فالجواب أن نقول: يظهر فساد هذه الشبهة الشيطانية، بتقرير ثلاثة مقامات:

المقام الأول: أن الفساد الواقع في الأرض، من قتل النفوس، ونهب الأموال، إنما هو بسبب إضاعة أوامر الله، وارتكاب نواهيه، كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} سورة الروم آية: 41.،

المفسرون من السلف (البر) أهل العمود من البوادي، (والبحر) أهل القرى.

أخبر تعالى: أن ظهور الفساد في البادية والحاضرة، سببه أعمالهم؛ فلو أنهم عبدوا ربهم، وحكموا نبيهم، لصلحت أحوالهم، ونمت أموالهم وأنفسهم، كما

قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} سورة الأعراف آية: 96.

قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} سورة الاعراف: 51 - 52.

فأخبر: أن الرحمة في هذا القرآن، فمن اكتفى به عن أحكام الباطل، فهو المرحوم، ومن أعرض عنه إلى غيره، فهو الخاسر؛ فإذا أعرض الناس عن كتاب ربهم، وحكموا غير نبيهم، عاقبهم الله بأن يعادي بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا، كما قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} سورة المائدة آية: 14.

ولكن لما عاد الإسلام غريبا كما بدأ، صار الجاهلون به، يعتقدون ما هو سبب الرحمة، سبب العذاب، وما هو سبب الألفة والجماعة، سبب الفرقة والاختلاف، وما يحقن الدماء سببا لسفكها، كالذين قال الله فيهم: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} سورة الأعراف آية: 131.

وكذلك الذين قالوا لأتباع الرسل: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} سورة يس: 18 - 19.؛

فمن اعتقد أن تحكيم شريعة الإسلام، يفضي إلى القتال والمخالفة، وأنه لا يحصل الاجتماع والألفة، إلا على حكم الطاغوت، فهو كافر عدو لله ولجميع الرسل؛ فإن هذا حقيقة ما عليه كفار قريش، الذين يعتقدون أن الصواب ما عليه آباؤهم، دون ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.

المقام الثاني: أن يقال: إذا عرفت أن التحاكم إلى الطاغوت كفر، فقد ذكر الله في كتابه أن الكفر أكبر من القتل، قال: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} سورة البقرة آية: 217.، وقال: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} سورة البقرة آية: 191،