خطب ومحاضرات
التصوف
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71] .
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أريد أن أستغلها فرصة لأُذكر كثيراً من الناس اليوم ممن يؤمنون بخوارق عادات من نوعية أخرى، ويعتبرونها كرامات للأولياء، لا لشيء إلا لأنها خوارق عادات، ويجب أن نعلم -أيضاً- هذه الحقيقة الشرعية: ألا وهي: أن خوارق العادات تنقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: معجزات للأنبياء وكرامات للأولياء.
- القسم الثاني: خوارق عادات ابتلاء من الله عز وجل لأصحابها، وليست بمعجزة ولا كرامة لأهلها، إنما هي فتنة، كما رأيتم بالنسبة للدجال الأعور.
هذان القسمان أمر متفق عليه بين علماء المسلمين، فالأمر الخارق للعادة تارة يكون معجزة أو كرامة -وهذا شيء جميل- وتارة يكون فتنة لمن تصدر منه أو يصدر منه ذلك الأمر الخارق للعادة.
وتمييز هذا النوع من ذاك النوع، أو هذا القسم من هذا القسم، إنما هو بالنظر إلى مصدر أي نوع من النوعين، فإن كان مصدره رجلاً مؤمناً -نبياً أو صالحاً- فهي معجزة أو كرامة، أما إذا كان مصدره إنساناً تراه لا يصلي ولا يصوم بل قد تسمع منه كُفريات يتأولها بعض الناس بتسميتها (شطحات) فهذه ليست كرامة؛ لأن الذي صدرت منه هذه الكرامة المزعومة لا يوصف بأنه صالح فضلاً عن أن يوصف بأنه نبي، كما نسمع من كثير من الناس: من أن فلاناً كان يمشي عارياً في الطرقات، ومع ذلك صدرت منه خوارق عادات فهي له كرامات، فهذا لا يجوز أن ينسب إلى هذا الإنسان إطلاقاً ولا تسمى كرامة، وإنما هذه: إما عبارة عن حيل ومخرقة ودجل من بعض هؤلاء الناس، أو هو ابتلاء من الله عز وجل كما ذكرنا، وهذا مذكور في القرآن الكريم، قال الله: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35] الابتلاء بالخارق للعادة يكون خيراً تارة، وفتنةً تارة أخرى.
ومثل هذه الكرامات، التي هي أحق بتسميتها (إهانات)، قد امتلأت بطون كتب كثير مما يتعلق بتراجم رجال ينتسبون إلى التصوف والصلاح، فمن شاء أن يرى العجب العجاب في هذا المجال فعليه أن يرجع إلى كتاب: طبقات الأولياء، للشعراني، الذي أعيد طبعه مرات ومرات، لم يعد طباعة صحيح البخاري وصحيح مسلم مثل هذا الكتاب؛ لأنه محشو بالأضاليل والأباطيل تحت عنوان الكرامات.
هناك -مثلاً- رجل يترجم له، وكل رجل هناك يترجم له تبتدئ ترجمته بقوله: ومنهم فلان بن فلان رضي الله عنه، كل شخص مترجم له هناك مترضى عنه، ومنهم: فلان بن فلان رضي الله عنه، كان كذا وكذا.. ففي بعض هؤلاء المترجمين يقول: وكان يقول: (تركت قولي للشيء كن فيكون عشرين سنة أدباً مع الله) ناقد ومنقود!
الرجل -أولاً- في ظاهر هذه العبارة وصل إلى مرتبة الربوبية وليس الألوهية فقط، وإنما الربوبية حيث يقول للشيء: كن فيكون، وهذه الصفة لم يكفر بها العرب في الجاهلية الأولى، فقد كانوا يعتقدون أن الذي يقول للشيء كن فيكون هو الله وحده لا شريك له، ولكنهم أشركوا معه حين عبدوا غيره، أما هؤلاء ففي كتبهم حتى اليوم هذه العبارة: من كرامات ذلك الإنسان أنه كان يقول: (تركت قولي للشيء كن فيكون عشرين سنة أدباً مع الله)، فترى حينما كان يقول بزعمه للشيء كن فيكون كان مخلاً بالأدب مع الله، فما بال هذا الولي تارة يتأدب وتارة لا يتأدب؟! لو لم يكن في هذا الكلام شيء من الكفر الصريح لكفى أنه ينقض بعضه بعضاً؛ لأن الولي يتأدب مع الله في كل السنين، أما أن يستمر ويقول للشيء: كن فيكون بعد عشرين سنة، فلماذا ترك ذلك عشرين سنة؟ يقول: أدباً مع الله، وقبل ذلك وبعد ذلك كان غير متأدب مع الله، هذا مما ذكر في كرامات هذا الإنسان.
وإنسان آخر يحكيه مؤلف الكتاب نفسه عن نفسه، قال: ذهبت لزيارة رجل من الأولياء -أدركه هو- فوقفت على الباب وإذا بي أسمع صوتاً من فوق -من شرفة- كأنه تلاوة قرآن، فأصغيت إليه، قال: فإذا هو يقرأ قرآناً غير قرآننا، وختم ذلك بقوله: اللهم أوهب ثواب ما تلوته من كلامك العزيز إلى شيخي فلان وشيخي فلان وفلان ..إلخ، فمن هذه الجملة تأكد الشيخ نفسه أن هذا قرآن غير القرآن الذي بين أيدي المسلمين! هذا -يا جماعة- مطبوع، يطبع في مصر حيث هناك الأزهر الشريف، وقد طُبع مراراً وتكراراً.
ومثل هذه الكرامات، التي هي أحق بتسميتها (إهانات)، قد امتلأت بطون كتب كثير مما يتعلق بتراجم رجال ينتسبون إلى التصوف والصلاح، فمن شاء أن يرى العجب العجاب في هذا المجال فعليه أن يرجع إلى كتاب: طبقات الأولياء، للشعراني، الذي أعيد طبعه مرات ومرات، لم يعد طباعة صحيح البخاري وصحيح مسلم مثل هذا الكتاب؛ لأنه محشو بالأضاليل والأباطيل تحت عنوان الكرامات.
هناك -مثلاً- رجل يترجم له، وكل رجل هناك يترجم له تبتدئ ترجمته بقوله: ومنهم فلان بن فلان رضي الله عنه، كل شخص مترجم له هناك مترضى عنه، ومنهم: فلان بن فلان رضي الله عنه، كان كذا وكذا.. ففي بعض هؤلاء المترجمين يقول: وكان يقول: (تركت قولي للشيء كن فيكون عشرين سنة أدباً مع الله) ناقد ومنقود!
الرجل -أولاً- في ظاهر هذه العبارة وصل إلى مرتبة الربوبية وليس الألوهية فقط، وإنما الربوبية حيث يقول للشيء: كن فيكون، وهذه الصفة لم يكفر بها العرب في الجاهلية الأولى، فقد كانوا يعتقدون أن الذي يقول للشيء كن فيكون هو الله وحده لا شريك له، ولكنهم أشركوا معه حين عبدوا غيره، أما هؤلاء ففي كتبهم حتى اليوم هذه العبارة: من كرامات ذلك الإنسان أنه كان يقول: (تركت قولي للشيء كن فيكون عشرين سنة أدباً مع الله)، فترى حينما كان يقول بزعمه للشيء كن فيكون كان مخلاً بالأدب مع الله، فما بال هذا الولي تارة يتأدب وتارة لا يتأدب؟! لو لم يكن في هذا الكلام شيء من الكفر الصريح لكفى أنه ينقض بعضه بعضاً؛ لأن الولي يتأدب مع الله في كل السنين، أما أن يستمر ويقول للشيء: كن فيكون بعد عشرين سنة، فلماذا ترك ذلك عشرين سنة؟ يقول: أدباً مع الله، وقبل ذلك وبعد ذلك كان غير متأدب مع الله، هذا مما ذكر في كرامات هذا الإنسان.
وإنسان آخر يحكيه مؤلف الكتاب نفسه عن نفسه، قال: ذهبت لزيارة رجل من الأولياء -أدركه هو- فوقفت على الباب وإذا بي أسمع صوتاً من فوق -من شرفة- كأنه تلاوة قرآن، فأصغيت إليه، قال: فإذا هو يقرأ قرآناً غير قرآننا، وختم ذلك بقوله: اللهم أوهب ثواب ما تلوته من كلامك العزيز إلى شيخي فلان وشيخي فلان وفلان ..إلخ، فمن هذه الجملة تأكد الشيخ نفسه أن هذا قرآن غير القرآن الذي بين أيدي المسلمين! هذا -يا جماعة- مطبوع، يطبع في مصر حيث هناك الأزهر الشريف، وقد طُبع مراراً وتكراراً.
عن ماذا أحدثكم؟ هذا المجال واسع جداً، ولو أن هذا صار في خبر كان لما كان لي أن أحدثكم في شيء من ذلك، نقول: انتهى أمره والحمد لله، لكن يا إخواننا! من عرف منكم فقد عرف، ومن لا يعرف فنحن نعرف أن هذه الطامات لا تزال تسري في عروق جماهير المسلمين اليوم، وفيهم الخاصة والمشايخ.
قصة إمام مسجد في حلب
قصة حدثت مع الشيخ الألباني
إنما الخلاصة: أن الولي لله عز وجل هو المؤمن بالله إيماناً جازماً بما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة، والعامل بأحكام الشريعة أمراً واجتناباً، وبلا شك ما ابتدأت الكلام بمثل هذا إلا لأصل إلى ضيفنا هذا، لأقول: إن هناك أناساً يتظاهرون بالولاية وقد يأتون بأمور خارقة للعادة فيظنها بعض الناس كرامات، وإنما هي إهانات، وتكلمت طويلاً في هذا الصدد، ثم سكت ففوجئت بكلام المضيف -رجل عاقل- قال: والله يا أستاذ نحن كنا نعتقد هكذا مثلما تقول: أن الكرامة والولاية هي العمل بالكتاب والسنة.
والشاهد ليس هذا، فالشاهد فيما يحكيه هذا الرجل كيف طور عقيدته الصحيحة إلى العقيدة الباطلة، بمجيء رجل كان من أهل القرية، وعاش في الأزهر الشريف عشرين سنة أو نحو ذلك، فلما رجع إليهم رجع يعلمهم خلاف الإسلام، وأن المهابيل هؤلاء هم أولياء الله.
قال: كنا نعتقد أن هذا هو الإيمان وهذا هو الإسلام -كما ذكرت- حتى جاءنا هذا الشيخ، قال: فأخذ يحدثنا بحكايات وقصص تتلخص في أن الله عز وجل له أشخاص وضع سره فيهم، إذا نظرتم إليهم لا يعجبكم عملهم ولا أقوالهم ولا أفعالهم، ولكن هؤلاء من كبار الأولياء.. هؤلاء تنظرون إليهم أنهم تاركون للصلاة، لكنهم يصلون الصلوات الخمس في المسجد الحرام -هذه كرامة لهم- وتنظرون إليهم أنهم مفطرون ويأكلون في رمضان، لكنهم في الحقيقة صائمون، ولكنكم أنتم الذين تنظرون إليهم بأنهم مفرطون، وغير هذا من المخاريق والأكاذيب.
قصة شيخ من الأزهر
وهذه قصة حكاها الشيخ الأزهري للجماعة، فقلب أهل القرية إلى أمثال هؤلاء يؤمنون بالخرافات والأباطيل المخالفة للشريعة، ما هي القصة؟
قال الشيخ الأزهري لأهل القرية في مجالسه: كان هناك فيما مضى من الزمان رجل عالم فاضل، وكان آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، كان يحتسب وينزل إلى السوق فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حتى وقف ذات يوم على عطّار وهو يبيع الحشيش المخدر المحرم، فأنكر عليه كعادته في إنكار المنكر، قال الشيخ الأزهري لأصحابه: فما كاد الشيخ ينكر على بائع الحشيش حتى سُلِب عقله، وعاد كأنه بهيمة لا يفهم شيئاً، وكان أتباعه وتلاميذه من حوله، فأخذوه إلى داره وهو لا يعرف شيئاً، كالدابة، لكنهم أهمهم الأمر فأخذوا يتساءلون كيف العلاج؟ من نسأل؟ من نطلب معالجته؟... إلخ، قال: فدلوا على رجل يسمى ذا الجناحين.. وهذه تساوي طامتها طامتين، ذو الجناحين أي: يعلم بالشريعة والحقيقة، علم الظاهر وعلم الباطن، وهذه من الدسائس التي أدخلت على الإسلام، ليتسنى لأعداء الإسلام هدم الإسلام باسم الإسلام، ما هذا يا أخي؟ قال: هذا حقيقة، الحقيقة شيء والشريعة شيء.
ما هذا؟ يقول: هذا من علم الباطن، فعلم الباطن شيء وعلم الظاهر شيء.
فدل على رجل يسمى ذا الجناحين، فجاءوا إليه وقصوا عليه قصة عالمهم، فسرعان ما قال لهم -هنا العبرة-: ذاك البائع للحشيش هو رجل من كبار الأولياء -عندهم- وقد أصيب عالمكم بسبب اعتراضه على ذلك الولي.
فأنا أجمع بين متناقضات في وصفه بين الولي الحشاش بائع الحشيش، هذه حقيقة أمره، هو ولي وهو بائع حشيش، هذا الولي الحشاش هو من كبار الأولياء عند هؤلاء الناس، لذلك ذو الجناحين نصح تلامذة العالم بأن يقودوه - وهو لا يزال كالدابة- إلى ذاك الولي الحشاش، وأن يطلبوا منه العفو والمغفرة لعالمهم ويعتذرون له بالنيابة عنه حتى يفيء إلى نفسه، وهكذا فعلوا، فما كاد يطيب قلب الولي الحشاش على العامل بعلمه حتى رجع إلى حالته الطبيعية، مثل إنسان كان نائماً واستفاق، ثم عرف العالم بطبيعة الحال مصيبته فاعتذر أيضاً هو بدوره للولي الحشاش.
هذه القصة حكاها لي صاحب الدار عن شيخه شيخ القرية، وأن مثل هذه القصص جعلت القرية تؤمن بمثل هذه الطامات وهذه السخافات.
خلاصة الكلام: أن التصديق بمثل هذه الطامات والضلالات، بأنها تصدر من أناس يفعلون شراً -هذا في الظاهر- لكنهم في الحقيقة أولياء، يفتح باباً لأمثال هؤلاء الناس أنه إذا بعث فيهم الدجال أن يؤمنوا به، لماذا؟ لأنه يأتيهم بكرامات -بزعمهم- ما جاءت عن أحد من أوليائهم، يقول للسماء: أمطري؛ فتمطر.. ماذا تريدون من كرامة أعظم من هذه؟ ونحن لا نسميها كرامة، وإنما هذا أمر خارق للعادة، لكن لما رأينا هذا الرجل يدعي الربوبية، كأن يصدر منه ما هو من خوارق العادات؛ كان ذلك دليلاً على أن هذه ليست كرامات وإنما هي (مخابيط وتدجيل) منه على الناس.
إذاً: الحكم الفصل بين الكرامة وبين الأمر الخارق للعادة: هو أن ننظر إلى المصدر، فمن كان مصدره ولياً صالحاً فهذا نؤمن بكرامته، وهناك كرامات صحيحة وثابتة عن بعض الصحابة وبعض السلف لا ننكرها أبداً، لكن نحن ننكر مثل هذه الكرامات التي هي في الحقيقة إهانات، أما أصل الكرامة فنحن نؤمن بها، وهي فصل من فصول الخوارق -خوارق العادات- وتختلف الخوارق بين الصالح والطالح، والمميز هو العمل الصالح، فمن كان ذا عمل صالح فما صدر منه من خوارق فهي كرامة، ومن كان عمله طالحاً فما صدرت منه من الخوارق فهي ليست كرامة بل هي إهانة، وحسبكم جمعياً ما ذكرنا لكم من خوارق العادات التي يجريها الله على يدي الدجال.
كان هناك في حلب رجل فاضل أرادوا أن يوظفوه إمام مسجد، فأرسلوا إليه لاختباره، فسأله المختبر: هل تؤمن بكرامات الأولياء؟ سأله هذا السؤال؛ لأنه تسرب إلى مسامعه أن هذا الإمام أو المرشح للإمامة رجل كما يقولون اليوم: (وهابي)، أي: لا يؤمن بالكرامات المزعومة، فأراد أن يمتحنه، فكان هذا الممتحن لبيباً، فقال له: مثل ماذا؟ قال: مثل ما حدثنا به شيخنا أن خطيباً صعد على المنبر فبينما هو يخطب وإذا به يكاشف تلميذاً له بأنه حاقن -أي: مزنوق- وهو جالس يسمع خطبة الشيخ ويخجل أن ينسحب بين الملأ جميعاً فيلفت أنظار الناس، فما كان من الشيخ الخطيب إلا أن مد له يده هكذا -وتعرفون أن جبب المشايخ واسعة- وأشار له هكذا، يقول: فدخل التلميذ من كم جبة الشيخ، وإذا به يجد بستاناً، وفيه مكان -بيت الخلاء- فقضى حاجته ثم رجع وهو في مكانه، فقال له: أما هذه الكرامة فوالله أنا لا أؤمن بها، بل هذه خرافة وسخافة.
أما أنا فأحدثكم عن قضية جرت لي.. كنت منذ ثلاثين سنة أو أربعين سنة في بئر عطية -قرية في الطريق إلى حلب - كنت سامراً ساهراً وإذا بنا نسمع طرق النافذة، ليس الباب، فخرج المضيف -صاحب الدار- لينظر من الطارق، فسمعنا احتفاء ومبالغة في الاحتفاء بالرجل الطارق ولم نره بعد: أهلاً وسهلاً يا أبا فلان، وأنا ومن في المجلس أردنا أن نعرف من هذا الضيف الكريم، فكانت مفاجئة لي منه ومني له؛ لأننا ضدان اجتمعنا، الرجل أعرفه ويمكن بعض الحاضرين يشاركونني في المعرفة من أهل محلة العمارة.. هذا الزائر الذي دخل كان يجلس دائماً وأبداً بجانب الركن الجنوبي الغربي من مسجد جامع اليوسفي في الساحة التي أمام دكاني، كان يجلس في رمضان يشرب الدخان علناً، ثيابه رثة، وعيناه جاحظتان محمرتان -والله أعلم- من شرب الحشيش والدخان، وإذا بصاحب البيت يعتقد فيه الولاية، ولذلك احتفى به احتفاءً بالغاً، فلما دخل الرجل فوجئ بي، فتظاهر بأنه أبله أو مجنون أو مأفون -كما يقولون- فأخذ يركع ويسجد بدون وعي، ويذكر كلاماً كما يقول ابن الجارم جملة غير تامة لكنها كلمات غريبة.. بيض، وباذنجان ونحو هذه الكلمات، وهو لم يذكر أي شيء لكنه خلط في الكلام، حينئذٍ افتتحت كلمة بقوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] لَهُمُ الْبُشْرَى [يونس:64] وعلقت على كلمة الإيمان والتقوى ولستم بحاجة إلى مثل هذا التعليق.
إنما الخلاصة: أن الولي لله عز وجل هو المؤمن بالله إيماناً جازماً بما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة، والعامل بأحكام الشريعة أمراً واجتناباً، وبلا شك ما ابتدأت الكلام بمثل هذا إلا لأصل إلى ضيفنا هذا، لأقول: إن هناك أناساً يتظاهرون بالولاية وقد يأتون بأمور خارقة للعادة فيظنها بعض الناس كرامات، وإنما هي إهانات، وتكلمت طويلاً في هذا الصدد، ثم سكت ففوجئت بكلام المضيف -رجل عاقل- قال: والله يا أستاذ نحن كنا نعتقد هكذا مثلما تقول: أن الكرامة والولاية هي العمل بالكتاب والسنة.
والشاهد ليس هذا، فالشاهد فيما يحكيه هذا الرجل كيف طور عقيدته الصحيحة إلى العقيدة الباطلة، بمجيء رجل كان من أهل القرية، وعاش في الأزهر الشريف عشرين سنة أو نحو ذلك، فلما رجع إليهم رجع يعلمهم خلاف الإسلام، وأن المهابيل هؤلاء هم أولياء الله.
قال: كنا نعتقد أن هذا هو الإيمان وهذا هو الإسلام -كما ذكرت- حتى جاءنا هذا الشيخ، قال: فأخذ يحدثنا بحكايات وقصص تتلخص في أن الله عز وجل له أشخاص وضع سره فيهم، إذا نظرتم إليهم لا يعجبكم عملهم ولا أقوالهم ولا أفعالهم، ولكن هؤلاء من كبار الأولياء.. هؤلاء تنظرون إليهم أنهم تاركون للصلاة، لكنهم يصلون الصلوات الخمس في المسجد الحرام -هذه كرامة لهم- وتنظرون إليهم أنهم مفطرون ويأكلون في رمضان، لكنهم في الحقيقة صائمون، ولكنكم أنتم الذين تنظرون إليهم بأنهم مفرطون، وغير هذا من المخاريق والأكاذيب.
وهذه قصة حكاها الشيخ الأزهري للجماعة، فقلب أهل القرية إلى أمثال هؤلاء يؤمنون بالخرافات والأباطيل المخالفة للشريعة، ما هي القصة؟
قال الشيخ الأزهري لأهل القرية في مجالسه: كان هناك فيما مضى من الزمان رجل عالم فاضل، وكان آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، كان يحتسب وينزل إلى السوق فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حتى وقف ذات يوم على عطّار وهو يبيع الحشيش المخدر المحرم، فأنكر عليه كعادته في إنكار المنكر، قال الشيخ الأزهري لأصحابه: فما كاد الشيخ ينكر على بائع الحشيش حتى سُلِب عقله، وعاد كأنه بهيمة لا يفهم شيئاً، وكان أتباعه وتلاميذه من حوله، فأخذوه إلى داره وهو لا يعرف شيئاً، كالدابة، لكنهم أهمهم الأمر فأخذوا يتساءلون كيف العلاج؟ من نسأل؟ من نطلب معالجته؟... إلخ، قال: فدلوا على رجل يسمى ذا الجناحين.. وهذه تساوي طامتها طامتين، ذو الجناحين أي: يعلم بالشريعة والحقيقة، علم الظاهر وعلم الباطن، وهذه من الدسائس التي أدخلت على الإسلام، ليتسنى لأعداء الإسلام هدم الإسلام باسم الإسلام، ما هذا يا أخي؟ قال: هذا حقيقة، الحقيقة شيء والشريعة شيء.
ما هذا؟ يقول: هذا من علم الباطن، فعلم الباطن شيء وعلم الظاهر شيء.
فدل على رجل يسمى ذا الجناحين، فجاءوا إليه وقصوا عليه قصة عالمهم، فسرعان ما قال لهم -هنا العبرة-: ذاك البائع للحشيش هو رجل من كبار الأولياء -عندهم- وقد أصيب عالمكم بسبب اعتراضه على ذلك الولي.
فأنا أجمع بين متناقضات في وصفه بين الولي الحشاش بائع الحشيش، هذه حقيقة أمره، هو ولي وهو بائع حشيش، هذا الولي الحشاش هو من كبار الأولياء عند هؤلاء الناس، لذلك ذو الجناحين نصح تلامذة العالم بأن يقودوه - وهو لا يزال كالدابة- إلى ذاك الولي الحشاش، وأن يطلبوا منه العفو والمغفرة لعالمهم ويعتذرون له بالنيابة عنه حتى يفيء إلى نفسه، وهكذا فعلوا، فما كاد يطيب قلب الولي الحشاش على العامل بعلمه حتى رجع إلى حالته الطبيعية، مثل إنسان كان نائماً واستفاق، ثم عرف العالم بطبيعة الحال مصيبته فاعتذر أيضاً هو بدوره للولي الحشاش.
هذه القصة حكاها لي صاحب الدار عن شيخه شيخ القرية، وأن مثل هذه القصص جعلت القرية تؤمن بمثل هذه الطامات وهذه السخافات.
خلاصة الكلام: أن التصديق بمثل هذه الطامات والضلالات، بأنها تصدر من أناس يفعلون شراً -هذا في الظاهر- لكنهم في الحقيقة أولياء، يفتح باباً لأمثال هؤلاء الناس أنه إذا بعث فيهم الدجال أن يؤمنوا به، لماذا؟ لأنه يأتيهم بكرامات -بزعمهم- ما جاءت عن أحد من أوليائهم، يقول للسماء: أمطري؛ فتمطر.. ماذا تريدون من كرامة أعظم من هذه؟ ونحن لا نسميها كرامة، وإنما هذا أمر خارق للعادة، لكن لما رأينا هذا الرجل يدعي الربوبية، كأن يصدر منه ما هو من خوارق العادات؛ كان ذلك دليلاً على أن هذه ليست كرامات وإنما هي (مخابيط وتدجيل) منه على الناس.
إذاً: الحكم الفصل بين الكرامة وبين الأمر الخارق للعادة: هو أن ننظر إلى المصدر، فمن كان مصدره ولياً صالحاً فهذا نؤمن بكرامته، وهناك كرامات صحيحة وثابتة عن بعض الصحابة وبعض السلف لا ننكرها أبداً، لكن نحن ننكر مثل هذه الكرامات التي هي في الحقيقة إهانات، أما أصل الكرامة فنحن نؤمن بها، وهي فصل من فصول الخوارق -خوارق العادات- وتختلف الخوارق بين الصالح والطالح، والمميز هو العمل الصالح، فمن كان ذا عمل صالح فما صدر منه من خوارق فهي كرامة، ومن كان عمله طالحاً فما صدرت منه من الخوارق فهي ليست كرامة بل هي إهانة، وحسبكم جمعياً ما ذكرنا لكم من خوارق العادات التي يجريها الله على يدي الدجال.
استمع المزيد من الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
السياسة الشرعية | 3288 استماع |
التعامل مع الجن | 3280 استماع |
فرصة استئناف الحياة الإسلامية | 3173 استماع |
مسائل أبى الحسن الدعوية (1) | 3113 استماع |
السنة والبدعة والشبهات | 3087 استماع |
لباس البنطال فى الصلاة | 3080 استماع |
فقة الصلاة وتحنيط الطيور | 2933 استماع |
المرأة التي أبكت الشيخ الألباني | 2923 استماع |
كيفية تلقي العقيدة | 2905 استماع |
أسئلة الإمارات | 2902 استماع |