فهرس الكتاب
الصفحة 6 من 13

إن في السياق القرآني تجريد المشاعر والصلات في قلوب الجماعة المؤمنة، وتمحيصها لله ولدين الله؛ فيدعو إلى تخليصها من وشائج القربى والمصلحة واللذة، ويجمع كل لذائذ البشر، وكل وشائج الحياة، فيضمنها في كفة، ويضع حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله في الكفة الأخرى، ويدع للمسلمين الخيار. ويستخلص المرء من حديث النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم"من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل اللَّه يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانه ..." (مسلم) ، فكأن هذا الرجل ممسك بعنان فرسه بيمينه، وجاعل الدنيا وجميع ما فيها بشماله، ثم إذا دعى داعي الله ألقى ما في شماله وطار على متن فرسه، فالدنيا كلها لا تساوي عنده تلك الهيعة أو الفزعة، فيطير في لمح البصر، يطير ولا يمشي أو يزحف!!

{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون * قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم، وأموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} ..

إن هذه العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكا؛ فإما تجرد لها، وإما انسلاخ منها. وليس المطلوب أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة؛ ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة .. كلا، إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب، ويخلص لها الحب، وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة، وهي المحركة والدافعة. فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة؛ على أن يكون مستعدا لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة.

ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع؛ وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الأرض. فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والأخوة وبالزوج والعشيرة؛ ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن؛ ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق - في غير سرف ولا مخيلة - بل إن المتاع بها حينئذ لمستحب، باعتباره لونا من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده، وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب.

{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان} هكذا تتقطع أواصر الدم والنسب، إذا انقطعت آصرة القلب والعقيدة. وتبطل ولاية

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام