الصفحة 5 من 28

قال ابن قيّم الجوزية - رحمه الله -:"لمّا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حصر العدوّ دخل حصر النّصر , فعبثت سراياه بالنّصر [1] في الأطراف فطار ذكره في الآفاق,فصار الخلق معه ثلاثة أقسام: مؤمن به، و مسالم له،و خائف منه ."

ألقى بذر الصّبر في مزرعة: { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } الأحقاف 35 , فإذا أغصان النبات تهتزّ بخزامي [2] { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } البقرة 194 , فدخل مكّة دخولا ما دخله أحد قبله و لا بعده , حوله المهاجرون و الأنصار , لا يبين منهم إلاّ الحدق [3] و الصّحابة على مراتبهم , و الملائكة فوق رؤوسهم , و جبريل يتردّد بينه و بين ربّه , و قد أباح له حرمة الذي لا يحلّه لأحد سواه , فلمّا قايس بين هذا اليوم و بين يوم: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } الأنفال 30 . فأخرجوه ثاني اثنين , دخل و ذقنه يمسّ قربوس سرجه , خضوعا و ذلاّ لمن ألبسه ثوب هذا العزّ الذي رفعت إليه فيه الخليقة رؤوسها , و مدّت إليه الملوك أعناقها , فدخل مكّة مالكا مؤيَّدا منصورا , و علا كعب بلال فوق الكعبة بعد أن كان يجرّ في الرّمضاء على جمر الفتنة , فنشر بزا طوي عن القوم من يوم قوله أحد أحد , و رفع صوته بالآذان فأجابته القبائل من ناحية , فأقبلوا يؤمون الصوت , فدخلوا في دين الله أفواجا , و كانوا قبل ذلك يأتون آحادا .

فلمّا جلس الرّسول - صلى الله عليه وسلم - على منبر العزّ , و ما نزل عنه قطّ , مدّ الملوك أعناقها بالخضوع إليه , فمنهم من سلّم إليه مفاتيح البلاد , و منهم من سأله الموادعة و الصّلح , و منهم من أقرّ بالجزية و الصّغار , و منهم من أخذ في الجمع و التّأهب للحرب , و لم يدر أنّه لم يرد على جمع الغنائم و سوق الأسارى إليه .

فلمّا تكامل نصره , و بلّغ الرّسالة , و أدّى الأمانة , و باء منشور: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِينا ً - لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَ مَا تَأَخَّرَ و َيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ و َيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً - و َيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزا ً} الفتح: 1 و 2 و 3 . و بعده توقيع: { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ - وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً } النّصر: 1 و 2 .

جاءه رسول ربّه يخيّره بين المقام في الدّنيا و بين لقائه , فاختار لقاء ربّه شوقا إليه , فتزيّنت الجنان ليوم قدوم روحه الكريمة كزينة المدينة يوم قدوم الملك .

(1) أمّا في هذا الزّمان فسراياه عليه الصّلاة و السّلام هم المجاهدون نصرهم الله, الذين يدركون معاقل المرتدّين و الصّليبيين .., نسأل الله أن يبارك في سعيهم , و أن يجعلهم يدا واحدة على من سواهم ...

(2) الخزامي: عشبة طويلة العيدان , ذات رائحة طيّبة .

(3) الحدقة: السّواد المستدير حول العين .

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام