شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [17]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين.. وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم براً كان أو فاجراً ].

كما هو معلوم أن الشيخ وأئمة السلف جميعاً يقصدون بأصحاب الحديث أهل السنة والجماعة.

وأصحاب الحديث يرون إقامة صلاة الجمعة بشروطها وضوابطها في كل مكان، وليس فقط في الأمصار التي حددتها بعض الفرق أو بعض الفقهاء، ففي جميع أمصار المسلمين تقام صلاة الجماعة وكذلك العيدين وجميع الصلوات الخمس خلف كل إمام مسلم، سواء كان الإمام الأكبر الخليفة، أو ولاته الذين يتولون الصلاة في كل مكان، أو من ولوا وعينوا في المساجد من قبل الولاة والدولة.

فالأصل صحة الصلاة معه براً كان أو فاجراً، لكن الصلاة خلف الوالي أوجب من الصلاة خلف غيره، بمعنى أنه قد يشرع لجماعة المسجد ألا يقدموا من كان فيه فجور إذا لم يكن هو الإمام الأعظم أو الوالي، بمعنى: أنه إذا كان ليس هو الإمام الوالي أو الإمام الأعظم أو الخليفة أو من كان له ولاية عامة، فإنه لا ينبغي أن يتقدم إن كان فاجراً، ومع ذلك إذا تقدم فقد تصح صلاته، أما إذا كان والياً والناس لا يستطيعون أن يزيحوه عن الإمامة فتنبغي الصلاة خلفه؛ درءاً للفتنة والفرقة والفساد، وإن كان فيه فجور أو ظلم، فقد كان السلف يصلون وراء الحجاج ، وهكذا بعض الصحابة كانوا يصلون خلفه رغم أنه ظالم.

فإذاً: شروط الإمامة ومواصفات الإمام يجب العمل بها عند الاختيار، أما عند الاضطرار -بمعنى: أن يكون الإمام له الولاية- فهنا لا ينبغي للمسلمين أن يشقوا عصا الطاعة، ولا يتركوا الصلاة خلف هذا الإمام، بل يصلوا حتى وإن كان فيه فجور وظلم، وصلاته إن شاء الله صحيحة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويرون جهاد الكفرة معهم وإن كانوا جورة فجرة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح، ولا يرون الخروج عليهم بالسيف، وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف ].

وكذلك يرون الصبر على الأثرة منهم، وكل هذه الأمور راجعة إلى أحاديث صحيحة جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من وصاياه العظيمة التي أوصى بها هذه الأمة؛ فقد أوصاهم بالصلاة خلف كل إمام مسلم براً كان أو فاجراً، والجهاد مع أئمة المسلمين أبراراً كانوا أو فجاراً، والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق والهداية والدعاء لهم علناً وسراً، فالدعاء لهم مشروع، بل هو من مراعاة مصالح المسلمين العظمى ومن تطبيق السنن التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الأمة بها.

وذلك كله راجع إلى قاعدة عظمى جامعة: وهي الصبر على الولاة والصلاة خلفهم وإن كان عندهم فجور، والجهاد والدعاء لهم.. وغير ذلك من الأمور، وعدم جواز الخروج عليهم أو إثارة الفتنة أو الفرقة عليهم، كل ذلك راجع إلى قاعدة عظيمة من قواعد الدين، تنظمها النصوص الكثيرة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والنصوص إذا تكاثرت وكانت تتعلق بمصلحة عظمى من مصالح الأمة صارت من ضمن العقائد التي يجب التزامها، فالسلف رحمهم الله جعلوا هذا من ضمن العقائد التي تميز منهج أهل السنة والجماعة، ومن منهج السلف الصالح الحديث عن مناهج المخالفين، فكل هذه الأمور التي ذكرها راجعة إلى قاعدة عظيمة: وهي أن الجماعة وتحقيق الأمن ودرء الفتن والفرقة والشذوذ من مقاصد الدين العظمى.

أولاً: تحقيق الجماعة بكل معانيها، أي: الاجتماع وعدم الفرقة؛ وذلك مقصد عظيم من مقاصد الشرع، وهذا المقصد نجد أن النصوص تشعر المسلمين -بل توجب عليهم- بأن لا مساومة فيه، ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن من جاء يفرق جمع المسلمين فيجب قتله براً كان أو فاجراً، بل يجب قتله كائناً من كان، كما ورد في مسلم.. وغيره، وفي قوله: (كائناً من كان) إشارة إلى أنه حتى لو كان عالماً زل أو أخطأ، أو كان من أهل التقى والصلاح إذا كان عمله يؤدي إلى الفرقة بين المسلمين فهذا الأمر لا مساومة فيه.

إذاً: هذه المعاني جاءت لتحقيق الجماعة.

ثانياً: تحقيق الأمن للأمة، والأمن لا مساومة فيه أيضاً؛ لأنه لا يمكن أن يستقيم الدين وتقام الصلوات وشعائر الإسلام والحدود، ولا يمكن أن يأمن الناس على دينهم ودنياهم إلا بالأمن، فنظراً إلى أن ترك الصلاة خلف الأئمة وترك الجهاد معهم وترك الدعاء لهم والخروج عليهم أو إثارة الفتنة ضدهم كلها تؤدي إلى الإخلال بالأمن، فلذلك اعتبرها الشرع، كما ورد في الآيات والأحاديث أن الإخلال بالأمن من الأمور العظمى التي لا مساومة فيها.

كذلك درء الفتن أيضاً ودرء المفاسد العظمى على الأمة ودرء الفرقة والشذوذ أيضاً من مقاصد الشريعة، فهذه كلها من مقاصد الدين العظمى ومصالح الأمة الكبرى التي لا يجوز لأحد من المسلمين أن يساوم عليها، ولذلك جاء التأكيد في هذه المعاني، فيجب عدم اتخاذ الفجور أو الظلم ذريعة لخرق هذه القواعد، والأدلة على هذا صريحة كما هو معلوم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويرون قتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى طاعة الإمام العدل.

ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً لهم ونقصاً فيهم، ويرون الترحم على جميعهم والموالاة لكافتهم، وكذلك يرون تعظيم قدر أزواجه رضي الله عنهن، والدعاء لهن، ومعرفة فضلهن والإقرار بأنهن أمهات المؤمنين ].

الترضي عن الصحابة رضي الله عنهم والكف عما شجر بينهم والمولاة لهم، وكذلك تعظيم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة قدرهن، كل هذه الأصول مبنية على نصوص قطعية، وعلى إجماع السلف أيضاً، فالصحابة رضي الله عنهم زكاهم الله عز وجل ورضي عنهم، والنبي صلى الله عليه وسلم رضي عنهم وتوفي وهو عنهم راضٍ، وأوصى الأمة بحقوقهم، ونهى عن سبهم وعن القدح فيهم، فإذاً التزام هذه الأمور -أي: حقوق الصحابة- أصل من أصول الدين؛ لأنها من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم، فهي جزء من الدين وليست مجرد رأي، والسلف عندما يقولون: نرى كذا ونرى كذا فإنهم يعنون بذلك استخلاص هذه القواعد من النصوص، وليس عند السلف شيء يعتقد إلا ويستند على نص صحيح، وما من شيء من أصول السلف، سواء كان من الأمور الاعتقادية العلمية أو العملية، يرونه ويتفقون عليه إلا ويكون له دليل من النص، إما مجموعة نصوص وهو الغالب، أو من نص قاطع، أو قاعدة شرعية استنتجت من عدة نصوص، فعلى هذا فهذه الأمور ليست مجرد رأي مقابل الآراء الأخرى، إنما هي الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ويجب على المسلم أن يدين بهذه الأمور.

فهذه القواعد والمناهج استخلصت من عموم النصوص، ولو سردت جميع النصوص لاحتيج إلى مجلدات، فالسلف اعتادوا أنهم يلخصون العقيدة على هذا المنهج من مجموع النصوص الثابتة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويعتقدون ويشهدون أن أحداً لا تجب له الجنة وإن كان عمله حسناً وطريقه مرتضى إلا أن يتفضل الله عليه، فيوجبها له بمنه وفضله؛ إذ عمل الخير الذي عمله لم يتيسر له إلا بتيسير الله عز اسمه، فلو لم ييسره له ولو لم يهده لم يهتد له أبداً، قال الله عز وجل: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [النور:21] وقال مخبراً عن أهل الجنة: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43] وفي آيات سواهما].

معنى هذا أن أهل السنة يرون أنه لا أحد يستحق الجنة على الله عز وجل بمجرد عمله، بل بفضل الله ومنه وكرمه؛ لأن دلالة المسلم الموفق على العمل الذي يدخله الجنة إنما هي بتوفيق الله، فلا فضل له بعمله إنما يستحق الإنسان الجنة بفضل الله ورحمته، ولا تجب له استحقاقاً -أي: وجوباً- على الله، أو أنه ضمن ذلك بعمله.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويعتقدون ويشهدون أن الله عز وجل أجل لكل مخلوق أجلاً، وأن نفساً لن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً، وإذا انقضى أجل المرء فليس إلا الموت، وليس له منه فوت، قال الله عز وجل: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، وقال: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145].

ويشهدون أن من مات أو قتل فقد انقضى أجله ].

في هذا رد على طوائف من المعتزلة وبعض القدرية الذين زعموا أن المقتول مات قبل أجله الذي قدره الله له، وهذا راجع إلى فلسفة خبيثة عند القدرية عموماً وبعض طوائف المعتزلة الذين قالوا هذا القول، زعموا فيها أن الشر والمكروه -بما فيه القتل- ليس من تقدير الله، وليس من خلق الله، بل هو من فعل القاتل استقلالاً دون أن يكون لله عز وجل في ذلك سابق تقدير، وذلك راجع إلى فلسفة في الشر، فهم يرون الشر ومنه القتل ليس من تقدير الله، وأنه من فعل الإنسان استقلالاً عن تقدير الله وعن خلقه، فمن هنا زعموا أن هذا الإنسان الذي قتل قتل دون أن يقدر له القتل، فكأنه سبق ما قدره الله من موت هذا المخلوق، أي: أن فعل القاتل سبق تقدير الله، وهذا لاشك أنه باطل مبني على فلسفة معقدة وهي فلسفة القدرية.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال الله عز وجل: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، وقال: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78]].

قال رحمه الله تعالى: [ ويعتقدون أن الله سبحانه خلق الشياطين يوسوسون للآدميين، ويقصدون استزلالهم، ويترصدون لهم، قال الله عز وجل: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121].

وأن الله يسلطهم على من يشاء، ويعصم من كيدهم ومكرهم من يشاء، قال الله عز وجل: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء:64-65]. وقال: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ.. [النحل:99-100].. الآية ].

مسألة تسليط الشيطان وأن الله عز وجل ابتلى به العباد فجعله موسوساً، وجعله فتنة للخلق إلى يوم القيامة هذه من الأمور المحققة شرعاً، ولابد من التنويه عنها والإشارة إليها دائماً؛ لأن أكثر الذين يتحدثون عن انحراف البشر الآن، وحتى عن انحراف المسلمين وما عندهم من معاصٍ وفجور وتقصير في حق الله عز وجل وإعراض عن دين الله عز وجل، كثير من الذين يعالجون هذه القضايا حتى ممن ينتسبون للعلم الشرعي، يغفلون عن هذا، خاصة أصحاب الدراسات الاجتماعية والنفسية.. وغير ذلك، وينسون هذه القضية وهي قضية أن الله عز وجل ابتلى العباد بالشيطان ووساوس الشيطان، فتجدهم يتكلفون في كثير من أسباب الغواية والضلال والانحراف والفساد.. وغير ذلك، وينسون هذه القضية قضية تسليط الشيطان على بني آدم، وأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وأن له سلطاناً على الذين يتولون الذين يغفلون عن ذكر الله عز وجل، وأن أعظم أسباب الانحراف هو كيد الشيطان.

أقول: ينبغي التنويه عن هذه المسألة والإشارة إليها والتنبيه عليها من الذين يتولون هذه الأمور من الوعاظ والدارسين، وأيضاً من المختصين في علاج المشكلات الاجتماعية والحسبة.. وغيرها، فكثير من الذين يتناولون هذه القضية يحتاجون إلى تنبيه الناس إلى أن مكائد الشيطان عظيمة، وأن الشيطان يخالط الأفراد، ويخالط الأسر في بيوتها، ويخالط الناس في مجالسهم إذا لم يذكروا الله عز وجل وغفلوا عن الأسباب الشرعية التي تطرد الشيطان، هذه مسألة التنبيه عليها مهم جداً؛ لأن الناس غفلوا عن هذه الحقيقة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويشهدون أن في الدنيا سحراً وسحرة، إلا أنهم لا يضرون أحداً إلا بإذن الله عز وجل، قال الله عز وجل: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]، ومن سحر منهم واستعمل السحر واعتقد أنه يضر أو ينفع بغير إذن الله تعالى فقد كفر ].

معنى هذا أن حقيقة السحر قد تنفع أو تضر لكن بإذن الله عز وجل، فالسحر قد يكون فيه نفع وقد يكون فيه ضرر أيضاً، لكن هذا النفع والضرر من باب المحرم، وقد يكون من باب الشرك، وهو أيضاً من تقدير الله عز وجل وليس من استقلالية السحرة أو الشياطين، فالله عز وجل إذا قدر على بعض العباد الشر فقد يكون من خلال السحر أو فعل السحرة، فالسحر له حقيقة وله تأثير، لكن تأثيره بإذن الله عز وجل وابتلاء بالعباد.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وإذا وصف ما يكفر به استتيب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه ].

إذا وصف الساحر أشياء شركية أو كفرية كأن يطلب الذبح لغير الله عز وجل أو الذبح من غير تسمية، أو يطلب الدعاء لغير الله، أو يطلب شيئاً مما يوجب الردة كالاستهزاء بدين الله عز وجل، أو الاستهزاء بالقرآن، أو الإساءة إلى القرآن.. أو نحو ذلك فهذا كفر، وهذا يحدث كثيراً من السحرة، يحدث منهم أن يطلبوا من الجهلة الذين يرتادونهم شيئاً مما يقتضي الردة والكفر، وكثير من الجهال يظنون أن هذا من مقتضيات العلاج العادي، أو أنه علاج ليس فيه شركيات، وأغلب العوام وأشباه العوام لا يعرفون ولا يميزون، لاسيما وأن السحرة يلبسون على الجهلة، فكثير من السحرة الآن مثلاً إذا أراد أن يقوم بعمل يعمله يتلو على من عنده آيات من القرآن ويستغفر، ويأتي بأشياء من الموهمات والأوراد والذكر ويحوقل، ثم يصطاد المسلم الجاهل الغر بالسحر وبالشرك، وقد نُقِل لنا هذا كثيراً عن السحرة الموجودين الآن، فالواحد منهم يخلط الحق بالباطل ويلبس، وقد يتظاهر بأنه صالح، وأنه يستعين بالله عز وجل، ثم يوقع هؤلاء الأغرار المساكين في الشركيات.

فالمهم أنه إذا طلب شيئاً شركياً أو ادعاء الغيب أو نحو ذلك فهذا كفر.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وإذا وصف ما ليس بكفر أو تكلم بما لا يفهم نهي عنه، فإن عاد عزر ].

كأن يطلب أشياء غريبة أو يستعمل أرقاماً، أو يستعمل تمتمات وكلمات غير مفهومة، أو يلبس على الناس بأحوال غامضة كأن يستعمل الغرف المظلمة أو الإضاءة غير الطبيعية، أو يستعمل الخرق.. وغيرها يعني: أيُّ أمر لا يعرف له وجه شرعي ولا وجه معتاد فهذا نوع من الشعوذة، قد لا تصل إلى حد الردة والكفر، لكنها شعوذة ومن كبائر الذنوب، ومع ذلك فالغالب أنها لا تكون إلا من خلال من يستعمل الكفريات، وحتى لا نجعل هذه تبرئة لمن يستعملونها مطلقاً نقول: قد تكون وسيلة إلى استعمال كفريات من حيث يشعر الإنسان أو لا يشعر.

فالمهم أن استعمال هذه الطلاسم والألغاز والعبارات غير المفهومة والطلبات غير المفسرة والأدوية التي لا تجري العادة بأن لها نفعاً هذا كله يدخل في الشعوذة والدجل، وهو مما لا يفهم، وأغلبه من كبائر الذنوب أو الكفر.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وإن قال: السحر ليس بحرام، وأنا أعتقد إباحته، وجب قتله؛ لأنه استباح ما أجمع المسلمون على تحريمه ].

قال رحمه الله تعالى: [ ويحرم أصحاب الحديث المسكر من الأشربة المتخذة من العنب أو الزبيب أو التمر أو العسل أو الذرة.. أو غير ذلك مما يسكر، يحرمون قليله وكثيره، ويجتنبونه، ويوجبون به الحد.

ويرون المسارعة إلى أداء الصلوات وإقامتها في أوائل الأوقات أفضل من تأخيرها إلى آخر الأوقات.

ويوجبون قراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام، ويأمرون بإتمام الركوع والسجود حتماً واجباً، ويعدون إتمام الركوع والسجود بالطمأنينة فيهما، والارتفاع من الركوع والانتصاب منه والطمأنينة فيه، وكذلك الارتفاع من السجود، والجلوس بين السجدتين مطمئنين فيه من أركان الصلاة التي لا تصح إلا بها ].

كل هذه الأمور التي ذكرها المصنف تدخل في الأحكام والعبادات، وأحياناً يذكر بعض السلف ومنهم الصابوني هنا بعض الأشياء الاجتهادية التي يرجحها على مذهبه، فمثلاً: قوله: (يوجبون قراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام) هذا قول من أقوال الشافعية وليس هو القول الراجح عند جمهور أهل الحديث، وإن كان محل خلاف، لكن أقصد أنه لا يدخل في باب الأمور التي يتميز بها أهل السنة عن غيرهم، بل هو من الخلافيات عند أهل السنة.

أما مسألة إتمام الركوع والطمأنينة فلاشك أنه رأي جمهور أهل السنة، بل اتفاق أهل السنة والجماعة، وهذا فيه إشارة إلى بعض المذاهب التي تساهلت بالأمر، حتى إنها جعلت بعض أعمال الصلاة تؤدى بلا طمأنينة، خاصة بعض الأحناف؛ فإن بعضهم لا يكادون يقيمون الرفع من الركوع، وبعضهم لا يقيم الجلوس بين السجدتين، وكذلك الرافضة، لكن الرافضة هذا ليس بغريب عليهم فكثير من الأحكام يخالفون فيها المسلمين، إنما يستغرب من مثل الأحناف وهم من مذاهب أهل السنة الفقهية، أن يكون منهم عدم الطمأنينة في مثل هذا الركن العظيم من أركان الصلاة، فمن هنا أشار الشيخ إلى مثل هذا الأمر مع أنه من باب الأحكام؛ لكن ذكره لأن هناك من قال به وخلافه شاذ، ولذلك هذه قاعدة عند السلف: أن كل من خالف في أمر من أمور الأحكام شذ فيه عن جمهور السلف يعد خلافه عقدياً، مثل ما جاء في مسألة المسح على الخفين، فإنهم ذكروها في باب العقائد؛ لأن الرافضة أنكرت ذلك، فجاءوا بها في باب العقائد؛ لأن القول بعدمها ترك للدليل، ومن ترك الدليل فقد اختلت عقيدته.

فبعض الأمور تكون خلافية كما قلت، ويكون هذا هو رأي المؤلف، وبعد أن انتهى من الأحكام والعبادات سيتكلم عن الآداب.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويعدون إتمام الركوع والسجود بالطمأنينة فيهما والارتفاع من الركوع والانتصاب منه والطمأنينة فيه، وكذلك الارتفاع من السجود والجلوس بين السجدتين مطمئنين فيه من أركان الصلاة التي لا تصح إلا بها.

ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والمنكح والملبس، والسعي في الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبدار إلى فعل الخيرات أجمع، واتقاء سوء عاقبة الطمع، ويتواصون بالحق والصبر، ويتحابون في الدين ويتباغضون فيه، ويتقون الجدال في الله والخصومات فيه، ويجانبون أهل البدع والضلالات، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات.

ويقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه الذين هم كالنجوم بأيهم اقتدوا اهتدوا، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله فيهم، ويقتدون بالسلف الصالحين من أئمة الدين وعلماء المسلمين، ويتمسكون بما كانوا به متمسكين من الدين المتين والحق المبين، ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين، ولا يناظرونهم ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان وقرّت في القلوب ضرت، وجرت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرت، وفيه أنزل الله عز وجل قوله: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68] ].

ذكر الشيخ جملة من الآداب والأخلاق التي هي من أصول أهل السنة والجماعة، وفي ذلك الإشارة إلى عدة أمور، منها: أن مسألة الآداب والأخلاق ليست مفصولة عن العقائد كما يظن بعض الناس، وليست في درجة دون العقائد؛ فإن العقيدة عند السلف تتمثل بأقوال وأعمال ومناهج، يعني: لابد من منهج في الاعتقاد ومنهج في التعامل ولا ينفك التعامل عن الاعتقاد.

ولذلك نجد أن بعض الفرق التي ضلت خاصة التي تنطعت في الدين، كالخوارج ومن سلك سبيلهم، نجد أن أعظم ضلالاتهم وأكثر انحرافاتهم عن منهج السلف في التعامل أدى بهم هذا إلى الانحراف عن المناهج العلمية فيما بعد، فصار منهجهم في التعامل مع الآخرين وفي التعامل مع المخالفين وفي التعامل مع بقية المسلمين فيه شدة وتنطع.

فمنهج التعامل منهج مهم جداً عند السلف بجزئياته وكلياته، ويرون أنه فعلاً هو الثمرة للاعتقاد وللعقيدة، ومن هنا كان السلف في كتبهم في الآثار وفي العقيدة يؤكدون على هذا المعنى، ويذكرون أهم جوانب التعامل في صلة الأرحام وإطعام الطعام والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام والاهتمام بأمور المسلمين.

وهذا فيه إشارة إلى خطأ أولئك الذين يزعمون أنهم يسعهم عدم الإسهام مع المسلمين في أعمال البر والخير، وأن الواحد ينزوي ويقول: ما لي وما للناس، وهذا في الحقيقة ليس هو منهج السلف، فالمسلم يجاهد ويصبر ويثابر ويحرص على مصالح المسلمين، ولا يلزم أن يكون عمله فقط في مجال الدعوة الخالصة بمفهوم المعاصرين فقط، بل ينبغي أن يتوسع في مفهوم الدعوة، فيساهم في أعمال البر وفي المؤسسات الخيرية، وفي الإسهام في نفع المجتمع في مؤسساته وفي المراكز العلمية.. وغيرها، وحتى في الجهود الفردية كل ذلك من أبواب البر التي تعتبر من المناهج الأصلية والكبرى عند السلف، فلابد من الاهتمام بأمور المسلمين، والأقربون أولى بالمعروف وأولى بالاهتمام.

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول الدين الكبرى التي يغفل عنها كثير من الناس، حتى ظن بعض المسلمين اليوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر موكول على هيئات أو جهات معينة.

نعم، الهيئات تقوم بما يخص الدولة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأفراد في بيوتهم وفي بيئاتهم وفي مجالات عملهم بما يستطيعونه ويملكونه، وبما يتماشى مع قواعد الشرع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا لا يعذر به أحد، فمن هنا لا يجوز لأحد أن يقعد، وليعلم أن من منهج السلف إقامة هذه الشعيرة، وكذلك البدار إلى فعل الخيرات، واتقاء الطمع.

ويتواصون بالحق والصبر عليه، والصبر في كل شيء لابد منه، ولا يمكن أن ينتفع المسلمون بشيء من أعمالهم إلا بالصبر.

ثم ذكر التحاب في الله والتباغض فيه، ثم ذكر اتقاء الجدل في الله، والمقصود من هذا: أن الأصل عند السلف أنهم لا يلجئون للجدل إلا اضطراراً، فالعلم والتعليم هذا أمر مطلوب، ولا يمكن أن يقوم الدين إلا بالعلم والتعليم والتفقه بما في ديننا،لكن الجدال والخصومات والمراء لا تجوز إلا اضطراراً؛ فإن الجدال والمراء من سمات أهل البدع والضلالات.

ثم قال: (ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات) يعني: يعادونهم بقدر ما عندهم من الضلالات، فقد يكونون من المسلمين، فيكون لهم من الولاء بقدر ما فيهم من الخير والإسلام، وعليهم من البراء بقدر ما فيهم من الضلال والأهواء.

حكم استتابة الساحر

السؤال: ما حكم استتابة الساحر؟

الجواب: استتابة الساحر محل خلاف بين أهل العلم، وقد فرقوا بين الساحر الذي يعم فساده، وبين الساحر الذي لم يظهر فساده، فقالوا: إن الساحر الذي لم يظهر فساده ولم يعم شره يستتاب، وإن الساحر الذي يعم شره ويظهر فساده يقتل لأجل كف الفساد وردع أمثاله، لكن ومع ذلك فالقول بالاستتابة قول وجيه؛ لأنه إذا قبض عليه متلبساً بذنبه في جريمة السحر فيستتاب، بمعنى أن يقال له: إن ما عملته شرك وردة وكفر فيجب أن تتوب إلى الله عز وجل، فإذا قال: أتوب إلى الله، ولم يمارس هذا العمل مرة أخرى ولم يرجع إليه، فذلك مطلوب شرعاً، فالاستتابة هي إعلان التوبة وظهور ذلك على عمله والكف عما كان عليه.

حكم استخدام المسلمين للجن في الأمور المباحة

السؤال: هل يجوز استخدام المسلمين للجن في أمور مباحة أو مشروعة؟

الجواب: استخدام الجن لأمر عارض دون تبييت وقصد قد يكون مباحاً بشروطه وضوابطه الدقيقة، لكن الاستخدام المطلق أو المبيت المقصود، أو الاستخدام الذي يتم باتفاق بين الإنس والجن هذا من الاستمتاع الذي حرمه الله عز وجل، ولذلك ينبغي الحذر من هذه الظاهرة التي بدأت عند الرقاة والقراء، فاستخدام الجن إن جاء عارض دون قصد، أو جاءت له مناسبة فلا حرج فيه، بشرط ألا يتم بعقد أو عهد بين الإنسي والجني، وألا يكون هناك شروط أو مقايضات بين الجني والإنسي.

فإذاً: الاستعانة العارضة لا حرج فيها، كما كان يفعل كثير من السلف، وكثر هذا عن شيخ الإسلام ابن تيمية ، فلا بأس باستعانة عارضة تأتي بدون أن يقصدها الإنسي، أما ما يحدث عند الرقاة الآن من الاستعانة الدائمة بالجن واستحضارهم عند الحاجة، وأخذ العهود والشروط عليهم، وتقييدهم بعقود معينة ومقايضات فهذا من البدع، ومما نهى الله عنه ونهى عنه السلف نهياً شديداً.

حكم سحر التخييل

السؤال: ما حكم سحر التخييل وما يفعله البعض من طعن نفسه بالسكين والمشي على النار.. ونحو ذلك مما يلبس به؟

الجواب: هناك فرق بين السحر وبين التخييل، وبعض الأعمال التي يعملها بعض الدجالين تكون أعمالاً طبيعية، لكنها تكون بالمران أو باستعمال مواد كيميائية.. ونحوها، فيظن الناس أنها قمار أو أنها سحر، وبعضها فعلاً سحر، يعني: يسيطر فيها السحر على خيال الإنسان بحيث يرى ما لم يكن، أو يتصور ما لا يحدث.. أو غير ذلك، فهذا نوع من السحر، لكن كله دجل، وحكمه واحد، فمن استعمل الأمور العلمية الطبيعية للتمويه على الناس، أو من استعمل السحر كله يدخل في الباب العام للسحر، فالقمار والدجل والشعوذة كلها حرام، فالذي يطعن نفسه بالسكين ويمشي على النار إما أنه يستعمل السحر والتخييل، أو أنه فعلاً يفعل ذلك بأمور تعود عليها، فالجسم إذا تعود على شيء قد يعمل ما يشبه الخوارق.

العلاقة بين العقيدة والأخلاق

السؤال: ذكرت أن الآداب لا تنفصل عن العقائد، وهذا ما خالف فيه أصحاب الأهواء، ولكن نجد أن بعض هؤلاء المبتدعة يلبسون على العوام بحسن الخلق؟

الجواب: حسن الخلق أمر فطري في البشر عموماً، لكن المقصود أن المسلم يجب عليه أن يحسن الخلق تعبداً لله عز وجل وحسبة، وأن يجعل هذا من أصول دينه وركائز منهج السلف ويدين بذلك.

والأمر الآخر أنه ينبغي أن يكون أسبق من غيره إلى حسن الأخلاق، فحسن الخلق عند الكافر قد يكون جبلياً وقد يكون لمصلحة وهو الغالب، وكذلك بعض الفساق والفجار وبعض أهل الأهواء قد يكون عندهم شيء من حسن الخلق؛ لأن حسن الخلق بصوره الكثيرة قد يكون من النزعات الإنسانية، لكن احتساب ذلك عند الله عز وجل والتدين به والمسابقة إليه والمسارعة هذا أمر زائد ينبغي أن يتحلى به المسلم.

الفرق بين المجانبة والهجر في التعامل مع أهل البدع

السؤال: ما الفرق في التعامل مع أهل البدع بين المجانبة والهجر؟

الجواب: الهجر ربما يكون أعلى درجات المجانبة، فالهجر: المقاطعة الكاملة، والمجانبة الإعراض، ومع ذلك بينهما شيء من التداخل والتشابه، لكن يظهر لي أن معنى المجانبة معنى عام، يعني: مجانبة كتبهم وأقوالهم ومجالسهم وآرائهم.. إلى آخره، يعني: المسلم يجعل كل ما عليه أهل الأهواء على جنب، ويعرض إعراضاً عاماً، أما الهجر فهو المقاطعة الكاملة.

فإذاً: الهجر نوع من المجانبة، والمجانبة بمعنى أشمل. والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.