت مثلاً: تقوم الليل أو تصوم التطوع فمرضت ولم تستطع أن تفعل هذه الطاعات أو تصل رحمك أو تمشي في فعل الخيرات كل طاعة كنت تفعلها وأنت صحيح وأنت في الحضر فعرض لك عارض إما مرض أو سفر يعطيك الله تبارك وتعالى من الأجر كما لو كنت تفعله.

إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من الأجر ما كان يعمله صحيحاً مقيماً، وهذا من تمام رحمة الله تبارك وتعالى لهذه الأمة ومضاعفة الثواب لها، برغم أنها لم تعمل، لكن هذا الحديث منوط بالذي يعمل، فلو أن رجلاً لم يكن من دأبه الحرص على هذه الطاعات ومرض، لا يكتب له أجر الذي كان يقوم ويصوم ثم يمرض؛ لأن الأول متكاسل فلا يؤجر في حال العجز عن كسله في حال القدرة، بخلاف الذي منعه مرض، وكان في حال القدرة يفعل، ففي حال العجز الله تبارك وتعالى أكرم، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الله ليحفظ عبده المؤمن) قالها لما أراد المشركون أن يقطعوا رأس عاصم بن ثابت الأنصاري الذي قتلوه في وقعة القراء المشهورة.

فـعاصم لما قالوا له: انزل على العهد والميثاق؛ قال: إنه لا ذمة لكافر، وأبى أن يسلم لهم، وأبى أن يضع يده في يد مشرك فقتلوه، فلما أرادوا أن يقطعوا رأسه ويأخذوه كبرهان أنهم ثأروا؛ لأن هذه الواقعة كانت بعد موقعة بدر، وقد قتل صناديد المشركين ورءوسهم، فأرادوا أن يأخذوا رأس عاصم بن ثابت الأنصاري برهاناً على الثأر والانتقام، فلما أبى أن يضع يده في أيديهم وقتلوه أرادوا أن يفصلوا رأسه عن بدنه، فأرسل الله عز وجل عليه الدبر -الذي هو النحل-

فقالوا: نأتي بالليل؛ لأنه بالليل ينصرف النحل إلى بيوته، فقال بعض الذين رأوا عاصم بن ثابت : فلقد رأيت جثته ترتفع بين السماء والأرض، فعلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هذا فقال: (إن الله ليحفظ عبده المؤمن)؛ لأن عاصم بن ثابت الأنصاري أبى أن يضع يده في يد مشرك، وهو حي.

فالله تبارك وتعالى لم يمكن المشركين أن يفعلوا به وهو ميت ما أبى أن يفعلوه معه وهو حي إكراماً له.

فالله تبارك وتعالى إكراماً منه ولطفاً يعطي العبد وهو مريض أو مسافر ما كان يداوم عليه وهو صحيح في الحضر.

وهناك عشرات الأحاديث التي تدل على أن المرء بالنية يستطيع أن يحصِّل الأجر كما قال عليه الصلاة والسلام: (من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله فقد غزا) برغم أن الغازي المجاهد في سبيل الله تبارك وتعالى الذي يرى بارقة السيوف على رأسه لا يستوي مع القاعد، لكن القاعد حصَّل نفس الأجر، لماذا؟

لأن هذا الذي تخلف عن الغزو يقيناً له عذر، لعله من أولي الضرر مثلاً، فالذي حبسه هو العذر، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما قطعتم وادياً ولا سرتم مسيراً -قال هذا لأصحابه وهم يغزون في سبيل الله- إلا كان أقوام في المدينة يأخذون مثل أجوركم، قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله؟ قال: نعم، وهم بالمدينة، حبسهم العذر).

فهذا بنيته وبتطلعه إلى فعل هذا الخير يأخذ مثل أجر من فعله، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في حديث أبي كبشة الأنماري عن هؤلاء الأربعة على الاثنين الأولين: (فهما في الأجر سواء) وعلى الاثنين الآخرين: (فهما في الوزر سواء) كلمه سواء: هذه تدل على المساواة، والفارق بين هذين الاثنين وبين الآخرين هو العلم.

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما رواه عنه ابن أبي شيبة والدارمي وغيرهما بسندٍ صحيح: (تفقهوا قبل أن تسودوا) وهذا الأثر ذكره البخاري بغير إسناد في صحيحه كمقدمة لحديث ابن مسعود : (لا حسد إلا في اثنتين) فقال أبو عبد الله البخاري : وبعد أن تسودوا.

ما هي الحكمة من ذكر البخاري رحمه الله لهذه الجملة؟

حتى يبين أن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا مفهوم له، ما هو معنى: لا مفهوم له؟

أي: حتى لا يتصور أحد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: تفقهوا قبل أن تسودوا، أي: قَصَرَ الفقه على ما قبل السيادة، حتى لا يتوهم أحد أنه إذا صار سيداً لا يتفقه.

وهذا ما يقول فيه العلماء في دلالة المفهوم: أنه خرج مخرج الغالب، فإذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، ما معنى هذا؟

ليتضح المقصود نضرب مثلاً بقوله عز وجل: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، فهل يفهم أنه يجوز أن نأكل الربا ضعفاً واحداً؟ لا. وإن كان هناك من الناس من فهم هذا وصرح به ممن يدعون العلم، وصرح به على صفحات الصحف قال: إن الربا الذي نهى الله عنه هو الربا المركب، إنما الربا البسيط لم ينه عنه بدليل قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، فلم ينه الله أن يأكل المرء في الربا ضعفاً واحداً، إنما الذي نهى الله عنه في الربا المركب أضعافاً مضاعفة.

فالعلماء يقولون: هذا خرج مخرج الغالب للوصف الذي كانت قريش تتعامل به، وهذا يشبه لو أنني قلت لك: إياك أن تفسق في الحرم! فهل يجوز لك إذا خرجت خارج الحرم أن تفسق؟ الجواب: لا.

وأيضاً قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] أيجوز في غير الحج الرفث والفسوق والجدال؟

إنما خرجت هذه الآية لشيء غالب على تصرفاتهم، كما لو قلت لك: لا تقتل أخاك بالسكين، فهل يجوز أن تقتله بعصا أو بحجرٍ أو بصخرة؟

فالله تبارك وتعالى عندما قال: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] يشير إلى ما كانت قريش تفعله حقيقة: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] ليس معنى هذا أنه أباح لهم أن يأكلوا الربا ضعفاً أو نصف ضعف، إنما نبه على شيء غالب كانوا يفعلونه.

فإذا خرج الكلام مخرج الغالب على فعلهم فلا نستطيع أن نقول له: مفهوم، كذلك قول الله تبارك وتعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33]، فهب أنهن لم يردن تحصناً؛ أيجوز أن نتركهن إن أردن البغاء؟ لا يجوز طبعاً، فهذه الآية كما يقول الحافظ ابن كثير: خرجت مخرج الغالب فلا مفهوم لها: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33].

فالذي يخرج مخرج الغالب لا يكون له مفهوم، من أجل ذلك خشي الإمام البخاري أن يتصور بعض الناس أن مقصود عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: (تفقهوا قبل أن تسودوا) أن يفهم منه أنه بعد أن يسود لا يتفقه؛ لذلك قال: وبعد أن تسودوا، حتى يبين أنها ليس لها هذا المفهوم الذي قد يتبادر إلى البعض.

فالإمام البخاري قدم بأثر عمر رضي الله عنه لحديث ابن مسعود : (لا حسد إلا في اثنتين) للدلالة على أن من ثمرات العلم السيادة؛ لذلك قال: تفقه قبل أن تصير سيداً؛ لأنك إذا صرت سيداً فغير ممكن أن تقعد في صفوف المتعلمين.

لذلك قال الإمام الشافعي : إذا تصدر الحدث فاته علم كثير والحدث: الصغير الذي لم يجمع العلم، إذا تصدر وصار رئيساً فقد فاته علم كثير؛ لأن هذه الصدارة وهذه السيادة تمنعه كبراً أن يقعد في صفوف المتعلمين فيتعلم، فالإمام البخاري من وجهة نظر ابن المنير السكندري في كتابه العظيم (المتواري على تراجم أبواب البخاري) يربط ما بين الحديث وما بين الترجمة التي كتبها؛ لأنه أحياناً يكون في العلاقة بين الترجمة وبين الحديث خفاء وغموض.

كجواز التمندل أي: أن تنشف أعضاء الوضوء بعد الوضوء، فالإمام البخاري أراد أن يحتج لجواز هذا الفعل بحديث ميمونة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (توضأ فدفعت إليه المنديل فرده) فالعلاقة هنا خفية؛ لأن الحديث واضح في أن الرسول عليه الصلاة والسلام رد المنديل لم يأخذه منها فلم يتنشف، فكيف يحتج البخاري على جواز التنشيف بحديث ظاهره عدم التنشيف، فهنا نجد خفاءً وغموضاً ما بين الترجمة التي كتبها البخاري وما بين الحديث الذي احتج به.

فالعلماء يعملون أفكارهم، في وجه العلاقة بين هذه الترجمة وبين الحديث؟

فيقول مثلاً الإمام ابن بطال رحمه الله أحد شراح البخاري يقول: في هذا دليل على جواز التنشيف كما أراده البخاري ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان من عادته عدم التنشيف لما دفعت إليه المنديل، فانظر إلى الذكاء، فكونها دفعت إليه المنديل دل على أنه يتنشف لكن الأفضل عدم التنشف، فدل على أن الأغلب من فعله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يتنشف بعد الوضوء، لكن في الحديث جواز التنشيف.

فالأئمة ينظرون في ترجمة الإمام البخاري على الباب وينظرون ما العلاقة بين ما استنبطه الإمام البخاري وبين حديث الباب، فكتب ابن المنير السكندري هذا الكتاب الرائع والذي نقله الحافظ ابن حجر برمته في فتح الباري، وأحياناً كان بعض الأئمة يعترضون على ابن المنير في بعض استنباطاته، كما اعترضوا عليه في حديث ابن مسعود الذي نحن بصدده.

فـابن المنير السكندري يرى أن الإمام البخاري وضع أثر عمر بن الخطاب قبل حديث ابن مسعود : (لا حسد إلا في اثنتين) فيقول: لأن السيادة من أثر العلم، فإذا رأى الناس رجلاً سيداً حسدوه، وإنما ساد في الناس بالعلم إذاً لا حسد إلا في العلم، هذا ما استنبطه ابن المنير السكندري .

فالحافظ ابن حجر قال: كذا قال، وهذه العبارة يذكرها العلماء من باب الاعتراض، لكنه اعتراض مهذب، دون أن يهجم عليه بغير أدب، أو يقول: هذا خطأ وهذا جهل وهذا ضلال وهذا..، فإذا قال العالم هذه العبارة -كذا قال- عُلم أنه معترض على ما قد قيل، وهو اصطلاح موجود عند أهل العلم، لكنه اصطلاح رقيق إما أن يكون غير موافق على قوله بجملته أو على بعض قوله.

فالحافظ ابن حجر لم يرتض ما استظهره ابن المنير السكندري واستظهر شيئاً آخر وقال: إنما أراد أن المال إنما يحسد صاحبه، عندما يصير الرجل سيداً بالعلم والمال معاً، فالحافظ ابن حجر قال: إنما يصير سيداً بالعلم والمال معاً، ثم يرتكز على العلم.

واستدل بحديث أبي كبشة الأنماري الذي ذكرت: رجل آتاه الله مالاً وعلماً هذا بأعلى المنازل، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهذا بثاني المنازل، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط.

إذاً: المال وحده لا يؤدي إلى السيادة ما لم يقترن معه العلم، وهذا فهم رائع من الحافظ ابن حجر ، دله عليه حديث أبي كبشة الأنماري فكيف يستطيع هذا الرجل صاحب المال أن يسلط ماله على هلكته في الحق إلا إذا كان عالماً، على الأقل بموضع الإنفاق.

لا نقول: يجب أن يكون عالماً بكل شيء، بل أن يكون عالماً بالموضع الذي ينفق فيه ماله، فلا يحسد صاحب المال إلا إذا سبقه علمه، بدلالة حديث أبي كبشة الأنماري ؛ لأن الذي يؤتيه الله المال فقط بغير علم قال عليه الصلاة والسلام: (فهو يخبط) والرجل الثاني آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهذا بثاني المنازل يعني في الفضل، فدل على أن العلم يجب أن يكون ركيزة.

فصاحب المال لا يحسد إلا إذا انضم العلم أيضاً إلى المال، وهذا فهم رائع جداً من الحافظ ابن حجر جاء في حديث معاوية بن أبي سفيان في الصحيحين، لما خطب على المنبر وقال: (أيها الناس! أين علماؤكم؟! فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين).

وبدلالة مفهوم المخالفة: ومن لم يرد به خيراً لا يفقه في الدين، وهذا مفهوم صحيح؛ لأن الرجل إذا علم علوم الأرض كلها وجهل العلم الذي يوصله إلى الله تبارك وتعالى يكون من أخسر الخلق.

أما هؤلاء الذين صعدوا إلى القمر وصنعوا المركبات الفضائية واكتشفوا الجاذبية الأرضية واكتشفوا المصباح الكهربائي والتلفون والتلكس وهذه الأشياء كلها، الواحد منهم لو مات على كفره لا يساوي عند الله جناح بعوضة، يُذكر في الأرض كلها وهو من أهل النار، إذا مدحه جميع الخلق وكان من أهل النار ما يفيده مدح هؤلاء؛ لذلك فالعلم الذي يوصلك إلى الله تبارك وتعالى هو العلم، لو قابلت وجه ربك تبارك وتعالى وأنت تعلم الطريق إليه وصححت هذا الطريق بالعلم، وجهلت كل مناحي الحياة ما خسرت شيئاً، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين).

فمن هداية العلم أنك تبصر موضع قدمك؛ لذلك كان عذاب الذي يؤتيه الله العلم فيصير به كالجاهل يخبط عذاباً أليماً؛ لأنه لم يستعمل أجل نعم الله على الخلق، كما قال القائل: كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، وكفى بالجهل عيباً أن يتبرأ منه من هو فيه.

لو مدحت أي إنسان بأنه عالم وفقيه ينتشي ويغتبط، بخلاف ما إذا وصفته بالجهل، فإنه لا يقبل مع أنه جاهل، لكنه لا يقبل، فكفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس منه أهله وكفى بالجهل ذلاً وعيباً أن يتنصل منه من هو فيه.

فالذي يعطيه الله تبارك وتعالى هذه الآلة وهذه النعمة ولا يستعملها يعذب عذاباً أليماً، كما في البخاري : (يؤتى بالعالم يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه من دبره -يعني: أمعاءه- فيدور حولها كحمار الرحى، فيقول له أهل النار: يا فلان! أما كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ -في الدنيا-، قال: نعم، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).

فمن يعطيه الله عز وجل أجل النعم؛ -وهو العلم- ولا يستعمله في حقه فهذا عقابه (تندلق أقتابه من دبره، فيدور حولها كحمار الرحى، فيقول له أهل النار: يا فلان! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).

لذلك قال الله عز وجل: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3] كبر مقتاً: أي هذا من أعظم المقت عند الله تبارك وتعالى، كما قال تبارك وتعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:44]، وفي الحديث الحسن المرفوع: (مثل الذي يأمر الناس بالمعروف ولا يأتمر به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه) وهذا من أجمل التشبيهات وأقواها.

فالذي يقدم المعروف ولا يتأسى به كمثل الشمعة أو السراج يضيء للناس الطريق لكنه يحرق نفسه وهو لا يدري، فالذي يؤتيه الله تبارك وتعالى العلم ثم يرزقه العمل بهذا العلم هو الذي يستحق الحسد، وهذا قيد مهم، ورد فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس) أي: يعمل بها، وفي نفس الوقت يعلمها الناس.

إن الذي يستحق الحسد ليس هو الذي يتكلم فقط بل الذي يقرن إلى القول العمل، فهذا شرط، وإلا فالذي يتكلم بغير أن يعمل هذا لا يحسد، يحسد على ماذا؟ وقد رأينا أنه تندلق أقتابه من دبره، فهو متعرض لمقت الله عز وجل: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3] فعلى أي شيء يحسد؟

إنما يحسد الذي يصبر على العمل، والذي يريد أن يجرب نفسه هل هو من الصابرين أم لا، فلينظر هل هو يصبر على طاعة الله عز وجل، فهذه أول منازل الصابرين، الذي يصبر على الطاعة كما قال الحسن البصري رحمه الله، الذي قال فيه بعض العلماء كلامه يشبه كلام الأنبياء من حلاوته وطلاوته، يقول: (يا ابن آدم تركك للمعصية أهون من طلب التوبة) انظر الكلام الجميل، إذا كنت تبحث عن الأهون، لماذا؟

لأنك عند طلبك للتوبة لا تدري أيتجاوز الله عنك أم يأخذك بهذه السيئة، فأنت محتار هل قَبِلَ الله عز وجل توبتك أم ردها عليك، في حين أنك لو تجنبت المعصية لم تدخل في هذه الحسبة.

يقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون:57]* وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [المؤمنون:58]* وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:59]* وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، قالت عائشة : (يا رسول الله! أهذا في الزاني يزني والسارق يسرق: أي: يفعل الفعل وهو خائف من الله؛ لأن مرده إلى الله (أنهم إلى الله راجعون) أي لأنهم سيرجعون إلى الله، قال: لا يا ابنة الصديق، هؤلاء أقوام يصلون ويزكون ويتصدقون، ويخشون أن لا يتقبل منهم)

فإذا كان العبد الصالح وهو يقدم الإحسان ويفعل المعروف وجل وخائف أن ترد عليه طاعته، فما بالك بالذي ارتكب المعصية، ما يدري هل يأخذه الله تبارك وتعالى بهذه المعصية أم يتوب عليه، يضل دائماً قلقاً، لذلك فإن تَرْك المعصية أخف من طلب التوبة.

فالذي يقرن العمل بالقول هذا هو الذي يحسد عليه صاحبه، وهذا القيد مهم؛ لأن في بعض الأحاديث لم يرد (يقضي بها)؛ لذلك كان العلماء يحضون الذي يريد أن يستخرج معنى من المعاني أن يجمع جميع طرق الحديث وجميع ألفاظ الحديث، فيضم بعضها إلى بعض ثم يخرج بالمعنى المتكامل، وإلا ففي بعض الأحاديث ترى التنبيه على جزئية، وفي الحديث الآخر يكون التنبيه على جزئية ثانية، فإذا ضممت الحديثين إلى بعض اكتمل لك المعنى.

فالذي يستحق الحسد هو الذي يعمل بما يعلم، ومن أزكى الثمرات التي تعود على صاحب العلم الذي يستحق الحسد، أن يكون عالماً بموضع قدمه، فلا يضخم ما ليس بضخم، ولا يصغر ما هو ضخم، وهذه الحقيقة من أهم العوامل التي أدت إلى انقسام المسلمين في الفهم، فترى بعضهم يتعامل مع الفروع كما لو كان يتعامل مع الأصول الجسيمة، فإذا رأى أحداً يحرك إصبعه يصل به الحال إلى ما لا يخطر ببال، وهذا حدث في أفغانستان؛ لأن أغلب الأفغان أحناف في الفروع، وهناك فتوى عند الأحناف أن هذه الحركة تبطل الصلاة، فواحد صلى وحرك إصبعه، فبعد أن انتهى من الصلاة قام الذي يصلي بجانبه يقول له: السلام عليكم وكسر له إصبعه.

وكأنه لا ندري ما معنى السلام عليكم، لأن السلام يعني أن لا تمسه بسوء هذه معنى السلام عليكم، ولكن صار التسليم تسليماً أجوف، بحيث أنه يخرج من الصلاة بغير أن يفقه معنى السلام عليكم.

كما أن كثيراً من المسلمين لا يفقهون معنى الله أكبر إذا نادى بها المؤذن، فإن معنى هذه الكلمة العظيمة (الله أكبر) أي: أكبر مما في يديك، إن كنت تعمل فالله أكبر من عملك، إن كنت تكتب فالله أكبر من كتابتك، إن كنت تفعل أي شيء فالله أكبر من ذلك الشيء، فيجب عليك أن تتوجه إلى الأكبر.

لذلك كان بعض الصحابة إذا سمع (الله أكبر) وهو يطرق الحديد، فإنه يرمي بالمطرقة وهفي في الهواء ولا ينزل بها على حديدته، مع أنه لا بد أن ينزلها، لكن هناك فرق بين أن ينزل فيطرق بها وهذا من جنس عمله، أو أن يرمي بها عندما يسمع الآذان.

كذلك اجتماع المسلمين في الصلوات الخمس ما استفادوا بهذا الاجتماع شيئاً، وفي هذا المعسكر ربما نقعد أسبوعاً ونصلي الصلوات الخمس في جماعة، وأنا أؤكد أنه بعد الانصراف منه يوجد بعض الإخوة لا يعرف بعضاً لا اسماً ولا مسمىً، وتجد الواحد بجانب أخيه في المسجد منذ خمس سنوات، ومع ذلك لا يعرف اسمه ولا يعرف بيته، وإذا غاب سنة لا يسأل عنه.

يوجد عندنا في مسجد الجامعة الشرعية رجل كان يصلي بل من أوتاد المسجد كما يقولون، وغاب فترة ثلاثة شهور أو أربعة، فجرى حديث مع بعض رواد المسجد فقال أحدهم: فلان الله يرحمه فقال له آخر: أوقد مات؟ قال له: نعم مات، ولا حول ولا قوه إلا بالله، فقال له: والله ما أعرف، وقد يكون صلى بجانبه أربع سنوات، ثم هو لا يعرف عنه إذا غاب ولماذا غاب؟

الصحابة لم يكونوا كذلك؛ وهذا هو الفرق في ثمرة العلم، ليس الفقيه هو الذي يجمع الفقه النظري، إنما الفقيه فقيه النفس، كما قال عليه الصلاة والسلام: (رب مبلغ أوعى من فقيه)؛ لأن الفقه فقه النفس، ففي وقتنا الحاضر يظل الرجل بجانب أخيه تلتصق قدمه بقدمه وكتفه بكتفه في الصلوات الخمس وإذا غاب لا ينزعج أنه غاب، ولا يشعر أنه افتقد شيئاً، بخلاف الصحابة الذين كانوا إذا غاب أحدهم يسألون: لم غاب فلان؟ لأن هذا السؤال فرع عن المحبة القلبية الحقيقية، والتي هي أيضاً فرع عن العلم النافع، فإذا غاب أحدهم يسأل عنه إخوانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ويقولون في الأمثال إذا الواحد انزعج فإنما يقول: أخ، وذلك لقرب الأخ منه، لكن لأننا لم نحقق هذا العلم على المستوى الواقعي ليس له ظل حقيقي، فصار هذا العلم وجوده كعدمه.

لما اختلف عبادة بن الصامت رضي الله عنه مع معاوية بن أبي سفيان -وكان هو الأمير- في مسألة الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد، فـمعاوية رضي الله عنه لم يكن بلغه الحديث فكان يقول: لا بأس، فنبهه عبادة بن الصامت أن هناك حديثاً بخلاف ما يقول، فلأمر ما أو لفهم ما خالف معاوية رضي الله عنه ظاهر الحديث وقال: لا أرى بأساً، فقال عبادة : أقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقول: لا أرى بأساً، لا ساكنتك في أرض، وأخذ عياله ومتاعه وركب وخرج من الشام إلى المدينة المنورة .

انظر حساسية الصحابة من مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام، يترك الدار والوطن غيرة لله، فذهب يصلي الفجر فرآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المدينة، وعمر آنذاك يعرف من في المدينة فرداً فرداً.

فبمجرد ما رأى عبادة قال: ما جاء بك يا أبا محمد ، فهو يعلم أين خرج عبادة وغيره من الصحابة رغم أنهم كانوا بالألوف، قال أبو زرعة الرازي : حج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائه ألف في حجة الوداع، فمن تفرق في الأمصار كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرفه، فإذا جاء أحدهم علم أن هذا قادم من سفر.

قال عبادة لـعمر بن الخطاب : قد كان بيني وبين معاوية كيت وكيت.

فقال عمر : (قبح الله أرضاً لست فيها وأمثالك يا أبا محمد، ارجع إلى معاوية فأحمله على هذا فإنه الأمر) أي: ما قلته هو الصواب، ورجع عبادة بن الصامت .

ويؤثر أيضاً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه افتقد رجلاً فذهب فسأل عنه، فقالوا: هو مريض، فذهب إليه، فلما قرع الباب قال: من؟ قال: عمر بن الخطاب ، فقفز الرجل وفتح له الباب.

فقال له: عجبت لك يناديك الله تبارك وتعالى من فوق سبع سماوات (الله أكبر) فلا تجيبه، ويناديك عمر بن الخطاب فتجيبه.

ما يفوته أن يلفت نظره برفق إلى هذا المعنى، وإنما ورثوا مثل هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام معلم الإنسانية الخير، فإنه كما في الصحيحين افتقد ثابت بن قيس الأنصاري ، قال: أين ثابت ؟ فقال جارٌ له: ليس بمريض، يعني لفت نظره أن ثابتاً غير موجود، فأرسل من ينظر هل هو مريض أم لا، فلما ذهب إليه وجده في الدار يبكي، فلما سأله عن ذلك وكان رفيع الصوت، أي: إذا تكلم كان صوته عالياً، فكان يرفع صوته بطبيعته عندما يتكلم، فلما نزل قول الله عز وجل: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2] فظن أن عمله حبط لمجرد أنه كان يرفع صوته عند النبي عليه الصلاة والسلام، فاعتقد في نفسه أنه من أهل النار وأن عمله قد حبط، فقعد في داره يبكي.

فلما رجع الرسول قال: (يا رسول الله! إنه في بيته يبكي، ويقول: إنه من أهل النار؛ لأنه كان يرفع صوته بين يديك، قال: لا، بل هو من أهل الجنة)، قال أنس راوي الحديث: فكان يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة.

فمثل هذه الثمرة لا يستحق المرء أن يقطفها إلا إن كان فقيه النفس، وفقه النفس لا يحصله المرء إلا بعد أن يصل إلى العلم، وأعظم الثمار هي الثمار العملية، وآخر شيء في المسألة كلها أنك تقطف الثمرة.

فهذا هو الذي يستحق الحسد، لا الذي يجمع العلم من أطرافه، وإذا تكلم لا يستطيع أحد أن يجادله؛ لما أوتي من البيان والجدل، ليس هذا بعالم، فمثل هذا الطراز تسجر به نار الجحيم.

ذكر الذهبي في الميزان في ترجمة بعض العلماء ولا أحب ذكر اسم هذا العالم ستراً عليه، وهذا من أضلع العلماء في علم أصول الفقه، وكتابه عمده عند جميع الأصوليين، وهو كتاب قوي جداً، قال الذهبي : وثبت عنه أنه كان لا يصلي، أول ما قرأت كلام الذهبي كأنه ماء بارد نزل عليَّ، فما كنت أتصور أن هناك بعض العلماء لا يصلي، وبعضهم دفع هذه التهمة بتأويل كما سيأتي، ونسأل الله تبارك وتعالى أن لا يثبت هذا على ذلك العالم.

فقال الذهبي : كان لا يصلي، وذكر بسند صحيح أن بعض من اتهمه بذلك بلغه أنه لا يصلي، فجاءه وهو نائم، فوضع الحبر على قدمه من أسفل؛ لأنه لو كان يصلي فسيتوضأ ويزول الحبر، وإن لم يكن يصلي فإن الحبر سيظل كما هو.

قال: فجئناه وهو نائم، ووضعنا على بطن قدمه الحبر، وجئنا بعد ثلاثة أيام فوجدنا الحبر كما هو.

فلو فرضنا -ونسأل الله تبارك وتعالى أن تكون هذه الرواية غير صحيحة- أن هذا صحيح ما يفيده هذا؟ ولو كان أشد خلق الله جدلاً وعلماً بطرق الجدل وعلماً بطرق الاستنباط ما يفيده ذلك؟

وقد تأول بعض العلماء هذا فقالوا: ربما كان يذهب مذهب الشيعة وأنه يرى المسح وليس الغسل على القراءة المتواترة على الخفض، في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] فرواية الجماعة: بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة:6] عطفاً على الأيدي: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6] عطفاً على الوجوه، أي: اغسلوا وجوهكم وأرجلكم، قالوا: فهذا يوجب غسل القدمين، وهي القراءة التي نقرأ نحن بها في المصحف.

الرواية الأخرى: رواية الخفض أي الجر: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ ) فعطف الرجل على الرأس، فقالوا: إذا كان الرأس فيه المسح فالقدم فيه المسح، وبها أخذت الشيعة، والصواب طبعاً قول الجمهور؛ لأن الأحاديث المتواترة قضت بغسل الرجلين وليس بمسحهما.

فقالوا: ربما يكون هذا العالم متأول ويأخذ بمذهب الشيعة وأنه يمسح على قدميه يعني من فوق دون الغسل، ولأن نقول بهذا التأويل أولى من أن نقدح في العالم بأنه كان لا يصلي لأن هذه كبيرة.

لكن بغض النظر عن هذا المثال الذي ذكرته، فإن هناك من الناس من جمعوا العلم ولا يعملون به بل قد لا يصلون، وأنا التقيت بأحد الذين يشار إليهم بالبنان في زيارتي إلى عمان، وكان المسجد أقرب إليه من شاطئ هذا البحر، قريب جداً ولا ينزل يصلي مع الجماعة.

ورجل اسمه موجود على كتب وتحقيقات وتخريجات، فعند خروجنا إلى صلاة الظهر قلت له: ألا تصلي؟ قال: لا. أنا مريض، فرجعنا فوجدناه لم يصل، ووالله ما صلى الظهر إلا قبيل العصر، فما الذي منعه أن يصلي الظهر في وقتها؟ وبما أنه تخلف فأقل القليل لو صلى الصلاة لوقتها حتى ولو في بيته مثلاً، إن كان يأخذ برأي القائلين بأن صلاة الجماعة مستحبة فقط، أو سنة مؤكدة وليست بواجبة.

فهذا ما يفيده علمه وهو لا يعمل به، فالرجل الذي يستحق أن يحسد هو الذي ينضاف عمله إلى قوله، فترى عليه سمت الصالحين، وسبحان الله! العلم ترى أثره على صاحبه، كما أن الجهل ترى أثره على صاحبه، لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله علما فيصير محل أفئدة الناس جميعاً، إذا نزلت بهم معضلة تهوي إليه الأفئدة، وكذلك الرجل الذي آتاه الله المال تهوي إليه الأفئدة.

فمن فقد العلم فإنه يتمنى أن تزول النعمة عن أخيه، كيف وكما قلنا فإن معنى (أخوه) أي: أقرب الناس إليه؟! والله تبارك وتعالى في معرض القصاص والقود يقول: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178] انظر: رغم أنه قاتل، إلا أن الله يقول: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ [البقرة:178] ليس من (قاتله)، بل من (أخيه) شيء، حتى في هذا المعرض يذكر بالأخوة لماذا؟

لأن الأخوة مرتبة راقية جداً، فلا يتصور في رجل فقيه النفس حصَّل ثمرة العلم أن يتمنى أن يزول الخير عن أخيه؛ لذلك كان هذا المعنى من أقوى المعاني الحاملة لتأويلنا أن الحسد بمعنى الغبطة، أي: أن تتمنى لنفسك مثل ما لأخيك من الخير، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) والصحابة رضوان الله عليهم ضربوا أروع الأمثلة في الأخوة، ونحن نحتاج أن نترجم حياة الصحابة إلى واقع بحيث نطبق منه ما استطعنا، فلا تقل: لا أستطيع أن أفعل هذا وتقف دونه، بل كلما رأيت شيئاً جميلاً، افعله مع أخيك.

يؤثر عن علي بن أبي طالب -وأقول: يؤثر بصيغة التمريض؛ لأني لا أدري صحة هذا القول- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشتكى علي بن أبي طالب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كلما قابل علياً لا يبدأه بالسلام، فسأل النبي عليه الصلاة والسلام علياً عن ذلك: (فقال: لأن البادئ بالسلام أفضل، فأحببت أن يتوج عمر بن الخطاب بالأفضل) البدء بالسلام أفضل -إن صحت هذه الرواية- فأحببت أن يبدأني هو بالسلام فينال الفضل عليَّ.

ولئن لم يصح هذا لا جناح علينا، لأن هناك نماذج كثيرة جداً جداً تدل على أن هؤلاء الصحابة كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، لا أدل على ذلك من قصة ضيف النبي عليه الصلاة والسلام الذي لم يجد في بيته ما يُطْعِمه إياه، فقال: من يأخذ هذا؟ فأخذه رجل من الأنصار فدخل على امرأته فقال: أعندكم طعام؟ قالت: ما عندي إلا طعام الأولاد، فقال: علليهم بشيء -ولم يكن لهم طعام إلا طعام الأولاد- ونام الأطفال وأطفئوا المصباح، فأوهم الرجل وامرأته الضيف أنهما يأكلان، حتى أكل الضيف وشبع، فقاما طاويين على الجوع، ولم يأكلا شيئاً، فلما أصبح قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عجب من صنيعكما بضيفيكما)، فأي كرم وإيثار على النفس أجمل من هذا المعنى، يبيت على الطوى وأولاده وامرأته، حتى يأكل الضيف.

فثمرات العلم النافع الذي يحسد صاحبه عليه أن يضم إلى القول العمل، وهناك كتابان في هذا المعنى، كتاب الخطيب البغدادي وهو كتاب اقتضاء العلم العمل وهذا من أمتع الكتب، فـالخطيب متقدم، فهو من الذين يروون الحديث بالإسناد، فروى في هذا الكتاب آثاراً وأحاديث خرجها شيخنا الشيخ ناصر الدين الألباني ، فلذلك أنت تستطيع أن تنتفع بهذا الكتاب لأن الشيخ الألباني ميز الصحيح من الضعيف، وهو كتاب ممتع جداً يدلك على الخير.

وكذلك كتاب: ذم من لا يعمل بعلمه للحافظ ابن عساكر رحمه الله، كلاهما في هذا المعنى، وهناك كتب أخرى منثورة ككتاب الشوكاني وهو من أمتع الكتب في الحقيقة، وأنا أوصي بقراءة هذا الكتاب لما فيه من اللطافة؛ لأن الشوكاني رحمه الله يحكي فيه حكايته وقصته مع الجماهير من المقلدين سواء من المتمشيخين أو من العوام، ويحكي وقائع جرت له مع مشايخ عصره من المقلدة في حضرة الأمراء والعلماء، ويحكي أمراض النفس، فهو من أروع الكتب التي قرأتها في تصبيرك -أيها الداعية- على الأذى الذي تلقاه من أهل عصرك. هذا الكتاب اسمه طبقات المتعلمين، وهو كتاب رائع جداً أوصي بقراءته.

إن حديث النبي عليه الصلاة والسلام فيه طول، سواء كنا تحدثنا بصفه عامة عن فضل العلم، أم تحدثنا عن فضل هذا العلم المقرون بالعمل، وفي قليل الكلام مع اهتمامك به أفضل من كثير الكلام الذي يدخل من أحد أذنيك ويخرج من أذنك الأخرى.

لذلك نحن نريد أن نعقد النية؛ لأن عقد القلب عمل، فنريد أن نخرج من هذا المجلس ونحن على درجة عالية من تصحيح أوضاعنا، إذا كنت لم تعمل ببعض الأحاديث أو بعض الأحكام الشرعية التي قصرت فيها نرجو أن تكون هذه بداية لك، وإذا كنت قد نويت بتحصيلك العلم أن تكون فقيهاً أو أن تكون عالماً أو يشار إليك بالبنان، أن تصحح نيتك ولو في الجملة، كما قال ابن جريج رحمه الله تعالى: طلبنا العلم لغير الله فأبى الله إلا أن يكون له، أي أن ابن جريج أول ما طلب العلم كان يريد أن يكون محدثاً، ولكن عندما حصل العلم -وكان عنده إخلاص في الجملة- نفعه الله بهذا العلم الذي يحصله، فصحح له نيته بعد ذلك، وهذا معنى قوله: طلبنا العلم لغير الله فأبى الله إلا أن يكون له.

نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

والحمد لله رب العالمين.


استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة اسٌتمع
أسئلة وأجوبة[1] 2879 استماع
التقرب بالنوافل 2827 استماع
حديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده 2769 استماع
لماذا نتزوج 2706 استماع
انتبه أيها السالك 2697 استماع
سلي صيامك 2670 استماع
منزلة المحاسبه الدرس الاول 2656 استماع
إياكم والغلو 2632 استماع
تأملات فى سورة الدخان 2619 استماع
أمريكا التي رأيت 2602 استماع